تلاعب “أجنحة الشام” و”جيش حفتر” بمصائر المهاجرين إلى أوروبا
في التاسع من حزيران/يونيو 2023، غادرت جرافة (مركب كبير) من طبرق (شرقي ليبيا)، وعلى متنها ما يقارب 750 مهاجراً بين نساء ورجال وأطفال، متجهة إلى إيطاليا. كانت غالبية الجنسيات الموجودة على القارب من سوريا، ومصر، وباكستان وفلسطين. لكنّ النهاية المأساوية صبيحة الأربعاء (14 يونيو/حزيران 2023) قضت على أحلامهم بالوصول إلى مكان آمن، فعلى بعد نحو 80 كيلومتراً من بلدة بيلوس جنوب اليونان، غرقت جرافة الأحلام، ولم ينجُ سوى 104 أشخاص، وانتُشلت 79 جثة، بحسب بيان الأمم المتحدة، ولم يُعثر على أثر لبقية المهاجرين.
يكشف هذا التحقيق استغلال شبكات تهريب البشر وشركات ومكاتب السفر، المهاجرين من سوريا من خلال إدخالهم إلى ليبيا، عبر رحلات تنظمها شركة “أجنحة الشام” السورية لغاية الوصول إلى أوروبا، بالتعاون مع هيئة الاستثمار العسكري التابعة “للجيش الوطني الليبي” بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
تجارة الهجرة السرية المربحة
بحسب تقرير معهد الأمم المتحدة الأقاليمي لبحوث الجريمة والعدالة، الصادر في أيار/مايو 2021، تراوح الدخل السنوي لأنشطة تهريب المهاجرين في ليبيا بين 89 مليوناً و236 مليون دولار، استناداً إلى أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا.
وبحسب ما جمعناه من معلومات خلال التحقيق، يبلغ متوسط سعر التهريب إلى إيطاليا من غرب ليبيا بين ألفين وخمسمئة إلى ثلاثة آلاف دولار، في حين يصل السعر من شرقي ليبيا بين أربعة آلاف إلى أربعة آلاف وخمسمئة دولار. ومع مرور مايقارب ثلاثة وخمسين ألفاً و310 مهاجرين، فإن الإيرادات السنوية لشبكات تهريب البشر من ليبيا -إذا وضعنا متوسط ثلاثة آلاف و600 دولار بين الشرق و الغرب- تقارب 192 مليون دولار سنوياً.
وتُظهر بيانات وزارة الداخلية الإيطالية أن عدد الذين وصلوا إلى إيطاليا على متن القوارب، قد بلغ الضعف بين الأول من كانون الثاني/يناير، و21 حزيران/يونيو 2023؛ إذ بلغ العدد 58 ألفاً و171 مهاجراً (كان عدد السوريين منهم ثلاثة آلاف و527 مهاجراً)، مقابل أربعة وعشرين ألفاً و808 مهاجرين في الفترة المقابلة من العام 2022.
ما أسهل الهجرة!
“أنت موجود الآن في سوريا أو لبنان؟… فيه رحلة يوم الإثنين القادم أحجز لك عليها؟”، هكذا سارع المُهرب “أبو حذيفة” بالرّد الهاتفي، عندما أخبره معدّ التحقيق برغبته في السفر إلى بنغازي. حدد السعر بألف و200 دولار عبر طيران “أجنحة الشام”، شاملاً الموافقة الأمنية، وعرض تسهيلات أكبر تتضمن الإمهال في الدفع حتى الوصول إلى بنغازي، واستقباله وإخراجه من مطار بنينا بالمدينة.
كان عرض أبو حذيفة أو “Hemo Biker” -كما يسمي نفسه على فيسبوك- شاملاً ومغرياً لمن يريد الوصول إلى إيطاليا، فقد اقترح وَصل معدّ التحقيق “بشخص مضمون مئة بالمئة” في طبرق؛ لتأمين رحلة إلى شواطئ إيطاليا بمبلغ أربعة آلاف و350 دولاراً، مع خاصية “تشييك” المبلغ المطلوب (إيداعه كضمان وعدم دفعه مسبقاً) في أي مكتب بسوريا أو ليبيا.
مقطع صوتي لأبي حذيفة
بواسطة هذا المهرّب أو غيره، يمكن السفر بسهولة من دمشق أو بيروت أو حتى عمّان، إلى بنغازي وما بعدها. يتطلب الأمر -ظاهرياً- ترتيبات يسيرة من مكاتب السفر أولاً. وتعلم هذه المكاتب أن ليبيا ليست الوجهة النهائية للغالبية العظمى من المسافرين الذين يقصدونهم، بل هي البلدان الأوروبية، وتحديداً إيطاليا كبلد استقرار أو عبور.
تواصل معدّ التحقيق -خلال رحلة التوثيق هذه- مع عدد من مكاتب السفر في دمشق وبيروت، وتأكد أن هذا الخط نشط بشكل كبير. تتطلب الرحلة إلى بنغازي -من بيروت أو عمّان أو القاهرة- وثيقة موافقة أمنية تؤمّنها مكاتب السفر نفسها لكل مسافر. أما “أجنحة الشام”، فتُصدر الأسماء في كشف واحد موجه إلى هيئة الاستثمار العسكري يشمل كل ركاب الطائرة.
هيئة استثمار الموافقات الأمنية!
في العام 2018، أصدر مجلس النواب الليبي في طبرق (شرقي ليبيا) قراراً بالقانون رقم (03) لسنة 2018، يقضي بإنشاء هيئة الاستثمار العسكري، أتاح لها تملك الأصول والعقارات والأنشطة اللازمة لاستمرار عمل الجيش (الجيش الوطني الليبي).
بحسب ما اطّلعنا عليه في نشرات بعض مكاتب السفر والعمالة؛ تحصل هيئة الاستثمار العسكري على 500 دولار عن كل مهاجر (مسافر) في شكل رسوم، تُدفع مع حجز تذكرة الطيران.
يقول أحمد القصير، الباحث الحقوقي بمؤسسة التضامن لحقوق الإنسان الليبية (مقرها سويسرا): “إن ظاهرة تهريب البشر من الشرق نشطت بعد العام 2020، إثر هزيمة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وإخفاقها في دخول طرابلس، وانقطاع التمويل عنها، ومن ثَمّ أصبح البحث عن موارد أخرى ضرورياً، مثل تهريب البشر”.
ويضيف قائلاً: “هذه الهيئة (هيئة الاستثمار العسكري) هي التي تصدر هذه التأشيرات أو التصريحات الأمنية، ويحصلون تقريباً -وفق الأوراق التي وجدناها- على 500 دولار للتصريح الواحد”.
والمعضلة -بحسب القصير- أن هؤلاء المهاجرين يأتون إلى ليبيا بواسطة هذه الموافقة الأمنية، التي تعد تأشيرة دخول رسمية عبر منفذ حدودي شرعي؛ لكن عندما يتحركون إلى الغرب الليبي، تعاملهم السلطات هناك كمهاجرين غير شرعيين.
يقول طارق لملوم، رئيس مجلس إدارة مؤسسة “بلادي لحقوق الإنسان” (مقرها طرابلس-ليبيا): “إنّ هيئة الاستثمار العسكري نفسها، نشرت عدة مرات إعلانات لجلب عمال وأشخاص وظائفهم غير معلومة، ولكنّ قضية دخولهم بهذه الطريقة واضحة جداً، ومعلومة لدى كل الجهات”.
ويضيف لملوم: “لا أعتقد أن هناك جهة تستطيع الإنكار، هؤلاء الأشخاص جاءوا بتسهيلات من هذه الأجهزة، سواء كان الاستثمار العسكري، أم أجنحة الشام، التي تعلن بوضوح عن رحلاتها عبر صفحاتها الرسمية، وتحدد الأسعار والمكان، وبمجرد أن يقوم الشخص ببحث يسير، سيعلم كل التفاصيل”.
تواصلنا مع هيئة الاستثمار العسكري في بنغازي للتعليق على هذه الرسوم، ودورها المزعوم في عملية تسهيل قدوم المهاجرين -لا سيّما السوريين- ومنح تسهيلات لشركة “أجنحة الشام” تحديداً، لكننا لم نتلقَ رداً من “الهيئة” حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
أجنحة الشام- بنغازي المحلقة
عدنا إلى موقع “فلايت ردار 24” الخاص بتحليل رحلات الطيران؛ لمعرفة بيانات الرحلات التي قامت بها “أجنحة الشام” إلى بنغازي، في الأعوام 2020، و2021، و2022، وحتى تاريخ 24 حزيران/يونيو 2023، وتبين لنا أن الشركةقامت بـ 363 رحلة.
تتسع طائرة إيرباص A320 عادة لـ 140 إلى 170 راكباً؛ إذا أخذنا في الحسبان أن كل رحلة كانت تحمل 150 مسافراً فقط بقصد الهجرة -في حين أن سعة معظم الطائرات تفوق 180 راكباً- فإن حساب 150 مسافراً في عدد 362 رحلة طيران، يكون الناتج أربعة وخمسين ألفاً و300 مسافر.
في السنوات الأخيرة، أثارت نشاطات هذه الشركة السورية الخاصة الكثير من الجدل؛ إذ تشير الوثائق إلى أن “أجنحة الشام” أُسست عام 2007، كشركة تعود ملكيتها لـ “مجموعة شموط التجارية”، التي يملكها رجل الأعمال السوري عصام شموط، وكان في شراكة مع رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد. وتنشط هذه المجموعة في العديد من القطاعات، بما في ذلك السيارات والصلب والشحن والبناء والعقارات.
أشارت تقارير أوروبية وأميركية إلى تورط الشركة في نقل عناصر روسية وإيرانية للقتال في سوريا؛ دفع ذلك مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، التابع للخزانة الأميركية، لإدراجها ضمن قائمة العقوبات في 23 كانون الأول/ديسمبر 2016.
من جهتها، تتهم وزارة الداخلية في حكومة “الوفاق الوطني” الليبية في طرابلس (غرب) شركة “أجنحة الشام” بنقل المرتزقة إلى ليبيا، كما ورد في بيان للوزارة بتاريخ 18 آذار/مارس 2020، يشير إلى تورطها في نقل مقاتلين سوريين وخبراء، لهم صلات بمجموعة فاغنر (Wagner Group) الأمنية الروسية إلى الشرق الليبي.
كانت “أجنحة الشام” أيضاً أهم ناقل جوي من دمشق إلى العاصمة البيلاروسية (مينسك) عام 2021، حين تدفق عشرات الآلاف للعبور إلى أوروبا، لتطالها عقوبات المجلس الأوروبي حينها، حيث أشار بيان المجلس إلى أن الشركة افتتحت مكتبين جديدين في مينسك في خريف 2021، بغرض تنظيم الرحلات بين دمشق ومينسك.
لكن ما أثار استغراب “المراقبين” للوضع، هو حذف “أجنحة الشام” من قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي في شهر تموز/يوليو 2022، من دون وجود ما يثبت زوال أسباب العقوبات. تواصلنا في هذا السياق مع مفوضية الاتحاد الأوروبي للإجابة عن أسباب حذف اسم الشركة من قائمة العقوبات، فكان ردها: “شَطب المجلس لاحقاً أجنحة الشام من قائمة العقوبات؛ لأنه رأى وفقاً للمعلومات المقدمة إلى المجلس، أن شركة أجنحة الشام أوقفت مشاركتها في الأنشطة، التي أُدرجت من أجلها في سياق بيلاروسيا”.
ولم يتضمن الرد موقف المفوضية، بخصوص نقل الشركة للمهاجرين إلى ليبيا.
بحسب رسالة وجهها سايروس انجرير، النائب في البرلمان الأوروبي، إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي بتاريخ 19 نيسان/أبريل 2023 بعنوان “أجنحة الشام تهرب المهاجرين من الجنسية البنغالية إلى أوروبا عبر ليبيا”، أوضحت الرسالة أن هناك عدداً كبيراً من الجنسية البنغالية، عبروا طريق وسط المتوسط، حيث أكدت وكالة حرس الحدود الأوروبية (FRONTEX) زيادة القادمين عبر هذا الطريق، بنسبة 51 في المئة مقارنة بالعام الماضي.
ما زالت الشركة -التي تمتلك ثلاث طائرات بحسب موقع planespotter- تنظم رحلتين، وأحياناً ثلاث رحلات أسبوعياً، إلى مدينة بنغازي، انطلاقاً من بيروت فدمشق ثم بنغازي، بحسب فلايت ردار 24، وهذه الوجهة تعد من أكثر خطوطها نشاطاً حتى الآن.
سوق الأحلام والأوهام
في هذا المسار، وعبر “أجنحة الشام” تحديداً، اختار آلاف المهاجرين السوريين -وبعض الجنسيات العربية- وضع مصيرهم في أيدي وكالات السفر المشبوهة ومهربي البشر، وكانت التسهيلات التي تقدمها هيئة الاستثمار العسكري الليبية في بنغازي، وتشعب مسارات الهجرة الأخرى أو إغلاقها، عامليْن مهميْن في اختيار هذه الطريق، على خطورتها وارتفاع كلفتها.
تقول سارة بريستياني، مديرة برنامج الهجرة واللجوء في الشبكة اليورومتوسطية لحقوق الإنسان: “هناك سبب آخر لزيادة تدفق اللاجئين السوريين من ليبيا، وهو أنهم ضحايا لعمليات صد المهاجرين على حدود أخرى، لا سيّما بين تركيا واليونان”.
تضيف بريستياني، أنه عندما تُغلق طرق المهاجرين، عبر انتهاكات حقوق الإنسان -مثل الإعادة القسرية، كما هو الحال من اليونان إلى تركيا، ومن قبرص إلى لبنان- يحاول اللاجئون كثيراً إيجاد طرق أخرى للوصول إلى أوروبا، فكانت ليبيا أبرزها.
تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إعلانات السفر، انطلاقاً من دمشق وبيروت وأربيل إلى بنغازي. وبالعودة إلى حسابات فيسبوك، وجدنا عدة صفحات لأفراد وشركات السياحة ومهربين، يروّجون للسفر إلى المدينة الواقعة شرقي ليبيا، مع تطمينات بتوفير الموافقة الأمنية، ومندوب استقبال في مطار بنينا (مثل غروب فرص العمل السوريين في بنغازي- الجالية العربية السورية في ليبيا…).
بدأت رحلة الهجرة “المزعومة” مع مكتب يسمى “محطة سفر للسياحة والسفر”، على أساس أنني مهاجر سوري من اللاذقية، فأكدت لي الموظفة أن تكلفة الرحلة تبلغ ألفاً و200 دولار، عبر طيران أجنحة الشام، من مطار دمشق الدولي إلى مطار بنينا-بنغازي، شاملة الموافقة الأمنية للدخول، مع تذكرة السفر.
ثم سألت بعدها عن توفر خيارات أخرى للوصول إلى بنغازي، فأخبرتني موظفة المكتب بإمكانية السفر عبر “دمشق- بيروت”، بواسطة “أجنحة الشام” ثم “بيروت-بنغازي” عبر خطوط “مصر للطيران”، مع محطة ترانزيت في القاهرة، وفي هذه الحالة تكون تذكرة الطيران منفصلة عن الموافقة الأمنية.
تواصلت مع مكتب شركة “أجنحة الشام” في بيروت، فحدد الموظف السعر بألف و150 دولاراً، يشمل تذكرة الطيران والموافقة الأمنية وتأمين الدخول، في حين تبلغ تكلفة الرحلة من دمشق 1200 دولار. طلب الموظف إرسال شخص إلى المكتب في بيروت؛ لدفع المبلغ وإتمام الإجراءات، عندما أبلغته أنني ما زلت وأصدقاء لي في اللاذقية.
أخبرني موظف المكتب أن الرحلة مضمونة مئة بالمئة، وبوجود مندوب للشركة لاستقبالنا بمطار بنغازي، يتولى إنهاء إجراءات الوصول كختم الجوازات وتأمين الخروج من المطار.
لمزيد من التثبت في الحالة، تواصلت مع مكتب يسمى “أوغاريت للسفر والسياحة” في دمشق، فأبلغني أن سعر تذكرة الطيران إلى بنغازي عبر أجنحة الشام، شاملاً الموافقة الأمنية، يبلغ ألفاً و300 دولار، وقام بتخفيضه إلى ألف و250 دولاراً للمتصل (الصحافي)، على أنه جلب معه 4 أشخاص.
حثنا مسؤول المكتب على الإسراع بإتمام الحجز؛ تجنباً لارتفاع الأسعار جراء تهاوي سعر الليرة السورية. وبخصوص الموافقة الأمنية، طمأننا أننا سنغادر من مطار دمشق الدولي من دون عوائق.
كان علينا -كأي ساعٍ إلى الهجرة لأوروبا عبر ليبيا- أن نبحث عن مهرب لترتيب رحلة العبور من شواطئ ليبيا إلى إيطاليا، ولم يكن الأمر صعباً. وجدنا الكثير من الصفحات الخاصة بالمُهربين، والعروض المختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي، مرفقة بأرقام للتواصل المباشر.
تسجيل المكالمة الصوتية
بين الألم واليأس.. أحلام مكسورة
لم تدرك السورية الأربعينية سعاد (اسم مستعار)، أن فرارها من الأوضاع المزرية في درعا عام 2021، سيقودها إلى مآسٍ أكبر. تواصلتْ مع مكتب السفر “أسفار” طالبة التوجه إلى أوروبا، فوجدت نفسها متجهة إلى بنغازي، في رحلة لـ “أجنحة الشام”، ومزودة برقم هاتف لشخص سوري في ليبيا يدعى عصام، سيساعدها خلال رحلتها كما أبلغها المكتب، بعد أن دفعت ألفاً و700 دولار، تكلفة الرحلة إلى بنغازي، ثمّ 500 دولار تكلفة الرحلة البرية من بنغازي إلى طرابلس.
اتضح فيما بعد أن عصام، ما هو إلا مهرب للبشر، ويعمل سمساراً مع مهربين آخرين. استلم “أحد عناصر المُهرب عصام” جوازها، ونقلها إلى بيت عائلة سورية من مدينة نوى، وأخبرتها العائلة أنهم سيسافرون أيضاً عبر البحر تجاه أوروبا. جرى نقل الجميع إلى طرابلس، حيث استقبلتهم عائلة سورية أخرى ثم انتقلت مع السائق إلى زوارة، حيث استقبلها عصام هناك؛ لتجد نفسها في مستودع يضم عشرات السوريين.
حاولت سعاد الإبحار من زوارة مرتين، في مراكب صغيرة كانت تكتظ بمئات المهاجرين، حتى بلغ بعضهم درجة الاختناق، وتعرضوا للضرب من قبل رجال المُهرب، عندما حاولوا الخروج على السطح، لم تنجح عملية الإبحار في المرتين، فخفر السواحل الليبي اعترضهم في المرة الثانية، وأعادهم إلى طرابلس، حيث سجنت في سجن “غوط الشعال” مدة 15 يوماً، ورُحلت إلى سجن “الدرج” بمنطقة غدامس (الواقعة في المثلث الحدودي بين ليبيا والجزائر وتونس، على بعد 580 كيلومتراً من طرابلس) حيث ظلت هناك أربعة أشهر.
تعرضت سعاد خلال هذه الفترة في سجن الدرج للتحرش الجنسي، والتهديد والتعنيف، عندما حاولت تقديم شكوى لإدارة السجن؛ وُضعت في الحبس الانفرادي. خرجت لاحقاً من السجن، وسجلت مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في ليبيا، حيث تمكث حالياً؛ أملاً في رحلة أقل عذاباً إلى إيطاليا.
وتقول سارة بريستياني، مديرة برنامج الهجرة واللجوء في الشبكة اليورومتوسطية لحقوق الإنسان: “بعد اعتراض المهاجرين في البحر وإرجاعهم، يُحتجزون في ظروف سيئة للغاية في مراكز الاحتجاز، ما نسميه دائرة العنف. يحاول المهاجرون الفرار من ليبيا، ويتم اعتراضهم وإعادتهم واحتجازهم، ثم يحاولون المغادرة مرة أخرى. يدفع ذلك قوارب المهاجرين إلى محاولة المغادرة إلى إيطاليا من الساحل الشرقي لليبيا، أو من السواحل التونسية”.
ويذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية الصادر عام 2022، أن المهاجرين الذين يعيشون في ليبيا، يتعرضون للاستغلال، من قبل الجهات الحكومية وغير الحكومية، وأن مختلف الجماعات المسلحة والعصابات والشبكات الإجرامية والجماعات القبلية والمُهربين وتجار البشر، تتنافس أيضاً على تهريب المهاجرين إلى ليبيا وعبرها، ويُتاجر بهم، وأثناء ذلك يتعرضون إلى انتهاكات جسيمة، كالتعذيب والاعتداء الجنسي.
بنغازي.. خطوة في المجهول
“تبي إيطاليا ولا طرابلس؟”، هكذا رد المُهرب الحاج محمد الورفلي، الذي تواصلت معه وهو في بنغازي عبر واتساب؛ لترتيب الخطوة التالية من السفر. كان عدد من المهاجرين ممن تعرفت عليهم في مجموعات الفيسبوك، قد أكدوا أنه استقبلهم في بنغازي، ثم انتقلوا بواسطته إلى طرابلس، وبعضهم إلى أوروبا.
أطنب “الحاج” في مدح نفسه وعمله، وطمأننا بشأن نزاهته وصدقه، وعلى مسار رحلتنا وأنه لا داعي للخوف في ليبيا: “على مين بتعرف أنت جاي.. أنا مُعلم، ما يقارب 27 عاماً مربي أجيال وعندي أولاد”.
وفقاً لعرض الحاج الورفلي، تبلغ تكلفة السفر من بنغازي إلى طرابلس (نحو 1000 كيلومتر) بـ 110 دولارات. وعن سعر الرحلة شاملة إلى إيطاليا، طلب منا إمهاله إلى اليوم التالي، حتى يعرف مواعيد انطلاق المراكب باتجاه إيطاليا، وخاصة أنها تعتمد على حالة الطقس، كما يقول.
“نبي نشوف الرحلة اللي جاهزة ونعطيك السعر الصحيح وأنت بتقرر. أنا بساعدك وإن شاء الله بدير لك رحلة مزبّطة… فيه اللي جاء وظل 10 أيام، وفيه اللي ظل أسبوع، وفيه اللى خرج في نفس اليوم، من هنا إلى يوم 15 برتب كام رحلة كويسة، كأنني المسافر”.
طمأننا “الحاج” أنه في حال القبض علينا في البحر، فإنه سيخرجنا من قبضة الأمن: “أنا جماعتي علاقتهم بالسجون بالداخل جيدة، لكن إن شاء الله ما تتمسك؛ مافيه شخص تبعي اتمسك حتى الآن”.
ذكر لنا خيار الذهاب عبر رحلات بحرية تنطلق من طبرق، عبر جرافات (مركب صيد كبير) تتسع لما بين 400 إلى 500 شخص، وتكون مدة الرحلة ثلاثة أيام، أما رحلات المنطقة الغربية فتكون بالطرّاد، وتستغرق ما بين ثماني إلى عشر ساعات، على حد قوله.
يذكر أن في الخامس من أيار/مايو 2023، كان ملف مكافحة الهجرة النظامية، وآلية توطيد العلاقة والتعاون بين ليبيا وإيطاليا في المجالات الأمنية، على طاولة المباحثات في روما، بين المشير خليفة حفتر ووزير الدفاع الإيطالي، بحسب بيان القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية.
ضمن هذا السياق، تؤكد سارة بريستياني، مديرة برنامج الهجرة واللجوء بالشبكة اليورومتوسطية لحقوق الإنسان: “يمكن رؤية خطر استغلال مسألة المهاجرين من قبل الجنرال خليفة حفتر، كما فعلت الحكومات الأخرى؛ لاستخدام ملف الهجرة من خلال محاولة عقد اتفاق مع إيطاليا والاتحاد الأوروبي، للاعتراف بهما كجهات فاعلة رئيسية… نهج الابتزاز هذا معروف جيداً، لكنّ ضحية هذا الابتزاز دائماً ما يكون المهاجرون واللاجئون”.
بين هذا وذاك.. الوقوع ضحية الاستغلال
لم يكن المُهرب الحاج الورفلي خيارنا الوحيد، كما لغيرنا ممن يبحثون في هذا المسار، فكلما فُتح مسار للهجرة، تجد عشرات المُهربين والسماسرة والوسطاء، يقدمون خدماتهم ويغلّفونها بالكثير من اللباقة والدماثة، وافتعال الطيبة والنوايا الحسنة، وغالباً ما يسبق أسماءهم لقب “الحاج”.
كان الحاج رضوان الزواري أحد هؤلاء، فهو ينشر العديد من فيديوهات المهاجرين على متن مراكب في البحر في الطريق إلى إيطاليا -كما يبدو- أو وصلوا إلى بلدان أوروبية، وهم يثنون عليه ويشكرونه فور وصولهم.
بعد أن سألني عن حجز الرحلة والموافقة الأمنية لدخول ليبيا، أكد أن باستطاعته حجز تذكرة الطيران وتوفير الموافقة الأمنية لنا لدخول بنغازي، ومندوب لاستقبالنا وإيصالنا إلى طرابلس، ومن ثمّ الإبحار إلى إيطاليا في غضون 10 أيام، مقابل خمسة آلاف و500 دولار تشمل الإيواء المؤقت والإعاشة، حتى موعد الإبحار.
يقول الحاج رضوان الزواري: “بدك توصل من دون صداع ومشاكل أو أي شي؟ ابعتلي صورة جواز سفرك، وأنا بحجزلك واعمل الموافقة الأمنية، ما بتدفع شيء حتى توصل عندي، إنت ما دخلك بأي شئ إنت مدير، تتبع الأوامر فقط”.
قاصداً بث الطمأنينة في نفوسنا، أرسل الحاج رضوان لنا فيديوهات للمركب الذي يفترض أن يوصلنا إلى إيطاليا. يضيف الحاج رضوان الزواري: “إذا مسكوك بالبحر، كل شيء بيرجعلك، إذا بتريد رحلة تانية بطلعك، إذا بتريد مصاريك برجعهملك، هات معك مصاريف الطريق فقط حتى توصل عندي وأمنلك بيت وبعدين ترسل فلوسك حوالة”.
أكد المُهرب أن الرحلة مؤمنة من قبل جهاز خفر السواحل الليبي، فيتقاضون ألف دولار عن كل شخص؛ حتى يشرفوا على تأمين خروج المراكب ومسارها عبر البحر.
بدوره كان المُهرب الحاج مختار عملياً وسريع الاستجابة، عندما أخبرته بوجودي في طرابلس، أبلغني بوجود رحلة في اليوم نفسه من ميناء زوارة مُؤمّنة ومُنسقة مع الأمن، مُقدراً تكلفتها بألفين و500 دولار.
بعد أن تواصلنا معه عن طريق المُهرب أبو حذيفة، عرض علينا المُهرب السوري أبو أحمد -وهو ينحدر من منطقة القلمون ويقيم في ليبيا منذ 35 عاماً- رحلة عبر طبرق (نحو 550 كيلومتراً شرق بنغازي) بمبلغ أربعة آلاف و200 دولار، بواسطة جرافات، وبموافقة الجيش.
“المنطقة الغربية كلها ميليشيات ولا أنصحك بها، يأخذون أموالك ويضعوك في قارب ثم يبلغون عنك، وتقبض عليك الميليشيات”، هكذا قال أبو حذيفة.
شمل عرض السعر -الذي قدمه أبو أحمد- الإقامة في السكن الخاص به، والإعاشة، وأخبرنا بإمكانية “تشييك” المبلغ في ليبيا أو تركيا، أو في مكتب القلعة في طبرق، وهو الخيار الأفضل والأكثر موثوقية حسب قوله.
الفخ المتقن: تعذيب وفدية وضياع
يقول الشاب السوري أحمد فهمي (اسم مستعار – 35 عاماً): “كل إنسان حاول العبور بالبحر عبر الغرب وأخفق، يتجه إلى الشرق الليبي. في الغرب إذا قُبض عليك، يتحول المُهرب نفسه إلى نصاب. في الشرق لا توجد مليشيات، رغم التسعيرة العالية لعبور البحر؛ إذا قُبض عليك، فأنت لدى جهة حكومية ولن تباع أو تشترى”.
غادر فهمي، المنحدر من مدينة حمص، على متن رحلة “أجنحة الشام” من مطار بيروت عبر ترانزيت بمطار دمشق، دفع ألفاً و800 دولار لمكتب الشركة، شاملة الموافقة الأمنية وتذكرة السفر.
التقى معدّ التحقيق بفهمي ورفاقه في شقة صغيرة، بضواحي مدينة صفاقس (2750 كيلومتراً) جنوب شرق تونس، حيث كانوا ينتظرون الانطلاق نحو أوروبا من هناك، بعد أن تضاءلت فرص عبورهم من ليبيا.
لم يواجه فهمي -ورفاقه الثلاثة الآخرون- أي مصاعب في مطار بنينا ببنغازي، بعد أن رتبوا مع المُهرب الحاج الورفلي، باقة كاملة تشمل الخروج من بنغازي إلى طرابلس ثم إيطاليا، مقابل ألفين و500 دولار.
وَضع المُهرب فهمي ورفاقه في بيت تابع لمهرب آخر، يُدعى أبو يوسف مفتاح، في مدينة زوارة الساحلية (116 كيلومتراً غربي طرابلس)، رفقة 22 سورياً بينهم أربعة يمنيين، حيث ظلوا هناك فترة شهرين ونصف الشهر، طال فيها الانتظار، وتكررت فيها الوعود الكاذبة بسفر وشيك، كما يذكر فهمي.
رُتب لرحلة ضمّت 85 مهاجراً عن طريق المُهرب، لكنّهم تعرضوا للضرب بالعصي من قبل رجال المُهرب نفسه، وبعد فترة قصيرة من نزولهم البحر، وصل خفر السواحل، الذي أخذهم إلى شاطئ الزاوية، حيث اعتدوا عليهم بالضرب، حتى نزف هو وعدد آخر من رفقائه، كما يقول: “بتتحرك بنضربك بالنار ونرميك بالمياه، أنت في كل الأحوال طالع تغرق، أنت هيك رايح تموت، وإحنا بنموتك”.
“كنا مجرد أرقام… ولم يسألوا حتى عن أسمائنا، أخذونا إلى سجن أسامة في الزاوية (50 كيلومتراً غرب طرابلس)”. تعرض فهمي ورفاقه للاعتداء والضرب بالعصي، من قبل أفارقة يعملون بشكل ما في السجن المعروف بمركز احتجاز شهداء النصر (يديره أسامة الكوني إبراهيم، الذي أضيف إلى قائمة العقوبات الأممية، وقائمة مجلس الأمن في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021؛ لارتكاب انتهاكات ضد المهاجرين، ولصلته بعبدالرحمن الميلاد، المعروف بـ “البيدجا”، ومحمد كشلاف المعروف “بقصب”، المتهمين في قضايا الاتجار بالبشر، والموجودين أيضاً في قائمة عقوبات مجلس الأمن).
في اليوم الأول بالسجن، تقاطر عليه عدة أشخاص كانوا يطلبون من محمد ورفاقه دفع مبلغ ستة آلاف دينار ليبي [ألف و250 دولاراً] من أجل إطلاق سراحهم، فيما يشبه “الفدية”.
نصح أحد الليبيين العاملين في السجن محمداً ورفاقه، بأنهم إذا لم يدفعوا المبلغ، سيتم بيعهم إلى سجن الماية (27 كيلومتراً غرب طرابلس) سيء السمعة، الذي تديره إحدى الميليشيات.
أكد تقرير لجنة تقصي الحقائق الأممية في ليبيا، الصادر في 27 مارس/آذار 2023، وجود أدلة دامغة على تعرض المهاجرين للتعذيب الممنهج في ليبيا، وأشار التقرير إلى أن “تهريب المهاجرين المستضعفين واستعبادهم وعملهم القسري وسجنهم وابتزازهم، يدرّ عائدات كبيرة للأفراد والجماعات ومؤسسات الدولة، ويحفز على استمرار الانتهاكات”.
ويشير تقرير منظمة العفو الدولية عن العام 2022، إلى أن جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية الليبي، يستمر في احتجاز نحو أربعة آلاف من المهاجرين واللاجئين، منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر، في ظروف غير إنسانية، ووسط تفشي التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة والابتزاز؛ للحصول على فدية لضمان إطلاق سراحهم.
تواصل أحمد مع أخيه لتحويل مبلغ ستة آلاف دينار ليبي، وخرج من السجن. في شهر تموز/يوليو 2022، أقام أحمد في منطقة صرمان بالزاوية، وهي معقل التهريب، حيث عمل هناك لبعض الوقت. فضل الشاب السوري في النهاية الانتقال إلى تونس، حيث يبحث عن طريق أسهل للهجرة.
جاء أحمد ورفاقه، وسعاد وابنها، وآلاف غيرهم من المهاجرين إلى ليبيا، هاربين من آفة الحرب والفقر والظلم. استنزف مسار تركيا-اليونان الكثير من أرواح السوريين وأجسادهم وأموالهم وأحلامهم، وباتوا يعدون خساراتهم الكثيرة حين إغلاقه، حتى فتحت لهم “أجنحة الشام” و”هيئة الاستثمار العسكري الليبية” مساراً آخر إلى العذاب والقهر، يبدأ من بنغازي ولا ينتهي بنقاط التهريب الكثيرة على السواحل الليبية، بمهربيها وميليشياتها وسجونها، إضافة إلى هواجس أوروبية كبيرة، تنظر بعين مفتوحة وأخرى مغلقة لمبادئ حقوق الإنسان.
تعليق الرد على مقترحات التحقيقات
من هيئة التحرير في أريج
سنقوم بتعليق الرد على مقترحات التحقيقات الاستقصائية المُقدّمة بعد 18 كانون أول/ديسمبر 2023 إلى يوم 15 كانون ثاني/يناير 2024؛ وذلك لمناسبة عطلتي الميلاد ونهاية العام.
الزميل/ة العزيز/ة
يمكنك النقر هنا لتحميل نسختك من منهاج الصحافة الإستقصائية الحديثة، نرجو أن ينال إستحسانكم.
تعتذر هيئة تحرير أريج عن التاخر في الرد على مقترحات التحقيقات المقدمة من الزملاء والزميلات بسبب نشاطات ملتقى أريج الرابع عشر، على ان ترسل الردود على المقترحات في الأسبوع الأول من العام 2022 . وكل عام وانتم بخير.
العزيز/ة
يمكنك النقر هنا لتحميل نسختك من ورقة سياسات أريج حول “مكافحة المعلومات المضللة في العالم العربي” بالشراكة مع مؤسسة فريدريش ناومان للحرية
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.