مصنع ورق "يصنِّع" الفشل الكلوي

5 مارس 2015

ولاد البلد – الشعور بالعجز واقتراب الأجل، يهيمن على تفكير أبو أحمد “علي” الذي يقترب من الـ 35 عاماً،  بعد أن دمّر الفشل الكلوي صحته، وكبّله  بالأعباء المالية.

علي أصيب بهذا المرض المستعصي عام 2002 في قوص، التي تبعد ثمانية كيلومترات عن مصنعي الورق (الخاص) والسكر (الحكومي)، لينضم إلى 155 مواطنا على “دكّة المرضى” الذين يراجعون مستشفى المدينة المركزي، وفق آخر إحصائية لهفى عام  2012.

ويرى أطباء اختصاص أن أسباب المرض غالبا تعود إلى تلوث المياه التي تصل إلى المدينة من مرشح (محطة تنقية)، يسحب مياهه من مجرى نهر النيل، حيث يلقي المصنعان مخلفاتهما دون تكرير، في مخالفة للمعايير البيئية. يحدث ذلك تحت جنح الظلام وسط قصور وزارة البيئة، التي تكتفي بتوجيه تنبيهات للمصنعين المخالفين، في حين تؤكد أن أحدهما لم يرخص رسميا منذ سنتين.

توفر محطة التنقية المسماة (مرشح مجلس قروي الحراجية) مياه الشرب لمدينة قوص وست قرى مجاورة، يبلغ إجمالي عدد سكانها 39712 نسمة.

بموجب شروط ترخيص المصنعين، طبقاً للقانون رقم 48 لسنة 82 والمعدل عام 1989، يحظر على إدارتيهما إلقاء أي مخلفات صناعية في مجرى النهر. ويفترض تنقية المخلفات عبر محطة معالجة داخل كل منهما، قبل أن تصب المياه الخالية من المواد العضوية في النهر. على أن كاتبة التحقيق أثبتت بالفحوص المخبرية تلوث مياه النهر، في مصب أنبوبي المصنعين.

المصنعان يصرفان مخلفات الإنتاج الصلبة تحت جنح الظلام في مجرى النيل، حسبما لاحظت معدة التحقيق عدة مرات. وفي ليلة 17 مايو/ أيار 2014، جمعت معدة التحقيق مياه لزجة جدا معكرة بشوائب ومواد صلبة مباشرة بعد أن شاهدت إلقاء المخلفات في النهر.

مخلفات في الخفاء

خلال جولاتها في المنطقة، شاهدت معدة التحقيق أنبوبين عريضين (بقطر نصف متر تقريبا) يصبان في مجرى النيل، أحدهما يخرج من محطة معالجة مصنع الورق  والثاني من محطة معالجة مصنع السكر. ويخضع الأنبوبان– الغاطسان جزئيا تحت سطح المياه العكرة- لحراسة مشددة

بخطوات مرتعشة، تسير معدة التحقيق نحو مصب الأنبوب في النيل نحو الساعة الثامنة والنصف مساءً، حتى لا يراها حراس المصنع في أثناء ضخ المخلفات. تلتقط عينة من المياه وتغادر الموقع لتحليلها.

رائحة كريهة تزكم الأنوف، مياه عكرة تتغير من اللون الرمادي إلى الأسود. رجال أمن تابعون لكادر المصنع يتحركون بهدوء؛ للتأكد من خلو محيط الأنبوب من أي زائر غير مرغوب فيه.

ورغم أن بنك التعمير الألماني مول الدراسة الفنية لبناء محطة معالجة لمياه المصنع، تصب قرب قرية العليقات الصحراوية على بعد 12 كيلومترا من المصنع، فإن المحطة لم تنشأ حتى الآن.

وأكد نائب مدير مكتب بنك التعمير الألماني بالقاهرة،المهندس وليد عبد الرحيم،  في محادثة هاتفية، أن “البنك لم يمول مشروع المحطة إنما موّل الدراسة الفنية فقط”، وأوضح أن “هذا معناه إما أن المحطة لم تنشأ، أو أنها أنشئت لكنها لم تجتز الاختبارات الفنية”، مضيفا أنه ليس لديه مزيد من التفاصيل عن هذا المشروع.

 يؤكد الكيميائي، الذي يرفض نشر اسمه، أن مرشح الحمر والجعافرة الذي يغذي القرى الست يعمل بطاقة 3168 متر مكعب أي ما يعادل 50 لترا لكل ثانية في اليوم الواحد، مضيفا أن هذه طاقته العادية.

لكنه يعرب عن شكه في أن المرشح لا يعمل بكامل طاقته، موضحا أن المياه التي تخرج من وحدة المعالجة الكيميائية داخل المصنع تؤثر كذلك على مياه النيل.

ويؤكد المصدر أن وجود المواد الكيميائية يقلل من كفاءة المياه، حيث يصب مصنع الورق 5000 متر مكعب في الساعة، غالبيتها تحتوي على مادة النشا الأكثر سمية من بين المواد الكيميائية التي يستخدمها مصنع الورق. وهي تسبب تآكلا للغلاف الكبدي بمجرد ترسبها في الجسم، وفقا لأطباء.

ويتابع: رغم معالجة تلك المياه كيميائيا، فإنها تلوث المياه، فيما تنفق الأسماك في المنطقة على الفور لعدم تحملها درجة السمية في المياه.

يستخدم مصنع الورق نحو 280 طنا من المازوت يوميا لتشغيل المحركات، بحسب مهندس كيميائي يعمل فيه. ويؤكد المهندس – الذي يرفض الإفصاح عن هويته- أن إدارة المصنع تلقي يوميا 80 ألف متر مكعب من المياه الملوثة كيميائياً وبيولوجيا دون معالجة.

يقع مصنع الورق غربي مدينة قوص، على بعد 680 كيلو مترا جنوبي القاهرة، مطلا على نهر النيل. المصنع المقام على مساحة 108 أفدنة تقريبا شركة مساهمة مصرية تأسست طبقاً لقانون الاستثمار رقم280 لسنة 1989 بتكلفة 1.8 مليار جنيه. مصنع السكر .

شكاوى معلقة وتأكيدات حكومية

عضو مجلس الشعب والشورى السابق عن مركز قوص هشام القاضي، قدم عدّة شكاوى لوزارتي البيئة والاستثمار، متهماً المصنعين بـ”تدمير صحة المواطنين”. وزارة البيئة طالبت إدارتي المصنعين بتصويب أوضاعهما. يوم 20 نوفمبر 2014، أصدر محافظ قنا عبد الحميد الهجان قرارا بعدم صرف أي منشآت صناعية مخلفاتها على النيل وإلا سيتخذ ضده عقوبة مالية”.

على أن المصنعين مستمران في التخلص من المخلفات، ووزارة البيئة لم تتخذ أي إجراء عملي ضدهما.

منع المسؤولون في المصنعين دخول معدة التحقيق من البوابتين اللتين توجد عليهما حراسة أمنية مشددة؛ لكي تحصل على إجابات بما فيها المنحة لمصنع الورق، وسبب صب المخلفات في النيل، وبعد أن فشلت محاولات معدة التحقيق مقابلة مدير كل من المصنعين، أرسلت إليهما أسئلة عن طريق البريد السريع، لإتاحة الفرصة لكل منهما الرد على الاتهامات، لكنهما لم يردا لحين نشر التحقيق.

رئيس مجلس مدينة قوص عبد الرازق محمد توفيق، يشير إلى أن مكتب شؤون البيئة التابع للمجلس يقوم بعمل المحاضر للمخالفات المستمرة من مصنعي الورق والسكر، ويرسلها إلى مديرية البيئة بقنا.

يقوم مكتب الصحة بقوص بتحرير محضر كل ثلاثة أشهر لمصنع الورق من بينها،  تحرير محضر رقم 6 لسنة 2014 في خمسة يناير من ذات العام، يثبت صرف مخلفات الورق في النيل، وحرر مكتب الصحة بقنا المحضر رقم 24 لسنة 2014 والمحضر في 26 ديسمبر عام 2013، وحررت حماية النيل محضراً بتاريخ 12 فبراير لعام 2014، لعدم مطابقة العينة بكترولوجيا، وتم تحرير محضر “إثبات جرائم” بقسم الشرطة في 4 مارس لعام 2014، لعدم مطابقة العينة بكترولوجيا برقم 421 و419، وعدم مطابقتها كيميائياً برقم 419، لكن لم يتغير شيء على ارض الواقع.

ويشدد محافظ قنا عبد الحميد الهجان على قيام المصنعين بإنشاء شبكات للصرف الصناعي تصرف المياه بعد معالجتها في غابات شجرية بالظهير الصحراوي، معربا عن استعداد المحافظة لتسهيل تخصيص أراض لإقامة الغابات الشجرية.

“البيئة” تعرف ولا تتحرك

التقارير التي أكدتها “البيئة” مسبقاً، تفيد بأن العينات المأخوذة من نهاية الأنبوب الذي يصب في النيل غير مطابقة للحدود المسموح بها، وفق قانون البيئة 48 لسنة 1982 بشأن نهر النيل والمجاري المائية. إذ تنص المادة (2) على حظر صرف أو إلقاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية من المنشآت الصناعية وغيرها في مجاري المياه إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الري، ووفق الضوابط والمعايير التي يصدر بها قرار من وزير الري بناءً على اقتراح وزير الصحة، ويتضمن الترخيص الصادر في هذا الشأن تحديد المعايير والمواصفات الخاصة بكل حال على  حدة.

ويعطي القانون مهلة ثلاثة أشهر للمنشأة أو المصنع بعمل ترخيص ومعالجة المياه قبل صرفها في النيل، وإذا ثبت عدم صلاحيتها سحبت وزارة الري الترخيص من صاحب الشأن ووقف الصرف على المصنع، وإذا تبين مخالفة تلك المعايير يتم سحب الترخيص فوراً من المصنع ولا يجوز التصريح له مخالفة.

لكن المحاضر المحررة تبقى حبرا على ورق ويستمر المصنعان في ارتكاب مخالفاتهما.

ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط الخميس الماضي، عن وزير البيئة خالد فهمي قوله إن مصانع السكر تصب مخلفاتها في النيل مباشرة، وإن الوزارة ستتخذ الإجراءات القانونية ضدها إن لم تلتزم بالاشتراطات البيئية. ولم يذكر تفاصيل أخرى ولم يؤكد إن كان مصنع قوص من بينها.

ومع عدم الإخلال بالأحكام المقررة بقانون العقوبات، يعاقب المخالف لأحكام المواد 2، و3، 4، و5، و7 من هذا القانون والقرارات المنفذة لها بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تزيد على 2000 جنيه أو بإحدى العقوبتين. وفي حالة تكرار المخالفة تزيد العقوبة إلى الضعف.

وأكد مسؤول في مكتب “البيئة” أن مصنع الورق لم يجدد ترخيصه منذ عامين.

واتجهت كاتبة التحقيق إلى منطقة “الحمر” في قوص، حيث حصلت على العينة بعد مرشح المياه مباشرة. واستخدمت زجاجة معقمة حصلت عليها من معمل المختبر وبعد الحصول على العينة اتجهت صوب المعمل بمدينة قنا لتسليمه العينة لتحليلها. وكانت النتائج أن التحليل البكترولوجي غير مطابق للمواصفات.

وتؤكد نتائج التحليل أن كمية الأكسجين الذائبة في الماء مرتفعة عن الحد المسموح به، إذ تصل إلى 85 ملليجراما لكل لتر مقابل الحد المسموح به البالغ 60 ملليجراما.

ويظهر التقرير أيضا أن كمية المركبات العضوية مرتفعة عن الحد المسموح به، إذ تصل إلى 65 ملليجراما لكل لتر مقابل الحد المسموح به البالغ 60 ملليجراما. ويؤكد أن المياه رمادية اللون، وتحتوي على نسبة من الأحماض والقلويات تزيد 7.50 ملليجرام للتر، مرتفعة عن المسموح به البالغ 6.50. ويشير إلى ارتفاع نسبة النترات إلى 0.5 ملليجرام للتر مقابل الحد المسموح به البالغ 0.2، وارتفاع نسبة الحديد إلى 0.6 ملليجرام للتر مقابل 0.3.

وتظهر نتيجة التحليل البكتريولوجي وجود ما يزيد على 18 من البكتيريا القولونية وهو عدد يزيد على المسموح به وفقا للمواصفات القياسية لمياه الشرب. ويظهر التقرير كذلك وجود أكثر من 18 بكتيريا قولونية تعيش في البراز في كل 100 ملليلتر من المياه.

ويوضح التقرير أنه مع وجود عينة المياه في درجة حرارة تتراوح من 22 إلى 37 درجة مئوية تتكاثر الكائنات العضوية (وخاصة العفن) التي تتغذى على الكائنات الميتة أو المتعفنة.

 تعليقا على نتائج التحليل، يقول د. أسعد محمد الطيب، وهو طبيب أمراض باطنية في مستشفى قوص المركزي: إن هذه المياه غير صالحة للاستعمال الآدمي؛ لوجود فطريات وبكتيريا زائدة عن الحد المسموح به. ويضيف إن تناول هذه المياه يؤدي إلى الإصابة بنزلات معوية متكررة والأمراض الفطرية، وإحداث أضرار بالكلى وينتهي بفشل كلوي.

ويؤكد كيميائي في الإدارة الصحية بقوص رفض نشر اسمه أن التحليل يحتوي على بعض العناصر الكيميائية الضارة، ومنها: السيليكا والأمونيا والحديد والنترات.

تحذيرات طبية

الدكتور علي عثمان، اختصاصي أمراض الباطنية والكبد  بمستشفي قنا العام، يقول إن “نسبة الفشل الكلوي في قوص ارتفعت إلى 160 مريضا بالفشل الكلوي بمستشفى قوص، مقابل 98 مريضا العام الماضي”، ويتردد عليه في عيادته الخاصة بقوص أكثر من 100 مريض يوميا مصاب “بالحصوات على الكلى” وفق الفحص السريري للمرضى

.ويرجع الطبيب السبب الرئيس لمرضى الفشل الكلوي إلى تلوث المياه و الغذاء، خاصة الخضراوات التي تروى بالمياه الملوثة

معاناة السكان

.أبو الحمد علي، مواطن يعيش بإحدى قرى قوص يغسل كليته  منذ 12 عاماً، ما عرقل مسار حياته، وغدا غير قادر على العمل.

يقول علي إن تكرار تعرضه لغسل الكلية تسبب بضمور عضلات جسده، ما دفعه لشراء أدوية الكالسيوم والحديد على نفقته الخاصة، . ويحجم علي عن رفع دعوى قضائية على المصنعين؛ لأنه لا يملك المال اللازم لذلك

يتلقى شاب (35 عاما)، راتبا تقاعديا قدره 240 جنيه (35 دولارا ) من وزارة التضامن الاجتماعي، بعد أن تقاعد لظروف .صحية

مصطفى أحمد، ترك عمله في (الشيالة) نقل محصول القصب، وهو في الثامنة والعشرين، بعد أن هدّه الفشل الكلوي، يتلقى أحمد 215 جنيه (31 دولارا) شهريا من وزارة التضامن الاجتماعي.

عضو حركة التيار الشعبي اليسارية أشرف مصطفى، يشتكي من تعليق تنفيذ مشروع حكومي لبناء وحدة معالجة المياه بسبب عدم التمويل .

.ويرى مصطفى أن تبريرات المسؤولين “خايبة”، محذرا من تأثير مخلفات المصنعين على مياه الشرب والمزارع المحيطة بمصب الأنبوبين

ويقول أمين حزب التجمع بقوص حساني عثمان: إن مجلس قروي الحراجية، يتأثر بمخلفات مصنع الورق الكيميائية التي تصب في النيل، رغم محاولات الحديث مع المصنع خاصة بعد ارتفاع حالات الفشل الكلوي في البلد. ويوضح أن الأسماك تطفو على سطح النيل “ميتة”، في مشهد يقطع الشكوك بعدم صلاحية المياه في ذلك المكان، ما يؤكد ما شاهدته معدة التحقيق من أسماك ميتة على سطح النيل في أثناء زياراتها المتكررة. ومنذ خمس سنوات تم أخذ عينات من ذلك المكان ووجدوا أن المياه ملوثة بحسب ما يقول عثمان.

أحد سكان قوص، أبو الحسن محمد حسين، يؤكد ثبوت تلوث المياه بموجب تحليل أجرته شركة المياه (عام 2011)، استجابة لمبادرة نشطاء في القرى المتضررة. إلا أن الشركة رفضت تسليمهم نتائج التحليل باعتبار أنهم مواطنون.

أما مدير شركة المياه فرفض الحديث مع معدة التحقيق أو التعليق على هذه الواقعة.

وشهد رئيس الوزراء إبراهيم محلب يوم 5 يناير الحالي، فعاليات إطلاق الحملة القومية لحماية نهر النيل من التعديات والتلوث. ونقل عنه موقع اليوم السابع قوله :”سوف أنزل بنفسي لأشتبك مع المتعدين على نهر النيل”، مشيرا إلى أن التعديات على النيل تسببت في الإصابة بأمراض الفشل الكلوي والكبدي.

لكن حتى يتم تطبيق القانون بصرامة لوقف تعديات المصانع الحكومية والخاصة على مياه النيل ستستمر معاناة أهل قوص من مخلفات هذين المصنعين وسط عجز المؤسسات التنفيذية المسؤولة عن إغلاق المصنعين عوضا عن استمرار تحرير المحاضر بحقهما.

أعد هذا التحقيق الاستقصائي بدعم من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة إستقصائية عربية) ضمن برنامج تدعيم الاعلام لتغطية قضايا الإدارة العامة في المحافظات


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *