مساحة من الإبداع والحرية تتلاشى بسبب “الاحتكار والقبضة الأمنية”
لم يكن في مخيلة الأخوين “لوميير- Lumière” حين اخترعا في العام 1895 آلة العرض السينمائي، أن يُنشئ اختراعهم صناعة كبرى تتجاوز إيراداتها السنوية الآن حاجز المائة مليار دولار أميركي، ولا دار بخلدهم حين قدّما أول عرض سينمائي في المنطقة العربية وقارة إفريقيا، في “مقهى زاواني-The Café Zawani” بالإسكندرية في نوفمبر/تشرين الثاني 1896، بعد أقل من عام على أول عرض سينمائي في باريس، أن تستوطن تلك الصناعة الجديدة في مصر، وتقوم بدور بارز في تاريخها الحديث، مشكّلة واحدة من أدوات قوتها الناعمة.
تلك القوة الناعمة التي يروي الفنان المصري الراحل نور الشريف عنها واقعة من زيارة الرئيس جمال عبد الناصر لدولة المغرب، حين ناداه مواطن مغربي: “يا ريس ناصر، سلَّم لي على إسماعيل ياسين”. ويضيف نور الشريف: “أن الرسالة وصلت لعبد الناصر، الذي اكتشف أنه وبكل قيمته، يراه المواطن المغربي مجرد بوسطجي لإسماعيل ياسين”. وبعد عودته لمصر، أنشأ برنامج أضواء المدينة، وأمر أن يصاحب نجوم السينما المطربين في رحلاتهم العربية؛ لتقديم الفن المصري للعرب. ويرى نور الشريف أن جزءاً كبيراً من أسطورة جمال عبد الناصر؛ ترجع إلى إدراكه “دور الفن” في خلق صورة وقوة ومجد مصر.
افتُتحت أول دار عرض سينمائي في مصر في العام 1897، وبحلول عام 1926، نهاية حقبة السينما الصامتة، بلغت دور السينما في مصر 86 داراً، وفي العام 1958 ارتفع عددها لـ 359 وانخفض في 1995 إلى 141، أما في العام 2020 حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، فإن دور العرض السينمائي المملوكة لكل من القطاعين العام والخاص بلغت 53 فقط.
أنتجت مصر أول أفلامها عام 1907، وأذاعت أول بث تليفزيوني عام 1960. وبعد نصف قرن من البث التليفزيوني، و قرن كامل من صناعة السينما، تنتج مصر في المتوسط خمسين مسلسلاً درامياً، وستة وثلاثين فيلماً روائياً طويلاً سنويا؛ أمّا هوليوود فتتجاوز السبعمئة فيلم سنوياً، والسينما التركية كسرت حاجز المئة فيلم قبل تسع سنوات، ومثلها السينما الإيرانية التي يتخطى إنتاجها حاجز المئة فيلم كل عام.
نسعى في هذا التحقيق، من خلال تحليل البيانات المتاحة عن الأفلام الروائية الطويلة والمسلسلات الدرامية، في الفترة من عام 2008 حتى يوليو/تمّوز 2023، إلى رصد واقع أهم أدوات قوة مصر الناعمة: صناعة السينما والدراما، عقباتها وإمكاناتها، ورؤية صُنّاعِها في كيفية مواجهة التحديات، خاصة المتمثلة في محاولة سيطرة الأجهزة الأمنية المصرية على هذه الصناعة؛ نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المصاحبة لها.
ملف اقتصادي
يتراجع عدد الأفلام الروائية الطويلة المُنتَجة في مصر والمعروضة في دور السينما منذ العام 2008، الذي شهد ثمانية وأربعين فيلماً مصرياً، ليسجل العام 2011 ثلاثين فيلماً، ثمّ ارتفع العدد لأربعة وأربعين فيلماً عام 2017، ليتراجع من جديد خلال وباء كورونا، مسجلاً 26 و28 فيلماً على التوالي.
يرى المخرج السينمائي والتليفزيوني محمد علي أن متوسط 36 فيلماً أقل بكثير مما يستطيع صناع السينما تقديمه: “نحن فيما مضى تجاوزنا حاجز المئة، والمئة وخمسين فيلماً. في مصر يوجد الكثير من الكفاءات، لكننا نحتاج إلى منظومة إنتاجية، وسيستم واضح نشتغل فيه”.
ويضيف “علي” قائلاً: “إن السينما كانت في بداياتها تعتمد على المنتجيِن الأفراد، وإن ظهور كيانات كبرى في بداية الألفينيات تحديداً، قضى على الكثير من المنتجين الصغار؛ لعدم قدرتهم على الإنفاق كما تفعل تلك الكيانات”. ويصف علي الحالة الراهنة بما يشبه تأميم الصناعة.
أما الناقد الفني أمير العمري، فيعتقد أن مصر تستوعب إنتاج مئة فيلم سنوياً من جميع الأنواع (Genres)، في حال دعمت الدولة الإنتاج من دون أن تتدخل في الموضوعات، وتفرض رؤيتها الخاصة التي تميل عادة إلى الدعاية والترويج، وترفض التعبير الحر، وتفرض رقابة مشددة على الموضوعات؛ رقابة دينية وسياسية وأخلاقية.
لكنّ المنتج محمد حفظي، مؤسس شركة فيلم كلينيك، يرى أن 35 أو 40 فيلماً سنوياً ليس بالرقم السيء، بل إن الأهم في نظره جودة الإنتاج. ويتوقع حفظي زيادة الإنتاج، مع الطفرة الهائلة في أعداد دور العرض السينمائي في السعودية، التي باتت من أهم أسواق الفيلم المصري.
على صعيد الدراما، تنتج مصر في المتوسط 50 مسلسلاً سنوياً. شهد عام 2009 الطفرة الكبرى في أعداد المسلسلات المُنتَجة بـ 72 مسلسلاً، تراجعت في 2011 إلى 34 مسلسلاً، ثم شهد الإنتاج بعد ذلك تذبذباً في عدد الأعمال، حتى استقر في الأعوام الثلاثة الماضية تحت حاجز الستين مسلسلاً.
وبالنظر إلى بيانات إيرادات الأفلام المتاحة منذ عام 2011 حتى 2022، سجّلت إيرادات دور السينما من الأفلام المصرية متوسط ما يعادل 22.5 مليون دولار أميركي، وسجل عام 2020 أقل إيرادات بواقع 7.2 مليون دولار أميركي؛ في حين سجل عام 2019 أعلى إيرادات بقيمة 37.7 مليون دولار.
عالمياً، يُعدّ شباك التذاكر واحداً من أهم مؤشرات صناعة السينما، لكنّ الوضع في مصر يختلف عن دول كثيرة؛ فمتوسط سعر تذكرة السينما في الولايات المتحدة الأميركية هو 10.5 دولار، أقل من الحد الأدنى لأجر ساعة عمل واحدة في ولاية نيويورك؛ أما متوسط سعر تذكرة السينما في مصر هو 100 جنيه مصري (3.25 دولار)، ما يعادل الحد الأدنى لأجر يوم عمل كامل في مصر.
يشير المنتج محمد حفظي إلى عدة أسباب أدت إلى تدهور إيرادات شباك التذاكر؛ من بينها ضعف القوة الشرائية، التي يتمتع بها المواطن المصري نتيجة الظروف الاقتصادية الحالية، إضافة إلى مستوى الإنتاج المتواضع في الكثير من الأفلام. كما أشار السينمائي باسل رمسيس إلى تراجع أعداد دور العرض السينمائي وانحصارها في الـ “مولات” التجارية والأحياء التي انتشرت بها الـ “كومباوندز”، فلم يعد هناك سينمات في أحياء الطبقات الوسطى والشعبية مثلما كان.
ويضيف رمسيس قائلاً: “السينما المصرية كانت تعتمد على الطبقة الوسطى، وعلى الشرائح الأقل منها؛ أما الآن لم تعد السينما الخروجة التقليدية للمواطن المصري، لتكلفتها الباهظة على الأسرة المصرية”.
صناع وفنانون
يُظهر تحليل البيانات أن قرابة 300 شركة عملت في الإنتاج السينمائي منذ عام 2008 حتى الآن، من بينها 218 شركة أنتجت أو شاركت في إنتاج فيلم واحد طوال تلك المدة، و39 شركة أنتجت فيلمين فقط؛ في حين أنتجت عائلة السبكي وحدها ما يفوق الـ 90 فيلماً، وشركة “سينرجي” التي دخلت سوق الإنتاج السينمائي في العام 2018، أنتجت ما يفوق الـ 20 فيلماً.
يفسّر المنتج محمد حفظي أسباب توقف ما يقارب ثلاثة أرباع شركات الإنتاج عن العمل بعد الفيلم الأول، بأن الكثيرين يكتشفون خلال تجربتهم الإنتاجية الأولى، أن الأمر ليس بتلك السهولة ولا الربحية التي توقعوها.
أما السينمائي باسل رمسيس، فيرى للأمر عدّة جوانب، مثل صعوبات الإنتاج والتمويل، والإرهاق العصبي والجسدي والعقلي للتجربة الأولى؛ لكن أهم تلك الجوانب في رأيه، هو غياب الضوابط القانونية المُنظِمة للصناعة. يقول رمسيس: “إن جهاز الرقابة على المصنفات الفنية حتى اليوم، لم يُصدر قراراً واضحاً بمنع عرض فيلم المخرج تامر السعيد آخر أيام المدينة، وإن كل الحوارات والنقاشات كانت شفاهية على لسان رئيس الرقابة، في مقابلات شخصية وعبر وسطاء بين جهاز الرقابة وصناع الفيلم”.
ويضيف رمسيس: “هذه ليست دولة قانون، وإنما دولة أجهزة أمنية لا تُعلن أيّ منها بشكل واضح للمواطنين المصريين أنها المتحكمة، وأن هذه هي قواعد التحكم”.
لباسل رمسيس تجربة غير موفقة، في محاولة عرض فيلمه التسجيلي “سكر برّة” في مصر، يقول عنها: “مما عانيته في تلك التجربة؛ ليس لديّ النيّة لتكرارها مرّة ثانية في مصر”.
في مجال الدراما التليفزيونية، يُشير تحليل البيانات إلى أن أكثر من 210 شركات أنتجت أو شاركت في الإنتاج في الفترة الممتدة من 2008 إلى 2023، من بينها 122 شركة أنتجت مسلسلاً واحداً وتوقفت، و29 شركة توقفت بعد إنتاج مسلسلين، وشركة واحدة هي “سينرجي” أنتجت أكثر من 110 مسلسلات تلفزيونية.
يُرجع الناقد الفني حسام فهمي توقف نصف منتجي الدراما التليفزيونية عن العمل بعد محاولتهم الإنتاجية الأولى، لتصورات غير حقيقية عن العملية الإنتاجية ومنظومة الإنتاج، ومحاولة الكثيرين دخول الوسط الفني من باب الإنتاج من دون خبرة كافية عن الصناعة، وبعد تكبد الخسائر؛ لا يُكررون المحاولة.
بدأت “سينرجي” المملوكة حالياً للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، الإنتاج التليفزيوني عام 2009، بإنتاج أو المشاركة في إنتاج مسلسل أو اثنين سنوياً. شهدت الشركة الطفرة الإنتاجية الأولى عام 2016 -وهو العام الذي انضمت فيه سينرجي لـ “مجموعة إعلام المصريين”، المملوكة حينها لشركة إيجل كابيتال (وهي صندوق استثمار مباشر Private Equity Fund، مملوك لجهاز سيادي)- بإنتاج 7 مسلسلات، والطفرة الثانية في 2019 بإنتاج 17 مسلسلاً، وفي عام 2020 أنتجت الشركة 25 مسلسلاً.
تُظهر البيانات أيضاً تراجع إنتاج الشركات الحكومية: الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، واتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري بقطاعاته، وشركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات، عن الإنتاج بين عامي 2016 و2023 إلى خمسة مسلسلات.
بينما أنتجت في الفترة من (2008 إلى 2015) 130 مسلسلاً، بحصة سوقية هي ثلث الإنتاج في تلك الفترة. وأنتجت “سينرجي” بين عامي (2016 إلى 2023) نحو 100 مسلسل بحصة سوقية هي الـربع. ما ميّز الشركات الحكومية في فترة ريادتها لسوق الإنتاج السينمائي، هو التعاون في أغلب أعمالها، مع شركات القطاع الخاص بالإنتاج المشترك. أما “سينرجي” في فترة ريادتها الحالية لسوق الإنتاج التليفزيوني، فتتميز بالإنتاج المنفرد في أغلب أعمالها.
ينفي السينمائي باسل رمسيس وجود أي “ممارسة احتكارية” بالمفهوم الكلاسيكي لصناعة السينما والدراما في مصر؛ فالاحتكار حسب تعريفه، يتطلب وجود سوق حرة رأسمالية مفتوحة، تسيطر عليها شركة أو عدّة شركات على أدوات الإنتاج، من المادة الخام للإنتاج وصولا للتوزيع؛ أي أن تتحكم تلك الشركات في كل حلقة من حلقات سلسلة الإنتاج، وهو غير متحقق في الحالة المصرية. يقول رمسيس: “لا يوجد احتكار في مصر، هناك دولة أمنية تتحكم من الألف للياء في كل أشكال التعبير، هي ممارسة ديكتاتورية للتحكم في أي منتج سمعي أو بصري خارج سياق القانون”.
أمّا الناقد الفني حسام فهمي، فيرجع توقف شركات القطاع العام عن الإنتاج، وما تبعه من طفرة إنتاجية لصالح شركة “سينرجي”، المملوكة بشكل مباشر لمؤسسة حكومية، بحسب ما قيل في الأوساط النقدية وقتها، إلى أن هناك وجهة نظر مختلفة عن الإنتاج داخل مؤسسات الدولة، وبناء عليه؛ أُتيح الإنتاج بشكل أكبر من خلال الشركة المتحدة، المالكة لشركة “سينرجي”، التي قررت الاستحواذ على المنظومة الإنتاجية الرسمية في مصر، بالتعاون مع مجموعة من المنتجين وشركات الإنتاج الخاصة.
وهو ما يتفق معه السينمائي باسل رمسيس الذي يشير -في الوقت ذاته- إلى أن أرباح شركات القطاع العام في النهاية كانت تدخل في ميزانية الدولة؛ أما شركة “سينرجي” بوضعيتها القانونية كشركة خاصة، والتي تعمل بأموال جهة سيادية، أي “أموال المواطنين”، فلن تدخل ميزانية الدولة، ولا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة المالية.
ويضيف فهمي: “في البداية كان هناك شكل من أشكال الاحتكار، لكنّ الملاحظ في الموسم الرمضاني الماضي، ظهور مسلسلات أكثر لمنتجين آخرين؛ الأمر الذي سيقلل الضغط على شركة سينرجي، كي تستطيع التركيز بصورة أكبر على نوعية الأعمال المراد إنتاجها”. وأشار فهمي إلى أن الأعمال التي أنتجتها سينرجي سابقاً، قبل تلك الزيادة في الإنتاج خلال السنوات السابقة، كانت أفضل على المستوى الفني.
أما المنتج محمد حفظي فيعتقد أن نجاح عائلة السبكي وشركة “سينرجي” في الإنتاج السينمائي؛ يرجع لاختياراتهم وعلاقاتهم بنجوم الدراما، فاستطاعوا الاستحواذ على نسبة كبيرة من الأفلام التي يقوم ببطولتها أولئك النجوم، تلك هي ميزتهم التنافسية الأهم، إضافة إلى قدرتهم على التمويل؛ ما مكّنهم من الاستحواذ على نسبة كبيرة من سوق صناعة السينما.
لكنّ حفظي لا يعتقد في استحواذهم الكامل على دور العرض السينمائي، فتلك الدور مملوكة لمجموعات وشركات مختلفة. ويضيف قائلاً: “من وجهة نظري فإن دور الدولة أو الشركات الوطنية للدولة، هو دعم القطاع الخاص وليس الإنتاج، ووضع الأسس والقواعد للعمل، وتمويل وشراء حقوق البث، وليس بالضرورة أن تنتج بشكل مباشر”.
تجدر الإشارة إلى أن الشركة القابضة “المتحدة للخدمات الإعلامية” (التي نشأت نتيجة اندماج مجموعة إعلام المصريين وD-Media عام 2016)، التي تمتلك حالياً 40 شركة من بينها “سينرجي”، و17 قناة تليفزيونية، إضافة إلى عشر منصات إخبارية رقمية؛ قد أعلنت في أيار/مايو 2021 انضمام شركة “ميديا هب سعدي-جوهر” لكيان الشركة القابضة، وفي العام التالي استحوذت فيه “ميديا هب سعدي-جوهر” على قرابة نصف عدد الإعلانات التليفزيونية في الموسم الرمضاني.
“ميديا هب سعدي-جوهر” أُسست كشركة للدعاية والإعلان في العام 1990، ونظّمت احتفالية “موكب المومياوات الملكية“، الذي حظي باهتمام رئاسي ومتابعة عالمية، بدأت العمل في الإنتاج التليفزيوني في العام 2021 بإنتاج مسلسل واحد، وفي العام التالي أنتجت مسلسلين، أما خلال عام 2023 شاركت في الموسم الرمضاني بخمسة مسلسلات؛ ما يشير إلى توجه المتحدة في تنويع أذرعها في قطاع الإنتاج بالشركة وعدم الاكتفاء بـ “سينرجي” كلاعب وحيد.
ملف تقني فني
لا تقف أزمة السينما المصرية عند عملية الإنتاج الضعيفة من حيث العدد، ولا غياب الدعم الحكومي للقطاع الخاص فقط؛ لكن تمتد أيضا لغياب الكثير من الأنواع الفنية (Genres).
يُشير تحليل البيانات إلى سيطرة فئة الكوميدي على الإنتاج بنسبة تفوق الـ 40%، وأفلام الحركة بنسبة 25%، مع ندرة فئات آخرى مثل أفلام الرعب والموسيقى/الاستعراض. لا يختلف الأمر في الدراما، فتسيطر الدراما الاجتماعية على ما يفوق الـ 40%، والجريمة والكوميدي لكل منهما بـ 25%.
يرى السيناريست تامر حبيب أن رأس المال جبان، والاعتياد على “باترون أو استمبة” مضمونة النجاح تدفع أصحاب الأموال لتكرارها أغلب الوقت، إضافة إلى العقبات الإنتاجية التي تحدّ من خيال المبدع، فيضطر إلى العمل في مساحة إبداعية ضيقة. يضيف حبيب قائلاً: “لا يمكننا الآن مثلاً العمل على مسلسل في كلفة بدون ذكر أسماء أو ذات، وأيضاً سيطرة كيان واحد على الإنتاج يفرض شروطاً وأسماء فنية معينة؛ تحدّ من مساحة المنافسة المفتوحة سابقاً”.
لكنّ حبيب يعتقد أيضاً أن الفرصة متاحة الآن، لتجريب أنواع مختلفة من الأصناف الفنية؛ نتيجة وجود منصات عرض رقمية مثل “شاهد” و”نتفليكس”، تتنافس فيما بينها، ما قد يسمح بتجريب أنواع جديدة، مثل النوع الموسيقي الذي عاد للظهور مؤخراً.
ولا يعتقد السينمائي باسل رمسيس أن تلك “الثيمات” هي ما يطلبه الجمهور، ولا أن مصر تفتقر إلى موهوبين، ويرجع الأمر للتحكم الأمني الذي يتدخل في كل شيء. ويضيف رمسيس: “المنظومة محكومة من مجموعة أشخاص ليس لهم أي علاقة بالسينما ولا الدراما؛ وبالتالي أي سيناريست أو مخرج يعمل في مصر مضطر إلى الخضوع لها، والقليلون يحاولون مراوغتها، بصرف النظر عن درجة نجاح أو إخفاق عملية المراوغة”.
ويٌشير الناقد الفني حسام فهمي إلى الدور غير المباشر لجهاز الرقابة على المصنّفات الفنية، في تعزيز تلك الثيمات المضمونة؛ فالأسهل إرسال فيلم كوميدي أو حركة يخلو من أي نقد اجتماعي أو ثيمات سياسية، كي تضمن إجازته. إضافة إلى تغير جمهور السينما، واقتصاره على الطبقات فوق المتوسطة، التي ترغب في مشاهدة فيلم أسري، كوميدياً كان أو حركة مع الأسرة والأصدقاء.
واهتمت سينرجي في السنوات الأخيرة بإنتاج أعمال درامية يشارك فيها الكثير من نجوم الصف الأول، كما في الاختيار1 و2 و3، وانتهاء بالكتيبة 101 (حتى تاريخ نشر هذا التحقيق).
تلك الأعمال التي تعزز السردية الوطنية التي تتبناها الدولة، عن الأحداث السياسية في الأعوام العشرة السابقة، إضافة إلى أعمال أخرى تعزز صورة نمطية أحادية عن البطل الشرطي أو الأعمال الدرامية المخابراتية؛ مثل كلبش وهجمة مرتدة، والتي لا تتشابه مع الأعمال المخابراتية في عهد مبارك، التي كانت تُنتج بحرفية درامية كالمسلسل الشهير “رأفت الهجان”.
يرى فهمي أن تلك الأعمال تهدف إلى تكريم جهاز الشرطة والجيش، لكنّه يقارن بين تأثر الجمهور بالجزء الأول من مسلسل الاختيار في العام 2020، ومسلسل الكتيبة 101؛ فالأول ردود الفعل عليه كانت إيجابية عند معظم المشاهدين، لكنّ مسلسل الكتيبة 101، لم يحظَ بمشاهدة جيدة. يقول فهمي: “كل ما زاد عن حده ينقلب لضدّه، الجملة كليشيهية لكنها حقيقية تماماً”.
ويخالفه الرأي باسل رمسيس الذي يرى أن الدولة انتبهت أن الجميع يشاهد التليفزيون لا السينما؛ فركّزت الجهد في استخدام الدراما التليفزيونية لخلق دعاية سياسية، قد لا تؤثر في بعض النخب، لكنّها بالتأكيد تؤثر في دلتا وصعيد مصر والمدن الصغيرة، التي لا مجال للترفيه أمام سكانها سوى مشاهدة التليفزيون. يقول رمسيس: “ليس عندي أي مشكلة مع أفلام ومسلسلات الدعاية السياسية، لكن مشكلتي مع مدى نزاهة وصدق ما يقدّم”.
ويُقسِّم رمسيس تاريخ السينما والدراما المصرية لسبع فترات، لكل منها سماتها المميزة، التي تعكس أثر السياسات العامة للدولة المصرية ومشروعها والصورة التي تريد أن ترسمها عن نفسها في ذهن المتلقي، من خلال المنتج الدرامي والسينمائي.
فأفلام حقبة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، التي يمكن استخدام التعبير الإيطالي “أفلام التليفون الأبيض -Telefoni Bianchi” في وصفها، كانت تمتاز في غالبيتها بتقديم طبقة اجتماعية واحدة، هي طبقة الأغنياء، بأناقتها وبهرجتها وقصورها الفخمة؛ في حين أن أغلبية المصريين كانوا يسيرون “حُفاة الأقدام” في الشوارع، تلك الصورة المزيفة هي صورة مصر الملكية التي كان يُروّج لها، وفق رمسيس.
والحقبة الثانية هي حقبة الناصرية، التي كانت السينما فيها جزءاً مهماً في الدعاية للنظام؛ فدولة ناصر -حسب وصف رمسيس- كانت واعية لأهمية الدعاية والثقافة، خاصة في تنفيذ مشروعها لبناء دولة جديدة. هذا المشروع احتاج إلى مشروع ثقافي جديد وليس دعائياً فقط، فشهدت السينما ثيمات تقدّمية مثل أهمية عمل المرأة ومشاركتها في المجتمع، وضرورة التضحية والمثابرة والتعليم، وفداء الوطن.
يقول رمسيس: “كان عبد الناصر استبدادياً، لكنّه امتلك اليقين بأن هناك دولة يُبنى لها أساس حقيقي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والتعليمي”. وهو ما سمح في نظر رمسيس بمساحة من النقد للسلطة والمجتمع في بعض الأحيان، كـ “باب الحديد” و “الزوجة الثانية” و “الحرام”.
أما الحقبة الثالثة، هي “الساداتية”، والتي في ظن رمسيس لم يهتم فيها النظام بالثقافة ولا بأهميتها ودورها في المجتمع؛ فشهدت السينما إهمالاً من الدولة. يصف رمسيس عناصر تلك الفترة بالسينما الانتقالية، والسينما الملوّنة، وأفلام المقاولات والبلاجات، التي تُظهر العري وتبدو منفتحة وليبرالية، وتقدم مجتمعاً ليس له وجود، تماشياً مع توجه النظام الساداتي للانفتاح الاقتصادي، وتصفية المشروع الناصري.
أما الحقبة الرابعة، الممتدة طوال العقد الأول من حكم الرئيس مبارك، فترة الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات -والتي سعى فيها الرئيس مبارك لتقديم سلطته على أنها نظام ديمقراطي منفتح، وإظهار أن هناك مجتمعاً جديداً يتشكّل، مع التأكيد على رفض الفساد والاستبداد وإعلاء قيمة النزاهة- كانت المرحلة الذهبية في تاريخ السينما المصرية، وفق رمسيس. وهي الحقبة التي شهدت جيلاً جديداً من المخرجين، ممن يطلق عليهم جيل الواقعية الجديدة في مصر، مثل داود عبد السيد، ومحمد خان، وخيري بشارة، وعاطف الطيب، وغيرهم ممن قدموا أعمالاً جادة، تناقش قضايا المجتمع.
ومن منتصف التسعينيات حتى ثورة يناير 2011، وهي الحقبة الخامسة، أدرك نظام مبارك بعد حرب الخليج الثانية أنه يواجه معارضة حقيقية وقوية، وأن الصورة التي حاول تصديرها خلال عقد الثمانينيات، صورة زائفة لا يصدّقها الجمهور؛ فبدأ بالتضييق على صناعة السينما، التي تركز إنتاجها في تقديم عنصري “التسلية والترفيه”.
ومنذ ثورة يناير، يقسّم رمسيس تلك الفترة لحقبتين؛ الأولى بين 25 يناير/كانون الثاني 2011 و30 يونيو/حزيران 2013، ويعتقد رمسيس أن تلك الفترة لم تشهد خطاباً واحداً يمكن تقديمه؛ فالمجتمع بقواه المتعددة في حالة صراع، ولأن السينما تحتاج إلى “مأسسة” ووقت ومال، فلم تشهد طفرة فنية متأثرة بـ “الزلزال السياسي” الحادث، كما تأثرت به فنون أخرى كالشعر والغرافيتي.
والحقبة الثانية منذ العام 2013، التي تشهد صناعة السينما والدراما فيها تحكماً شبه كامل لم يحدث في زمن التأميم في الستينيات. فتغلب علي الأعمال المُنتَجة عدة ثيمات، منها صورة الضابط المُنقِذ المُخلِص الشهم، وأيضاً نموذج البلطجي، مع وصم الفئات الشعبية والفقيرة بالبلطجة، إضافة إلى نموذج الكومباوند، مصر السياحية التي لا يقدر على العيش فيها إلا أقلية الواحد بالمئة من المجتمع.
تقدم الدراما عدة رسائل، منها أن الطبقات الشعبية مجموعة من البلطجية وخطر على المجتمع، وأننا نحتاج إلى الحماية والأمان الذي يوفّره لنا الضابط الشهم بتضحياته، والرسالة الأهم التي غالباً ما تُقدّم هي “احذروا الثورة، احذروا الرفض، احذروا التمرد”، بحسب رمسيس.
ويعتقد رمسيس أن تلك الرسائل، التي تهدف إلى تخويف الناس من أي حدث سياسي جديد مثل الذي حدث في 2011، ترجع إلى أن النظام الحالي غير قائم على أساس اجتماعي حقيقي، كالذي تمتع به النظام الناصري؛ لذلك تمارس سلطة أكبر على المحتوى السمعي والمرئي من خلال احتكار الصناعة.
ويشير الناقد الفني أمير العمري إلى أثر الاحتكار على الصناعة بقوله: “الاحتكار في أي مجال تدمير لأي صناعة، خصوصاً لو كان من طرف شركة تنتمي لأجهزة السلطة، التي تريد أن تفرض أنواعاً محددة؛ إما التسلية الاستهلاكية التي تُبعد الجمهور عن أي فكر أو نقد، أو الدعاية والترويج للسلطة”. ويشير العمري إلى أن هذا وضع لم تعرفه مصر منذ ظهور السينما، حتى في أعتى فترات السيطرة الناصرية، وتأميم السينما والقطاع العام، وفق قوله.
ويُلخص العمري أزمة صناعة السينما والدراما في مصر بقوله: “أي إبداع من أي نوع، سينما مسرح أو غيره، يجب أن يتوفّر له مناخ الحرية، في غياب حرّية التعبير لا يوجد إبداع”.