شبكات تسوّل تستغل أطفال صنعاء

18 نوفمبر 2015

صنعاء – محمد الكوماني

العربي الجديد– بجسد نحيل، وعينين جاحظتين، وثياب بالية، تردد طفلة يمنية: “أعطيني عشرة ريالات لأطعم نفسي، لأني راح أموت من الجوع”. وتزيد الطفلة مها (اسم مستعار): “أعطني من نفسك لكي أدفع إيجار البيت (…) الله يستر عليك”.

الجوع أيضا، يدفع محمد (14 سنة) للتسول قرابة 11 ساعة يوميا. يقول محمد: “أحاول أن أشبع جوع أمي وإخوتي الستة، أن أدفع إيجار البيت، وأن اشتري دواء أختي المريضة. لهذا كله أتسول. وأحيانا أعمل إن وجدت عملا”.

محمد ومها انضما إلى ما يزيد عن 7 آلاف طفل متسوّل في العاصمة، صنعاء، من إجمالي 30 ألف طفل متسول في اليمن، بحسب دراسة أصدرها، عام 2011، الدكتور محمد أحمد الزعبي والدكتورة نورية علي حمد الحوري، في كلية الآداب بجامعة صنعاء، بعنوان: ظاهرة التسول وأثرها الاجتماعي والتربوي في اليمن/ دراسة تطبيقية، أمانة العاصمة نموذجا.

لكن مختصين ميدانيين في مشروع مكافحة التسول يقدرون الرقم الحقيقي لمتسولي صنعاء من الأطفال، دون سن الثامنة عشرة، بضعف الرقم الوارد في الدراسة. وعلى مدى ستة أشهر، تتبع معد التحقيق أطفالا متسولين يعملون يوميا ما بين 4 و10 ساعات في عدة مناطق من العاصمة.

اصطدمت كل خطوة من خطوات التحقيق بغياب المعلومات الدقيقة، تحفظ غالبية المسؤولين، وتهديد أسياد هذه الشبكات المنظمة. تساهل ومهنة بلا عقاب!.

بدافع الحاجة، يعمل متسولون لوحدهم، لكن آخرين يمتهنون التسول ضمن شبكات منظّمة “تشغّل” الأطفال مستغلة براءتهم، فقر أهاليهم أو إهمال أوصيائهم.

يفاقم الحال، أن العقوبة الواردة في المادة (203) الباب السابع من قانون الجرائم والعقوبات رقم (12) لعام1994، ليست عقوبة رادعة، مع ملاحظة غياب عقوبة مشددة على من يستغل الأطفال بأعمال التسول، والأصل أن تكون العقوبة حتى لو كان من الأقارب أو الأولياء أو الأوصياء على الأطفال، بل ويجب تشديدها في هذا الحال.

يضاف لذلك عدم وجود قاعدة بيانات للمتسولين المضبوطين داخل أرشيف دور الطفولة الآمنة، المخصصة لإيواء الأطفال المتسولين والمشردين، ما يمنع مأسسة بيانات دقيقة حولهم، وسط ضعف التنسيق الرسمي بين الجهات المعنية بهذا الملف: وزارات الشؤون الاجتماعية، العمل، الداخلية، وأمانة العاصمة.

هذه التحديات حوّلت عملية القبض على المتسولين، مع سهولة إخلاء سبيلهم، إلى استراحة لعدة أيام، داخل مبنى مشروع مكافحة التسول في العاصمة، والذي أغلق قبل عامين نتيجة شح موارده. معد التحقيق راجع 2117 استمارة لأطفال تراوحت أعمارهم بين 5 و17 عاما، سجلت فيها بيانات المتسولين عند القبض عليهم من قبل المشروع.

تكرّر اسم 53 طفلا متسولا منهم عدة مرات، على فترات زمنية بعضها متقارب وبعضها الآخر متباعد. أحدهم تكرّر اسمه في أكثر من 21 استمارة مما يعني أنه تم القبض عليه 21 مرة. و16 تكررت أسماؤهم ما بين 4 و7 مرات، و35 متسولا تكررت أسماؤهم مرتين.

ركّز”العربي الجديد”، في دراسته على الـ 16 متسوّلا، وأفرغ معلوماتهم في جدول خاص، ليخلص إلى أن عدم وجود قاعدة بيانات خاصة بتسجيل المتسولين جعل محاولات تحليل الظاهرة مجرد روتين لا نتاج منه.

وإلى جانب ذلك، يتسبب في امتهان التسول تقصير وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل، شح معونات الفقر والبطالة، غياب الاستقرار السياسي، وسهولة توفير الضمانات للإفراج عن المتسولين المحتجرين.

وفي ظل غياب قاعدة البيانات، أجرى “العربي الجديد” دراسة ميدانية على 116 طفلا متسولا من عدة مناطق في صنعاء شملت: باب اليمن، التحرير، الزبيري، هائل، حدة، شميلة، الحصبة، السبعين، شارع تعز، الجامعة، الستين.


ضعف تشريعي وقصور رسمي يحيلان التسول إلى مهنة عمادها الأطفال

 وأظهرت النتائج أن 73.3% منهم يجني يوميا ما بين ستمائة وألفي ريال (2.7 –  9.3 دولارات أميركية)، فيما يجني آخرون مائتي ريال (أقل من دولار)، والبعض الآخر أربعمائة ريال (1.8 دولار). وكذلك، تواصل معد التحقيق مع 6 متسولين من أصل الـ 16 المكررة أسماؤهم، سندا لعناوين سكنهم المسجلة في الاستمارات، والضمانات المختومة من قبل مختار الحي.

منى (اسم مستعار)،22 عاما، قبض عليها، لأول مرة، عندما كان عمرها 16عاما. تمتهن منى التسول منذ عشر سنوات. وكانت تتسول مع إمرأة عجوز توفيت قبل ست سنوات.

تقول منى: “كانوا يمسكونني لأني كنت أجلس مع العجوز قبل ما تموت وما أقدر أهرب، وكانوا يفرجوا عننا في نفس اليوم بـ 500 ريال حق ضمانة للعاقل (مختار الحي)، ويعمدها جارنا في أي قسم شرطة وفي المجلس المحلي بـ 500 ريال”.

وكما هو حال الفتاة، كان أحمد (اسم مستعار)، 18عاما، المقعد على كرسي متحرك. يقول أحمد وهو جالس في حي الحصبة عند الساعة الرابعة عصرا وكان “مخزّناً” (يتعاطى القات): “أعطني راتبا وأنا أجلس في البيت، ولو مسكوني ألف مرة سأخرج وأعود للتسول، لأنني لا أستطيع القيام بأي عمل ولدي أسرة في ذمار، وأنا كما ترى الآن (مشلول)”.

ويتابع: “كل مرة كنت أجلس بها في مبنى المكافحة، لا أدفع ريالا واحدا، وبعد أسبوع أوقع على التزام بأني لن أتسوّل مرة أخرى، ويُفرج عني بالرغم من تأكدهم من أنني سأخرج للتسوّل مباشرة”.

تقاعس أمني وغياب آلية للضبط

تعد سهولة إخلاء سبيل المتسولين المضبوطين “التحدي الأكبر” للتعامل معهم، وخصوصا الأطفال ممن يضبطون ضمن شبكات مكونة من خمسة أو ستة أطفال، بحسب نائب مدير مشروع مكافحة التسول، علي أحمد يعيش، الذي يؤكد لـ”العربي الجديد” أن “السلطات الأمنية تعد أكبر عائق أمامنا”. وذلك لعدم تعاونها في مكافحة التسوّل، بالقول إنها قضايا بسيطة، ولديهم قضايا أهم من التسوّل.

بحسب آلية عمل مشروع مكافحة التسول، الذي أنشئ بقرار مجلس الوزراء في العام 1999 لجمع المتسولين وإعادة تأهيلهم، يتم إحضار المضبوطين إلى مبنى مشروع مكافحة التسول في منطقة الحتارش، والذي أنشىء بميزانية تشغيلية بسيطة.

لكن المشروع توقف عن جمع الأطفال المتسولين منذ عامين، لأسباب مرتبطة بإعادة تأهيله واستكمال بناء مراكز للتدريب والتأهيل. وحاليا يقتصر عمله على استقبال متسولين يعانون من حالات نفسية وعصبية.

وكان الحال، الذي وصل إليه المشروع، قد دفع مديره التنفيذي السابق، راشد عبدالله الأشول، إلى الإستقالة في العام 2013 احتجاجا على “إهمال القائمين على المشروع” في تحسين أوضاعه.

يوضح الأشول آلية عمل المشروع بالقول: “كنا نتخذ الإجراءات المناسبة، مثل الإيواء كجزء من المعالجات، إذا كان دافع الطفل للتسول الأسرة، كالأب أو الأم، ثم نحول الطفل إلى نيابة الأحداث، وهناك يتم توزيعه إما إلى مركز الطفولة الآمنة، وإما تستدعى أسرته، أو يودع إلى دار الأحداث”.

وتنص المادة (124) من قانون حقوق الطفل رقم (45) لسنة 2002، على أنه “لا يجوز التحفظ على الحدث، الذي لا يتجاوز سنه اثنتي عشرة سنة في أي قسم من أقسام الشرطة أو سائر الأجهزة الأمنية، بل يجب تكفيله لوليه أو وصيـه أو المؤتمن عليه، فإذا تعذر ذلك يتم إيداعه في أقرب دار لتأهيل الأحداث مدة لا تزيد على 24 ساعة، ويحال بعدها إلى نيابة الأحداث للنظر في موضوعه وفقاً لأحكام قانون الأحداث”.

ويتابع أن عملية الإفراج عنهم كانت تتم “بأخذ التزامات وتعهدات بعدم الرجوع للتسول”، لكنه يوضح أن “الضمانات تكون جاهزة لدى أهل وأقارب المتسولين، ويتم إحضارها بمجرد أن يتم التوقيف للإفراج عنهم. فالأمر لا يعدو كونه التزاماً مختوماً من قبل مختار الحي الذي يسكن فيه المتسول، ويتم تصديقه من مركز الشرطة والمجلس المحلي”.

بيد أن قانون رعاية الأحداث رقم 24 لسنة 92 وتعديلاته يشير في المادة(3) إلى أنه :يعتبر الحدث معرضا للانحراف إذا وجد في أي من الحالات التالية:

1- إذا وجد متسولا ويعد من أعمال التسول القيام بخدمات تافهة لا تصلح موردا جديا للرزق. وتوكد المادة (5) : كل حدث يضبط لأول مرة في إحدى حالات التعرض للانحراف المنصوص عليها في الفقرات من (1ـ5) من المادة (3) من هذا القانون، تقوم النيابة المختصة بإنذار ولي أمره كتابة لمراقبة حسن سيرته وسلوكه في المستقبل، وفي حالة التكرار أو ضبط الحدث في إحدى حالات التعرض للانحراف المنصوص عليها في الفقرتين (6 ، 7) من ذات المادة المشار إليها، تتخذ في شأنه التدابير المنصوص عليها في هذا القانون.

وبحسب “عادات” متعارف عليها، يكفل المختار المتسول مقابل مبلغ يتراوح بين خمسمائة وألف ريال يمني (2.3 – 4.6 دولارات). ورغم عدم قانونية دفع المبلغ، إلا أنه إن لم يدفع فقد يعرقل المختار ويماطل في إتمام العملية، بحسب متسولين.
لكن الضمانات تبقى، بحسب نائب مدير مشروع مكافحة التسول، علي أحمد يعيش، “عديمة الفائدة، لأنها خالية من أي إلزام للأهل أو للمتسول بعدم العودة للتسول”. – 
ولا يعد الإفراج عن المتسولين مخالفة، وفق يعيش، لعدم وجود آلية قانونية تنظم عمل المشروع من الحجز والإفراج، ولعدم توفر إمكانيات لإبقائهم داخل المبنى، فالميزانية المرصودة للمشروع تقدر بـ 400 ألف ريال (1860 دولاراً) شهرياً، والمشروع يحتاج إلى ما يقارب 4 ملايين ريال يمني (18600 دولار) كميزانية تشغيلية.

ويؤكد مدير مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية في أمانة العاصمة، علي الديلمي، أن المشروع “لا يملك” لائحة تنظيمية تحدد مهامه واختصاصاته، وتنتهي إجراءاته بتعهد المتسول بعدم العودة للتسول، وهو أمر “غير كاف”.

النيابة بدورها تؤكد أنها تطبق القانون، بحسب الرائد محمد سالم أحمد، ضابط في النيابة العامة، الذي أضاف “لا دخل لنا إن كانت هناك ثغرات أو إن حصل تلاعب”.

ووفق قانون رعاية الأحداث، ينقل المتسولون المقبوض عليهم إلى دار رعاية الأحداث، لكن تدني الطاقة الاستيعابية لدور الأحداث في صنعاء، وعددها مركزان تتسع لـ 200؛ يساعد في الإفراج عنهم وعودتهم إلى الشارع من جديد.

ويتهم رئيس المدرسة الديمقراطية (منظمة غير حكومية تعمل في مجال حقوق الإنسان) جمال الشامي، وزارة الشؤون الاجتماعية بـ”التقصير” في زياراتها الدورية لأقسام الشرطة ولدور الأحداث للوقوف على ممارسات التعذيب وانتهاكات حقوق الأطفال المتسولين، والتي أكد أنها “تجري هناك”.

ورصد تقرير أصدرته المدرسة عام 2009، عدة انتهاكات في حق الأحداث من بينها تعذيب الأطفال في أقسام الشرطة.

ثغرات قانونية تفتح بابا للاحتيال

المحامي نورالدين محمد الهادي، والمتخصص في القضايا الاجتماعية، يؤكد أن هناك “الكثير من الثغرات” تشوب بند التسول في قانون الجرائم والعقوبات.

ويرى أن “هذه الثغرات تجعل من القانون ممرا يسهل التحايل عبره في تنفيذ العقوبة، ويجعل من التسول حرفة لا يعاقب عليها القانون، إلا بالعنوان فقط، لأن المحتوى مفرغ تماما”.

الحكومة قامت بمحاولات “غير مجدية” بحسب التقرير الدوري الثالث المقدم من اليمن، حول مستوى تنفيذ اتفاقية حقوق الطفل وحمايته للحد من ظاهرة تسول وتشرد الأطفال، تمثلت بإنشاء دور رعاية وإيواء وأيضا بإصدار المادة (203) الباب السابع (التسوّل) من قانون الجرائم والعقوبات لسنة 1994.

وتنص هذه المادة على أن “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر من اعتاد ممارسة التسوّل في أي مكان، إذا كان لديه أو في إمكانه الحصول على وسائل مشروعة للتعيش، وتكون العقوبة الحبس الذي لا يزيد على سنة إذا رافق الفعل التهديد أو ادعاء عاهة أو اصطحاب طفل صغير من غير فروعه، ويجوز للمحكمة بدلا من الحكم على المتسوّل بالعقوبة المقررة أن تأمر بتكليفه بعمل إلزامي مدة لا تزيد على سنة إذا كان قادرا على العمل، أو تأمر بإيداعه ملجأ أو دارا للعجزة أو مؤسسة خيرية معترفاً بها إذا كان عاجزا عن العمل (…)”.

لكن هذا القانون لا يطبق على أرض الواقع بسبب ثغرات، تسهّل عملية التهرب من تنفيذ العقوبة، تتمثل في تفسير عبارات مطاطية واردة فيه. ومن ذلك مثلا أن عبارة “من اعتاد ممارسة التسوّل” تعني أنه لا يجب تنفيذ العقوبة على المتسوّل إلا بعد القبض عليه (3 – 4 مرات) في السنة، و”اصطحاب طفل صغير من غير فروعه” تدل على أن العقوبة لا تنفذ على من اصطحب طفله للتسول أو حفيده أو أي طفل من فروعه واستخدمه في التسول.

شح الإمكانيات يوسع ظاهرة تكرار التسول

الحكومة ممثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وصندوق الرعاية الاجتماعية تخصص رواتب تصرف كل ثلاثة أشهر للأسر الفقيرة وللأفراد، الذين لا يجدون مصدر دخل ولا يستطيعون العمل لكبار السن أو لوجود عائق صحي.

وتنفق الوزارة سنويا 62.5 مليار ريال (292 مليون دولار) لتغطية مليون و504 آلاف حالة، بينما تنتظر 900 ألف حالة اعتمادها منذ العام 2008. وبحسب كشوفات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وصندوق الرعاية الاجتماعية، فإن ما يتم صرفه كل ثلاثة أشهر للأسرة المسجلة في صندوق الرعاية الاجتماعية 18 ألف ريال (83 دولارا) وما يصرف للفرد 12 ألف ريال (55 دولارا).

عائلة من المتسولين تطلب الدعم

في جولة أخرى في صنعاء، لفت انتباه معد التحقيق طفل يتنقل من سيارة إلى أخرى ويده ممدودة طالبا المساعدة مرددا “سوي خير بحاجة بس 300 ريال”.

ولدى سؤال عيسى (13عاما من محافظة الحديدة) عن سبب حاجته لـ 300 ريال فقط (وتساوي دولاراً وأربعين سنتاً)، رد قائلا “أنا وإخوتي عايشين عند أبي وزوجته، لأن أمي توفيت وإحنا ولدين وبنتين وأربعة أخوة من أبي، وكلنا بنشحت ومطلوب من كل واحد يروح (يعود للمنزل) بمبلغ معين وأنا مقاطعتي (الحد الأدنى) ألف ريال في اليوم”.


طفل متسول ضبط 21 مرة، وغياب الرعاية ظل يعيده إلى الشارع

ولتوثيق ما قال، تبع معد التحقيق الطفل عيسى دون علمه ما بين الساعة 12 ظهرا والثالثة مساء. ثم غادر عيسى إلى منطقة السنينة في حي شعبي فقير، ودخل منزلا صغيرا جدا مبنيّاً من الطين، يحتوي على فتحات صغيرة على شكل نوافذ مغطاة بقطع من الكرتون. جدران المنزل تغطيه التشققات حتى يكاد أن يسقط على رؤوس ساكنيه.

وبعد انتظار ساعة على الأقل أمام المنزل للتحدث الى أهله، خرجت امرأة تدعى سعاد في أواخر الثلاثينات، من محافظة الحديدة وروت قصتها وقصة عائلتها مع التسول.

“كل يوم أخرج أنا وأولادي وأولاد زوجي نطلب الله (نبحث عن الرزق) ونتوزع في أماكن مختلفة من الشوارع، وكل واحد مطالب بمبلغ لا يعود إلا به حتى يهتموا ويكدوا ويسووا المستحيل مش يتساهلوا ويروحوا بغير فلوس”.

وتضيف سعاد: “زوجي كان عاملا وتعرض لحادث قبل خمس سنوات، والآن مشلول وبإمكانك الدخول والتأكد بعينك. ولديه فشل كلوي والأوراق موجودة وبحثنا عن المساعدة لكن دون فائدة”.

تتسول هذه العائلة منذ أربع سنين، حسبما تؤكد سعاد، لأن ما تتسلمه كراتب كل ثلاثة أشهر من الشؤون الاجتماعية لا يكفي لأسبوع، أما ما “نحصله من التسول فيغطي احتياجاتنا الأساسية من علاج وغسيل كلوي لزوجي وأكل وشرب وإيجار”.

العائلة مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية مقابل 18 ألف ريال (83 دولاراً) كل ثلاثة أشهر أي 6 آلاف ريال (28 دولاراً) شهرياً في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى للأجور 20 ألف ريال (93 دولاراً) شهريّاً.

مسن يدير شبكة أطفال للتسول

“أنا أحميهم، وأحافظ عليهم من أن يتحولوا لمجرمين ولصوص”، يقول خالد محمد (اسم مستعار) ليمني مسن يدير شبكة تسول، ويضيف “لو لم أكن موجودا لما استطاعوا أن يعولوا أسراً، وربما ماتوا جوعاً أو انحرفوا”.

يستطرد بالقول إن مجموعته تتكون من عشرة أطفال، “منهم من أعرفهم وأعرف أسرهم، ومنهم أيتام، وآخرون عرفتهم في مناطق أخرى يتسولون فضممناهم لنا”.


(مبنى المكافحة) تحول إلى دار إيواء للمصابين بأمراض عصبية ونفسية

ويتابع: “لا توجد آلية أو خطة لعملنا، فننتظر رزقنا من الله وفي آخر اليوم نلتقي ونجمع المحصول، وأوزعه عليهم بالتساوي”. ويضيف أنه يقوم أيضا بمتابعتهم إذا تم القبض عليهم من قبل مشروع التسول.

ويعيش هذا المسن في غرفة وحمام مع زوجته، التي لم تنجب له أطفالاً، بعشرة آلاف ريال(46.5 دولاراً)، بينما لا تكفي المعونة التي يحصل عليها لدفع تكاليف الكهرباء والماء والأكل والشرب.

الرحمة والعطف قبل التشديد الأمني

واجه معد التحقيق العميد عبدالرزاق المؤيد، مدير أمن العاصمة السابق، للوقوف على دور وزارة الداخلية والجهات الأمنية في ملاحقة شبكات التسول. يؤكد المؤيد أن “المجتمع اليمني، بمن فيه رجال الأمن، ينظرون للمتسولين بنظرة الرحمة والعطف، ولا يمكن ملاحقتهم أو مضايقتهم طالما لم يرتكبوا أية جرائم، وطالما لم يعتدوا على أحد”.

ويقر بصعوبة وضعهم في السجن، “حتى وإن تمت ملاحقتهم وتجميعهم فإمكانياتنا محدودة وبشق الأنفس نغطي احتياجات الموقوفين لدينا، في قضايا وجرائم كبيرة في أقسام الشرطة والنيابة وأماكن التوقيف المختلفة، كما لا توجد أماكن مخصصة لتوقيف المتسولين من الأطفال، ونخاف من اختلاطهم في أماكن التوقيف بالمجرمين والمتهمين في قضايا كبيرة”.

دراسة ميدانية ونتائج صادمة

في دراسة ميدانية قام بها مُعد التحقيق، وأجريت على 116 طفلا متسولا من معظم مناطق صنعاء، كانت نسبة الذكور 72.5% والإناث 27.5%. وركزت على الفئة العمرية من 6 إلى 17 سنة، تبين أن من عمر (6-  10 سنين) نسبتهم بين المتسولين 29% ومن عمرهم من (11 – 14  سنة) نسبتهم 51%، ومن عمرهم (15 – 17  سنة) نسبتهم 20%.

وأظهرت الدراسة أن 85.6% يتم استغلالهم في التسول من قبل شبكات تسوّل تستأجرهم من أسرهم، مقابل رواتب شهرية، أو يتم استغلالهم من أسرهم مباشرة بالعمل تحت إشرافهم.

النسبة الأكبر لبداية مشوارهم مع التسول كانت ما بين 2011- 2015، وهي الفترة التي بدأت فيها الاحتجاجات السياسية مما انعكس سلبا على الاقتصاد وارتفاع نسب الفقر وبالتالي زيادة نسب التسول في اليمن عامة، وصنعاء بشكل أساسي.

وخلصت الدراسة أيضا إلى أن ما نسبته 39.5% من المتسولين لا يقرأون أو يكتبون، و46% من الحالات التحقت بالمراحل الأولى من التعليم الأساسي وتوقفت عن الدراسة.
الحالات جميعها وأسرها، وفق الدراسة، تمت مقارنتها من قبل معد التحقيق بقاعدة بيانات وزراة الشؤون الاجتماعية، واتضح أن ما نسبته 25% يتلقون رواتب كل ثلاثة أشهر، و75% لا يتلقون رواتب من أية جهة تتبع وزارة الشؤون الاجتماعية.

وكانت النتائج “صادمة”، بحسب وصف الاستشارية النفسية د.عبير محمد إبراهيم، التي تطالب بإيجاد حلول جذرية لاستغلال الأطفال في التسول، أو حتى في العمل.

وتعتبر د.إبراهيم أن النتائج “كارثية في كل الاتجاهات التعليمية بنسب كبيرة لا يتلقون تعليمهم، شبكات تسوّل تستغلهم برواتب شهرية لأسرهم؟ هذا انتهاك لقوانين حماية الطفولة وانتهاك لكل الأعراف والمواثيق الموقعة مع الحكومة”.

وفي ظل غياب الدور الرقابي، وضعف التنسيق بين الأجهزة الحكومية، لا تزال الطفولة منسية تتسول لجيوب تستغلها، وتبيع براءتها في شوارع العاصمة صنعاء تحت غطاء الحاجة، ما يبرز أهمية إيجاد حلول لإصلاح وإعداد منظومة تشريعية اجتماعية متكاملة، تنهي ظاهرة تكرار التسول واعتباره مهنة طبيعية.
*تم إنجار التحقيق بدعم شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)

 


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *