"شاحنات الموت": طريق النساء إلى الحقول وأحياناً إلى القبر أو العجز الدائم

2 نوفمبر 2017

مريم الناصري

رصيف٢٢– بعد نهار واحد من اليوم العالمي للمرأة الريفية الموافق 15 أكتوبر، تعرّضت 36 فلاحة لحادث انقلاب شاحنة في محافظة القيروان وسط تونس.

حدث الحادث إثر تجاوز ممنوع بين شاحنتين تقلّان فلاحات. نُقلت النسوة إلى مستشفى الجهة: 3 منهن في حال خطرة.

مأساة ذلك الحادث ليست بالأمر الجديد، إذ تسجل المسالك الفلاحية في غالبية المحافظات التونسية، عشرات حوادث انقلاب الشاحنات على مدار السنة، وفق تقارير جمعيات تونسية. ولا توجد في المقابل إحصاءات رسمية عن معدّل تلك الحوادث أو عن عدد ضحاياها.

منذ ثلاثة أشهر، انتقلت معدّة هذا التحقيق إلى منطقة لنصارين في محافظة منوبة التي تبعد 60 كم من العاصمة. تلك المنطقة التي شهد أحد مسالكها الفلاحية حادث انقلاب شاحنة مماثلة أواخر عام 2016.

في أحد البيوت هناك بسفح جبل في تلك المنطقة الفلاحية، كانت فوزية الهمامي (45 سنة) مستلقية على فراش المرض.

وجه شاحب وجسد نحيف وجروح عميقة تعفّن بعضها على الرّغم من مرور قرابة سنة على الحادث الذي تعرضت له. وقد باتت مقعدة لا تقوى على الحركة أو النهوض من دون مساعدة إحدى بناتها. ولا تخرج من بيتها إلا لتلقي العلاج وجلسات التدليك علّها تقدر على العودة إلى المشي مجدداً.

تروي فوزية تفاصيل الحادث، وهي مستلقية على الفراش. تتحدث بصعوبة وتكاد تجمع الكلمات لتصف ما حدث خلال ذلك اليوم. تقول أنّها عملت طيلة 12 سنة في الفلاحة، لكن في ذلك اليوم انقلبت الشاحنة بهم في طريق العودة من العمل، وكانت أولى المصابات.

بقيت مدة في قسم الإنعاش، لا تتذكر ما حدث نتيجة الصدمة التي تعرضت لها. كل ما تتذكره أنّها كانت الأولى التي سقطت من الشاحنة لأنها كانت تجلس قرب الباب الخلفي. وقد انزلقت الشاحنة، ما تسبب في انقلابها.

فوزية التي تدفع الثمن

فوزية التي كانت تعمل في الحقول بين جمع الخضر وجني الغلال وجزّ الأعشاب لأكثر من تسع ساعات يومياً، أمست اليوم مقعدة لا تقوى على المشي بعد أن أصيبت بكسور حادّة، خصوصاً في العمود الفقري.

انقلبت الشاحنة أواخر 2016، وكانت برفقتها 15 امرأة أخرى، يعملن في الحقول مقابل أجور متفاوتة تنخفض إلى أقل من 3.5 دولار في اليوم، أي أقل من نصف الحدّ الأدنى للأجر في تونس، “وفق مجلة الشغل”.

يذكر الفصل الثاني من الأمر الحكومي العدد 669 لعام 2017 المؤرخ في 5 حزيران (يونيو) 2017 المتعلق بضبط الأجر الأدنى الفلاحي المضمون، ينص على أن “يضبط الأجر الأدنى الفلاحي المضمون للعمال من الجنسين البالغين من العمر 18 سنة على الأقل 13.736 دينار (6 دولارات) عن كل يوم عمل فعلي”.

مع ذلك، لم تكن فوزية تحصل على مستحقاتها، كما لم تحصل على تعويض مادي. ولم تلق اهتماماً سواء من صاحب الأرض، سائق الشاحنة، أو حتى من السلطات الجهوية في المنطقة.

تقول ابنتها خلود البجاوي (23 سنة) التي تعرّضت للحادث نفسه، أنّ والدتها كانت أكثر المتضررات من الحادث لأنّها أول من سقط من الشاحنة. فقد كانت تسير مسرعة في منحدر، ما أدى إلى انزلاقها وانقلابها، مضيفة أنّ النسوة الأخريات تعرضن لإصابات مختلفة، بين كسر وبتر أصابع… فيما تعرضت هي لإصابات خفيفة.

تدفع فوزية وغيرها مئات من النسوة ثمن العمل في ظروف تشغيلية صعبة وسط غياب قوانين تفرض على أصحاب الضيعات الفلاحية توفير نقل آمن لهنّ. أو حتى مطالبتهن بتعويض مادي من صاحب الأرض إذا تعرضن لحادث. فهنّ بغالبيتهن يشتغلن خارج الأطر القانونية من دون عقود أو تغطية اجتماعية أو صحية.

حوادث متكررة

تتكرر الحوادث التي تسفر عن ضحايا وإصابات في صفوف النساء العاملات في القطاع الفلاحي على طرقات مناطق فلاحية عدّة، مثل القيروان وجندوبة وباجة والنفيضة ومنوبة وغيرها من الأماكن التي تنتشر فيها ظاهرة تشغيل النساء.

في عام 2015، سجلت كذلك عشرات حوادث انقلاب شاحنات تقلّ فلاحات، وفق إحصاءات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ تمّ تسجيل 85 إصابة و7 وفيات. كان أسوأها ما حصل في حزيران (يونيو) في منطقة سيدي سعيدان من معتمدية النفيضة التابعة لولاية سوسة على الشريط الساحلي، وتبعد 200 كم من العاصمة، وهي منطقة فلاحية، حيث قُتلت فيه ثلاث نساء، وأصيبت 28 امرأة أخرى بجروح وكسور لدى انقلاب شاحنة خفيفة كانت تقلّ 31 عاملة.

MAIN_Buses of Death Tunis

توفيت فاطمة (53 سنة) وابنتاها في الحادث نفسه الذي أدى إلى تشتت العائلة. تقول سهام ابنة فاطمة التي تعمل هي الأخرى في الضيعات الفلاحية، أنّها تركت العمل بعد الحادث، وهي تخاف من أن تلقى حتفها هي الأخرى في حادث مماثل.

كانت تستيقظ فجراً لتمشي من البيت إلى الطريق الرئيسي الذي يبعد قرابة الكيلومترين من البيت. تنتظر الشاحنة التي تمر من هناك لتنقل النّسوة إلى الأراضي الفلاحية. كانت تذهب أحياناً إلى محافظة زغوان في الشمال الشرقي التونسي التي تبعد من محافظة سوسة حوالى 100 كم. تقول: “كنّا نمشي في الظلمة ونعود في الظلمة، لكن اليوم تركت العمل تكفي وفاة ثلاث منا”.

عام 2016، سجل وقوع حوادث أدت إلى وفاة 5 وجرح 107 نساء وفق المنتدى. ويؤكد المنتدى أنّ العاملات يعشن ظروفاً تشغيلية عسيرة، من بينها صعوبة التنقل وعدد ساعات العمل؛ فما يزيد عن 70% من النساء يشتغلن بين تسع وثلاث عشرة ساعة يومياً، وفق الدراسة. وهو ما يخالف مجلة الشغل التي تنص على أن عدد ساعات العمل في اليوم لا يتجاوز 9 ساعات.

الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات تندّد بـ “تراخي” السلطات و”تهاونها” في اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير وسائل نقل أمينة وقانونية للنساء العاملات في القطاع الفلاحي. وطالبت الجمعية الحكومة أكثر من مرّة بالتدخل لتحسين ظروف النساء الريفيات العاملات في الفلاحة، وفتح تحقيق لإدانة الوسطاء المتورطين في النقل العشوائي إلى الأراضي الفلاحية، وكذلك الإسراع في سن قانون يحمي النساء من أخطار النقل غير الآمن.

في دراسة شملت سبع محافظات في الشمال، وجدت جمعية النساء الديموقراطيات أنّ العاملات بغالبيتهن يجتزن ما بين 5 و20 كلم للوصول إلى موقع العمل بشاحنات أو مجرورات فلاحية. وفي أغلب الأحيان، يجبرن على الانتظار حتى يتسنّى لصاحب الشاحنة نقل أكبر عدد ممكن من النسوة.

تعمل 61% من النساء عاملات عرضيات في المواسم، في حين تعمل 28% منهنّ بصفة دائمة. وتوكل للنساء مهمة الجني والاهتمام بالأعشاب المضرّة والبذور.

إلى جانب مهمّة حمل المنتوج ونقل المحصول والقيام بأعمال الحرث. وأفادت أحلام بلحاج عضو الجمعية بأنّ المرأة الريفية تعاني من ظروف نقل غير مؤمنة، أدت إلى وفاة العشرات وإصابة المئات على مدى سنوات. ومع ذلك، لم يتغير أي شيء لأنه لا يوجد قانون يفرض على صاحب الأرض أو صاحب الشاحنة توفير نقل آمن لأولئك النسوة.

فغالبية تلك الشاحنات مهترئة تنقل عدداً يفوق طاقة استيعابها. في المقابل، فإنّ المسالك الفلاحية كلها غير معبدة وغير آمنة.

ووجدت الدراسة التي أجريت بالشراكة مع الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، أن سائق الشاحنة أو الجرّار يصبّ ماء على أرضية العربة حتى لا تجلس العاملات، ليضمن نقل أكبر عدد منهنّ وقوفاً. وصرّحت 85% منهنّ بأنّهن ينقلن في ظروف سيئة جداً وغير آمنة.

سماسرة النقل

أولئك النسوة بمعظمهنّ يُنقلن بشاحنات عبر وسطاء أو سماسرة يتقاضون مبالغ تصل إلى دولار واحد عن كل امرأة، إضافة إلى ما يتقاضاه عن كل واحدة من النسوة من أصحاب الأراضي مقابل المجيء بهنّ للعمل في الضيعات.

فيما يتفق الفلاح مع وسيط يملك شاحنة لينقلهنّ مقابل دفع مبلغ معين يتضمن أجورهن، ليتولى السمسار في ما بعد الدفع لهنّ آخر النهار بعد العودة بهنّ من مكان العمل، كأن يقبض مثلاً من صاحب الأرض 7 دولارات عن كل امرأة، يدفع 5 أو 6 دولارات فقط أو حتى أقل لكل واحدة فيما يحتفظ ببقية المبلغ كأجر له عن نقلهن.

إجراء ساهم في عدم قدرة النسوة على المطالبة بحقوقهن من صاحب الأرض.

وقد أشار عبدالمجيد الزار رئيس الاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري إلى أنّ عملية نقل الفلاحات تتم بشكل مهين لا يحفظ كرامتهن، مضيفاً أنّ غالبية الشاحنات تقل النساء وهن واقفات حتى تحمل أكبر عدد ممكن منهنّ، بخاصة أنّ الوسطاء أو السماسرة هم من يتولون نقلهنّ إلى الأراضي الفلاحية.

وأشار الزار إلى أنّ الاتحاد مهتم اليوم مع وزارة المرأة بسن قانون يفرض على أصحاب الأراضي الفلاحية توفير وسائل نقل آمنة.

السلطات الحكومية تدخّلت مراراً واتخذت جملة قرارات أبرزها البروتوكول الذي وقّع عام 2015 بين وزارة المرأة والأسرة والطفولة، والاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية.

تضمن البروتوكول اتفاقاً لوضع (كراس) كتيّب شروط ينظّم نقل العمال والعاملات في القطاع الفلاحي. ويفترض أن يحمي البروتوكول النساء العاملات في هذا القطاع من الأخطار المحيطة بعملية نقلهن إلى مواقع العمل والعودة منها.

لكن القرارات لم تجد طريقها نحو التطبيق على أرض الواقع. وبقيت النسوة في المناطق الريفية يتعرّضن لمزيد من الحوادث.

وعلى الرغم من كل الحوادث التي وقعت في مناطق ريفية عدّة، إلّا أنّ الفلاحات يقبلن على العمل في الضيعات لأنّ لا بديل لهنّ منه. حتى أنّهن في الغالب يرفضن الحديث أو التصوير مخافة طردهن من العمل.

تقرير معمق من مخرجات برنامج أريج لصحافة الموبايل (MOJO) 


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *