زبيد التاريخية .. هل تغادر مدن التراث الإنساني؟!

23 يونيو 2013

صحيفة الثورة – سقط سعيد داود معمري (28 عاما) عن دراجته النارية قتيلاً برصاص قوات الأمن المرافقة لإحدى لجان الحكومة المسؤولة عن إزالة مخالفات البناء بالإسمنت في مدينته التاريخية زبيد، المهددة بالاندثار والشطب من قائمة اليونسكو لمدن التراث الإنساني.

 تقول أم سعيد: “ابني قتل مظلوماً، لم نبنِ منزلاً من الإسمنت.. ولكنه كان حاضراً أثناء وجود لجنة لإزالة مخالفات البناء الإسمنتي، اشتبك معها بعض الأهالي، وأطلق الجنود الرصاص”.

ويدعي بعض الجنود أنهم أطلقوا النار في الهواء فوق تجمهر الأهالي المحتجين لتفريقهم، إذ تسمح لائحة قانون هيئة الشرطة للعام 2002 بإطلاق الرصاص في الهواء لتفريق المحتجين بعد إنذارهم ثلاث مرات، غير أن محاضر التحقيق أشارت إلى أن القتيل أصيب بطلق ناري من أحد الجنود، وتقول الجهات الأمنية إن المتهم يعاني من حالة نفسية، وإنه نزيل السجن ورهن المحاكمة.

ترك ذلك الشاب وراءه، أماً وأختين قاصرتين كان هو معيلهم الوحيد بعد وفاة والده، ومدينة صنفتها اليونسكو عام 1993 ضمن أهم 10 مواقع للتراث الإنساني العالمي، ثم أدرجت عام 2000 ضمن قائمة المنظمة “للتراث الإنساني المهدد بالخطر”. 

فالمد الإسمنتي المتزايد يغزو بناءها الجيري العتيق، في ظل عجز تلكؤ الحكومات في سَنِّ قانون لحماية نفائس المدينة، وعجزها عن حماية نمطها المعماري التقليدي بـ(الآجر) من التشويه، وفقر الأهالي وقصور وعيهم بأهمية مدينتهم التاريخية التي أنشأها محمد بن عبدالله بن زياد في العام 819م، عاصمة لحكمه الذي شب عن طوق الضعف العباسي في بغداد، إلى جانب مقاطعة وزراء (المالية، الأشغال، الأوقاف، الإدارة المحلية، الداخلية، السياحة، الكهرباء) لاجتماعات اللجنة العليا للحفاظ على زبيد.

الأوضاع في زبيد ازدادت تعقيدا، وأصبح الأهالي يرتكبون المزيد من مخالفات البناء، والمجاهرة بها، فيما خففت من حماس المسؤولين تجاه الحفاظ على المدينة التابعة لمحافظة الحديدة (غرب اليمن)، تجنبا للدخول في مواجهات مماثلة، ما أباح المآثر المعمارية في زبيد للكتل الخرسانية التي شوهت وجهها الأصيل.

شارع أبو موسى الأشعري 

شارع أبو موسى الأشعري الممتد من البوابة الشرقية إلى السوق القديم، كان واجهةَ المدينة ومَعْلَمَها السياحي والتجاري، ويضم نحو (130) منزلاً قديماً مع سور لكل منزل وساحات عامة وبعض المعالم البارزة.

ويعود الخطر الذي يتهدد المدينة إلى العام 93، عندما شيّد مواطنون (11) بناية إسمنتية على ساحات تفريغ بضائع القوافل التجارية عند مدخل المدينة، حجبت معالمها وشوهت منظرها العام، لتكون طعنة الأهالي الأولى لمدينتهم بحسب المدير السابق لفرع الهيئة ومدير المخطوطات حاليا عرفات الحضرمي. 

ثم توالت المخالفات، وأزال الأهالي أسوار (80) منزلاً مبنياً بالآجر، ليبنوا على أنقاضها منازل بالإسمنت المسلح، وانتشر على طول الشارع نحو (50) محلاً تجارياً إسمنتياً بأبواب حديدية، وقدر الحضرمي نسبة المخالفات بـ 65% من مباني الشارع، الذي يُعدُّ من أهم معالم المدينة، ويقول “المخالفات خدشت النسيج المعماري لمدخل المدينة تدريجيا وأزعجت اليونسكو عام 2000”.

التحذير الأخير 

وجهت اليونسكو أحدث إنذاراتها بشأن زبيد في المؤتمر الــ36 للجنة التراث العالمي الذي عقد في (سانت بطرسبورج) في يونيو 2012، ومنحت فيه اليمن فرصة أخيرة لاتخاذ خطوات جادة تحول دون شطب زبيد من اللائحة. وبحسب ممثل اليونسكو في اليمن الدكتور أحمد المعمري، فإن شطب المدينة سيحرم اليمن من إدخال أي موقع أثري آخر إلى قائمة اليونسكو لمدة 20 عاماً.

ويضيف المعمري: “المدينة تعني للتراث العالمي شيئاً مهماً، وسيحدد مصيرها اجتماع لجنة التراث العالمي في الدورة (37) الذي سينعقد في 22 يونيو 2013 بكمبوديا”، وقال إن قرار شطب زبيد أو إبقائها معلق بتقرير الحكومة اليمنية حول صونها لممتلكات التراث العالمي الذي سيناقشه الاجتماع، ومدى تنفيذها لمخطط الحفاظ على المواقع والمعالم والتقدم في الحد من المخالفات بحسب توصيات الدورة السابقة.

ويطالب بحلول عاجلة أهمها إصدار قانون “الحفاظ على المدن التاريخية”، وتوفير احتياجات المدينة التي ارتفعت من (40 ألف دولار) عام 1999، إلى (100 مليون دولار) حالياً، لتتمكن هيئة المدن والمجلس المحلي من تنفيذ مشاريع الترميم والصيانة، وإزالة تشوهات المباني والمعالم الأثرية. 

وتوفد اليونسكو خمسة خبراء دوليين كل عام إلى المدينة كجانب من الدعم الفني والاستشاري، وتوصي المانحين والمنظمات الإقليمية والدولية بدعم المدينة والترويج لها عالمياً، وبحسب المعمري، فإن اليونسكو غير معنية بالدعم المالي، لكنها قد تساهم بما لا يتجاوز “25” ألف دولار أمريكي.

وتتحرك الحكومة اليمنية دبلوماسياً لإيقاف قرار اليونسكو، وشكلت وفداً حكومياً وبرلمانياً للمشاركة في اجتماع لجنة التراث العالمي، وتأمل الحصول على دعم المجموعة العربية في اللجنة بالضغط لمنح اليمن فرصة أخرى، وإبعاد زبيد عن الخط الأحمر.

الثقافة تلقي بالمسؤولية على جهات أخرى 

اعترفت وزارة الثقافة في تقرير أصدرته في يناير 2013 بالصعوبات والمعوقات التي لا تزال تهدد بشطب زبيد من قائمة اليونسكو، وتتمثل في البناء العشوائي والإسمنتي المستمرين، وتأخر صدور قانون لحمايتها، وعدم وجود نيابة متخصصة في قضايا الآثار والمدن التاريخية، ومقاطعة وزراء (المالية، الأشغال، الأوقاف، الإدارة المحلية، الداخلية، السياحة، الكهرباء) لاجتماعات اللجنة العليا للحفاظ على زبيد، تهرباً من الالتزامات المقرة على وزاراتهم، بحسب المنسق العام لزبيد عبدالوهاب اليوسفي.

وأشار التقرير إلى عدم إيفاء الجهات الحكومية بالتزاماتها تجاه المدينة، والتقاعس عن توفير نفقات الدراسات الفنية، وأعمال الترميم، وتعويضات المواطنين المتضررين، وتوزيع قطع الأراضي في مدينة التوسع الجديد المقترحة من قبل الحكومة لحل مشكلة التكاثر السكاني، وإنشاء وحدات سكنية لذوي الدخل المحدود، ورصد 2400 مخالفة بناء بزيادة بلغت 50 % عما كانت عليه في العام 2009، إضافة إلى 30 حادثة سطو على شوارع ومتنفسات المدينة، متهما المكاتب التنفيذية والمجلس المحلي للمدينة بتسهيل حصول المواطنين على رخص بناء مخالفة، وتأجير المتنفسات والساحات العامة.

مبررات الأهالي

بات أهالي زبيد ينفرون اليوم من الهيئة الحكومية للحفاظ على المدينة، ولا يثقون بها، يقول جمال المهدي (35 عاما) وهو أحد الأهالي: “الهيئة تتعسف وتضطهد المواطنين، وساهمت في قتلهم بدون سند  قانوني أو دستوري بدعوى الحفاظ على المدينة”.

ولا يعني السكان بقاء المدينة ضمن التراث العالمي، مادام يتم منعهم من التصرف في أراضيهم، والبناء عليها وفق ظروفهم المادية. ويتساءل جمال: “كيف تمنع الهيئة بالقوة مواطناً من البناء على أرضه، أو ترميم وتوسعة منزله القديم، دون الاستناد إلى نص قانوني أو دستوري منصف.. الهيئة تتعمد تقييد حرية المواطنين، والزج بهم في السجون”.

هذه الأوضاع دفعت الأهالي أيضاً لرفع دعاوى أمام القضاء لإسقاط شرعية 14 قراراً حكومياً خاصاً بزبيد، بينها 3 قرارات صدرت عن الحكومة العام الجاري، بيد أن أهمها القرار رقم (437) لعام 2007، والذي يقضي بتفعيل نشاط هيئة الحفاظ على المدن ويلزمها بإزالة المخالفات.

وفي الدعوى الإدارية رقم 1 المقدمة لمحكمة زبيد في شهر يناير 2010 طالب 72 مواطنا بإلغاء القرار رقم 437 وكل القرارات الإدارية التي تقضي بإيقاف البناء والترميم والصيانة، وطالبوا الهيئة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي لتوقيف البناء في أملاكهم بدون وجه قانوني.

ويقول المحامي عبدالله المرص -من أبناء زبيد-: “إن تأسيس عمل الهيئة بموجب قرار مجلس الوزراء لا يعد مبرراً لاضطهاد وتعسف المواطنين، ومنعهم من التصرف في أملاكهم الخاصة التي كفل لهم القانون التصرف بها”.

ويضيف المرص: “الهيئة لا تراعي ضوابط الإحضار والاستدعاء، ما جعل الأهالي يتذمرون”، مؤكداً: “لدينا الحق في التصرف بأملاكنا استناداً للمادة (1154) من القانون المدني التي تعطي للمالك حق الانتفاع بأملاكه واستغلالها والتصرف فيها”.

التشويه بالقوة 

موقف سكان المدينة، وعدم وجود قانون يمنح مسؤولي الهيئة القوة لحماية زبيد، شكلا أرضية صلبة يعتمد عليها منتهكو جمالية المدينة، بل قد يلجأون لمنطق القوة أمام محاولات الهيئة للحؤول دون بنائهم عشوائياً بالإسمنت أو استيلائهم على أراضي الملكية العامة.

ويحمِّل المدير السابق للهيئة في زبيد المهندس نبيل منصر الأهالي والمجلس المحلي المسئولية، ويقول إن “منع موظفي الهيئة من القيام بدورهم في حماية المدينة، وتحريض المجتمع عليهم، ساهم في تدهورها”، ويطالب “بوجود قناعة لدى الشخصيات الاجتماعية والأعيان بأهمية الإجراءات المتبعة للحماية”.

ويشكو منصر من غياب الحماية الأمنية اللازمة لموظفي الهيئة ممن وصفها بـ”عصابات” معروفة للأمن تحمي المخالفين وتتصدى لمفتشي الهيئة، ويؤكد أن “بعض المتنفذين يرعون مخالفات البناء بالإسمنت ويشجعون عليها، من أجل مصالحهم  المتعلقة بملكيات الأراضي والساحات العامة”.

ولا يأبه المتنفذون، بحسب منصر، لمطالب الهيئة بتقديم وثائق ملكية العقارات والساحات التي يدّعون ملكيتها، لعدم وجود سجل عقاري واضح لتسجيل الملكيات والحق العام.

القانون حبيس البرلمان

مشروع القانون المنتظر الذي سيعني صدوره بالنسبة لليونسكو إثباتاً لمصداقية اليمن تجاه العالم، قدم للبرلمان (عام 1997) وبقي حبيساً لديه رغم مناقشته لـ 97 مادة من أصل 153.

وبدلا من السعي لإصدار القانون، أمر مجلس الوزراء في 26 فبراير 2013 وزيري الثقافة وشؤون مجلسي النواب والشورى بسحب مشروع القانون من البرلمان، في إجراء يتعارض مع المادة (119) من لائحة البرلمان الصادرة عام 2009 والتي تجيز للحكومة سحب مشروع القانون قبل شروع المجلس في مناقشة مواده.

ويؤكد رئيس لجنة الثقافة والإعلام بالبرلمان عبده الحذيفي، أن الحكومة لم تسحب مشروع القانون حتى الآن، ويتهم نافذين وتجاراً من صنعاء وزبيد بإعاقة إصداره. ويكشف مقرر اللجنة عبدالمعز دبوان “وجود ضغوط تمارس على النواب من قبل بعض أهالي زبيد المتحفظين على مواد في المشروع، ما جعل البرلمان يؤجل استكمال مناقشته والبت فيه حتى الآن”.

وبحسب بيان تحول إلى فتوى شرعية وقع عليها بعض علماء زبيد في يناير 2013، فإنه “لا يجوز إقرار القانون شرعاً”، كونه يخوّل للهيئة طرد المواطنين من بيوتهم وتملكها لأي منزل تحت مبرر الحفاظ على الآثار.

عجز الهيئة

القرارات الحكومية التي صدرت بشأن المدينة، ومن خلفها توجيه الرئيس اليمني رقم (2754) بتاريخ 17/12/2012 للحكومة باتخاذ خطوات جادة وسريعة للحفاظ على المدينة، لم تؤمن جميعها المدينة من شبح السقوط الذي يتهددها، بالإضافة إلى بعض المشاريع الإسعافية التي لم تحل دون إطلاق اليونسكو تحذيرها الأخير.

وتلقي هيئة الحفاظ على المدن التاريخية باللائمة على الحكومة، والسلطة المحلية والمجتمع المحلي في زبيد، ويوضح القائم بأعمال رئيس الهيئة ناجي ثوابة أن المدينة تستغيث منذ 13 عاما، والحكومات المتعاقبة تكتفي بوضع التصورات والخطط على الورق، بينما كافة المشاريع التي رسمت لإنقاذ المدينة متعثرة منذ عام 2000.

ويشكو ثوابة من تدني ميزانية مشاريع الحفاظ على المدن التاريخية، ويوضح: “لم نتسلم 72 مليون ريال (450 ألف دولار) تعويضا لمن أخذت مساكنهم من وحدة الجوار، التي ستخفف العبء على المدينة”. بل إن الهيئة: “أغلقت فرعها في زبيد  لتأخرها في دفع مستحقات الموظفين، ولاعتداء الأهالي عليهم”.

ويقول ثوابة: “الهيئة لا تستطيع أن تقدم شيئاً ما لم تساعدها الحكومة”، مبدياً قلقه من تدهور وضع المدينة وتنامي المخالفات التي وصلت إلى 60 مخالفة خلال 10 أيام فقط، منها 30 مخالفة جسيمة.

وتكتفي السلطة المحلية بتوجيه مكتب الأشغال بعدم إصدار تراخيص للبناء في المدينة، وهو إجراء شكلي، لأن المخالفات مستمرة، ويؤكد مدير مكتب الأشغال عبدالرحيم المعافى تسجيل 17 مخالفة خلال شهر مايو 2013.

اختفاء محارق”الآجر”

يصنع (الآجر) من الطين المخلوط بمخلفات الحيوانات وأغصان شجرة الأثل أو ألياف المحاصيل الزراعية، على هيئة قوالب مقاس (15 × 7 سم)، قبل أن تحرق في محارق على شكل أنفاق أرضية، لتتماسك وتأخذ اللون الأحمر الفاتح، وهو مناسب لمختلف البيئات المناخية لأنه يشكل عازلاً للحرارة.

ولا يلوم رئيس المجلس المحلي في المدينة العقيد سعيد جرمش المواطنين لارتفاع أسعار مواد البناء التقليدية “الآجر” وغياب البدائل، ويرى أن المجتمع المحلي وجد ضالته في الطوب الإسمنتي، الذي ينتجه 15 معملاً، بعد أن أغلقت جميع معامل إنتاج مواد البناء التقليدية، ويقول: “الحل بيد الحكومة”.

ويؤكد المواطن عبده عثمان (50 عاما)، إغلاق أربعة (محارق) خاصة في زبيد عقب افتتاحها، بينها (محرق) تابع لهيئة الحفاظ على المدينة، “لعدم الجدوى من عوائدها”. ويتحسر عثمان على خسارته ويقول: “بعت أرضاً لإنشاء محرق كلفني 3 ملايين ريال (15ألف دولار)، لكنني أغلقته لتدني مردوده المادي”.

وكانت “اللجنة الفنية للحفاظ على مدينة زبيد” اقترحت إنشاء (محارق) لإنتاج الطوب المصنوع من الطين، وتحويل معامل الطوب الإسمنتي الموجودة إلى (محارق) أخرى ودعمها حكومياً لمساعدة الأهالي، لكن المقترح لم ينفذ.

الفقر .. معول إضافي للهدم والتشويه 

تتسع رقعة الفقر في زبيد عاماً بعد آخر، وأصبح الحصول على منزل للسكن بالنسبة لسكان المدينة أمراً شبه مستحيلاً، خاصة مع ارتفاع أسعار الأراضي، وزيادة كلفة البناء بالطين المحروق بالمقارنة بالإسمنت. 

ويرى جمال الحضرمي وهو الرئيس الفخري لجمعية الحفاظ على زبيد أن الحلول الممكنة تبدأ بتنمية المجتمع المحلي معيشياً، وخلق فرص العمل، ودعم المواطنين في البناء التقليدي وتوفير الخدمات الأساسية في المدينة الجديدة”.

ووفقا لإحصائيات السلطة المحلية، ارتفع عدد سكان المدينة من (24791) عام 1993 إلى (49582) نسمة، في العام 2013، ما أفرز الحاجة لما يقارب 8 آلاف منزل جديد، وفق دراسة صادرة العام 2012 عن جمعية الحفاظ على زبيد، وسبب التوسع في البناء العشوائي داخل ساحات وفراغات المدينة، وشوه نمطها المعماري.

وعندما نسأل الأهالي عن أسباب العبث، يجيب أحد أبنائها: “حالة العوز والفقر.. أين أسكن؟!”. هكذا يرد وائل مختاري، الشاب الذي أكمل تخصصه الجامعي في الأدب الإنجليزي، ويعمل اليوم سائقاً لدراجة نارية لنقل الركاب في المدينة، ليجني في يومه نحو 1500 ريال يمني (7 دولارات).

وائل الذي يمتلك منزلا صغيراً من الطوب الإسمنتي عند البوابة الغربية للمدينة يقول: “كان البسطاء والمعوزون يبنون سراً في الليل، وزُجّ بكثير منهم في السجن، بينما يبني الميسورون عمارات طويلة في وضح النهار، لأنهم قادرون على مقاومة الدولة “.

ويعترف مختاري بخطأ بنائه، مؤكدا أن وضعه المادي السيئ لم  يمكنه من البناء بالمواد التقليدية، ويقول: إن كلفة بناء منزله بلغت نحو 700 ألف ريال (3500 دولار)، بينما البناء بالطريقة القديمة يتطلب أضعاف المبلغ، ويستغرق شهوراً لإنجازه، في حين يمكن البناء بإسمنتي في خمسة أيام.

ويؤكد المواطن عبدالله الأهدل (40 عاماً) حديث مختاري، عن ارتفاع كلفة المواد التقليدية، قائلاً: “سعر 20 كيلوجراماً من مادة (القضاض) ألفا ريال (10 دولارات)، وتحتاج آلاف الكيلوجرامات لبناء غرفة واحدة مساحتها 24 متراً مربعاً، خلال شهرين أو ثلاثة”.

ويقول إبراهيم حسين جلال (50 عاماً) الحكومة لم تلتزم بوعودها بتوفير50% من قيمة مواد البناء التقليدية كواحد من الحلول لمساعدة الأهالي في الحفاظ على طابع المعمار، ويؤكد: “مع الأسف  كل الاتفاقات والوعود تنفذ للبعض وبانتقاء مما أفقد المواطن الثقة بالحكومة وجعله يبني مسكنه بما يناسبه”.

الحكومة أول المخالفين

البناء العشوائي والإسمنتي نهج الميسورين أيضا، بل ونهج الحكومة، ذلك أن منازل عدد من كبار مسئولي الدولة منتشرة في أحياء المدينة الأربعة، مثل منزل محافظ الحديدة أكرم عطية وأحد وزراء الحكومة. 

وخلال جولتنا في المدينة دخلنا منزلاً يتكون من 3 أدوار، تملؤه النقوش والزخارف لشخص بارز يعمل في القضاء ويدعى (ع.ع.م)، وخلال الحديث عن البناء المخالف قال: “ليس من حق الحكومة أن تمنعي طالما والآلية المتبعة بين السلطة والمجتمع في الحفاظ على المدينة لا تشجع الناس على البناء القديم”. 

ويضيف: “الدولة ذاتها هدمت سور زبيد لاعتقادها أنه من مخلفات حكم النظام الإمامي (قبل ثورة سبتمبر 1962) وينبغي إزالته، بينما انتظر المواطن 18 عاماً والتزم بعدم البناء دون أن تقدم له الحكومة الحلول”.

ويتهم محمد واصل “موظف” (62 عاماً) الحكومة بارتكاب المخالفات, قائلاً: “في عام 1964 أنشأت الحكومة مدرسة (الثورة) بالإسمنت والحديد على أنقاض سور المدينة”، ويشير إلى مبانٍ حكومية داخل المدينة القديمة كمستوصف زبيد الريفي، ومبنى الشرطة والاتصالات، التي تعد شواهد حية على مخالفة الحكومة، إلى جانب ما يعتبره المواطنون “الاستغلال السياسي” وتقديم الجهات المختصة تنازلات أثناء الانتخابات، بهدف كسب أصوات المواطنين لصالح مرشح بعينه.

استعارت زبيد اسمها من الوادي الذي تنبسط بين جنباته وسط سهل تهامة على بعد (25 كيلومتراً) من شاطئ البحر الأحمر، ومنذ أسسها بنو زياد في القرن التاسع الميلادي وهي مركز لعدد من الدويلات التي تعاقبت على الحكم، مثل النجاحية (1040-1159)، والرسولية (1229-1454) والأيوبية (1174- 1229) والدولتين الطاهرية والمهدية.

وهي الثانية من مدن اليمن التي تحتلّ الأهمية التاريخية بعد صنعاء القديمة (عمرها 1400 عام)، وفيها 86 مدرسة علمية ومسجداً هي مؤسساتها التعليمية عبر التاريخ الإسلامي، ومصدر لإنتاج العلماء والأئمة الذين مثلت مؤلفاتهم مرجعاً للفكر العربي والإسلامي. وصفها المستشرق الفرنسي بونوفا (عام 1990) بـ”أكسفورد الشرق” و”مدينة الروح”، وصنفتها اليونسكو عام 1993ضمن أهم 10 مواقع للتراث الإنساني العالمي، لما تحتويه من مواقع أثرية، إلى جانب مكانتها العلمية، بوصفها مركز إشعاع تنويري منذ العقود الأولى لظهور الإسلام.

كما تضم قائمة اليونسكو للتراث الإنساني مدينتي صنعاء القديمة منذ العام 86، وشبام بمحافظة حضرموت منذ عام 82، وتطالب اليمن بإدراج 10 مواقع يمنية جديدة.

 تم إعداد هذا التحقيق الاستقصائي بدعم من شبكة “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)”، وبإشراف الزميل خالد الهروجي


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *