جشع طبي أو تساهل

14 ديسمبر 2021

مشرط القيصرية يلقي بالمواليد إلى الحاضنات

كل شيء تم اختياره بعناية. سرير صغير ورضاعات وفرشاة شعر حريرية. كذلك ملابس وردية ليوم الولادة وفستان أبيض لحفل الأسبوع. وحدها الصغيرة “ماسة” لم تكن مستعدة لمغادرة المستشفى. فقد باتت عارية حبيسة صندوق زجاجي في إحدى الحاضنات لتلتقط أنفاسها.

7 أيام قضتها ماسة، وأطرافها موصولة بأسلاك الأجهزة الطبية، وأنبوب يخترق أنفها. فور ولادتها تنقلت الصغيرة من جهاز التنفس الاصطناعي، إلى الأكسجين الأنفي، ثم الأكسجين بالحاضنة، وأجريت لها صورة شعاعية للقلب، بالإضافة لفحوص وتحاليل يومية وحقن وجرعات مكثفة من الأدوية، إلى أن استطاعت رئتاها التنفس بصورة طبيعية.

ماسة ووالدتها عليّا، كانتا “ضحيتين” لولادة قيصرية غير ضرورية، من أبرز تبعاتها عجز حديثي الولادة عن التنفس بصورة تلقائية، وحاجة بعضهم لدخول حاضنة، ما يرتب مخاطر وتكاليف صحية ومادية كبيرة.

وبحسب استبيان قامت به معدة التحقيق شمل 6500 أم مصرية، لتغطية الفترة الزمنية من 2014 وحتى 2020، وهي الفترة التي لا تغطيها المسوح الصحية الرسمية، تشهد مصر تصاعدًا كبيرًا وغير مبرر طبيًا في معدل الولادات القيصرية، حيث وضعت 8 من كل 10 سيدات قيصريا، وهو ما يفوق المعدلات الرسمية التي رصدها المسح الصحي الأخير عام 2014، وبلغت نسبة القيصرية فيه 5 من كل 10 سيدات.

تطور معدلات القيصري في مصر 1995-2014

تحتل مصر المرتبة الرابعة عالميا بحسب منظمة الصحة العالمية. كذلك أظهر الاستبيان أن نصف الأطفال المولودين قيصريا عانوا من مضاعفات بعد الولادة، واحتاج طفل من كل 5 لحاضنة، وتعرضت واحدة من كل 5 أمهات لمضاعفات صحية.

نسب القيصرية في العالم

29.9% – 2524.9% – 2019.9% – 1514.9% – 109.9% – 55% >30%<

لم ترغب عليا بإجراء القيصرية، فقد خططت لولادة طبيعية تعلم أنها الأفضل لها ولطفلتها، خاصة أن حملها مستقر، ووضعية الجنين في الحوض تساعده على شق طريقه للخروج. وخلافًا لأخريات كانت تخاف شق بطنها أكثر من آلام المخاض.

ولكن الطبيب كانت له رغبة أخرى. تتذكر عليا، كيف فزعت مما قاله طبيبها: “لو مولدتيش قيصري انتي المسؤولة عن سلامة البيبي، ولو مات برضو هنفتح بطنك عشان نخرجه”، لم يذكر الطبيب سببًا طبيًا لتضع عليا طفلتها قيصريًا، رغم بقاء أسبوعين على موعد اكتمال حملها، وتأكيداته الدائمة أن طفلتها في وضع الولادة الطبيعية.

من قرر القيصرية ؟

84%الطبيب16%الأم

فور ولادتها، عانت ماسة، من عدم قدرتها على التنفس بصورة طبيعية، وتحول لون جسدها إلى الأزرق. كان الوضع حرجا واحتاجت الصغيرة لحاضنة فورًا، ورغم ذلك كان حظها أفضل قليلا من 25 في المئة من الأطفال الذين شاركت أمهاتهم في الاستبيان وعثروا على حاضناتهم بصعوبة، فلم تلجأ أسرتها للبحث والانتظار ساعات طويلة كانت لتهدد سلامتها، وقرروا دخول حاضنة المستشفى الخاص حيث ولدت وإن بتكلفة تفوق استعداداتهم.

وتختلف تكلفة الحاضنات بحسب الجهة التي توفرها، فهناك حضانات خيرية مجانية، وأخرى خيرية بتكلفة قليلة. والحاضنات الحكومية هي الأقل كلفة بعد المجانية، ولكنها الأصعب توفرا أيضا، وهو ما اضطر أسر 4 من كل 5 مواليد احتاجوا حاضنات للجوء إلى حاضنات خاصة، ولكنهم في المقابل تحملوا تكلفة مادية عالية.

ماذا يحدث للمواليد بعد القيصرية؟

النسبة هي 20% وهذه عينة تمثيلية

وفي شباط/ فبراير 2020، تقدم النائب بالدورة البرلمانية السابقة فايز بركات، بطلب إحاطة لوزيرة الصحة، للمطالبة بضبط العمليات القيصرية غير الضرورية باعتبارها السبب في نقص الحاضنات، مطالبا بتعديل تشريعي يلزم الأطباء قبل إجراء العمليات القيصرية بتحرير تقرير طبي يوضح الأسباب التي تجبرهم على اللجوء للقيصرية، وعرضه على لجنة مختصة قبل البدء بالجراحة. أكد بركات، أن زيادة معدلات الولادات القيصرية يقابله زيادة في حاجة المواليد للحاضنات، خاصة أن نسبة كبيرة من المولودين قيصريا يتم توليدهم في موعد مبكر، وتبدأ عندها معاناة الأسرة في البحث عن الحاضنات المتاحة، خاصة مع ندرة تلك الحكومية وارتفاع تكلفة الخاصة.

18 % من حاضنات الخاصة توفرت بصعوبة

52 % من حاضنات الحكومية توفرت بصعوبة

65 % من حاضنات الخيرية توفرت بصعوبة

وتقول الطبيبة رباب علي، أخصائية الأطفال وحديثي الولادة، إن “الولادة الطبيعية تساعد في تقوية قلب الجنين وتنشيط رئته لتأهيله للخروج من الرحم والتنفس بصورة طبيعية، وهو تنبيه لا يحظى به المولودون قيصرياً”، مؤكدة أن “الأخيرين أكثر عرضة للمشكلات التنفسية والحاجة لدخول الحاضنة”.

وتحذر علي، من طريقة نقل المواليد من العيادات والمستشفيات إلى الحاضنات، قائلة: “نقل الطفل دون تجهيزات طبية مناسبة قد يعرضه لنقص الأكسجين الذي قد يسبب مضاعفات للقلب، وقد يعرض الطفل للإصابة بإعاقات ذهنية وحركية أو تشنجات”. وأشارت إلى أن الحالات الأسوأ التي تصل للحاضنة التي تعمل بها تأتي عادة من العيادات والمستشفيات الخاصة التي لا تتوفر بها حاضنات.

بعد رحلة مرهقة، وصلت ماسة لفراشها الوردي بمنزل والديها، وجسدها الصغير ملون بكدمات وتجمعات دموية في مواضع حقنها وسحب عينات تحاليلها، فضلا عن فاتورة حضانة كلفتهم 1100 جنيه (نحو 70 دولار) عن الليلة الواحدة، بالإضافة لتكلفة الأدوية والتحاليل والأشعة.

كم تكلفة الحاضنة اليومية؟

كم يبقى الطفل بالحضانة؟

اعترفت وزارة الصحة، بوجود زيادة هائلة في الولادات القيصرية وما تمثله من مخاطر على صحة الأمهات والمواليد، حيث شاركت الوزارة في دراسة لمجلس السكان، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، نشرت في 2018 بعنوان “الولادات القيصرية في مصر: الاتجاهات والممارسات والتصورات والتكلفة”. وكتب وزير الصحة في ذلك الوقت أحمد عماد الدين، في مقدمتها: “تمثل الزيادة الهائلة في استخدام العمليات القيصرية التي شهدتها مصر خلال العقد الماضي تحديًا لأنها تشكل خطرًا على صحة الأمهات والأطفال حديثي الولادة”.

تتبعت دراسة منشورة في المجلة المصرية لطب المستشفيات حالات الولادة بمستشفى بنها التعليمي، وبلغت 1500 حالة خلال 6 أشهر من عام 2018، وكشفت أن 65 في المئة من الولادات كانت قيصرية. وتعرض 20 في المئة من المولودين قيصريا لمضاعفات استدعت وضعهم بالحاضنات، وكان نصفهم مصابًا بالضائقة التنفسية، وتليه الإصابة بشفط العقي (تعرف مادة العقي بأنها أول براز ينتجه الرضيع ويتكون من مواد تم هضمها خلال تواجده في رحم أمه)، وتعفن الدم، واليرقان الوليدي المعروف بالصفار. وتراوحت مدة بقاء المواليد في الحاضنات بين 3 ساعات و12 يوما، فيما سجلت وفاة 10 أطفال.

نسب القيصرية في العالم

مروة… 7 أشهر بجرح مفتوح

مروة ماهر: ” كانت أسوأ تجربة في حياتي… عمر طفلي الآن سبعة أشهر وجرحي لا زال مفتوحًا”.

كان طبيبها المتابع يؤكد أن لديها فرصة كبيرة للولادة الطبيعية، وهيأت نفسها لذلك، ولكنها اضطرت لاحقا للمتابعة مع طبيبة أخرى أصرت على توليدها قيصريًا في الأسبوع الـ 36 من حملها من دون مبرر طبي. أصيبت مروة، بنزيف حاد استمر أكثر من خمسين يومًا، أدى إلى نقص الكريات الحمراء، وإصابتها بفقر الدم، بالإضافة لمشكلات بحركة الأمعاء منعتها من الإخراج 20 يوما، ما تسبب في إصابتها بمبادئ تسمم، كما بقى جرحها مفتوحًا وملتهبًا يخرج إفرازات صديدية تعالجها حتى الآن.

هل تعرضت لمضاعفات بعد القيصرية؟

وفقا للدراسة المنشورة بالمجلة المصرية لطب المستشفيات، تعرضت 19 في المئة من الأمهات اللاتي وضعن قيصريًا لمضاعفات اثناء الولادة، وأبرزها إصابة الشريان الرحمي بنسبة 10 في المئة، ويليه النزيف، والالتصاقات، واستئصال الرحم، وإصابة المثانة أو الأمعاء. كما تعرضت 10 في المئة لمضاعفات بعد الولادة، وكانت الحمى الأكثر شيوعا، وتليها الجروح والنزف.

وتقول مروة: “في بداية حملي بحثت كثيرًا عن طبيب لا يعتمد الولادة القيصرية دون سبب، وأكثر من طبيب كان يرد بأنه ليس لديه وقت للطبيعي”، وتتابع: “(طبيبتي) رفضت أن تقوم بمحاولة توليدي طبيعيًا رغم طلبي. هي قررت القيصرية وكل من وضعن يوم ولادتي وحتى خروجي من المستشفى ولدن قيصريا”. ويشير المسح الصحي إلى أن من بين كل 10 سيدات وضعن بمستشفى خاص 7 منهن وضعن قيصرياً.

وبالرغم من وجود زيادة ملحوظة في الولادات القيصرية بالمستشفيات العامة، إلا أن دراسة مجلس السكان، وصفت الزيادة في المستشفيات الخاصة بـ “الأكثر دراماتيكية”، مشيرة إلى أن الإفراط في استخدام القيصرية يمثل عبئًا ماليًا على النساء وأسرهن والنظام الصحي، وأن الولادات القيصرية في عام 2014 كلفت أكثر من 900 مليون جنيه مصري. وقال 45 في المئة من الأطباء المشاركين في الدراسة، إنهم يفضلون القيصرية، لأنها تمكنهم من السيطرة على وقتهم.

العلاقة بين نوع المستشفى ونسب القيصرية

أما مروة، التي لم تستطع الاحتفال بقدوم بكرها ووقع عبء الاعتناء بها وبصغيرها على والدتها وزوجها لأكثر من شهر ونصف، ثم اضطرت لترك عملها، بسبب وضعها الصحي. وتعتقد أن اختيار الأطباء للقيصرية هدفه الربح، حيث كلفت ولادتها 10 آلاف جنيه، بدلا من 4 آلاف في حال الولادة الطبيعية. وتقول: “تكلفة القيصرية أكثر من ضعف تكلفة الطبيعية، وربع ساعة ينتهي عمل الدكتور بدلًا من الانتظار يومًا كاملًا قرب حالة واحدة”.

تكلفة الولادة القيصرية

أشارت منظمة الصحة العالمية، في دراسة حديثة نشرت في حزيران/ يونيو من العام الجاري، إلى استمرار معدلات العمليات القيصرية في الارتفاع على مستوى العالم، حيث تمثل الآن 21 في المئة من جميع الولادات في العالم، متوقعة ارتفاع النسبة إلى 29 في المئة بحلول عام 2030.

آدم… وجرح في الرأس

أجرت شيماء (30 سنة) فحصا بأشعة 4D قبيل ولادتها، وأكد طبيب الأشعة، أن الجنين في وضع الولادة الطبيعية. وحينما عادت لطبيبتها المتابعة قالت إنها ستولدها قيصريًا، وإن الجنين ليس في وضع الولادة الطبيعية. جاء قرار الطبيبة ملبيا لرغبة الأم الخائفة من آلام الطلق، وهي واحدة من 16 في المئة من الأمهات اللاتي شاركن في الاستبيان ووضعن بقيصرية باختيارهن، ولكن رغم ذلك أبلغت طبيبتها باستعدادها للولادة الطبيعية فيما لو كانت أفضل لها ولطفلها.

بعد زوال أثر البنج النصفي، تملكت شيماء آلام شديدة، ولكن أوجعها أكثر وجودُ جرح قطعي برأس طفلها آدم

“كان جرح مشرط من أذنه اليمنى لأذنه اليسرى، وكان ينزف دما من فمه… كان الوضع مرعبا، وكسروا فرحتي بابني”.

هل تعرض المولود لمضاعفات بعد القيصرية؟

تُركت شيماء، بلا متابعة طبية بعد الولادة، واضطرت لدفع مبلغ من المال لواحدة من الممرضات مقابل منحها مسكنا لتخفيف شعورها بالألم الشديد، وتورمت ساقها في اليوم التالي للولادة، وأخبرتها الطبيبة أن هذه واحدة من مضاعفات البنج النصفي. كشفت دراسة مجلس السكان، أن 6 فقط من كل 100 سيدة تم إخبارهن بمخاطر القيصرية، وهو ما يعني غياب الموافقة المستنيرة، وأضافت الدراسة: “كان واضحًا في روايات النساء الافتقار الصارخ للمعرفة بمخاطر القيصرية، وعند سؤالهن عما إذا كان الأطباء يزودون النساء بمعلومات عن المخاطر الصحية وعيوب القيصرية، ذكرت النساء أن الأطباء امتنعوا عن إبلاغهن”.

هل أخبرك الطبيب باحتمال تعرضك لمضاعفات بعد القيصرية