عدم تطبيق القانون والخوف من وصمة العار والسر العائلي
داخل خيمة شبه مهترئة، كان أبو محمد يعد قهوته، فرغم النزوح إلا أنه لم يتخل عن عادة شرب قهوة الظهيرة، يدخل عليه طفله (ثمانية أعوام) بوجهه المصفر وجسده المرتعش، الحادثة وقعت بداية هذا العام.
هنا اختلط الأمر على أبو محمد هل الطفل يرتجف برداً، فرياح شهر شباط/ فبراير القاسية لا ترحم، أم أن مكروهاً أصابه؟!
“خلال 5 دقائق دخل طفلي إلى دورة المياه 10 مرات متتالية”.
“هل أصابك مكروه ما؟”، يسأله والده، لكن الطفل لا يجيب “لقد كان يشعر بالخوف مني، طلبت منه الجلوس بجانبي، وأن يخبرني بما حصل معه، لكنه رفض”. ومع إصرار الأب بدأ الطفل بسرد تفاصيل ما حصل معه.
في يوم آخر، حدّثه الصغير -في الصف الرابع ولم يتجاوز الثامنة من عمره- عما جرى معه في المدرسة “الخيمة” الواقعة على بعد خيام قليلة بمخيم سجو بمدينة أعزاز شمال سوريا قرب الحدود التركية. المخيم يقع تحت سيطرة الحكومة السورية المؤقتة. ما بجعبة الطفل كان مختلفاً و”صادماً”.
يعيش ابو محمد وعائلته مثله مثل 6.2 مليون إنسان داخل مخيمات ضمن حدود سوريا. بحسب إحصائية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإن 2.5 مليون منهم من الأطفال. وتفتقر الكثير من المخيمات إلى الخدمات الأساسية، كما تعاني من الاكتظاظ وتلاصق الخيام.
“يافعان اغتصبا طفلي ذي الـ 8 سنوات”
الحادثة وقعت خلال استراحة تفصل بين حصصه الدراسية. جاء إليه يافعان (في السادسة عشرة، والسابعة عشرة من عمرها). قاما باستدراجه إلى بستان بعيد عن المخيم، ووعده باللعب -في حال رافقهما- بدراجهتما الهوائية.
وافق الطفل، ووضع حقيبته المدرسية على ظهره، وركب على الدراجة الهوائية، وانطلق ثلاثتهم بعيداً عن مدرسة الصغير وعن الأنظار.
وهناك حصل ما حصل، قاما باغتصاب الطفل.
يحكي الطفل لأبيه كيف حاولا بادئ الأمر إقناعه بما سيقومان به، وكيف شعر بالخوف محاولاً الهرب لكن من دون جدوى.
الأول رماه على الأرض وأحكم قبضته على يديه كي لا يتحرك بينما يغتصبه صديقه، وما أن انتهى حتى قام الآخر بتقييد الطفل ليغتصبه هو أيضاً.
لم يستغرق الأب وقتاً طويلاً ليكتشف من قام باغتصاب طفله، فأن يمتلك أحدهم دراجة هوائية في مخيم ليس بالأمر الشائع.
يقول الأب: “عندما أخبرني ابني التفاصيل كنت أنوي قتلهما، لكنني ترويت ولم أرتكب جريمة بحقهما، واعترفا بكل ما قاما به، وهما في السجن منذ شهور عقوبتهما السجن لمدة 7 سنوات”. حينها لجأ الأب إلى مخفر الشرطة في المنطقة، والتي بدورها تابعت التحقيقات.
وعلى الرغم من سجن الفاعلين، إلا أن الأب وجد نفسه أمام قضية أكثر تعقيداً وهي “الوصمة”، حيث انتشر خبر اغتصاب طفله في المخيم، وبدأ الطفل يتعرض لمضايقات.
تعتبر مسألة “الوصمة” من أكثر الأمور الشائكة التي تواجه الأسر التي يتعرض أطفالها لتحرش أو اعتداء جنسي في ظل مجتمع يعاقب الضحية، وسط أزمة نزوح مستمرة منذ أكثر من 11 عاما، إذ تتكتم الأسر والسلطات المحلية في معظم الأحيان على قصص التحرش والاعتداء الجنسي.
برحيلي حافظت على طفلي وكرامته وكرامتي
هنا شدت الأسرة رحالها إلى مخيم آخر بعد 7 سنوات قضتها في هذا المخيم. يقول الأب “أردت المحافظة على طفلي، كان كلما غادر الخيمة عاد باكياً إليها لما يسمعه من كلام سيئ. برحيلي حافظت على طفلي وكرامته وكرامتي”.
ورغم أن الأب انتقل إلى مخيم آخر، إلا أنه إلى اليوم لم يرسل طفله إلى المدرسة خوفاً عليه، وخاصة أنه يلوم بكل ما حصل معه أستاذ المدرسة، الذي لم يتفقد غياب الطفل خلال الدوام الدراسي.
ينتظر تعافي طفله من حالة الذهول التي اعترته، إذ تبدو واضحة في كل مرة يوجه الأب له سؤالاً “عندما أحدثه بأمر ما تأتيني الإجابة متأخرة، وهو يخاف من ارتياد المدرسة مجدداً بسبب ما حصل معه هناك، فقد حاول مع والدة الطفل عرضه على منظمة إنسانية كي تقدم له علاجا نفسيا، إضافة إلى مشاكل جسدية من تبول لا إرادي وآلام في البطن”، يختتم والد الضحية كلامه.
مجهول يغتصب طفلا عمره 3 سنوات
يوجد في الشمال السوري، ونقصد هنا المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة السورية، قرابة 1400 مخيم يقطنها نحو 321 ألف عائلة، خاضعة لسلطة الحكومة السورية المؤقتة المدعومة من تركيا في شمالي سوريا، وحكومة الإنقاذ في مناطق هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، تصنّف أغلبها كمخيمات عشوائية غير منظمة يكاد لا يفصل بين الخيمة والأخرى أمتار قليلة، ولا خصوصية لسكانها، الأمر الذي تعتبره سميرة، وهي عاملة في مجال الحماية الاجتماعية للطفل مع إحدى المنظمات الإنسانية، أحد عوامل تعرَض الأطفال لخطر الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي.
سميرة، وهو اسم مستعار طلبت أن يبقى سرياً حفاظاً على خصوصية الناجين من الاغتصاب، تعمل في مناطق عفرين وريفها، وأعزاز وريفها ومارع وجرابلس وجنديرس، إضافة إلى عفرين المدينة.
ومن إحدى تلك المخيمات وتحديداً من مخيم سجو في اعزاز وجدت سميرة نفسها تمسك يد طفل صغير عمره 3 سنوات تساعده على تجاوز ما تعرّض له. الحادثة وقعت في بدايات عام 2021 في الخيمة المجاورة لخيمة الطفل اغتصبه يافع يبلغ من العمر 16 عاماً.
حينها أمسكت والدة الطفل بجارهم خلال قيامه باغتصاب طفلها الذي كان تعرّض لتشققات وجروح كبيرة ونزيف دماء.
“المشهد كان سيئاً جداً وكاد الطفل أن يموت” تقول سميرة. “سارعت الأم لإسعاف طفلها، وتمّ تسليم الجاني للأمن وتهجير عائلته إلى منطقة أخرى”.
الخوف من مغادرة الخيم ليلا
عادة عندما تغيب الشمس تفضل العائلات النازحة ألا تسمح لأطفالها الخروج من الخيم، فالعائلات التي كانت تعيش قبل الحرب في أحياء يعرف الجميع بعضهم البعض، لم تعد تشعر بهذا الأمان في مكان يجمع أشخاص من خلفيات مختلفة وعائلات غريبة عنهم.
“فالعائلات التي كانت تعيش في أحياء يعرف الجميع فيها بعضهم البعض، فقدت شبكات الأمان الاجتماعي لدى انتقالها الى مخيمات تضم أشخاصا من خلفيات مختلفة وعائلات غريبة بظروف نزوح وحياة صعبة”.
والطفل أحمد كان واحدا ممن تعرضوا للتحرش، وهو في طريقه إلى بقالة في المخيم الذي يعيش فيه.
حالة هذا الطفل هي الأخرى كانت قد تابعتها سميرة. عمره 14 عاماً، كان في طريقه لشراء أغراض عندما اعترض طريقه شاب في الثامنة عشرة، لكن لم تكن إصابة هذا الطفل الجسدية كبيرة، لأن عملية الاغتصاب لم تتم بشكل كامل.
ورغم أن الخطر الذي يحدق بالأطفال قد يأتي من شخص لا يعرفونه. لكن قد يبدو صادماً عندما يكون الجاني شخصا قريبا منه، يعيش معهم في الخيمة، وهذا ما حصل مع الطفل سعيد (7 سنوات)، التقته سميرة في مستشفى الأتارب عندما أسعفته والدته إلى هناك. الجاني زوج عمته الذي هرب بعدما انكشف الأمر.
“كان يهدده في كل مرة يغتصبه فيها أنه إذا أفصح عن الأمر سيرميه في حفرة عميقة ويتركه ليموت، وبالفعل اختار الطفل الصمت خوفاً”، تقول سميرة.
لكن آثار الاغتصاب التي كانت واضحة على جسده من تشققات وأوجاع في البطن وعدم القدرة على الجلوس بشكل جيد، كانت كفيلة بالكشف عما حصل. تم إسعاف الطفل بينما هرب الجاني.
عقوبة المغتصب في مناطق المعارضة
في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، يتم تطبيق قانون العقوبات السوري (رقم 148)، الأمر الذي يوضحه لنا المحامي محمود الهادي، نقيب المحامين الأحرار في الشمال السوري.
وبالنسبة للمحامي فقد أكد على أنهم يتلقون ويسمعون بشكل دائم عن وجود حالات تحرش واغتصاب الأطفال، وهو يرى أن الحرب والنزوح إلى المخيمات العشوائية غير الملائمة تعد سبباً لوقوع هذه الحالات، إضافة إلى عمالة الأطفال سواء لإعالة عائلاتهم، أو بسبب تشردهم بعد مقتل معيلهم بسبب الحرب.
وبالنسبة لآلية التبليغ عن هذه الجرائم التي تقع على الأطفال سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً، يقول المحامي “إما عن طريق معيل الطفل، أو يتم اكتشافها بالصدفة من قبل رجال الشرطة، أو عن طريق الجهات الطبية أو دور الرعاية ورياض الأطفال”.
ويتابع الهادي أنه “يتم نقل التبليغ بعد ذلك إلى محاكم الأحداث في الشمال السوري، وهناك يتجنبون المحاكمات العلنية للحفاظ على خصوصية الطفل، ويتم الاستجواب بشكل سري، يحضر معه ولي الأمر والمحامي”.
وهنا يشير الهادي إلى نقطة مهمة، وهي أن مثل هذه القضايا يترافع عنها المحامون مجاناً.
الرجال هم أيضا ضحايا …
دعت الأمم المتحدة في تقرير في تموز/ يوليو 2021 إلى “الحاجة لتجريم الاغتصاب باستخدام تعريف للاغتصاب أوسع مما هو مستخدم حاليا، بحيث يغطي جميع الأشخاص. ويقول التقرير إنه “رغم أن النساء يمثلن النسبة الأكبر من ضحايا هذه الجريمة، فإن الرجال هم أيضا ضحايا”.
واللافت أنه بحسب تعريف القانون السوري للاغتصاب أو “الفعل المنافي للحشمة كما يعرفه”، فهو “فعل يتم من رجل على أنثى فقط”، فنص القانون هنا لا يشمل جرم الاغتصاب الذي يقع على الأطفال الذكور.
عائلات تفضل الهرب خوفاً من الوصمة وترفض اللجوء إلى القانون
نبيل* (12 عاماً)، كان يعمل في ورشة تصليح في ريف إدلب، ترك المدرسة بسبب وضع عائلته المادي وبدأ بالعمل، وهناك تعرّض للاعتداء من قبل العاملين بالورشة.
تقول لنا مسؤولة الحماية كنانة* التي تابعت القضية إنهم نقلوا العائلة لمكان آخر حفاظاً على سلامتها.
وتعتبر عمالة الأطفال من المشاكل التي تواجه المجتمع السوري في ظل الحرب والنزوح، إذ ترسل الكثير من الأسر أطفالها للعمل بسبب الفقر أو غياب المعيل كالأب. وتقدر منظمة إنقاذ الطفل عدد الأطفال المتسربين من المدرسة بـ 2.4 مليون طفل. كما تشير إلى أن 1.6 مليون طفل آخر معرضون لخطر التسرب، وهو ما يمكن أن يشكل إضافة جديدة لسوق العمل، ما يجعلهم معرضين لأخطار، مثل: الاغتصاب أو التحرش أو إصابات العمل أيضاً.لأنهم يعيشون في منطقة حرب…
تعتقد كنانة، العاملة منذ 6 أعوام في مجال الحماية الاجتماعية اختصاص العنف القائم على النوع الاجتماعي وحماية الطفل، أن الحل الأمثل في مثل هذه الحالات، هو نقل العائلة الضحية لمخيم آخر لأنه “لا يزال هناك قصور في موضوع القانون في المناطق الخاضعة للمعارضة، يكفي أن يكون للشخص وسيط يهدد باسمه، وبالتالي يتم طي القضية، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالعجز ونكتفي بنقل الطفل وعائلته لمخيم آخر”.
السيدة الخمسينية ساهمت بتأسيس ما يسمى المساحات الصديقة، والتي لها دور في الكشف عن وجود حالات الاغتصاب هذه. مهمة هذه المساحات بناء حالة ثقة مع القاطنين ومساعدتهم في علاج ضحايا العنف الجنسي، وأهم أمر هو التعامل بسرية.
لم يكن الإفصاح الذي وصلهم عن حالات تحرش تعرضت لها فتيات فقط، بل أيضاً الأطفال الذكور. خلال 4 أشهر، تعاملت كنانة مع 3 حالات بين تحرش واعتداء. وبرأيها تأتي خطوة الإفصاح هذه بعد بناء حالة الثقة ووجود أشخاص لديهم القدرة على التعامل مع هذه الحالات، وتقديم الخدمات التي تحتاجها، والدعم النفسي للأهل والطفل.
ففي برنامج حماية الطفل يتم تقديم جلسات دعم نفسي بشكل دائم، وفيها يتم توزيع قصص يطلبون فيها من الطفل أن يقوم بتلوين أجزاء من جسده ممنوع أن يلمسها أحد، وبالتالي كيف يتصرف في حال تعرض إلى ذلك.
المغتصب الأب… الضحية ابنه… المنقذ العمة
كلما كانت الصلة مع المغتصب أقرب كلما زادت تعقيدات القضية، وهو ما وجد عامر* نفسه مجبراً على التعامل معه، إذ أنه يعمل في مجال الحماية الاجتماعية.
فالشاب النازح من مدينة الغوطة بدمشق، بدأ العمل في هذا المجال منذ العام 2013 تاركاً وراءه منزلاً مدمرا في الغوطة الدمشقية، متخلياِ عن اختصاصه في مجال الهندسة المدنية، ليعمل في مجال الحماية الاجتماعية للأطفال.
يقول عامر إنه خلال عامين، تابع مع فريقه 15 حالة من ضمنها 4 حالات عالية الخطورة، أي تلك الحالات التي تحتاج خدمات متعددة من صحية ونفسية وقانونية ورعاية وإيواء، أكثرها تعقيداً كانت الأب هو المسبب لطفله.
وهنا تكمن صعوبة الأمر، أن الإفصاح عن القضية يكون صعباً خوفاً من الوصمة، لكن حالة هذا الطفل التي تابعها عامر كانت بسبب تدخل العمة.
بداية لم يكن الجاني واضحاً من هو، هم 3 إخوة أكبرهم كانت عليه شكاوى من المدرسة لسوء سلوكه، عمره 13 عاماً.
كانت حالة إفصاح غير مباشرة، وردت شكوى متكررة من المدرسة لفريق الحماية باعتبار أن هناك تنسيقا مستمرا مع التعليم. اشتكى الأساتذة منه لقيامه بمضايقات وإساءة مستمرة للأطفال. “بعد التقييم تبين أنه هو من تعرض للإساءة، وهو يعاني من تبول وتبرز بصورة لا إرادية، نتيجة الاعتداء والاغتصاب، ومع الوقت تبين أن الجاني هو والده”.
لكن العمة هي من التي كشفت حقيقة ما حصل.
بالنسبة للأطفال البقية، إخوة الطفل الضحية والذين تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 9 سنوات، كانوا شهوداً على الاعتداءات، لكنهم لم يتعرضوا لاعتداء مباشر “هذا ما نسميه إساءة جنسية”، يقول عامر، “فأي نشاط سواء شاهد الطفل أحدا، أو تم الحديث معه بكلام أو عبارات معينة ذات إيحاءات جنسية، أو شاهد صورا، هذا يعتبر إساءة جنسية”.
كيف تم الكشف عن هذه الحالات؟ ولماذا الذكور تحديداً؟
الدكتورة نهى هي واحدة من العاملين الإنسانيين، الذين تابعوا حالات أطفال ذكور تعرضوا لعنف جنسي، حيث وثقت في المنظمة التي تعمل فيها 25 إلى 30 حالة في عام ونصف العام.
اللمسة البريئة واللمسة الخبيثة
المشروع الذي عملت عليه نهى كان يغطي مناطق: الأتارب، وعفرين، وكفر دريان، وجسر الشغور، وداخل مدينة إدلب، وحزانو، وباب الهوى. عملت في اتجاهين، الأول تشجيع الناجين على الإفصاح عما تعرضوا له، والثاني الدعم النفسي والجسدي للناجين من الاغتصاب.
وكانت إحدى الطرق التي استخدموها للتشجيع على الإفصاح، عرض مسرحية بعنوان “اللمسة البريئة واللمسة الخبيثة”، ومسرحية “الخروف والذئب”، إضافة إلى مشاركة رسومات مع الأطفال.
وبالفعل أفصح عدد من الأطفال بعد المسرحيات وهذه الألعاب بأنهم تعرضوا لأمور مشابهة، “فعلى سبيل المثال خلال 3 أشهر وصلتهم 10 حالات. كما وصلتهم معلومات عن حالات حاولوا الوصول إليها، لكن الأهل رفضوا خوفاً من رد فعل المجتمع المحيط بهم وفضلوا الصمت”.
ما الذي يضع الطفل في خطر التعرض للاغتصاب؟
بالنسبة إلى الحالات التي تابعتها نهى، بعضها كان لأطفال يتم إرسالهم من قبل أهاليهم في المخيمات الجبلية لجمع الحطب، فهم يعرفون أنها خطيرة على الفتيات والنساء، وبإرسالهم الأطفال الذكور فهم يعتقدون أنهم قللوا المخاطر.
لكن ما يحصل غير ذلك. فالمكان الذي يبحث فيه الأطفال عن الحطب منعزل، وهم معرضون لخطر التعرض للاستغلال الجنسي.
مجهول يغتصب طفل عمره 3 سنوات
من أحد مخيمات الأرامل، وهي موطن لعشرات الآلاف من الأرامل وغيرهن من النساء العازبات -بما في ذلك المطلقات أو اللواتي فقدن أزواجهن وأطفالهن – اللواتي يعشن في 28 مخيماً يسهل الوصول إليها عبر شمال غرب سوريا.
والوصول إليها مقيد للمنظمات غير الحكومية المحلية، التي تمكنت من تأمينها. حيث يُطلب من الأولاد مغادرة المخيمات عندما يصلون إلى سن 11- 13 عاما.
يودع الأطفال الذكور منهم أمهاتهم، على الرغم أنهم لم يتجاوزوا بعد الثانية عشر من عمرهم، على اعتبار أنهم وصلوا سن البلوغ، بحسب القائمين على المخيم. منهم من يتم وضعه في دور الأيتام، ومنهم من يخرج إلى سوق العمل مباشرة أو التجنيد، كما توضح لنا نهى، قائلة إن المجموعة الأكبر منهم تتجه لدور الأيتام.
لا قانون ينظم هذا الأمر سوى أن هؤلاء الأطفال أصبحوا بالغين الآن، ولا يجدر بهم البقاء في مخيم مخصص للنساء الأرامل.
إحدى دور الأيتام تلك أُغلقت بسبب توقف الدعم عنها خلال فترة انتشار فيروس كورونا، وتم إعادة الأطفال لأمهاتهم. تقول نهى “بعد عودتهم تم الإفصاح عما تعرضوا له من حالات تحرش وعنف جنسي، قابلنا 5 أطفال لكل منهم كان قصة عنف جنسي في دار الأيتام تلك”.
لا توجد إحصائية رسمية أو غير رسمية لعدد الأطفال الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي أو التحرش، هو أمر تتجنب السلطات المحلية في كلا الطرفين أي مناطق سيطرة المعارضة ومناطق النظام السوري الحديث عنه، ما يجعل عملية مواجهة هذه الاعتداءات صعبة على المنظمات أو الجهات المختصة بهذه الأمور.
وفي مناطق سيطرة النظام السوري -تحديداً دمشق- تنتشر حالات للتحرش والاغتصاب الجنسي، ولكن هناك تحديات أخرى في الإفصاح عنها ومواجهتها.
أمسكت الطفلة “نور” ذات السبعة أعوام، قلماً، وحدّقت بالصفحة البيضاء، ثم بدأت أناملها بالرسم. طُلب منها أن ترسم أفراد العائلة، وكانت أعين أمها والأخصائية النفسية، محدقة على ما سترسمه.
كان الاعتقاد أن الطفلة سترسم أباً، وأماً، وأخوات، لكنها رسمت الأم والجدة بجانب بعضهما، وعلى جانب آخر، رسمت شخصاً بعيداً، سيتكشف فيما بعد أنه خال الطفلة الذي كان يتحرّش بها.
قبل أن يُطلب من “نور” هذه الرسمة، كان حالها قد انقلب، فمن طفلة مفعمة بالحيوية والنشاط، إلى طفلة أصابها الخمول والشرود، وأصبحت تخاف من السلام على الذكور حتى إن كانوا أقاربها، بحسب ما قالته سلام درويش الأخصائية النفسية للطفلة خلال حديثها معنا.
أشارت سلام، إلى أن الطفلة عاشت بمنزل عائلة أمها، ووالدها فُقد خلال الحرب السورية. حاولت الأم مراراً معرفة ما الذي حلّ بطفلتها، من دون جدوى.
كانت والدة نور تذهب إلى جمعية خيرية للحصول على مساعدات، وسألت خلال زيارتها للمؤسسة عما إذا كان هنالك معالج نفسي لمساعدتها على معرفة ما الذي أصاب طفلتها، وهناك التقت “سلام”، وروت لها التغيرات الحاصلة على “نور”. وكان الاعتقاد بداية أن الأمر له علاقة بفقدان الأب.
كان اللقاء الأول بين سلام ونور صعباً، ففي البداية لم تتقبل الطفلةُ الأخصائية النفسية، ولجأت الأخيرة لاتباع طرق تناسب الأطفال وتكسر الحواجز معهم.
عقب جلسات عدة تبيّن للأخصائية النفسية أن الطفلة تعاني من “رهاب اجتماعي”، يجعلها تخشى التواصل مع الآخرين. وأضافت: “بعد دراسة مفصلة للطفلة وأنواع الألوان والحيوانات والشخصيات التي تحبها، أجرينا بعض الأنشطة لمعرفة من هو الشخص الذي ألحق الأذى النفسي بها”.
كانت الرسوم أبلغ من باح بسرّ “نور”، إذ لجأت سلام إلى نشاط كان عبارة عن إشارة مرور، فيها الضوء الأحمر، والأخضر، والأصفر. الأصفر كان يرمز لأكثر شخص تُحبه، والأخضر للأشخاص الذين تحبهم بدرجة أقل، والأحمر للذين لا تحبهم.
عند حديثها عن اللون الأصفر ذكرت الطفلة الأم والجدة، وفي اللون الأخضر ذكرت أولاد خالتها، لكن عند حديثها عن اللون الأحمر لمعرفة الشخص الذي لا تحبه، ذكرت الطفلة “خالو”.
سألوا الطفلة عن سبب عدم محبتها لخالها فبكت، ثم أجرت الاخصائية نشاطاً مشابهاً بجلسة أخرى، وتم وضع مجموعة من الكلمات لمعرفة أي منها تحبها الطفلة وتلك التي تكرهها.
ذكرت الطفلة أن الكلمة التي لا تحبها هي “حبيبتي يا خالو”، وقالت “سلام”: “عرفنا عندها أن هناك مشكلة تجاه خال الطفلة”.
“صُدمت الأم بعد كلام طفلتها، واستبعدت أن يكون شقيقها هو من يؤذي طفلتها لأنه كان في مقام والدها، ودخلت في بكاء إلى حد الانهيار”، تقول سلام، متأثرة بحالة الأم وهي تروي لنا ما حصل.
بعد جلسات أخرى تحدثت الطفلة لـ “سلام”، وذكرت أنه عندما تكون نائمة بالليل تصحو وتجد خالها أمامها، وأنه في بعض الأحيان تكون في الحمام، ويدخل عليها خالها قصداً دون أن يقرع الباب. كانت الطفلة تشعر بالانزعاج وهي تجلس في حضن خالها أو عندما يُلاعبها. استنتجت سلام أن “الطفلة تعرضت لتحرش من قبل الخال”.
نقلت سلام عن الطفلة خلال حديثها معها أنها كانت “ترى أشياء كبيرة يخرجها خالها”، في إشارة إلى العضو الذكري، وأنها كانت تخاف في تلك الأثناء. وعند حديثها عن هذه الأمور كانت الطفلة تعود للبكاء مجدداً.
كان تقبل الأم لحقيقة تعرض طفلتها لإيذاء جنسي من قبل خالها صعباً للغاية، لكنها في النهاية تقبلّت الحقيقة المرة.
ما تعرضت له نور جزء من معاناة أكبر، ضحيتها أطفال سوريون ذكور وإناث، تعرضوا لاغتصاب أو تحرش إما من أقاربهم أو غرباء. ولم تسعفنا الجهات الرسمية في سوريا، ولا الجمعيات القليلة المعنية بالطفل، في معرفة عدد الحالات المشابهة لحالة نور، إذ لا توجد إحصائيات رسمية في سوريا عن التحرش بالأطفال واغتصابهم.
ثغرات قانونية تضعف موقف الضحية
توجد بالقانون السوري ثغرات تجعل لجوء ضحايا التحرش والاغتصاب للقضاء أمراً صعباً. هذه الثغرات أكد وجودها 3 محاميين عملوا في دمشق، واطلعوا على قضايا تحرش واغتصاب لأطفال.
غياب الحماية
تقول المحامية “رهادة عبدوش”ما يفتقده الضحايا وعائلاتهم وجود قانون يحمي الضحية عندما تقرر التبليغ عن انتهاك جنسي، وحتى بعد تقديم الشكوى”، وأشارت لعدم وجود غرف خاصة بجرائم الأسرة.
هذا الكلام أكدته أيضاً المحامية شمس سليمان، وقالت إنه خلال فترة عملها -على مدار 7 سنوات في محاكم دمشق-، تابعت 9 قضايا لحالات اغتصاب لفتيات تحت سن الـ 18.
تقول سليمان، إن القانون السوري يتيح تقديم بلاغ عند حدوث اغتصاب، لكنه لا يوفر الحماية للمبلغ. وأضافت: “من يريد التبليغ قد يكون عرضة للانتقام، والتشهير”، خصوصاً إذا كانت عائلات الضحايا لا تريد الكشف عما تعرض له أبناؤها.
تعتقد المحامية شمس سليمان أن الخوف من التبليغ يزداد في المناطق العشائرية، “لكون هذا النوع من القضايا مرتبط بالشرف ويُنظر إليها ضمن خانة الفضائح، ولذلك يتم التستر عليها”، واعتبرت أن “هذا الأمر يعد سبباً رئيسياً في موت الكثير من قضايا التحرش واغتصاب الأطفال بعيداً عن أروقة المحاكم”.
تُشدد المحاميتان عبدوش وسليمان، على أهمية سرّية الشكوى، وعدم الكشف عمّن قدّمها، وأن تكون كل الإجراءات سرية وحمائية. وأشارت عبدوش إلى ضرورة نقل الطفل أو الطفلة الذين تم الاعتداء عليهم لمكان خاص لحمايتهم.
أخبرت أم “نور” الأخصائية النفسية بأنها اضطرت للبقاء في منزل العائلة الذي كان خال “نور” يعيش به أيضاً، لأنه لم يكن لديها مكان آخر للعيش فيه.
الحيلة الوحيدة التي كانت في يد الأم أنها زادت من حذرها، وصارت تنام بجانب طفلتها إلى جانب إقفالها باب الغرفة، الأمر الذي عرضها لانتقادات من عائلتها التي لم تعلم بتعرض “نور” للتحرش من قبل خالها.
بعد فترة غادر خال “نور” المنزل، بسبب زواجه، وأدى ذلك الى تخفيف الضغط والتوتر لدى الطفلة.
بحسب ما قاله لنا المحامون الثلاثة، فإن أسباب صمت الضحايا الأطفال وعائلاتهم على الانتهاك متعددة، ومن بينها الخشية من عدم تحصيل الحقوق عبر القضاء، والخوف على السمعة “وتجنب الفضيحة” والانتقام.
لكن هنالك ثغرات أخرى تدفع الضحايا وعائلاتها للصمت، إذ يؤكد المحامون الذين تحدثنا معهم، غياب وجود جمعيات تنموية لحماية الأطفال ورعايتهم بسوريا.
تبرز مشكلة أخرى في التعامل مع الضحية، “بدءاً من المخفر الذي يتم اللجوء إليه، والذي لا يعرف كيفية التعامل مع الضحايا الأطفال”، وعدم معرفة المحققين كيفية التعامل مع الأطفال المتعرضين للتحرش أو الاغتصاب، بحسب عبدوش.
“على سبيل المثال ينبغي ألا يُسأل الأطفال أكثر من مرة عما تعرضوا له، ويجب ألا يُسألون بغياب أخصائيين نفسيين بصحبتهم، فضلاً عن ضرورة وجود أناس مختصين يتوجهون بالسؤال للأطفال”. وتضيف المحامية أن “هذه الأمور تخلق تردداً لدى العائلات التي تعرض أطفالها لانتهاك جنسي من التقدم بشكوى”.
هذه الثغرة لاحظها أيضاً المحامي محمد المحمود خلال عمله بدمشق، وقد تحدث لنا مفضلاً عدم ذكر اسمه الحقيقي، عن قصورا بدور القضاء. ورأى أن القضاء يكتفي بالنظر قانونياً بقضايا التحرش والاغتصاب، لكنه يغفل الجانب الصحي والنفسي للطفل أو الطفلة أو عائلاتهم.
يؤكد المحامي أنه لم يسمع أو يطلع على محاكمات بقضايا اغتصاب كان القاضي قد خصص فيها خبير صحة نفسية أثناء استجواب الضحية حفاظاً على سلامتها.
المحامية عبدوش أكدت أيضاً هذه المعلومة، وأشارت إلى افتقار القضاء السوري، لأخصائيين نفسيين يحققون بالجرم، لكن يتم الاستشهاد برأيهم كخبراء، ويأخذ القاضي بهذا الرأي.
يوضح المحامي محمد أن الدولة عليها التزامات بتوفير مراكز دعم للأطفال، وأنه ينبغي أن يكون هنالك مراكز تابعة للدولة مهمتها رعاية الطفل وصحته النفسية.
على الرغم من أن الحرب في سوريا مستمرة منذ العام 2011، إلا أن القضاء في المناطق التي ظلت تحت سيطرة الحكومة لم يتوقف، واستمر في النظر بالقضايا، وهو ما تعكسه إحصاءات رسمية عن القضايا التي حكم بها القضاء منذ 2011 حتى 2022.
صادقت سوريا على اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة، والتي تشرح مسؤوليات الحكومات تجاه الأطفال وتطالبهم بحماية الأطفال وحقوقهم بكل السبل الممكنة من خلال سن التشريعات واتخاذ كافة التدابير الخاصة بذلك، ويقول المحامي محمد: “لكن لا يتم الالتزام بالاتفاقية”.
ينص البروتوكول الاختياري لقانون حماية الطفل على أنه “يجب أن توفر الحكومات خدمات دعم قانوني وغيرها من أشكال الدعم للأطفال الضحايا (..) ويجب تقديم الدعم الطبي والنفسي واللوجستي والمالي الضروري للأطفال للمساعدة بإعادة تأهيلهم وإدماجهم”.
كما ينص البروتوكول على أنه “بوسع الأطفال من البلدان التي صادقت على البروتوكول السعي للحصول على العدالة إذا لم تتمكن المنظومة القانونية الوطنية من توفير الإنصاف عن الانتهاك”.
عندما يكون المبلغ هو المعتدي
في الجزء الأول من تحقيقنا الذي تحدثنا فيه عن حالات تحرش واغتصاب بالشمال السوري، كان طفل قد تعرض للاغتصاب من والده.
ما فعله الأب يُسمى “سفاح القربى”، كما أشارت إليه المحامية رهادة. وفي مثل حالة هذا الطفل فإن ثغرة في القانون ستؤثر على قدرة الضحية في اللجوء للقضاء* لو قرر ذلك، أو فيما لو علم أقارب الطفل بانتهاك والده له وقرروا اللجوء للقضاء.
توضح المحامية رهادة عبدوش ذلك بقولها: “عندما نتحدث عن الأطفال، فالأكيد أن المبلغ عن حدوث انتهاك جنسي لهم هو ولي الأمر، ويمكن قبول التبليغ حتى الدرجة الرابعة من القرابة، لكن الأولوية للأب”.أشارت إلى وجود كثير من الحالات عن “سفاح القربى”، وأكدت أن هذه القضايا لا تصل للقضاء، خصوصاً عندما يكون ولي الأمر هو الجاني.
ثغرة أخرى تتعلق بقضايا “سفاح القربى”، عندما يكون الاعتداء قد وقع من أب على ابنته، وتُشير عبدوش إلى أنه “في حال وصلت القضية للقضاء وكانت الفتاة التي تعرضت للاعتداء من والدها قد أصبحت بالغة فإن العقوبة لا تقتصر على الأب فقط، بل حتى على الفتاة وفق جريمة سفاح القربى”، التي تصل عقوبتها إلى 3 سنوات.
“لا يُنظر لهذه الفتاة تحت ولاية والدها، وأنه ليس بمقدروها فعل شيء وأنها مضطرة لقبول ما يريد والدها فعله معها، ولذا هذا اسمه “إكراه” وبالتالي “اغتصاب”، تقول عبدوش.
معاقبة القانون في هذه الحالة للفتاة قد يؤثر على قرار الفتيات اللواتي يتعرضن لاعتداء من أبائهن في اللجوء للقضاء، ليس خوفاً من افتضاح الأمر، بل أيضاً خشية من السجن.
ويطالب محامون في سوريا بأن يتم اعتبار تعدي الأب أو الأم على أبنائهم اغتصاباً، وليس سفاح قربى، لأن هذه الجريمة في القانون السوري هي جنحة، وعقوبتها في الحد الأعلى 3 سنوات، أما الاغتصاب جناية تصل عقوبتها 21 عاماً.
في القانون السوري أيضاً، تسقط قضايا التحرش والاغتصاب بالتقادم، فإذا ما أراد رجل أو سيدة محاسبة من انتهكهم جنسياً عندما كانوا أطفالاً، فلن يكون بإمكانهم ذلك، بحسب ما تؤكد “عبدوش”، وتطالب بألا يكون لهذه القضايا “مدة تقادم”، كما هو معمول في دول أوروبية.
قصور بتعريف الاغتصاب وإحصائيات غائبة
حاولنا في هذا التحقيق أن نقدم بلغة الأرقام صورة عامة لقضايا التحرش واغتصاب الأطفال بسوريا، لكن لم نجد إحصائيات رسمية عنها، فمن خلال المصادر المفتوحة، وصلنا لإحصائيات من القضاء السوري.
تضم الإحصائيات الممتدة من 2007 إلى 2021 قائمة بالجرائم التي أصدر القضاة أحكاماً بخصوصها، وتضمنت طوال هذه السنوات حالتي اغتصاب فقط في العام 2019، ولم يوضح فيهما القضاء ما إذا كان الضحايا أطفالاً أم كباراً.
تواصلنا مع الهيئة العامة للطبابة الشرعية، والهيئة السورية لشؤون الأسرة التابعة للحكومة، وسألناهما عما إذا كانت لديهما إحصائيات وعن سبب عدم نشرها، لكن لم نتلقَ رداً حتى ساعة كتابة هذه السطور.
قادنا التقصي وراء أسباب غياب الإحصائيات، إلى خلو نص قانون العقوبات السوري، من ذكر كلمة “اغتصاب” الدالة على حدوث انتهاك جنسي.
تقول عبدوش، إن القانون السوري يعتبر الاغتصاب بأنه فعل “يتم من رجل على أنثى فقط”، ويمثل هذا قصوراً بالتعامل مع جرم الاغتصاب الذي يقع على الأطفال الذكور.
هذا التعريف للاغتصاب أضيق نطاقاً من التعريف المُعتمد لمنظمات عالمية ودول كثيرة حول العالم كفرنسا، فالقانون الفرنسي يعرف الاغتصاب بأنه “كل اختراق جنسي مهما كانت طبيعته، يُرتكب على الغير بالعنف، أو الإكراه، أو التهديد أو المفاجأة”، وهو فعل يتم على الذكور والإناث.
كذلك تُعرف منظمة “أطباء بلا حدود” الاغتصاب بأنه “فعل إجبار شخص على اتصال جنسي (…) وقد يحدث بين أشخاص من نفس الجنس، ومن جنسين مختلفين”.
نظراً للتعريف المعتمد بسوريا للاغتصاب، فإنه عند النظر بقضايا ديوان المحاكم يصعب العثور بالدعاوى على كلمة اغتصاب، وبدلاً منها، نجد هتك عرض، ومداعبة، وملامسة”، أي أننا أمام تغير في التوصيف الجرمي.
ويطالب حقوقيون في سوريا بأن يكون التعامل مع تعريف الاغتصاب وجرائمه، كما هو معمول به في القوانين العالمية.
تغيير الوصف الجرمي
تستبعد المحامية سليمان وجود إحصائية دقيقة لأعداد حالات الاغتصاب والتحرش بالأطفال، وترى أن من أسباب ذلك، القوانين التي تؤدي لتغيير “الوصف الجرمي في المحاكم”، إذ تُصنف بعض حالات التحرش ضمن خانة “الأفعال المنافية للحشمة”، ولذلك يغيب وجود إحصائيات واضحة حولها.
أضافت أن عدم ذكر القضاء السوري للإحصائيات “أمر غير طبيعي”، توقعت أن يكون القضاء قد وضع حالات هذه القضايا تحت مسميات أخرى “للتستر على العدد الحقيقي من حالات الاغتصاب بالبلاد”.
هذه الثغرة التي أشارت إليها المحامية سليمان، تتوضح أكثر فيما نوهت إليه المحامية عبدوش، التي قالت إنه بالقانون السوري لا وجود لكلمة “تحرش” بل تسمية لجرائم أخرى، مثل “فعل منافي للحشمة، وهتك عرض، وأفعال منافية للحياء”.
لا تمثل هذه الثغرات وحدها كل الأسباب بعدم وصول القضايا للقضاء، وتُشير عبدوش إلى “غياب وجود توعية، وجهل بطريقة تقديم الشكوى، والوصول للنيابة، إضافة إلى أن الناس لا يملكون قناعة بأنه يمكن أخذ حقهم عبر القضاء”، فضلاً عن التكاليف المالية لتوكيل محامٍ.
بدوره، يؤكد المحامي محمد وجود قضايا انتهاكات جنسية للأطفال، وقال إنها موجودة بمحكمة الجنايات بدمشق. وأوضح أن المواضيع الحساسة بسوريا عادة لا يكون لها ذكر بالإحصائيات، مؤكداً أنه رغم اطلاعه على العديد من القضايا، إلا أن القضاء لم يصدر إحصائيات عنها، وقال إن القضاء يعتبر وجودها معدوماً.
من يهتم بالأطفال؟
يغيب عن سوريا وجود خطط رسمية أو حملات إعلامية لمواجهة التحرش واغتصاب الأطفال، وخلال تقصينا وجدنا أن منظمات غير حكومية معنية أجرت بعضاً من ورش التوعية بقضايا التحرش، مثل “مشروع طريق النحل“، وهي جهود لا تندرج ضمن خطة رسمية.
في الدول المجاورة لسوريا، وجدنا حملات نُظمت بجهود رسمية لمواجهة الانتهاك الجنسي، كلبنان الذي أطلقت فيه الهيئة الوطنية لشؤون المرأة حملة “مش بسيطة” لمواجهة التحرش، وفي الأردن حملة “ما تسكتوش التحرش جريمة“.
كذلك شهدت بلدان عربية أخرى حملات رسمية لحماية الأطفال، كالمغرب الذي أطلق في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 حملة لحماية الأطفال من العنف والاستغلال.
على المستوى الإعلامي تقصينا عبر تقنيات البحث المتقدم في ثلاثة من أبرز وسائل الإعلام الرسمية، هي موقع وكالة الأنباء الرسمية، وصحيفة “الثورة”، وصحيفة “تشرين”، خلال الفترة من 2010 حتى 2022.
أردنا معرفة حجم وجود أخبار، أو تقارير، أو تحقيقات حول اغتصاب الأطفال بسوريا والتحرش بهم. أكثر ما وجدناه أخبار تتعلق بالاغتصاب والتحرش بدول أخرى، وقليل منها تحدثت عن سوريا.
في المقابل، وجدنا تقارير بمواقع ليست رسمية تعمل في سوريا، وكانت تركز على دور المجتمع باستمرار هذه الجرائم.
آلام مستمرة
ما تعرضت له الطفلة “نور” ترك أضراراً نفسية عليها، وأصبح يتملكها خوف من الآخرين، وهناك أطفال آخرون يعيشون معاناة مشابهة، ويزداد الوضع سوءاً عندما يحدث الاغتصاب.
لا نعرف حقيقة كم عدد الأطفال السوريين الذين يعانون الآن، والذين سيعانون بقية حياتهم جراء تعرضهم للتحرش أو الاغتصاب. وتبقى الإجابة في عهدة القضاء إن كان جدياً والإجراءات التي يمكن اتخاذها لتقليل أعداد الضحايا ومساعدتهم.