صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 تلقت رشا محيي الدين، مُعلمة ثلاثينية، تسكن مدينة كفر الشيخ (أقصى شمال مصر)، مكالمة هاتفية من محام يخبرها بظهور شقيقها بعد “اختفاء قسري” امتد لثلاثين يوما، وهو يعرض الآن على النيابة العامة متهمًا بقضية جديدة. أسرعت رشا إلى مقر النيابة، فوجدت أخاها وربتت على كتفه وقالت له “لا تقلق خير إن شاء الله، ربنا موجود”.
في الأثناء حضر وكيل النيابة واستدعى محمود إلى غرفة التحقيق وانتظرت رشا بالقرب منها، خرج المحامي وأخبرها أن القضية هذه المرة بها “مضبوطات” عبارة عن كتيب بعنوان: فتنة التكفير والحاكمية. وأضاف أن من وضع له الكتاب لم يقرأ صفحاته التي تواجه تكفير الحاكم، أي “أن عنوان الكتاب شئ ومحتواه شيء آخر ليس له علاقة بالعنوان”، بحسب ما نقلت رشا عن المحامي.
محمود محيي الدين، ضابط عسكري متقاعد، نال ترقياته سريعا، رقي إلى عقيد. أوفده الجيش في مطلع الألفية الثالثة ضمن بعثات إلى الولايات المتحدة والصين، وتقاعد عام 2010، وطُلب منه العدول عن قراره مرتين. ولا توجد له سوابق قضائية، ولم يتعرض للاستدعاء من قبل أي جهة عسكرية قبل بدء مسلسل احتجازه في عام 2019، بحسب شقيقته.
كانت هذه المرة الرابعة التي يواجه فيها محمود اتهامات مماثلة منذ احتجازه، بعدما “جالس ستة أشخاص تربطه بأحدهم صداقة، وعبروا جميعهم عن رأيهم في الشأن العام، واعتقلوا أيضا، وقضوا 4 أشهر باستثناء من سجل الجلسة وأبلغ الأمن عنهم، قضى 4 أيام فقط”، وفق شقيقته رشا.
أمضى محمود (49 عاما)، أكثر من عامين ونصف العام خلف القضبان، على ذمة أربع تهم (منها الانضمام إلى جماعة تكفيرية)، حصل فيها على قرارات إخلاء سبيل من محكمة جنايات كفر الشيخ، لكنها لم تكن كفيلة بإطلاق سراحه. بل أضيفت له تهمة خامسة (الانضمام إلى داعش)، عقّدت مسألة الإفراج، في إنكار واضح للعدالة، بتعبير مدير مشروع الإصلاح القضائي والتشريعي في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، محمد عبيد.
بعد صدور قرار إخلاء سبيل محمود، تأتي قوة شرطية إلى محبسه وتنقله إلى معسكر قوات الأمن بالمدينة. ويظل محتجزاً داخله، وبعد أسابيع عدة تعود به القوة إلى النيابة متهما برقم قضية جديد. في هذه الأثناء لا تتمكن عائلة محمود ولا فريق دفاعه من التواصل معه أو معرفة مكان احتجازه.
بعد صدور الإخلاء الثاني، توجهت رشا إلى مركز الشرطة، أنهيت الإجراءات الإدارية وانتظرت محمود، طُلب مني الانصراف والعودة في اليوم التالي، ولكن الأمن الوطني سبقني في المساء وأخذه، تكرر الأمر في القضية الثالثة والرابعة، تقول رشا.
محمود محيي الدين واحد من بين 1764 مصريا تعرضوا للاحتجاز، ورفضت السلطات الإفراج عنهم رغم براءة بعضهم، وحصول البعض الآخر على قرارات إخلاء سبيل في الفترة (2018 – 2021). في هذا التحقيق نسلط الضوء على خمس حكايات تكشف سعي النيابة العامة وفرعها الخاص (نيابة أمن الدولة) إلى تحقيق الإدانة بدلا من البحث عن الحقيقة واتخاذ الإجراءات الكاشفة عنها، فيما بات يعرف بـ “تدوير السجناء”، في مخالفة للدستور والقانون.
تظهر الحالات الخمس اتباع الأمن نمطين رئيسيين لـ “قوننة” تدوير السجناء إجرائيا. الأول، إخفاء الشخص لفترة بعد إخلاء سبيله من القضية السابقة ثم عمل محضر ضبط جديد بتاريخ جديد باعتبار أنه تم بالفعل إطلاق سراحه والقبض عليه مجدداً.
والثاني، توجيه اتهام للشخص بعقد اجتماعات وتكوين تنظيمات مع محتجزين آخرين، والتواصل مع جهات خارج البلاد من داخل السجن بغرض ارتكاب جريمة إرهابية.
شبهات تزوير مذكرات التوقيف/ القبض
بالتدقيق في وثائق القضايا الخمس، نجد أن هناك تباينا في تواريخ الاحتجاز الفعلية وبين ما تحرره الشرطة والأمن الوطني في محاضرهم. محمود مثلا، احتجز في تاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بينما أورد محضر الشرطة تاريخا آخر للاحتجاز وهو 20 تشرين الثاني/ نوفمبر. وتكرر الأمر مع الحالات الأخرى. لم يتوقف الأمر عند تباين التواريخ، بل إن حيثيات الاحتجاز لم تذكر في المحاضر بالصورة التي نفذت بها على أرض الواقع، بشهادة محتجزين ومحامين.
منظمة العفو الدولية وصفت ممثلي نيابة أمن الدولة بأنهم “يقصرون بشكل ممنهج في التعامل مع تزوير تواريخ القبض من جانب الشرطة، خاصة قطاع الأمن الوطني”.
تدوير السجناء
نظام أوجدته السلطات المصرية لعدم الإفراج عن السجناء السياسيين لديها، والتي ترغب في بقائهم محبوسين رغم انتهاء فترة حبسهم، فتصدر قرارات بإخلاء السبيل لهؤلاء المعتقلين دون أن يتم ذلك الإخلاء فعليا ويحتجز المُخلى سبيله فترة داخل أحد المقرات الأمنية ليظهر مجدداً على ذمة قضية جديدة، بذات الاتهامات، وربما تغيرت قليلا إلا أنها تبقى في ذات الإطار.
يؤدي هذا النظام إلى انتهاك العديد من الحقوق، مثل: الحق في الحرية، ومعايير المحاكمة العادلة، وافتراض البراءة، وحظر التجريم المزدوج.
كوميتي فور جستس (جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان في سويسرا)
“مسلسل التدوير” بلسان من عايشوه
حالة محمود واحدة من بين خمس حالات وثقها التحقيق عبر شهادات ذوي ثلاثة محتجزين واثنين مُفرج عنهم بجانب وثائق رسمية، جميعهم نسب إليهم الانضمام وتكوين جماعة إرهابية داخل السجن أو خارجه، والسعي إلى زعزعة الإستقرار وصولا لإسقاط الدولة. وعند تدويرهم أعُيد استخدام ذات التهم السابقة. ومن خلال الحالات الموثقة، نجد أن كثيرا من هذه الاتهامات لا تتعلق بوقائع محددة، ولا يُسند للمتهمين بموجبها ارتكاب أفعال بعينها.
وبالعودة إلى توقيف محمود فقد فوجىء أن الأمن جاء لأجله ونقله إلى مكان لم يكن معلوما لعائلته ولا للمحامي على مدار 44 يوما. “عرفنا بعد هذه الأيام أنه كان في مقر الأمن الوطني”، تقول شقيقته رشا.
عصر يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، افتتح أحمد علي ضابط بالأمن الوطني، محضر توقيف محمود بالإشارة إلى صدور إذن من النيابة بالقبض عليه وتفتيش مسكنه، فتوجه على رأس قوة أمنية إلى مسكنه وطرق الباب ففتح له، وعرف عن نفسه وطبيعة المأمورية المكلف بها، فسمح له محمود بالتفتيش. وعند انتهائه لم يعثر على أشياء تخالف القانون، إلا أنه أوقف محمود لعرضه على النيابة.
ظُّهْرِ اليوم التالي دعا عمرو الطويط وكيل النيابة، محمود إلى غرفة التحقيق وتلا عليه ما كتبه ضابط الأمن. كذب محمود رواية الأمن الوطني ظُهر اليوم التالي، دعا عمرو الطويط وكيل النيابة، محمود إلى غرفة التحقيق، وتلا عليه ما كتبه ضابط الأمن. كذب محمود رواية الأمن الوطني وكشف للنيابة أن اعتقاله الفعلي وقع قبل 45 يوما بعدما حطم الأمن باب مسكنه.
أغفل الطويط التحقق من صحة إجابة محمود بـ “إخفائه قسرا” 45 يوما، واكتفى بتسجيل أقواله ورفع أوراق الجلسة إلى مديره المباشر معتز العوضي رئيس النيابة الكلية لاتخاذ اللازم. لم يلتفت العوضي لأقوال محمود، وقرر حبسه 15 يوما ويراعى التجديد، وأعاد الأوراق إلى الطويط لاستكمال التحقيق.
وبعد دقائق فُتح محضر جلسة آخرى اقتصرت على قرار الطويط باستدعاء/ حضور ضابط الأمن أحمد على لجلسة التحقيق التالية.
ولكن بالعودة إلى دور وكيل النيابة العامة الفعلي، فإنه يجب أن يحقق مع المتهم عن الوقائع المنسوبة إليه، لا أن يعتمد فقط على ما يرده من تحريات، بحسب أحمد مفرح، المدير التنفيذي لجمعية كومتي فور جستس.