عبد الصمد ايت عيشة
01 مايو 2025
خلف الأضواء الساطعة للعاصمة الاقتصادية للمغرب، تتوارى حياة أخرى؛ كانت ولا تزال تُلقي “بجحيمها” على سكان عدد من الأحياء الهامشية؛ من بينها حي سيدي مومن الصفيحي، الذي استفاد من عدة مشروعات تنموية في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH).
أحمد (اسم مستعار)، أربعيني من الحي الصفيحي كريان طوما بسيدي مومن؛ كان من بين الباعة المتجولين المستفيدين أخيراً من محل تجاري في إطار المبادرة، يصف الأوضاع بالحي قائلاً: ”ولدت وترعرعت بالمنطقة التي أنجبت انتحاريي أحداث كريان طوما، بمدينة الدار البيضاء عام 2003، بعد الزيارات الملكية للمنطقة آنذاك، وُجّهت للمنطقة عدة مشروعات، من بينها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بغرض تطويرها”.
ويضيف: “بعد سنوات من الانتظار، استفدت أخيراً من محل تجاري بإحدى الأسواق النموذجية، رغم ذلك، أنا الآن شبه عاطل عن العمل… اعتبر نفسي ضحية للمبادرة الوطنية”.
من محله التجاري الخالي تماماً من الزبائن في مقاطعة سيدي مومن، انطلقت رحلتنا لتتبع مسار مشروعات التنمية البشرية، المُوجّهة “لمحاربة الإقصاء الاجتماعي في المدن والقرى”. اطّلعنا على نحو أربعة آلاف وثيقة للمشروعات التنموية، التي دعمتها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في الأحياء الحضرية لمدينة الدار البيضاء، وحلّلنا أهم 50 مشروعاً قدمته ثلاث مقاطعات كبرى تابعة لمدينة الدار البيضاء، كمشروعات رائدة (نموذجية) “Des Projets Phares”، وهي مقاطعة البرنوصي، ومرس السلطان، ومقاطعة الدار البيضاء. إلى جانب ذلك، رصدنا عشرات الخروقات في مختلف الأقاليم والعمالات، واطّلعنا على التقارير التقييمية، والملاحظات الدولية، والتوصيات الرسمية، ومعظم الدراسات التي أُجريت خلال الفترات السابقة حول مشروع “المبادرة الوطنية”.
في عام 2004، وقبل انطلاق ورش التنمية البشرية بالمغرب بعام واحد، كان ثلث سكان مقاطعة سيدي مومن (20 ألفاً و250 أسرة) يعيشون في دور “الصفيح”. أغلب السكان يعملون في القطاع غير المهيكل، وأكثر من 55 في المئة منهم عاطلون ولا يبحثون عن عمل. تضم المقاطعة أيضاً نحو 58 ألفاً و182 من البالغين غير الملتحقين بالصفوف الدراسية في المرحلة الابتدائية، ونحو 178 ألفاً و544، ممن تتخطى أعمارهم 10 سنوات، لم يلتحقوا بالدراسة أبداً.
يمتهن أغلب سكان حي سيدي مومن تجارة “الرصيف”، لبيع منتجاتهم في “الأسواق العشوائية”. وبعد الإعلان عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية INDH، لدعم مشروعات الأسواق النموذجية؛ تقدم الباعة وسكان الحي، بطلبات للحصول على محلات تجارية في إطار مشروع “سوق المصير” برعاية ملكية.
لكنّ هذا المشروع تحول، بعد تشييده من دون ترخيص، إلى بناية من خمسة طوابق، ظلت مغلقة لسنوات ولم يستفد منها إلا قليل من الباعة المتجولين، وكثير من رجال الأعمال. “لقد تحول الحلم إلى كابوس”، وفق الباعة. خرج عشرات الباعة المتجولين المنحدرين من حي سيدي مومن؛ للاحتجاج أمام سوق المصير ضد “الفساد”، الذي شاب عملية ”توزيع الاستفادات”.
في المقابل، نفى بوشعيب لمهامكة، رئيس جمعية المصير للتنمية الاجتماعية، كل الاتهامات المُوجهة للمشروع، في بيان له نُشر عبر موقع هسبريس بتاريخ 11 نيسان/أبريل 2017.
وبحسب حزب العدالة والتنمية، الذي ترأس الحكومة آنذاك، فإن مشروع الأسواق النموذجية لم ينجح، وفق الموقع الرسمي للحزب عام 2018: “لم تؤدِّ الأسواق النموذجية وظيفتها، وبدلاً من أن يتقلص عدد الأسواق العشوائية، ظهرت أسواق أخرى”.
وعلى غرار سوق المصير، الذي ظل ملفه ينتقل بين ساحات المحاكم، بقيت بنايات شاهقة ضمن مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، من دون استغلال. “سعد”، بائع متجول سابق، يؤكد أن منهجية مشروع احتواء الباعة المتجولين غير فعالة: “حصل عدد من الباعة على محلات تجارية في إطار المبادرة الوطنية للتنمية، ثم كسدت تجارة الكثير منهم، فعادوا إلى الأسواق العشوائية؛ فمثلاً هناك نحو 200 بائع للخضر واللحوم في المدينة، شُيّدت لهم سوق نموذجي في ساحة مغمورة، لكنهم يتنقلون بين الأسواق والشوارع والمساجد، نظراً لطبيعة منتجاتهم التي تفسد بسرعة، ورغبتهم في بيعها في أقرب وقت، وأحياناً يكلفون أطفالاً وشباباً للتجوال بمنتجاتهم”.
وبالرغم من نجاح آليات هذه المشروعات في بعض المدن، لم يكن مشروع سوق المصير إلا مثالاً مصغراً لما آلت إليه العديد من مشروعات المبادرة الوطنية، فهناك نحو 300 ألف بائع، ظلت أوضاعهم من دون حلول حتى الآن. فماذا حدث فعلاً في مشروعات المبادرة، خاصة على مستوى الدار البيضاء الكبرى (العاصمة الاقتصادية للمغرب)؟ هل كانت “منهجية التنمية” التي عمل عليها المغرب فعالة؟ وهل حقاً “السياسات العمومية والبرامج الاجتماعية التي باشرتها الحكومة (…) بدأت تعطي ثمارها الآن؟”، وفق الناطق الرسمي باسم الحكومة، الذي أعلن في مؤتمر صحفي تقدم المغرب عام 2023/24 إلى المرتبة 120 عالمياً، بدل المرتبة 123 في مؤشر التنمية البشرية؟!
مباشرة بعد توليه الحكم، وعد الملك محمد السادس، في أول خطاب له يوم 30 يوليو/تموز عام 1999، بمواجهة الفقر ومواصلة مسيرة النماء (التنمية). كان المغرب منهكاً بأوضاع اجتماعية متدهورة ويتذيل ترتيب المؤشرات الدولية للتنمية البشرية، (المركز 124 عام 2000). ولم تمر سوى أشهر قليلة، حتى انضم المغرب إلى “إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية”، مؤكداً عزمه اللحاق بالركب التنموي، وأُعلن عن بعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية، بغية “طي مرحلة حكم الحسن الثاني” التي كان التهميش عنوانها الأبرز.
في تلك المرحلة، تغير المشهد كثيراً بين عام 2000 و2003، حين أُجهضت تجربة “التناوب التوافقي” (وهي اتفاق الملكية مع المعارضة اليسارية على المشاركة الحكومية لأول مرة منذ عقود)، وتوالت التقارير الأممية التي وضعت المغرب في ذيل الترتيب الاقتصادي والتنموي.
بعد مرور نحو أربع سنوات من حكم الملك الجديد، خاصة بعد أحداث 16 أيار/مايو 2003، نفّذ شباب ينحدر أغلبهم من الحي الصفيحي كريان طوما بسيدي مومن، “عملية إرهابية” أدت إلى وفاة العشرات. دفعت هذه الأحداث ملك البلاد الجديد، لإعطاء تعليمات مباشرة لتقييم مرحلة حكم والده (خطاب ملكي 2003)، وذلك قبيل أن تكشف نتائج الإحصاء العام للسكان، في العام التالي (2004) أن نحو 19 مليوناً و249 ألفاً و269 مغربياً ومغربية أميون؛ وأن ما نسبته 64.45 في المئة من السكان الذين تبلغ أعمارهم 10 سنوات فأكثر، لا يعرفون القراءة والكتابة بأيّ لغة (إحصائيات رسمية).
“كما أن علينا أن نجعل من هذه الذكرى الذهبية للاستقلال وقفة تاريخية، لتقييم الأشواط التي قطعتها بلادنا على درب التنمية البشرية خلال نصف قرن، بنجاحاتها وصعوباتها وطموحاتها، مستخلصين العبر من اختيارات هذه المرحلة التاريخية، والمنعطفات الكبرى التي ميزتها؛ مستهدفين من ذلك ترسيخ توجهاتنا المستقبلية على المدى البعيد بكل ثقة ووضوح، مبرزين بكل تجرد وإنصاف الجهود الجبارة التي بُذلت لوضع المغرب على سكة بناء الدولة الحديثة”.
خطاب ملكي عام 2003
المصدر: المندوبية السامية للتخطيط – الإحصاء عام 2004
لم تكن هذه الأرقام الصادمة سوى ورقة تُخفي وراءها أوراقاً أخرى من الإقصاء الاجتماعي، كشف عنها تقرير الخمسينية، بعنوان “50 سنة من التنمية البشرية وآفاق 2025”.
التقرير كان بمثابة تقييم شامل لواقع مخيف، لم يكن بالإمكان تجاهله حتى من طرف الملك، الذي ألقى خطاباً وصف فيه وضع البلاد “بالمعضلة الاجتماعية”، وأعلن عن إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛ لمعالجة المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة.
انطلقت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية “كمشروع كبير” لمحاربة الفقر والإقصاء، اللذين نخرا المجتمع لعقود طويلة، وباتت بداية الألفية بمثابة أمل لكل المغاربة. ورغم الدعاية المفرطة للمشروع، لم تتجاوز ميزانيته السنوية في المرحلة الأولى ملياري درهم (10 مليارات دولار لمدة خمس سنوات) أُضيفت أربعة مليارات فيما بعد، لكنّ المتوسط لم يتجاوز 1,8 مليار درهم تقريباً سنوياً، طيلة مراحله الممتدة بين 2005-2018.
يؤكد تقرير “نتائج الدراسات التقييمية الرئيسية للمرحلة الأولى والثانية، من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” أن الميزانية الإجمالية للمشروعات التي نُفّذت في الفترة من 2005 إلى 2018، على المستوى الوطني، بلغت نحو 40.7 مليار درهم خلال 14 عاماً، أسهمت فيها المبادرة الوطنية بنحو 24,6 مليار درهم فقط؛ ما يعني أن المتوسط التقريبي للتمويل السنوي المخصص للورش الاجتماعية التنموية، يبلغ نحو 1,8 مليار درهم سنوياً فقط.
للوهلة الأولى، يبدو الرقم المرصود مرتفعاً، لكن بالمقارنة مع بعض المشروعات الخاصة أو الرياضية أو الفنية، يتضاءل الرقم كثيراً. فوفق وسائل إعلام محلية، ارتفع رأس مال جامعة محمد السادس الخاصة بنحو 14 مليار درهم عامي 2022 و2023، بفضل استثمارات غالبيتها ممولة من المكتب الشريف للفوسفاط OCP (وهو مؤسسة عمومية)؛ أي ما يعادل ميزانية مبادرة التنمية البشرية لمدة السنوات الخمس الأولى.
في الواقع، ومن خلال تحليل المشروعات في مقاطعات الدار البيضاء الثلاث، لم تتجاوز التغطية المالية للمبادرة نصف الميزانية في مجموع المشروعات. وعلى عكس ذلك، نسبت التنسيقية الوطنية للتنمية البشرية بالدار البيضاء الكبرى، لنفسها نتائج هذه المشروعات.
خلال عشر سنوات، تم تنفيذ أربعة آلاف و592 مشروعاً من أصل ستة آلاف و245 مشروعاً، في ولاية الدار البيضاء الكبرى، خلال الفترة من 2005 إلى 2015، بتكلفة إجمالية تُقدر بثلاثة مليارات و676 مليون درهم، أسهمت فيها المبادرة بـ 1,82 مليار درهم فقط.
أورد تقرير التنسيقية الوطنية للتنمية البشرية أن عدد المستفيدين من المبادرة على المستوى الوطني، خلال مرحلتها الأولى والثانية، بلغ 9,7 مليون مستفيد، نحو 50 في المئة منهم في المدن؛ وهو ما يُعدّ “رقماً مهماً” في حصيلة العشر سنوات الأولى للمشروع. واحتلت جهة الدار البيضاء الكبرى المرتبة الأولى من حيث عدد المستفيدين، بـ مليون و533 ألف مستفيد. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يُظهر حجم التهميش والفقر بشكل كبير، لكنّه غير دقيق، وفق وثائق المشروعات الريادية المُنجَزة بمدينة الدار البيضاء.
كيف يتم إحصاء وتحديد طبيعة المستفيدين وعددهم الإجمالي؟ كيف وصلنا إلى تسعة ملايين مغربي مستفيد من “التنمية”؟ هل كل المشروعات المُحصاة تنموية فعلاً؟ هل كل المستفيدين من مشروعات المبادرة تحسنت بيئتهم التنموية ؟
من خلال بعض الوثائق التي اطلعنا عليها، نجد أن الشركاء الماليين للمشروع هم أنفسهم المستفيدون منه. على سبيل المثال، وجدنا أن المستفيدين من مشروع تأهيل وتأطير بائعي غزل البنات، بمقاطعة الدار البيضاء أنفا، قد شاركوا مالياً بنحو 42 ألف درهم، لتسلم عرباتهم الجديدة؛ ما يُشكك أيضاً في نسبة وطبيعة الشركاء المُعلَن عنها على المستوى الوطني.
في “مقاطعة سيدي البرنوصي” مثالاً، يصل العدد الإجمالي للمستفيدين من المشروعات التنموية التي قدمتها المقاطعة “مشروعات نموذجية خلال 10 سنوات”، نحو 10 آلاف شخص. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يُعدّ هزيلاً مقابل عدد سكان المقاطعة، فإنه أيضاً محط شكوك!
لقد أورد تقرير مقاطعة البرنوصي للمشروعات الريادية المُنجزة بها، لائحة تتضمن مئات المستفيدين من مشروعات “موسمية أو مؤقتة”، فهل يمكن اعتبارهم مستفيدين فعلاً من مشروعات التنمية المستدامة؟ فمشروعات مثل تنظيم قافلة طبية واحدة لصالح الأسر الفقيرة في سيدي البرنوصي وسيدي مومن، وتنظيم مخيم صيفي لصالح الأطفال، تبقى مشروعات مهمة لكنّها تظل مؤقتة ورهينة الظرف والمناسبة، ولا يكون لها في الغالب أي مفعول تنموي مستدام. لكن ومع ذلك، احتُسبت مئات الأسر المستفيدة منها ضمن تسعة ملايين مستفيد من التنمية البشرية.
بعد الاطلاع وفحص مشروعات ريادية، أوردها تقرير الدار البيضاء الكبرى؛ وجدنا أحد المشروعات التنموية يهدف إلى محاربة الهدر المدرسي، استفاد منه نحو ألف و640 تلميذاً، في مدرسة الحي الصناعي بعمالة مقاطعات سيدي البرنوصي، وحصلوا على زي مدرسي موحد مرة واحدة فقط، خلال موسم دراسي واحد؛ ومع ذلك أُضيفوا لقائمة المستفيدين من البرنامج الأفقي للتنمية البشرية.اسم المشروع:
اقتناء لباس موحد لفائدة تلاميذ مدرسة الحي الصناعيعمالة:
عمالة مقاطعات سيدي البرنوصيالبرنامج:
برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي بالوسط الحضريمرحلة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية:
المرحلة الثانيةحامل المشروع:
الجمعية الرياضية لمدرسة الحي الصناعيعدد المستفيدين:
640 تلميذاًكلفة المشروع:
230,000.00 درهممساهمة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية:
210,000.00 درهمموقع المشروع:
مدرسة الحي الصناعيأهداف المشروع:
محاربة الهدر المدرسيوقع المشروع/شهادات:
اقتناء لباس موحد لفائدة تلاميذ مدرسة الحي الصناعيالشركاء
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
في الواقع يطرح هذا المشروع سؤالاً جوهرياً حول ماهيّة المشروع التنموي ككل، الذي يُعدّ التعليم وبناء الكوادر البشرية أهم ركائزه الرئيسية، وفق البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن المشروع يبدو على الورق ذا أهداف تنموية، تسعى لتحقيق المساواة بين التلاميذ، وتشجيعهم على الدراسة و”محاربة الهدر المدرسي”، كما جاء في الوثيقة، فإن محدودية المدة (موسم واحد) والمكان (مدرسة)، تجعله مجرد “هبة لوجستية” ذات مفعول مؤقت؛ فبمجرد ما انتقل تلاميذ المدرسة المذكورة للصف التالي، أصبحت الملابس غير قابلة للاستخدام، وعادت الفوارق بين التلاميذ في السنة التالية.
فكيف يمكن تقييم أثر هذا النشاط التنموي، الذي بلغت تكلفته 230 ألف درهم، ضمن المرحلة الثانية من المبادرة؟!
يؤكد خبراء البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أن المستفيد من التنمية هو الشخص الذي يُحقق تحسناً ملحوظاً في جوانب حياته المختلفة؛ ما يسهم في رفع مستوى معيشته، وتحقيق متطلباته الحياتية كاملة. هذا التحسن لا يقتصر على الجانب المادي فقط، بل يشمل أيضاً الجوانب التعليمية ومنها الاجتماعية والثقافية والسياسية.
الخبير في قضايا التعليم والتنمية، عز الدين أقصبي، الذي أمضى 38 عاماً في مراكز التوجيه والتخطيط الخاصة بالتعليم، يعتقد أن التنمية ترتبط أيضاً بمسألة التعليم وتأهيل “الرأسمال البشري”، ويضيف: “البرامج المحددة لقطاع التعليم بالمغرب ركزت بشكل كبير على القضاء على الفوارق وعدم المساواة، غير أن الأرقام والواقع بعيدان كل البعد عن ذلك”.
ويشير عز الدين أقصبي، الذي ألّف كتاباً بعنوان “التربية والتنمية: الافتقار إلى رأس المال البشري والحكامة في المغرب”، إلى وجود مشكلات أعمق في مسألة التعليم، تتعلق بالمنهجية والمردودية والمقاربة، مؤكداً أن المغرب يتراجع في جودة التعليم. فأي مفعول تنموي جناه هؤلاء التلاميذ حتى يُدرجون ضمن قائمة تسعة ملايين مستفيد من التنمية التي أعلنتها وزارة الداخلية؟
أما بالنسبة لهدف المشروع، المتعلق بمحاربة الهدر المدرسي، فقد وجدنا في تحليلنا للبيانات الخاصة بالتعليم، خلال فترة تنفيذ مشروعات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، زيادة في نسب الهدر المدرسي من الصف الخامس والسادس الابتدائي، في موسم 2013/2014.
المصدر: مؤشرات المنظومة التربوية 2014، الصادرة عن “مديرية الاستراتيجية والإحصاء والتخطيط” في المغرب.
لفهم عدد من الإشكالات المتعلقة بالنتائج المُقدمة من المبادرة للنساء، لاحظنا أن المقاطعات الثلاث الكبرى في الدار البيضاء، لم تقدم سوى ستة مشروعات موجه للنساء بشكل خاص، على مدى 10 سنوات؛ من بينها إنشاء وتجهيز مركز INDH لتأهيل النساء، في وضعية هشاشة بسيدي البرنوصي، واستحداث وحدتين لإنتاج وتسويق الملابس التقليدية والحديثة، ومنتجات الحلويات بإقامة اليقين.
المشروعات الموجهة للنساء بشكل خاص، لا تمثل سوى 12 في المئة من إجمالي المشروعات الريادية بالمقاطعات الثلاث.
قبل بدء المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعام واحد، أظهر إحصاء عام 2004 أن نصف سكان مقاطعة البرنوصي كانوا من النساء (نحو 84 ألف امرأة). وأظهر الإحصاء أن ثلاثاً من كل أربع نسوة بالمقاطعة لا يعملن ولا يبحثن عن عمل؛ ما جعل أغلبية النساء هناك أكثر عرضة للفقر والتهميش.
إذا اعتمدنا على تقريرها للاحتفاء بمرور أول عشر سنوات على انطلاق المبادرة التنموية، وعلى تقريرها للمشروعات النموذجية فقط، فإن المقاطعة مكّنت أكثر من ألفين و280 امرأة خلال العشر سنوات في إطار المبادرة الوطنية. هذا الرقم يعادل نحو 2,72 في المئة فقط من عدد النساء في البرنوصي عام 2004، علماً بأن أحد المشروعات يستهدف تمكين ألفي امرأة سنوياً.
في المقابل، أظهر إحصاء عام 2014، الذي أُجري قبل نهاية المرحلة الثانية من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أن عدد النساء العاملات أو الباحثات عن عمل في مقاطعة البرنوصي بقي تقريباً كما هو. فقد ارتفع عدد النساء الناشطات اقتصادياً بشكل طفيف جداً: من 21 ألفاً و148 امرأة عام 2004 إلى 21 ألفاً و566 امرأة عام 2014؛ أي بزيادة لا تتجاوز اثنين في المئة فقط خلال عشر سنوات كاملة.
لقد دعمت المبادرة الوطنية بالمقاطعات الثلاث داخل الدار البيضاء عدداً قليلاً من المشروعات المدرة للدخل الخاصة بالنساء أيضاً؛ من بينها مشروع قُدّم ضمن المشروعات الريادية بالمرحلة الأولى في مقاطعة الدار البيضاء أنفا، والمتعلق بدعم “باعة الحلزون المطهي”. استفادت منه 29 بائعة متجولة بميزانية تصل 200 ألف درهم، إلا أن البائعات (المستفيدات) أنفسهن دفعن ما قيمته 60 ألف درهم للاستفادة من المشروع.
يقول خبراء المجلس الاقتصادي في تقريرهم الصادر عام 2013: ”تُعد استدامة هذه المشروعات هشة بل مهددة؛ نظراً لكونها غير متنوعة وغير مبتكرة وغير مستدامة اقتصادياً”.
إحدى المستفيدات من ”مشروع تأهيل وتنظيم باعة الحلزون” قالت إن بائعي الحلزون اضطروا لدفع ألفي درهم (200 دولار تقريباً) للجمعية، للحصول على عربات جديدة تتماشى مع المشروع. لكن بعد انتهاء المرحلة الأولى، فوجئوا بمطالبة الجمعية لهم مجدداً بدفع خمسة آلاف درهم (500 دولار) أخرى؛ لتحديث عرباتهم مجدداً، وهو مبلغ يفوق إمكانياتهم. تضيف المستفيدة: “ومع ذلك طالبنا الجمعية بالحصول على تسهيلات للدفع، لكنّها رفضت وهدّدت الجميع بالدفع أو الرحيل… أنا ليس لي دخل آخر، ولا معين، أعيش في دور الصفيح”.
من بين 50 مشروعاً، يمكن اعتبار نحو 8 في المئة من مشروعات المقاطعات الكبرى الثلاث غير نموذجية أو غير مستدامة، ضمن إطار التنمية البشرية، لأنها تركز على أنشطة مؤقتة أو دعم لوجستي محدود التأثير وتفتقر إلى استدامة الأثر، وتنتهي فائدتها بانتهاء النشاط، وبعضها تقدم دعماً فردياً من دون معالجة قضايا هيكلية؛ ما يجعل المستفيد منها يعود إلى حالته السابقة. أما بعض المشروعات فلا تستهدف الفئات الأكثر هشاشة بشكل مباشر، ولا تعالج الأسباب العميقة للمشكلات الاجتماعية.
أما على المستوى الوطني، فقد تتبعنا مئات المشروعات غير النموذجية، التي ظلت مغلقة لسنوات. وخلال العمل على هذا التحقيق، اطلعنا على بلاغ لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، يتهم فيه فرع المحمدية للحزب، عامل المحمدية، المنسق الإقليمي لـ INDH بإهمال مئة شقة شُيدت منذ عام 2015 في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، موجهة لقاطني دور الصفيح.
صور العمارات والنوافذ المكسورة
وبحسب ما توصلنا إليه، فإن هذه البنايات الضخمة أُهملت وتتعرض للإتلاف والتخريب، ولم تستفد منها الأسر المتضررة بعد. وظلت البنايات فارغة بعد نهاية الأشغال، من دون استكمال إجراءات التقسيم العقاري والتسجيل والربط مع شبكة الصرف الصحي والماء والكهرباء.
وعلى غرار مشروع الأسواق النموذجية، ومشروعات متعلقة بالسكن ودور الطلاب، لم تنجح مشروعات عديدة في تحقيق أهداف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. كما وثقنا العديد منها من خلال تحليل تقارير مجلس الحسابات، الصادرة في الفترة بين 2013 و2018.
“المنتدى المغربي للديمقراطية وحقوق الإنسان” طالب بتدخل الحكومة لوقف مشروعات “لا تلبي أهداف التنمية البشرية، وتهدر المال العمومي”. وكشف تقرير آخر للمنتدى الوطني للحريات والكرامة وحقوق الإنسان عن إخفاق عدد من مشروعات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية عام 2023.
أما على المستوى الرسمي، فقد كشف لحسن سعدي، كاتب الدولة لدى وزير الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي، خلال اجتماع للجنة القطاعات الإنتاجية بمجلس النواب، عن وجود مجمعات ووحدات للصناعة التقليدية بُنيت بأموال “عمومية”، لكنّها ظلت مغلقة و مهجورة.
المستشار الجماعي في جماعة قلعة السراغنة، كاتب الفرع الإقليمي للحزب الاشتراكي الموحد، حميد مجدي، أكد أن أسواقاً نموذجية كثيرة أُغلقت في مدينة قلعة السراغنة، مثل: سوق جنان بكار، وسوق جنان الشعيبي، وسوق الهنا، وسوق المرس، والمركز التجاري مولاي إسماعيل، رغم أن تشييدها كلف مئات الملايين من الدراهم. وأضاف مجدي: “كان الهدف من إنشائها احتواء المئات من الباعة المتجولين منذ سنوات، إلا أنها لا تزال مهجورة ومهملة، ما جعلها عرضة للتلف، ومأوى للكلاب الضالة، تعجّ بالنفايات، وتفوح منها روائح كريهة؛ ما حولها إلى أزمة بيئية حقيقية”.
في سوق السبت بجهة بني ملال خنيفرة، وثّقنا بالصور تحول العربات الممنوحة للباعة المتجولين، بأحد المشروعات المدعومة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، إلى مجرد “خردة مدفونة في مقبرة السوق”.
صور العربات المهجورة
انطلقت المرحلة الأولى من المبادرة عام 2005 بحماس كبير؛ إذ أُطلق نحو 22 ألفاً و853 مشروعاً على المستوى الوطني، لكن سرعان ما تبددت الآمال بتعثر تنفيذ ما يزيد على ألفين ومئتي مشروع. وبحسب المرصد الوطني للتنمية البشرية، لم يُنفذ إطلاقاً من هذه المشروعات ما مجموعه 432 مشروعاً؛ رغم أن أن تكلفتها بلغت 251 مليون درهم.
في المقابل، لم يكتمل تنفيذ ألفين و185 مشروعاً بعد انتهاء المرحلة الأولى من المبادرة، بميزانية تبلغ نحو مليار و29 مليون درهم. بالإضافة إلى “إيقاف” 58 مشروعاً بعد أن بلغت تكلفتها 50 مليون درهم، “لأسباب غير معروفة”.
وإذا كان نحو خمسة آلاف مشروع لم يُنفذ بشكل كامل أو جزئي، وسبعة آلاف و722 مشروعاً وجهت لأنشطة الدعم، فإن ثلث المشروعات؛ أيّ القسط الأكبر منها، لم تستفد منها الفئات الهشة المستهدفة من المبادرة خلال المرحلة الأولى.
وحتى لو اعتبرنا المرحلة الأولى “مرحلة تجريبية” (Phase pilote) للمشروع الملكي، فإن عدم تنفيذ المشروعات لم يتوقف عند المرحلة الأولى فقط، بل استمر بوتيرة أكبر في المراحل اللاحقة.
من خلال تحليلنا للبيانات المتوفرة منذ تنفيذ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية حتى عام 2018، لاحظنا زيادة مستمرة في عدد المشروعات غير المنفذة، أو التي لم يكتمل تنفيذها على مر السنين؛ خاصة بعد عام 2012. وشهد عام 2018 أكبر نسبة من المشروعات غير مكتملة التنفيذ، والتي وصلت نسبتها إلى 95.80 في المئة من المشروعات (غير المنفذة أو المتوقفة أو الوهمية).
في المقابل، هناك نحو 19,780 مشروعاً لم يُنفذ خلال الفترة التي شملتها البيانات (نحو 15 سنة من التنمية) من أصل 63,617 مشروعاً؛ أي نحو 31.09 في المئة من المشروعات. فأين ذهبت الموارد المالية المرصودة لها؟!
المصدر: المرصد الوطني للتنمية البشرية بالمغرب
محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام بالمغرب، يقول بخطورة عواقب هذا العجز في تنفيذ المشروعات، وإن هدر الموارد سواء كانت مادية أو بشرية خسارة كبيرة للمؤسسات المعنية. ويضيف: “وعلى المستوى المؤسسي، يسهم تكرار هذه الإخفاقات في تآكل الثقة في الجهات المسؤولة، ما يضر بمصداقيتها وشرعيتها”.
ويرى رشيد لزرق، رئيس مركز شمال إفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، أن الفساد أكبر العوائق التنموية في المغرب.
خلال هذا التحقيق، رصدنا عينة لعمليات اختلاس من صناديق المبادرة الوطنية، وهدر المال العام بعد توقف المشروعات، وأغلب القائمين عليها هم كبار الموظفين أو رؤساء المجالس، والعاملون في أقسام التنمية الاجتماعية.
تؤكد المعطيات أن هناك ما قد يُمكن وصفه بـشبكة غير منظمة “لمافيا التنمية البشرية”، تتكون أساساً من مسؤولين كبار يتوزعون على نحو 30 إقليماً شملتهم قاعدة بياناتنا. وُجّهت للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية اتهامات متعددة، تتعلق بالتلاعب في المشروعات الممولة، واختلاس أموالها، بالإضافة إلى توزيع الموارد على الموالين، وتهميش الفئات المُستهدفة.
كما تشمل الاتهامات تجاوزات وخروقات ومخالفات للقانون، ومبالغات في المصروفات الخاصة ببرامج التنمية؛ ما أدى إلى هدر ملايين الدراهم من المال العام، وتعثر العديد من المشروعات الاجتماعية. ومن بين أبرز القضايا المثارة، تعطيل إجراءات المراقبة والتتبع لمشروعات ممولة، ما زاد من صعوبة تحقيق أهداف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في الأقاليم.
خلال هذا التحقيق، رصدنا 38 حالة من المخالفات والخروقات المتعلقة بمشروعات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛ وهي حالات لإخفاق عشرات المشروعات، إما بسبب عدم استغلالها الأمثل، أو تعرضها للتلف، أو مخالفتها للقانون، أو لوجود شبهات تضارب المصالح وتزوير الوثائق.
يستند تحليلنا إلى قاعدة بيانات قمنا بتجميعها من مختلف تقارير المجالس الجهوية للحسابات، والتي تغطي نحو 30 إقليماً خلال الفترة من 2013 إلى 2018. ومن خلال هذه التقارير الرسمية، صنفنا البيانات وفقاً لنوع الانتهاك المرصود، كما حدّدنا المبالغ المالية المُهدرة أو المحولة في كل حالة.
تشكل حالات ”تعثر المشروعات” النسبة الأكبر من جميع الخروقات المرصودة، فبلغت نحو 47.37 في المئة من إجمالي الحالات. وعلى سبيل المثال، في إقليم كلميم، وُقّعت اتفاقية شراكة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2013، لربط 85 منزلاً بشبكة الماء الصالح للشرب بتكلفة بلغت 639 ألفاً و211 درهماً. ورغم توفير التمويل اللازم، لم يُنفذ المشروع، حتى بعد مرور ثلاث سنوات على إعلانه.
وحلت الاختلالات المالية والإدارية في المرتبة الثانية، بنسبة 23.68 في المئة من إجمالي الحالات. ومن بينها على سبيل المثال، ما تعلق بتغيير أهداف مشروع مدر للدخل كلف 400 ألف درهم لبناء سبعة محلات تجارية في إقليم الحوز، لكن تمّ تغيير موضوع الاتفاقية وتحويل أربعة محلات منها إلى مقهى عصري، من دون موافقة المجلس الجماعي. وتم تسجيل عدة اختلالات أيضاً في تنفيذ أشغال “دار المرأة والطفل” بجماعة “ميضار” بإقليم الدريوش، حيث شملت “عيوباً في أعمال البناء والتبليط والأبواب”، ولم تُصرف كل الأموال المرصودة لهذا المشروع.
أما المشروعات التي صنفناها “وهمية”، فتمثل نحو 13.16 في المئة من الحالات، وهي أخطر أنواع الخروقات؛ إذ تعني صرف أموال على مشروعات غير موجودة، أو لم تُنفذ على أرض الواقع.
كما سجلنا حالات تحت تصنيف “خروقات” بنسبة 10.53 في المئة، وتشمل هذه الفئة المخالفات المختلفة للقوانين والأنظمة المعمول بها في تنفيذ المشروعات. هذه الخروقات شملت على سبيل المثال إصدار سند الطلب رقم 24، بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 2013، لفائدة شركة “ميلتي نيكوس بزنس” لتهيئة طريق في إطار المبادرة، لكن استلام الأشغال تمّ بعد يومين فقط من إصدار السند؛ ما يشير إلى بدء تنفيذ الأشغال قبل إصداره، في مخالفة للإجراءات القانونية المعتمدة.
أما حالات تضارب المصالح، فقد شكلت 5.26 في المئة من إجمالي الحالات. ورغم انخفاض عددها، فإنها تُعد خطيرة نظراً لتأثيرها المباشر على نزاهة اتخاذ القرارات وتوزيع الموارد. وفي مثال على ذلك، استفادت إحدى الجمعيات من منح مالية بين 2013 و2015، مع العلم أن رئيس الجمعية، “ح.ب”، هو نفسه رئيس المجلس الجماعي، ما يتعارض مع المادة 22 من القانون رقم 78.00، والمادة 65 من القانون التنظيمي رقم 113.14، التي تحظر على أعضاء المجلس إبرام عقود مع الجمعيات التي يترأسونها.
عملنا على رصد وتحليل 30 حالة من خلال التغطيات الصحفية المتعلقة بقضايا فساد أو سوء تدبير واختلاس، خلال تنفيذ المشروع بين عامي 2005-2025.
تشير البيانات إلى أن الفساد في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية يتركز بشكل كبير في الفئات التي تملك سلطة القرار، فيمثل المنتخبون في الجماعات المحلية أو المجالس الجهوية، النسبة الأعلى من المتهمين بقضايا في إطار المبادرة بـ 33.33 في المئة، يليهم رؤساء الأقسام بالعمالات بـ 30 في المئة. وتأتي جمعيات المجتمع المدني المُستفيدة من دعم المبادرة في المرتبة الثالثة بنسبة 20 في المئة، كما يظهر أن المستفيدين من المشروعات، يشكلون 6.67 في المئة فقط.
ومن هذه المعطيات، يتضح أن العديد من المشروعات الممولة ضمن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لم تحقق الأهداف المنشودة؛ ما أدى إلى هدر المال العام. من خلال قاعدة البيانات لـ 38 حالة فساد -التي اعتمدنا فيها بالأساس على تجميع تقارير المجلس الأعلى للحسابات- وثّقنا هدراً يقارب 16 مليون درهم، كمجموع للأموال المصروفة في نحو 30 حالة فقط لم تُستغل أو لم تُنفذ.
محمد الغلوسي، وهو محامٍ ورئيس أبرز جمعية مغربية لحماية المال العام، يرى أن الفساد كان أكبر معوقات التنمية البشرية والاقتصادية في المغرب، خاصة في البرامج التي تستهدف بعض الفئات وتسعى إلى محاربة الهشاشة والفقر والإقصاء. يضيف قائلاً: “هذه البرامج حصلت فيها تلاعبات، وهذه الأموال لم تعرف طريقها إلى الأهداف التي نصبت لها، لقد دخلت إلى الصناديق السوداء وبقي المهمشون من دون برامج حقيقية لانتشالهم من الفقر”.
ويؤكد الغلوسي أن عدم تطبيق القانون لمحاربة الفساد في برامج التنمية، يُعد أكبر عائق أمام التنمية في البلاد، كما يشير إلى أنه لم تسفر الشكاوى عن أيّ إجراءات قضائية أو تحقيق داخلي، ضد أي من المتهمين في ملف الفساد وتضارب المصالح.
في الوقت نفسه، يعاني كاشفو الفساد في المغرب من التضييق والملاحقات القضائية. لقد رصد التقرير السنوي 2021، الصادر عن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها (مؤسسة دستورية استراتيجية)، “وجود ضعف كبير لمعدلات التبليغ عن أفعال الفساد، ناتج بالأساس عن عدم الشعور بالأمان والخوف من الضغوطات وأشكال الانتقام، وأيضاً لصعوبة الحصول على الإثباتات والمعلومات المرتبطة بأفعال الفساد، وتدني منسوب الثقة في نجاعة وفعالية المجهودات المبذولة سواء من طرف الحكومة أو من طرف سلطات إنفاذ القانون، بالإضافة لضعف الوعي الجماعي بالضرر العام لأفعال الفساد على المجتمع”.
تُظهر البيانات التي حصلنا عليها من المرصد الوطني للتنمية البشرية بالمغرب، عن تركز الاستثمارات في مشروعات البنية التحتية والبناء، على حساب المبادرات الموجهة مباشرة نحو تنمية “الرأسمال البشري”. فيما يتعلق بتخصيص الميزانية (40,7 مليار درهم)، بين 2005 و2018، فإننا نلاحظ أن مشروعات البناء والتشييد والتهيئة ابتلعت أغلب الميزانية المرصودة. فالمشروعات الموجهة مباشرة للتنمية البشرية (الرأسمال البشري)، لم تحظَ إلا بـ 8,1 في المئة فقط من الميزانية الإجمالية؛ أي ما يعادل 3,3 مليار درهم من 2005 إلى 2018.
ووفق تقرير التنمية البشرية لسنة 2017، حول “التفاوتات السوسيومجالية والتنمية البشرية”، فإن أسباب تراجع مؤشرات التنمية في المغرب، رغم إطلاق مبادرة وطنية على مدى سنوات، تعود إلى المسار الذي سلكته البلاد في التنمية إلى حدود عام 2015.
من خلال تحليل عينة بعض المشروعات في الدار البيضاء، صرفت مشروعات المبادرة نحو 45 مليوناً و551 ألفاً و396 درهماً على مشروعات البناء والتهيئة، فمثلت نحو 94.10 في المئة من مجموع المشروعات. أما برامج توفير معدات لوجستية، فكلفت نحو مليونين و315 ألفاً و780 درهماً، ما يعادل 4.78 في المئة من الميزانية المرصودة، فيما شكلت الأنشطة المؤقتة نسبة 1.12 في المئة فقط.
هذا التوزيع يُظهر التركيز الكبير على مشروعات البناء والتهيئة، في حين تحصل الأنشطة المؤقتة والمعدات اللوجستية على نسب أقل من التمويل.
بيانات متعلقة بمقاطعة البرنوصي إحدى المقاطعات التي عملنا عليها في قاعدة البيانات
لقد استثمر المغرب بشكل كبير، على مدى العشرين سنة الماضية، في البنية التحتية. ويتراوح إجمالي الاستثمار بين 25 إلى 38 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2001 و2017، (تتخللها المرحلة الأولى والثانية من المبادرة)، وهو أحد أعلى معدلات الاستثمار على مستوى العالم في البنية التحتية، وفق تقرير للبنك الدولي عام 2020. وأشار التقرير أيضاً إلى أن المغرب من بين البلدان التي تتلقى أكبر قدر من المساعدات التنموية الرسمية، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، والتي يتم استثمار نصفها في البنية التحتية.
وعلى مدار السنوات الماضية، مثّل “الفقر المتعدد الأبعاد”، أحد العوائق الأساسية في تقدم ترتيب المغرب في التنمية البشرية (المرتبة 120 سنة 24/2023). لذلك يتضح أن مشروعات البناء لم تكن لها دور فاعل وحاسم في تقدم المغرب في ترتيب التنمية البشرية خلال 20 عاماً، وهذا ما يدرجه تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أيضاً، حين أشار إلى أن نحو 37 في المئة من سكان المغرب عانوا الفقر المتعدد الأبعاد إلى عام 2018، في حين يعيش 18 في المئة من المغاربة في فقر شديد. هذه الأرقام نُشرت بعد انتهاء مرحلتين من المشروع التنموي وانطلاق المرحلة الثالثة.
الدولة | السنة | نسبة الفقر المتعدد الأبعاد | النسبة المئوية لمجموع السكان المعرضين للفقر | النسبة المئوية لمجموع السكان الذين يعيشون في فقر شديد |
---|---|---|---|---|
الأردن | 2012 | 11.17 | 23.92 | 0.94 |
الأردن | 2017 | 13.47 | 20.17 | 2.14 |
تونس | 2011 | 21.82 | 23.92 | 5.23 |
تونس | 2018 | 14.91 | 31.65 | 2.11 |
الجزائر | 2012 | 35.62 | 33.74 | 8.87 |
الجزائر | 2019 | 19.39 | 33.20 | 4.05 |
العراق | 2011 | 50.69 | 30.74 | 21.95 |
العراق | 2018 | 39.95 | 22.06 | 12.97 |
مصر | 2014 | 21.60 | 24.50 | 4.38 |
مصر | 2018 | 16.00 | 29.46 | 3.13 |
المغرب | 2011 | 48.08 | 24.69 | 28.68 |
المغرب | 2018 | 36.55 | 25.65 | 18.17 |
المصدر: التقرير العربي الثاني حول الفقر المتعدد الأبعاد، الصادر عن مجموعة من المنظمات الدولية والعربية في مقدمتها الإسكوا واليونيسيف وجامعة الدول العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي
ومن هذه المعطيات، يتضح أن العديد من المشروعات الممولة ضمن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لم تحقق الأهداف المنشودة؛ ما أدى إلى هدر المال العام. من خلال قاعدة البيانات لـ 38 حالة فساد -التي اعتمدنا فيها بالأساس على تجميع تقارير المجلس الأعلى للحسابات- وثّقنا هدراً يقارب 16 مليون درهم، كمجموع للأموال المصروفة في نحو 30 حالة فقط لم تُستغل أو لم تُنفذ.
لم يكن بإمكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهو مؤسسة دستورية، تقديم أيّ “تقييم أثر” للمرحلة الأولى من المبادرة 2005-2010. وأكد المجلس في إحالته (2013/2) “أنه لا يمكن في الوقت الراهن العمل على تقييم وقع المبادرة؛ نظراً لعدم وجود دراسة جدوى للمشروع”. وطلب المجلس من المرصد الوطني للتنمية البشرية، ضرورة نشر “دراسة جدوى” لمشروع المبادرة.
وأكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن عمليات التقييم الداخلي تتمحور بالأساس “حول الجانب الكمي (عدد المستفيدين والمشروعات) على حساب الجانب النوعي (طريقة العمل والمشاركة ووضع العملية التنموية)”، في حين “لا يتم إيلاء الاعتبار الكافي لخلاصات وتوصيات مختلف عمليات التقييم الخارجية”، وفق التقرير.
البنك الدولي أيضاً لم يستطع إجراء تقييم الأثر للمشروع في مرحلته الأولى، وعدّد النواقص في مشروع المبادرة، من بينها؛ عدم الحصول على معطيات كافية حول برامج المبادرة الوطنية التي يمولها في المغرب، بحسب تقرير صادر في كانون الثاني/يناير 2012، والذي اعتمد عليه المجلس الاقتصادي السابق.
لقد كشف التقرير العربي الثاني حول الفقر المتعدد الأبعاد، والذي تناول خمسة بلدان متوسطة الدخل؛ هي العراق والأردن والمغرب والجزائر وتونس، أن أكثر من 42 في المئة من سكان المغرب محرومون من التعليم والصحة والسكن، والحصول على الخدمات الأساسية. بعد مقارنتنا للمعطيات التي تناولها التقرير، اتضح لنا أن المغرب يتمتع بأعلى معدل فقر متعدد الأبعاد، وثاني أعلى معدل فقر بين الدول العربية والإفريقية الخمس التي تناولها التقرير.
أنجز هذا التحقيق بدعم من أريج