بالمستندات: إهدار مليار و300 مليون جنيه فى «كيما أسوان 2»

19 ديسمبر 2017

تحقيق: أحمد العميد

الوطن– بدأت رحلة المزارع ناصر سلطان، 40 عاماً، بحثاً عن لقمة عيشه فى «وادى النقرة» فى جنوب مصر منذ 12 عاماً. حينها كانت المنطقة بقعة جرداء تخفى صفرة رمالها تربة خصبة أسفلها. قصدها ناصر من سوهاج مع عائلته بعد أن استدعى الرئيس المخلوع حسنى مبارك عام 2003 آلاف الفلاحين من مختلف محافظات مصر لزراعتها فيما عُرف حينها بـ«مشروع مبارك للتوطين». لكن نقص الأسمدة والخدمات حال دون تحقيق حلم ناصر بحياة مستقرة له ولعائلته، فمشروع مصنع كيما بمحافظة أسوان الذى كان يُفترض أن يغذى تلك الأرض الصحراوية بالأسمدة لتعطى ثماراً ومدخولاً لمزارعيها توقف فى ظروف تطرح الكثير من علامات الاستفهام. هكذا بقى موقع تنفيذ المصنع خالياً هو الآخر منذ توقيع عقد بنائه من 2011 حتى 2016. ولم يجد ناصر بديلاً عن تاجر السوق السوداء الذى يبيع أسمدة مقبلة من الإسكندرية ومحافظات أخرى بأسعار أعلى. يوثّق هذا التحقيق كيف تسبّب مسئولون فى شركة «كيما»، التابعة للشركة القابضة للصناعات الكيماوية، فى هدر المال العام لتأخرهم فى فتح الاعتماد المستندى من أجل بناء مصنع للأمونيا وسماد اليوريا فى مصر لتغطية احتياجات السوق المصرية من الأسمدة، ما أدى إلى دفع شركة «كيما» غرامة تقارب ملياراً و300 مليون جنيه إلى شركة «تيكنمونت» الإيطالية من دون أى محاسبة، وحال دون تغطية احتياجات ناصر وباقى المزارعين من الأسمدة.


1 التلاعب بعد «المناقصة»

الشركة تلقت إنذارين بفتح «الاعتماد البنكى» ولم تستجب إلا بعد فسخ العقد بيومين

صورة من خطاب إنهاء التعاقد

بدأت قضية شركة «كيما» عام 2009 كأى سيناريو، استدراج عروض ومناقصة لبدء التجهيز لإنشاء مصنع لإنتاج الأمونيا وسماد اليوريا، فيما سُمى بمشروع «كيما 2». فُتح باب المناقصة للشركات المتخصصة فى 2 مايو 2010 اختيرت منها خمسة للتقدُّم، وتقدمت أربع شركات فقط لشراء كراسة الشروط والمواصفات للمشروع. تم توقيع التعاقد مع الشركة الإيطالية «تكنومنت» التى استوفت الشروط وقدمت أقل سعر بين العروض المقبولة فنياً. هكذا تم التعاقد مع «تكنومنت» فى 30 أكتوبر 2011 لتنفيذ مشروع بناء مصنع الأسمدة بقيمة نحو 453 مليون دولار.

بعد توقيع العقد مع «تكنومنت»، بدأت «كيما» مفاوضاتها مع البنوك المصرية التى استمرت حتى 2014 للحصول على قرض يغطى 50% من كلفة المشروع، بينما تموّل «كيما» الكلفة المتبقية من رأسمالها عبر طرح الأسهم. رغم تعثُّر المفاوضات التى أدت إلى توقف المشروع عام 2012 لعدم إتمام التمويل، انفرج الوضع مجدداً، وانتهى الأمر بتوقيع تعاقد مع تحالف من أربعة بنوك مصرية. واستؤنفت أعمال المشروع بتوقيع اتفاق تكميلى بين شركة «كيما» والشركة الإيطالية المنفذة للمشروع فى 25 سبتمبر 2014.

لكن الأزمة الفعلية بدأت مع فتح الاعتمادات المستندية. لم تحترم شركة «كيما» شروط الاتفاق التكميلى مع «تكنومنت» التى تفرض على «كيما» فتح تلك الاعتمادات بحد أقصى فى 31 ديسمبر 2014، فأرسلت الشركة الإيطالية إنذارين: الأول فى 9 يناير، والثانى فى 30 يناير 2015. لم يرد مسئولو شركة «كيما» على إنذارات «تكنومنت»، وبناء عليه قامت الأخيرة بإرسال إشعار فى 3 مارس 2015 بإنهاء التعاقد مع شركة «كيما» وفرضت عليها غرامة مالية 58٫5 مليون دولار، إلا أن رئيس الشركة «عيد عبدالله الحوت» الذى تجاهل تماماً الإنذارات المتكررة لمدة شهرين رغم علمه بها، فتح الاعتمادات المستندية فى 5 مارس 2015، أى بعد يومين فقط من إنهاء التعاقد، لتدفع «كيما» الغرامة من خزينة المال العام. إلى جانب بنود أخرى ما بين تحسين تربة المشروع وفرق أسعار الوقود، وتحميل «كيما» تأمينات عمال المشروع، حتى بلغ ما تكبدته الشركة المصرية نحو 72٫5 مليون دولار، أى ما يعادل ملياراً و300 مليون جنيه، وهى قيمة تغطى أجور 10 سنوات لجميع عمال وموظفى الشركة البالغ عددهم نحو 1800، يتقاضون ما يقارب 130 مليون جنيه سنوياً، اعتصم بعضهم مؤخراً لعدم صرف العلاوات، وللمطالبة بحقوقهم المالية..

تطرح تلك التطورات فى قضية مشروع «كيما» الكثير من التساؤلات حول سبب عدم الرد على إنذارات الشركة الإيطالية وانتهاء مددها القانونية، ما أدى إلى خسائر مالية بهذا الحجم.. هل هدر أموال الشركة يعود إلى إهمال رئيس الشركة ومديرة المشروع اللذين كان يجب أن يتابعا كل تطورات المشروع والرد على الإنذارات لإنقاذ الشركة المصرية أم يتعداه إلى عدم فتح الاعتمادات بشكل متعمّد؟ هل يعود عدم الرد إلى شبهة صفقة فساد بين مسئولى «كيما» و«تكنومنت»؟ هل تلقّى مسئولو «كيما» رشوة من الشركة الإيطالية مقابل التسبب بالتأخير وبالتالى دفع الغرامة؟ لم يتمكن التحقيق من إثبات تورط مسئولى شركة «كيما» مباشرة فى صفقة فساد مع الشركة الإيطالية، أو شركات وتجار الأسمدة عموماً، ولكن الوثائق والمعلومات التى حصلنا عليها ترجح أن التأخير كان «خطأ» مقصوداً.

2 «كيما» تفاوض لمصلحة «تكنومنت»

تقرير لـ«المحاسبات» يؤكد صحة مستندات «الوطن» ويكشف : تأخر فتح الاعتمادات هدر للمال العام

تقرير الجهاز المركزى

تشير محاضر اجتماعات «كيما» التى عُقدت فى 15 يناير و9 فبراير 2015، أى بعد تلقّى «كيما» الإنذارين الأولين، إلى أن رئيس الشركة «عيد الحوت» لم يتطرق إلى موضوع الإنذارات، مما قد يعكس رغبة رئيس الشركة فى حجب الإنذارات عن باقى المسئولين. وبعد أيام من فتح الاعتمادات المستندية لإعادة العمل بالمشروع، تم استبعاد الفريق الفنى الذى تم تشكيله فى 2010 خصيصاً لمتابعة المشروع فنياً، لتصبح مديرة المشروع «مشيرة عمارة» الممثل الوحيد للمشروع أمام المقاول. كلف استبعاد الفريق الفنى الشركة ما يزيد على «2 مليون جنيه»، وهى القيمة التى دفعتها شركة «كيما» لتدريب الفريق دون الوقوف على أسباب استبعاد فريق العمل الذى أمضى فى المشروع فترة كافية تجعله على دراية بكافة ملفات المشروع، وفق تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات الصادر فى 20/04/2017. هذا فضلاً عن عدم قيام الشركة بإنذار المقاول عند تقصيره أو تسببه فى التأخير، حيث يشير التقرير نفسه إلى أن جانباً من التأخير فى فتح الاعتمادات المستندية يعود إلى قيام شركة «تكنومنت» بالتفاوض مع البنك الأهلى المصرى لتعديل أحد شروط الاعتمادات.

وتبع ذلك الإخلال ببعض المواصفات الفنية للمشروع، حيث وافقت مشيرة عمارة على تغيير مراوح مصنع اليوريا، الطلمبات والسيارات (باستبدالها بماركات أقل سعراً)، دون أن تحصل «كيما» على فارق السعر من «تكنومنت»، مما يخالف العقد المبرَم بينها وبين الشركة الإيطالية، وفق التقرير نفسه، الأمور التى لم يكن سيسمح بها الفريق الفنى إن كان موجوداً. هذا ما أكده لنا أحد أعضاء الفريق الفنى، الذى رفض الكشف عن هويته، قائلاً إن الهدف من استبعاد الفريق كان إبعاد أى شخص يمكن أن يضيّق أو يقف ضد تجاوزاتهم وأخطائهم خلال المفاوضات التى أدت إلى إعادة إطلاق المشروع مع المقاول ذاته.

يؤكد عضو الفريق الفنى أنه بعد بضعة أيام من إنهاء التعاقد مع «تكنومنت»، أبلغت مديرة المشروع مشيرة عمارة شفاهياً الفريق بقرار استبعاده من المشروع. «تم منعنا من الوجود بموقع المشروع، ومنذ ذلك الوقت لم نحصل على أى مستند يخص المشروع»، وأضاف موضحاً أنه «بعدما تواترت أنباء عن تغيير بعض مواصفات المشروع، أيقنّا أنه (تم استبعادنا) حتى لا يكون هناك شهود يعلمون بالأسس والقواعد، ويقولوا ده صح وده غلط».

من جهته، يسأل أحمد عبدالمالك، وهو مهندس فى الشركة منذ 9 سنوات: «فين المسئولين طالما همّ قادرين يفتحوا الاعتماد المستندى فى يومين، ليه ما فتحوش بعد توقيع العقد وطوال مدة الإنذارات؟». ويتابع بغضب: «ولو كانت البنوك هى السبب، ليه ما حمّلش البنوك المسئولية بدل الشركة بتاعتنا ما تشيلها؟ وليه ما عندهمش رد واضح؟ التأخير أجّل إنتاج السماد فى السوق وزوّد معاناة الفلاحين!».

صورة من موافقة مديرة المشروع

3 إهمال بلا محاسبة

عقوبة «إهدار المال العام» تصل إلى السجن المشدد 6 سنوات.. وحتى الآن لم يحاسَب أحد

تهرّب معظم المسئولين من الإجابة وتنصلوا من مسئولية التأخير فى فتح الاعتمادات المستندية. أكد لنا رئيس الشركة «عيد الحوت»، فى مقابلة أجريناها معه فى بداية التحقيق، أنه تلقى الإنذارات وأرسلها إلى الشركة القابضة ووزير الاستثمار، إلا أنه لم يجب على أسئلتنا فى مرحلة المواجهة، وذلك على الرغم من تواصلنا معه عبر بريده الإلكترونى والعادى. الأمر نفسه حصل مع وزير الاستثمار السابق أشرف سلمان ومديرة المشروع مشيرة عمارة اللذين امتنعا عن الإجابة عن أسئلتنا لأكثر من ثلاثة أسابيع. من هنا، لم نحصل من أى منهما على رد بشأن الوثائق التى بحوزتنا المتعلقة بشبهة تورط «الحوت» فى هدر المال العام وتسببه، هو ومديرة المشروع مشيرة عمارة، فى خسائر مالية والإخلال بالمواصفات الفنية بحق شركة «كيما».

وفى حين أحالنا «الحوت» إلى الشركة القابضة للصناعات الكيماوية التى تملك شركة «كيما»، طلب رئيس الشركة القابضة السابق محمد العدل منا التوجه إلى شركة «كيما». كذلك، ألقى كل من محمد جاد، مدير عام الشئون القانونية فى شركة كيما، ونجلاء نصار، المستشارة القانونية لمشروع «كيما 2»، المسئولية على الآخر، دون تأكيد أو نفى علمهما بالإنذارات. لم يكتفِ بعضهم بالتنصل من المسئوليات، بل ذهب إلى حد لوم المحقق على فتح التحقيق و«نبش الماضى» على هدر مالى لم يحاسب أحد عليه. وبينما برّر كل من «الحوت» ورئيس القطاعات المالية بشركة «كيما» سيد حمدان عدم الرد على الإنذارات بثورة يناير 2011 والظروف التى مرت بها البلاد، لم يجيبا عن كيفية تمكُّن الشركة من فتح الاعتمادات المستندية بعد يومين فقط من إنهاء التعاقد وفرض الغرامة على «كيما».

يؤكد تقرير آخر للجهاز المركزى للمحاسبات فى 15 نوفمبر 2015 ما توصلنا إليه من وثائق ومستندات خلال تحقيقنا بأن موافقة الجمعية العمومية غير العادية على تعديل العقد بين الشركتين والذى بموجبه تم سداد تعويضات مالية كبيرة تُعتبر هدراً للمال العام. ردت الشركة القابضة للصناعات الكيماوية التى كانت طرفاً أصيلاً فى المفاوضات أمام الشركة الإيطالية بتشكيل لجنة للرد على تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات. وخلصت اللجنة إلى أن المتسبب فى تأخير فتح الاعتماد المستندى أحد البنوك التى تعاقدت معها شركة «كيما»، وهو البنك الأهلى، إلا أن هذا المبرر لم يكن مقنعاً لعدم توافر الأدلة على ذلك، ليعيد الجهاز المركزى للمحاسبات إصدار تقرير آخر بتاريخ 20 أبريل 2017 يفيد بأن التأخير الذى تسبب به البنك الأهلى هو يومان فقط من 3 إلى 5 مارس 2015، أى بعد إنهاء التعاقد أساساً.

لكن تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات لم يكن كافياً لمحاسبة المسئولين عن الخسائر المالية التى كلفت الشركة مبلغاً يقدر بـ10 سنوات أجور عمالية. لم يحاسبوا على موافقتهم على تغيير المواصفات الفنية للمشروع لمصلحة المقاول، ولم يحاسبوا على ما يعتبره القانون «إهمالاً متعمداً» وتصل عقوبته إلى السجن بموجب قانون العقوبات المصرى فى مادته 116 مكرر 1 و2 الذى ينص على أن عقوبة هدر المال العام تصل إلى السجن المشدد 6 سنوات. بقى هؤلاء أحراراً دون أى محاسبة عن العبث بالمال العام، بينما لا يزال ناصر الذى قطع مئات الكيلومترات هرباً من البطالة يشترى أجولة من الأسمدة إنتاج «شركة أبوقير لصناعة الأسمدة الكيميائية» بالإسكندرية قطعت أكثر من ألف كيلومتر حتى تصل إليه.

أنجز هذا التحقيق بدعم  شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية “أريج” وبإشراف الزميلة كارول كرباج


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *