لوائح داخلية لمستشفيات تهدد حياة مريضات
سالي مصطفى
17 مارس 2024
نكشف في هذا التحقيق عن امتناع أطباء داخل مستشفيات مصريّة، حكوميّة وخاصة، إجراء عمليّات جراحيّة بالجهاز التناسليّ لمريضات، من دون موافقة كتابيّة من الزوج أو أقارب ذكور من الدرجة الأولى، بصرف النظر عن حالتهن الصحيّة، وذلك بالمخالفة لموادّ الدستور والقوانين المصريّة.
“روان” فتاة جامعيّة، تقول إنها تعاني نزيفاً شهريّاً مصحوباً بآلام شديدة، منذ نحو عشر سنوات. ويبدو أن روان، التي شخّص الأطباء حالتها بـ “سُمك بطانة الرحم”، مُطالَبة بتحمل آلامها والتعايش مع معاناتها، ليس لصعوبة حالتها من الناحية الطبيّة؛ بل لأن “وقف النزيف الشهري المزمن” يتطلب موافقة زوجها “المستقبلي”.
“افرض أنا مش عايزه أتجوز، هفضل أعيش بألمي عشان حد تاني يوافق علي عملية جوه جسمي؟”، كلمات بما تحمله من أوجاع تجسّد واقع “روان”؛ إلا أنها جاءت رداً على طلب الطبيب الذي أخبرها بأن حالتها تتطلب تدخلاً جراحيّاً في الرحم، لكنّه مرهون بموافقة كتابيّة من “الزوج”، وفق اللوائح والقوانين المعمول بها داخل المستشفيات المصريّة، وإلا عرّض نفسه للمحاكمة وعقوبة الحبس.
تقول “روان” البالغة من العمر 23 عاماً، إن المسكنات القويّة وغيرها من الأدوية أصبحت لا تُجدي نفعاً مع تفاقم حالتها الصحيّة. حاولت “روان”، التي تسكن بمحافظة الشرقيّة، مراراً وتكراراً الذهاب إلى مستشفيات مختلفة (خاصة)، لعلّها تجد نهاية لآلامها بإجراء عمليّة “كحت بطانة الرحم”؛ لكنّها كانت تُقابل بالردّ نفسه.
معاناة حتى الزواج
تزداد معاناة “روان” عندما يتعلق الأمر بمستقبلها الدراسيّ: “حياتي كلها بتقف، والموضوع أصعب من إني أوصفه، كنت أضطر إلى ترك الامتحان، وأحصل في النهاية على نصف الدرجة فقط، على الرغم من قدرتي على إتمام الامتحان كله، لكنّ شدة الألم كانت تمنعني من الاستمرار”.
تخشى “روان” -التي ترغب في استكمال دراستها العليا بعد إتمام المرحلة الجامعيّة- أن تضطرّ بالنهاية إلى “زواج صوري”، بعد أن نفدت محاولاتها كلها لإجراء العملية الجراجية؛ كان آخرها تقديم موافقة كتابيّة من أبيها، لكن من دون جدوى.
حتى مع وجود موافقة كتابيّة من وليّ الأمر، وهو الأب في حالة روان، لم يكن ذلك كافياً للتدخل الجراحيّ لإنهاء معاناتها؛ ما يطرح تساؤلاً عن مفهوم وطبيعة “وليّ الأمر”.
الرئيس السابق للجنة التحقيق والآداب بنقابة الأطباء، الدكتور طارق كامل، يؤكد صحة وسلامة موقف الطبيب، الذي يرفض إجراء عملية “كحت الرحم” للعذراء؛ لأن الطبيب هو المسؤول عن تقييم حالة المريضة، ويقرر على هذا الأساس مدى حاجتها إلى إجراء تدخل جراحيّ من عدمه، خاصة وأنه قد يؤدي إلى فض غشاء البكارة.
ويوضح الدكتور طارق كامل، أن الطبيب قد يقرر إجراء التدخل الجراحيّ للعذراء، حتى وإن ترتب عليه فقدان عُذريتها، إذا كانت حالتها الصحيّة تفرض ذلك، ثمّ يُصدر الطبيب شهادة تفيد بفقدان العُذرية بموافقة وليّ الأمر. أمّا إذا كانت الحالة لا تتطلب التدخل الجراحيّ العاجل، فلا يستطيع إجراء الجراحة، حتى لا يُعرّض نفسه للمساءلة القانونيّة من زوج الفتاة “المستقبليّ”، بأنه قام بفض غشاء البكارة من دون ضرورة طبيّة “مُلِحّة”.
لوائح المستشفيات ومخالفة القانون
الدكتور طارق كامل، يؤكد أن حصول الطبيب على موافقة الزوج قبل إجراء أيّ عمليّة جراحيّة بالجهاز التناسليّ للمرأة، جزء من لائحة آداب المهنة، الصادرة بقرار وزير الصحة رقم 238 لسنة 2003 والسارية حتى الآن، والتي تُطبّق على الأطباء كافة العاملين في مصر؛ سواء في المستشفيات الحكوميّة أو الخاصة.
لكنّ “لائحة آداب المهنة” في بعض بنودها، وما تتضمّنه لوائح العمل بالمستشفيات في مصر تُخالف نصوص موادّ الدستور والقانون.
المادة 18 من الدستور المصريّ
“لكل مواطن الحق فى الصحة والرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة، ويُجرّم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة”.
ووفقاً لموادّ قانون العقوبات المصريّ، المادة 238، فإنه
في حال امتنع الطبيب عن إجراء عمليّة جراحيّة لمريض، وكانت هذه العمليّة خطيرة ويترتب على عدم إجرائها تهديد حياة المريض وحدوث الوفاة؛ يتحمّل الطبيب المسؤوليّة الجنائيّة، ويُعاقب بتهمة القتل بالترك أو الامتناع.
في محاولة لإثبات “التمييز” ضد “المريضات” في تقديم الخدمات الصحيّة بالمستشفيات المصريّة، الحكوميّة والخاصة، أجرت مُعدّة التحقيق استبياناً شمل عيّنة عشوائيّة قوامها 50 من الأطقم الطبية العاملة في تخصص النساء والتوليد بالمستشفيات المصريّة.
نتائج العيّنة كشفت أن 66 في المئة، ممَّن شملهم الاستبيان، أكّدوا رفضهم إجراء أيّ تدخل جراحيّ للمريضة، إذا كانت متزوجة ولم تحصل على إذن زوجها، أو للعزباء سواء بالغة أو قاصر من دون موافقة وليّ الأمر، أو فاقدة للأهليّة من دون موافقة وليّ الأمر. في حين أن 70 في المئة ممَّن شملهم الاستبيان، أكّدوا رفضهم إجراء أيّ عمليّات جراحيّة في الرحم والمبايض، من دون موافقة الزوج أو الأب أو وليّ الأمر على إجراء الجراحة.
ورفض 98 في المئة ممَّن شملهم الاستبيان إجراء حالات الجراحة النسائيّة، التي تنطوي على احتماليّة فقد العُذرية، من دون موافقة وليّ الأمر. في حين أكد 86 في المئة، ممَن شملهم الاستبيان، أن اللوائح الداخليّة للمستشفيات التي يعملون بها، تشترط الحصول على موافقة الزوج أو الأب أو أحد الأقارب الذكور من الدرجة الأولى، لإجراء جراحة في الجهاز التناسليّ (الرحم، أو المبيض، أو قناة فالوب، أو المهبل وغيرها).
وتعليقاً على نتائج هذا الاستبيان، يؤكد الرئيس السابق لمحكمة استئناف القاهرة، المستشار رمضان جمال، أن أيّ تدخل جراحيّ طبيّ سواء كان للرجال أو النساء، وفى أيّ جزء من الجسم، لا يتطلب سوى موافقة المريض نفسه طالما أنه راشد وحالته الصحيّة تسمح بذلك، مشدداً على عدم قانونيّة رفض الأطباء إجراءات جراحات النساء من دون موافقة الزوج.
ويضيف المستشار رمضان: “فإذا فرضنا أن هناك ورماً فى الرحم قد يُودي بحياة المريضة ولا بد من استئصال الرحم مع الورم، فالموافقة فى هذه الحالة تكون من المريضة، ولو رفض الزوج إجراء العمليّة، فرفضه لا يمنع من إجرائها؛ لأن المحافظة على حياة المريضة أولى من رضا الزوج”.
بلغ إجماليّ عدد المستشفيات في مصر ألفاً و809 مستشفيات، منها 664 مستشفى حكوميّ، وألف و145 مستشفى تابع للقطاع الخاص، بحسب آخر نشرة رعاية صحيّة، صادرة عن الجهاز المركزيّ للتعبئة العامة والإحصاء، في حزيران/يونيو 2023. في حين بلغ إجماليّ عدد المستشفيات والمراكز الطبيّة بالجامعات الحكوميّة نحو 115 مستشفى.
وبحسب سجلات نقابة الأطباء المصريّة، بلغ عدد الأطباء المسجلين بالنقابة، والمرخّص لهم مزاولة المهنة باستثناء المتقاعدين، 228 ألفاً و862 طبيباً، بزيادة قدرها 16 ألفاً و27 طبيباً، وذلك حتى آذار/مارس 2022.
وبلغ عدد الأطباء العاملين في القطاع الحكوميّ 93 ألفاً و536 ألف طبيب تقريباً، بنسبة تُقدّر بـ 40.8 في المئة، مقابل عدد الأطباء المرخّص لهم بمزاولة المهنة تحت سن المعاش.
وفي دراسة صادرة عام 2019، بالشراكة بين المجلس الأعلى للجامعات من أمانات المستشفيات الجامعيّة، والمكتب الفنيّ لوزارة الصحة، ومجموعة من الخبراء والمختصين، بشأن أوضاع مهنة الطب البشريّ واحتياجات سوق العمل من الأطباء البشريّين، بلغ عدد أطباء النساء والتوليد نحو ستة آلاف و749 طبيباً.
في حين بلغ عدد أطباء الجراحة العامة نحو ثلاثة آلاف و34 طبيباً، وأطباء المسالك البوليّة نحو 833 طبيباً.
“سُّلطة جسديّ” بيد الرجال
“في المستشفيات سواء كنتِ متزوجة أم لا، هذا الجزء ملكيش سلطة عليه”، تصف “بيري” معاناتها مع كيس دهنيّ على جدار المبيض، رفض الأطباء إزالته جراحيّاً إلا بموافقة أحد أقاربها الرجال.
صوت بيري
“بيري أحمد”، التي تعيش بمحافظة القاهرة، قررت إنهاء معاناتها بإجراء العمليّة الجراحيّة، فتوجّهت إلى مركز رابعة العدوية الصحيّ رفقة أختها الكبرى. تقول “بيري” إن الطبيب بمجرد أن علِم أنها عزباء، طلب منها موافقة كتابيّة من أحد أقاربها من الدرجة الأولى، بعد أن أخبرته بوفاة أبيها. تضيف “بيري” أن عمرها آنذاك كان قد تجاوز 21 عاماً، إلا أن الطبيب أصرّ على ضرورة وجود الموافقة. تقول “بيري”: “طلبت من أعمامي كتابة الموافقة، لكنّهم رفضوا رفضاً تاماً، وطلبوا مني الانتظار حتى أتزوج”.
ورغم “سهولة العمليّة”، فإن الطبيب برّر تمسّكه بوجود الموافقة الكتابيّة، تحسباً لحدوث أيّ طارئ في الرحم أو المبايض أو غشاء البكارة، أثناء استئصال الكيس الدهنيّ، الذي وصل حجمه نحو ستة سنتميترات، وفق “بيري”.
على مدار ثلاث سنوات، تناولت “بيري” حبوب منع الحمل، بتوصية من عمّتها طبيبة النساء، التي أكّدت لها أن الحبوب ستعمل على ذبول الكيس، ونزوله مع دم الدورة الشهرية، لكنّ هذا لم يحدث؛ حتى انفجر الكيس الدهنيّ، وكاد أن يتسبّب لها في تسمّم دمويّ.
مصلحة الشريكين في صالح الرجل
الرئيس السابق للجنة التحقيق بنقابة الأطباء، الدكتور طارق كامل، أرجع شرط الحصول على “موافقة كتابيّة” من الزوج، أو من وليّ أمر العزباء، قبل إجراء أيّ عمليّة جراحيّة لها تتعلق بالجهاز التناسليّ، إلى ضرورة موافقة الطرف الآخر (الزوج)، الذي قد يقع عليه ضرر، بعدم قدرة زوجته على الإنجاب بعد العمليّة؛ الأمر الذي قد لا يرغب فيه.
يقول الدكتور “كامل”:
“في المادة 30 من اللائحة، لا يجوز للطبيب إفشاء أسرار مريضه، التي اطّلع عليها بحكم مهنته؛ إلا في حالة وقوع ضرر جسيم يصيب الغير، وهو الزوج في هذه الحالة”.
لكنّ اللوائح الداخليّة للمستشفيات المصريّة، تتعارض مع قرار رئيس الجمهورية رقم 434 لسنة 1981، بشأن الموافقة على “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو)”، المُوقّعة فى كوبنهاغن عام 1980.
جاء في المادة الثانية عشرة من اتفاقية السيداو
“تتخذ الدول التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة ، في ميدان الرعاية الصحيّة من أجل أن تضمن لها،على أساس تساوي الرجل والمرأة، في الحصول على خدمات الرعاية الصحيّة، بما في ذلك الخدمات المتعلقة بتنظيم الأسرة”.
لفت انتباه مُعدّة التحقيق، ردّ الرئيس السابق للجنة التحقيق بنقابة الأطباء، الدكتور طارق كامل، بأن السبب في اشتراط الموافقة الكتابيّة للزوج قبل إجراء أيّ عمليّة جراحيّة بالجهاز التناسليّ للزوجة، هو إلحاق الضرر بالطرف الآخر (الزوج).
بدا منطقياً التأكُّد من أن مبدأ تجنب إلحاق “الضرر بالطرف الآخر”، يُطبّق في حال كانت الزوجة هي “المتضررة” من أيّ عمليّة جراحيّة يخضع لها الزوج.
لجأت مُعدّة التحقيق إلى إجراء استبيان ثانٍ، شمل عينة عشوائية قوامها 30 من الأطقم الطبية المتخصّصة في الجراحة العامة وأمراض الذّكورة.
لديك ذكر في غرفة العمليات يتطلب إجراء جراحة/ تداخلات طبية غير طارئة في الجهاز التناسلي والبولي (القضيب، الخصيتين ، البروستاتا وغيرها)، أي من الحالات تمتنع/ تمتنعين عن إجرائها:
نتائج العيّنة كشفت أن 66.7 في المئة، ممَّن شملهم الاستبيان من أطباء الجراحة العامة والذكورة، أكّدوا أن الرجل ليس في حاجة إلى موافقة زوجته قبل إجراء تدخل جراحيّ طارئ في الجهاز التناسليّ والبوليّ (القضيب، والخصيتين، والبروستاتا وغيرها) حتى مع احتمالية تأثيرها في قدرته الجنسيّة أو الإنجابيّة.
في حين أن 76.7 في المئة ممَّن شملهم الاستبيان أكّدوا أن اللوائح الداخليّة للمستشفيات لا تنص على الحصول على موافقة الزوجة لإجراء جراحة لزوجها في الجهاز التناسليّ أو البوليّ (القضيب، الخصيتين، البروستاتا وغيرها).
اختصاصي جراحة المسالك البولية بمستشفى الكلى والمسالك البولية بجامعة المنيا، الدكتور إسلام عيد، يقول إن المستشفى تطلب “إعلام الزوجة” بأي إجراء جراحي للزوج قد يؤثر في قدرته الجنسية؛ لكنّ إعلامها يكون بغرض المعرفة فقط، وليس للحصول على موافقة كتابية منها، فموافقة الزوج بنفسه على إجراء الجراحة كافية. وعلى الرغم ممّا قاله الدكتور عيد بشأن “إعلام الزوجة”، وأن موافقتها ليست شرطاً في إجراء أيّ عملية جراحيّة بالجهاز التناسلي لزوجها، فإن أطباء كُثر نفوا حتى مجرد “إعلام الزوجة”.
وتعليقاً على نتائج الاستبيان، وما أظهره من عدم تطبيق مبدأ “مصلحة الشريك الآخر” إذا كانت احتمالية وقوع الضرر تقع على الزوجة، أكّد رئيس منظمة الاتحاد المصريّ لحقوق الإنسان، المستشار نجيب جبرائيل، أنّ مصر تعيش في “مجتمع ذكوريّ، وثقافة قبليّة بدويّة تتغلل في نخاع الشعب المصريّ”، وفق تعبيره، مطالباً جمعيّات حقوق الإنسان والمجلس القومي للمرأة بالقيام بالدور المطلوب لتغيير هذه الثقافة.
ويضيف المستشار نجيب جبرائيل بالقول: “هذا التمييز بين الرجل والمرأة يتعارض مع المادة 53 من الدستور، التي تنص على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل”.
“رفضوا موافقة أمي”
حتى في عمليّات إزالة الأورام، تبقى القيود ذاتها على الأنثى، بصرف النظر عن المرحلة العمريّة أو الحالة الاجتماعيّة، أو حتى المخاطر الصحيّة المترتبة على تأخر التدخل الجراحيّ.
“لوما” كانت تعاني ورماً ليفيّاً في الرحم، وحين ذهبت إلى مستشفى الطلبة التابعة لجامعة القاهرة، رفض الأطباء إجراء عمليّة استئصال الورم، إلا بعد حصولهم على موافقة كتابيّة من وليّ أمرها.
تقول “لوما”: “قبل البدء في إجراءات العملية، طلب مني الأطباء بالمستشفى موافقة كتابيّة من أحد أقاربي الرجال من الدرجة الأولى، تحسباً لحدوث مضاعفات أو وفاة”.
رفضت إدارة المستشفى أن تكتب والدتها الموافقة الطبيّة، واشترطت أن يكتبها أحد أقاربها الرجال من الدرجة الأولى؛ سواء والدها أو عمّها أو أخوها، رغم أن عمر “لوما” وقتها قد تخطى 21 عاماً.
صوت لوما
رئيس اللجنة الصحيّة بمجلس النواب، ووزير الصحة السابق، الدكتور أشرف حاتم، يقول إن الطبيب بهذا الفعل يحمي نفسه: “لو الست بعد استئصال الرحم قالت لم أكن أعرف، سيُسجن الطبيب؛ فلائحة مزاولة المهنة من شروطها أن تكون هناك موافقة مستنيرة من المريض، أو المسؤول عنه، وإذا كان قانون المسؤولية الطبيّة قد منع حبس الطبيب، إلا أنه سيدفع غرامة قد تصل إلى مليون جنيه”.
المادة السادسة من “قانون المسؤوليّة الطبيّة”، المُتعثر حتى الآن في البرلمان المصريّ، تنصّ على
“في ما عدا الحالات الطارئة التي تستلزم التدخل العلاجيّ الفوريّ لإنقاذ حياة المريض أو الجنين، لا يجوز إجراء تدخل طبيّ أو علاجيّ من دون أخذ موافقة كتابيّة من المريض، إن كان كامل الأهلية أو من أحد أقاربه حتى الدرجة الرابعة، إن كان ناقص الأهلية أو تعذّر الحصول على موافقته، وذلك لإجراء العمليّة الجراحيّة أو أيّة عملية تستدعي تخدير المريض، وبعد تبصيره ويعتبر أهلاً للموافقة كل من أتمّ ثمانيّ عشرة سنة وإبلاغ متلقي الخدمة أو ذويه بالخيارات العلاجيّة المتاحة أو بالمضاعفات التي قد تنجم عن التشخيص أو العلاج الطبيّ أو الجراحيّ قبل تطبيقه”.
عُرف تحوّل إلى قاعدة
مديرة مشروع “الناصح”، سارة الشافعي، (مشروع هدفه توعية المواطنين بالحق في الصحة ومساعدتهم في الوصول إلى التغطية الصحية المستحقة)، تقول إنه لا يوجد قانون واضح ومُعلن يشترط ضرورة حصول السيدات أو الفتيات على موافقة أزواجهن أو وليّ أمرهن، قبل إجراء العمليّات الجراحيّة في الرحم؛ بل هي نظام مُستقر داخل المستشفيات فقط.
وتضيف “الشافعي” بالقول: “المستشفيات في مصر لديها عُرف بضرورة الحصول على هذه الموافقات، ومع الوقت تحول هذا العُرف إلى قاعدة داخليّة تنظيميّة في المؤسّسات الصحيّة، والطبيب يتبع نظام المستشفى التي يعمل بها”.
وتشير مديرة مشروع “الناصح”، سارة الشافعي، إلى أن وجود هذه الإجراءات “غير الدستورية” يرجع إلى خوف الأطباء على أنفسهم؛ لعدم وجود قوانين تحميهم، فأصبح كل كيان يبحث عن نظام خاص يحميه، مع تعثر قانون المسؤوليّة الطبيّة حتى الآن داخل البرلمان.
“وفق القانون المصري، فإن الطبيب الذي يعمل بالمستشفى العام هو موظف عموميّ مكلف بأداء خدمة عامة؛ تُحدّد هذه الخدمة بمقتضى اللوائح المُنظِّمة لنشاط المرفق الصحيّ العام الذي يُديره المستشفى، فالعلاقة بين الطبيب والمريض تحكمها القوانين واللوائح التي تُنظِّم العمل بالمستشفى”، وفق ما ورد في كتاب مسؤولية الأطباء والجراحين المدنيّة، لرئيس محكمة استئناف القاهرة السابق، المستشار رمضان جمال كامل.
موافقة الابن أنقذتها
إيمان محمود (اسم مستعار)، تسكن بمنطقة عين شمس بمحافظة القاهرة، شخّص الأطباء حالتها بسرطان الثدي، ومع استكمال بروتوكول علاجها الهرمونيّ، أصبحت سماكة الرحم لديها أكثر من المعتاد؛ ما تسبّب في نزيف يتطلب ضرورة التدخل الجراحيّ لكحت الرحم، وأخذ عينة للتأكّد من عدم وصول السرطان إليه.
رافق “إيمان” لمستشفى الدمرداش، التابعة لجامعة عين شمس، أبناؤها الثلاثة، لعدم اهتمام زوجها بالذهاب معها في مثل هذه الإجراءات، وفق قولها. لكنّ الطبيب رفض إجراء التدخل الجراحيّ إلا بعد مجيء زوجها، لكتابة إقرار الموافقة على العمليّة.
صوت إيمان (تمّ تعديل الصوت مراعاة لخصوصية الحالة)
تقول “إيمان”: “حدثت مشادّة كلاميّة بين أبنائي والطبيب، الذي أصرّ على وجود زوجيّ لكتابة الموافقة، وبعد إخباره (مضطرين) بسفره خارج البلاد، وافق أخيراً على إجراء الجراحة، بعد أن وقّع ابني، ذو الـ 23 عاماً، الإقرار”.
وتضيف”إيمان” متعجبة: “إذا لم يكن معي حينها رجل، ما كان للعمليّة أن تتمّ”.
ووفقاً لرئيس اللجنة الصحيّة بمجلس النواب، ووزير الصحة السابق، الدكتور أشرف حاتم، فإنه في حالة الطوارئ الصحيّة مثل النزيف، وإذا كانت الحالة تتطلب تدخلاً جراحيّاً، فلا يشترط وجود موافقة الزوج أو وليّ الأمر، وهذا ما لم يتمّ في حالة “إيمان”، بحسب شهادتها.
الرئيس السابق لمحكمة استئناف القاهرة، المستشار رمضان جمال، يؤكد أن أيّ تدخل جراحيّ طبيّ سواء كان للرجال أو النساء، وفى أيّ جزء من الجسم، لا يتطلب سوى موافقة المريض نفسه طالما أنه راشد وحالته الصحيّة تسمح بذلك، مشدداً على عدم قانونيّة رفض الأطباء إجراءات جراحات النساء من دون موافقة الزوج.
لا وصاية على جسد المرأة
المدير التنفيذي لمركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونيّة، رضا الدنبوقي، يؤكّد عدم وجود ما يسمى بـ “إذن الزوج لإجراء جراحة بالرحم أو المبيض للزوجة” في حالة الضرورة الطبيّة أو غيرها؛ لا في قانون الأحوال الشخصيّة ولا الدستور المصريّ، “فجسد المرأة ملك لها، ولها كامل الحرية في التصرف فيه، ولا يملك أحد وصاية عليه”، وفق الدنبوقي.
ويشير الدنبوقي إلى أن الإجراء الذي تعتمده المستشفيات المصريّة، هو اجتهاد من الأطباء، “لتجنب الوقوع في مخالفة قانونية”، ظناً منهم أن الزوج يملك حق الوصاية الجسدية على زوجته. وبحسب الدنبوقي، فإن الزوج لا يملك الحق في إقامة أيّ دعوة بهذا الشأن، وإنما مَن يملك هذا الحق، هو وليّ أمر القاصر، في حال خضعت لإجراء جراحة طبيّة غير ضروريّة من دون موافقته، وإذا ترتّب على إجرائها تهديد لحياة القاصر.
الإجهاض فقط بإذن الزوج
نقيب أطباء القاهرة، الدكتورة شرين غالب، تقول إن “الإجهاض لأسباب طبيّة” هو الحالة الوحيدة التي يجب فيها الحصول على إذن الزوج قبل إجرائها، وفق القانون المصريّ. وتشير إلى أن أىّ إجراء طبيّ آخر في الرحم، يكفي موافقة الزوجة أو أيّ سيدة تجاوزت 21 عاماً، مضيفة أن أيّ مطالبات بالحصول على موافقة وليّها غير قانونيّة.
وعن إمكانيّة مساءلة المستشفيات التي امتنعت عن إجراء التدخلات الجراحيّة للسيدات من دون موافقة أزواجهن، تقول دكتورة شرين غالب: “لا تستطيع السيدات القيام بأيّ إجراء قانونيّ ضد المستشفى، طالما كانت حالتها غير طارئة، فالمستشفى ليس مجبراً على استقبالها، كما أنها لا تستطيع إثبات ذلك، في حين يستطيع المستشفى ادّعاء إثارتها للمشكلات”.
ولأن الأطباء يستندون في شرط الحصول على موافقة وليّ الأمر، قبل إجراء أيّ عمليّة جراحيّة بالجهاز التناسليّ للمرأة، إلى بنود لائحة آداب المهنة، الصادرة بقرار رقم 238 لسنة 2003 والسارية حتى الآن، توجّهنا إلى النقابة العامة للأطباء، المنوط بها إصدار اللوائح المُنظِّمة لعمل الأطباء.
أمين صندوق النقابة العامة للأطباء، الدكتور أبو بكر القاضي، نفى أن تكون لوائح عمل الأطباء في مصر تُميّز بين النساء والرجال، وأرجع رفض الأطباء إجراء الجراحات التناسليّة للمريضات إلا بإذن أزواجهن أو وليّ أمرهن، إلى صعوبة هذه العمليّات وتعددها، والمخاطر المترتبة عليها، مشيراً إلى أن إذن الزوج أو وليّ الأمر، يُعدّ جزءاً من “الموافقة المستنيرة” التي تُطبّقها كل دول العالم.
ونفى أمين صندوق النقابة العامة للأطباء، وجود تأثير سلبي لجراحات الجهاز التناسلي للرجال في القدرة على الإنجاب، مؤكداً أنها تساعد في تعزيزها، مثل عملية دوالي الخصية، وفق قوله.
ويضيف الدكتور أبو بكر القاضي: “طبيعة المجتمع المصريّ تدفع الطبيب لحماية نفسه من أهل المريض، وفي حالة إجراء أيّ جراحة لسيدة في الجهاز التناسليّ، فمن الممكن إذا لم يحصل الطبيب على موافقة الزوج أن يُقاضى الطبيب، وفي المقابل لن تقاضي السيدة الطبيب؛ لعدم علمها بخضوع زوجها لعملية جراحيّة في الجهاز التناسليّ”.
ومن خلال الحالات التي وثّقها التحقيق، وما تبيّن من اشتراط المستشفيات الخاصة، في الحصول على موافقة كتابيّة من وليّ الأمر، قبل إجراء أيّ تدخل جراحيّ في الرحم أو المبيض، وذلك بالمخالفة للقانون الذي يرفض التمييز على أساس النوع في تقديم الرعاية الصحيّة، تواصلت مُعدّة التحقيق مع الدكتور أحمد عبد الصادق، أخصائي النساء والتوليد، وصاحب أحد المراكز الطبيّة بمحافظة المنوفية، للرد على ما توصل إليه التحقيق، والذي برّر رفض المراكز الطبيّة الخاصة، إجراء جراحات المريضات من دون إذن الزوج أو وليّ الأمر، إلى حماية الطبيب من المريض وأهله، وفق تعبيره.
ويضيف الدكتور أحمد عبد الصادق، صاحب أحد المراكز الطبيّة بالمنوفية: “القانون يُلزمني بإخبار الزوج بأىّ إجراء جراحيّ لزوجته في الجهاز التناسليّ، فهو حق أصيل للزوج؛ لأن هذه الجراحات قد تؤثر في خصوبة المرأة، لكن لا يوجد أيّ تدخل جراحيّ للرجل قد يؤثر في خصوبته، إلا عملية الربط ولا يوجد رجل يفكر في إجرائها، وبالتالي فهو ليس في حاجة إلى موافقة زوجته”.
وأكد الدكتور عبد الصادق، أنه قبل دخول أيّ مريضة المركز الطبيّ لإجراء أيّ جراحة، تحصل على تذكرة دخول بها التفاصيل كافة عن الحالة، ولا بدّ من موافقتها ووليّ أمرها حتى يكون شاهداً على علمها بالإجراء الطبيّ ومخاطره؛ وفي ذلك حماية للطبيب والمركز الطبيّ، وللمريض نفسه أيضاً من الأطباء عديمي الضمير، وفق تعبيره.
لكنّ اللافت كان ردّ وزارة الصحة المصريّة على ما توصل إليه التحقيق من نتائج. المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة المصريّة، الدكتور حسام عبد الغفار، نفى صدور أىّ مستند رسميّ أو لائحة من الوزارة بهذه الإجراءات، قائلاً: “لاتوجد لوائح داخليّة خاصة بكل مستشفى على حدة، فجميع المستشفيات التابعة لوزارة الصحة المصريّة، صادرة بقرار من وزير الصحة، ولا يوجد أيّ مستند رسميّ يثبت وجود لوائح تمنع إجراء جراحات النساء بدون موافقة الزوج”.
وأضاف المتحدث باسم وزارة الصحة: “كل ما يقال عن رفض المستشفيات المصريّة إجراء أيّ جراحات للنساء بدون إذن الزوج، أو وجود تمييز في تقديم الرعاية الصحيّة بين النساء والرجال هو مجرد أقاويل”.
وعلى الرغم من مواجهة المتحدث الرسميّ باسم وزارة الصحة المصريّة، بما توصل إليه التحقيق من نتائج قائمة على استبيانيْن وشهادات مرضى وأطباء، تُقِر بوجود تمييز بين الرجال والنساء في تقديم الخدمة الصحيّة، داخل مستشفيات حكوميّة وخاصة، ظل المتحدث الرسميّ باسم وزارة الصحة متمسكاً بنفيه القاطع لاشتراط المستشفيات الحصول موافقة وليّ الأمر، قبل إجراء أيّ جراحات في الرحم أو المبيض.