معاناة مرضى متلازمة ما بعد كورونا في الدول العربية
في تموز/ يوليو 2021 وبعد مرور أكثر من عام على جائحة كوفيد-19 التي أدخلت غالبية دول العالم في حجر صحي إلزامي، كانت ليلى لا تزال تستمتع بكامل نشاطها. تصحو في السادسة صباحاً تتناول قهوتها وتغادر متحمسة إلى الجامعة حيث تعمل. وبعد انتهاء دوامها، تعود إلى منزلها لتناول وجبة الغداء مع أسرتها المكونة من زوج وثلاثة أبناء، وتعاود الاجتماع معهم في المساء للحديث عن تفاصيل يومها.
بين ليلة وضحاها، فقدت السيدة الخمسينية التونسية “لذة هذه الحياة الروتينية العادية”، عقب إصابة “مريرة” بكوفيد-19 أُدخلت على إثرها العناية المركزة لمدة أسبوعين، وتكهّن أطباء بأنها “لن تنجو” نظراً لـ”ضعف رئتيها وانخفاض نسبة الأكسجين في الجسم”. بعد شهر ونصف الشهر في المستشفى، نصف المدة أمضتها في غرفة العناية المركزة موصولة إلى أجهزة التنفس الاصطناعي، تحسنت حالة ليلى وعادت إلى منزلها. لكنها لم تكن تعلم أن “معاناتها لم تنته”.
لأسابيع عقب مغادرة المستشفى، لم تكن ليلى (فضلت عدم ذكر اسم عائلتها)، تستطيع الوقوف على قدميها لفترة طويلة، أو المشي من دون مساعدة أحد أبنائها. وعانت لأشهر من ضيق تنفس وعدم اتزان وصداع شديد وآلام في المفاصل. خصوصا أنّها كانت تعاني من حساسية ومشاكل بالرئة وضيق تنفس قبل إصابتها بكورونا. واضطرت لأخذ إجازة من العمل خمسة أشهر، بسبب عجزها عن القيام بأبسط أمور الحياة.
“صار بإمكاني في الخطوة الأولى الجلوس على السرير بمفردي. ثم في الثانية استطعت الوقوف لكن لثوانٍ لتخذلني ساقاي ولا أستطيع الوقوف طيلة شهر من دون الاتكاء على الحائط أو الاستناد على شخص يساعدني على المشي. خطواتي ثقيلة جداً ولا أشعر حتى بقدميّ وهما على الأرض”، تقول وهي تسترجع ذكريات هذه التجربة العصيبة.
في ظل استمرار معاناتها، توجهت إلى طبيب خاص والذي شخّص إصابتها بـ”متلازمة ما بعد كورونا”. والمعروفة أيضا باسم “كوفيد طويل الأمد” (بالإنجليزيّة Post-COVID syndrome أو Long COVID) وهي حالة مرضية تعرفها منظمة الصحّة العالميّة على أنّها “مجموعة الأعراض طويلة الأجل التي يعاني منها بعض الأفراد بعد إصابتهم بكوفيد-19″، و التي تتطور بعد شفائهم من الفيروس. ويمكن لهذه الأعراض أن “تظهر وتختفي ثم تعاود الظهور بمرور الوقت”. كما يمكن أن “تؤثّر على قدرة الشخص على القيام بأنشطة يوميّة مثل العمل أو الشؤون المنزليّة”.
في ظل استمرار معاناتها، توجهت إلى طبيب خاص والذي شخّص إصابتها بـ”متلازمة ما بعد كورونا”. والمعروفة أيضا باسم “كوفيد طويل الأمد” (بالإنجليزيّة Post-COVID syndrome أو Long COVID) وهي حالة مرضية تعرفها منظمة الصحّة العالميّة على أنّها “مجموعة الأعراض طويلة الأجل التي يعاني منها بعض الأفراد بعد إصابتهم بكوفيد-19″، و التي تتطور بعد شفائهم من الفيروس. ويمكن لهذه الأعراض أن “تظهر وتختفي ثم تعاود الظهور بمرور الوقت”. كما يمكن أن “تؤثّر على قدرة الشخص على القيام بأنشطة يوميّة مثل العمل أو الشؤون المنزليّة”.
أعراض كثيرة ومعلومات محدودة
حدّدت الدراسات العلميّة أكثر من 200 عَرضْ للمتلازمة، وأكثرها شيوعاً هي صعوبات التنفس، والسعال المستمر، وتشوّه أو فقدان حاسّة الشم والتذوق، والإعياء الشديد، وألم في الصدر، ومشاكل الذاكرة والإدراك، والاكتئاب والقلق، وآلام المفاصل والعضلات.
إضافة إلى وجود أعراض أخرى منها اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بحسب مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في أميركا (CDC)، أو تساقط الشعر، بحسب دراسة نشرتها مجلة “Nature” العلميّة، أو مشاكل الكلى المزمنة، بحسب دراسة مجلة الجمعيّة الأمريكيّة لأمراض الكلى.
إلى ذلك، وبرغم الجهود البحثية الحثيثة التي تحاول رصد طبيعة المتلازمة، إلا أنها ما تزال غير قادرة على الإجابة عن أسئلة رئيسية تتعلق بأسباب الإصابة ومدّتها وطرق العلاج وإمكانية ظهور أعراض جديدة. وبحسب بعض الدراسات فهي تُصيب حتّى 30 في المئة من الأشخاص الذين أصيبوا بكوفيد-19. كما أنّ اللقاحات ضد كوفيد-19 لا تمنعها، لكنها تقلّل فرص الإصابة بها، بحسب دراسات عدّة، منها دراسة لوكالة الأمن الصحي البريطانيّة.
خط زمني لإكتشاف متلازمة ما بعد كورونا
لماذا أجرينا هذا التحقيق؟
تتقاطع حالة ليلى مع مرضى كثيرين يعانون آثاراً طويلة الأمد بعد التعافي من كورونا. العمل على هذا التحقيق سعى لكشف حجم معاناة مرضى متلازمة ما بعد كورونا في الدول العربية، ومعرفة دور الجهات الرسميّة في دعم المرضى، ورصد أي معلومات ودراسات وإحصائيات رسميّة عنهم في مصر وتونس ولبنان وفلسطين.
حتى الآن، قتل كوفيد-19 نحو 6.5 مليون شخص وأصاب أكثر من 600 مليون. وبحلول 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، سُجلت نحو 700 ألف حالة إصابة بكورونا في فلسطين (الضفة الغربيّة وقطاع غزّة والقدس الشرقيّة)، وأكثر من 1.2 مليون حالة في لبنان، وأكثر من 1.145 مليون حالة في تونس، وما يربو عن نصف مليون إصابة في مصر، وفق الرصد اليومي لمنظمة الصحّة العالميّة.
د. أمجد الخولي، استشاري الأوبئة في منظّمة الصحّة العالميّة، عبّر عن أسفه لعدم وجود “أرقام دقيقة” عن أعداد مصابي متلازمة ما بعد كورونا في الدول العربيّة، لافتًا إلى قلة الأبحاث والدّراسات حول المتلازمة حتى الآن نظرًا لحداثة المرض ومحدوديّة المعلومات المتاحة عنه وانشغال دول العالم في مواجهة الجائحة. ويضيف الخولي أن “هذا الموضوع، حتى الآن، لا يحظى باهتمام سواء حكومي أو شعبي”، مؤكدًا أنّ النزاعات والاضّطرابات الأمنيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة في بعض دول المنطقة أثّرا سلباً على الحالة الصحيّة فيها.
ودعا رئيس منظمة الصحة العالميّة تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، في مقابلة مع صحيفة “الغارديان” -نُشرت في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2022-، الحكومات إلى اتخاذ إجراءات “فورية ومستدامة” لمعالجة الأزمة “الخطيرة للغاية” التي يسببها كوفيد طويل الأمد الذي “يدمّر “حياة وسبل عيش عشرات الملايين من الأشخاص، ويعيث فساداً في النظم والاقتصادات الصحية حول العالم”.
من جهته، يؤكد مدير العناية الطبية في وزارة الصحة اللبنانية، د. جوزيف الحلو، أن الوزارة لم ترصد أعداد المصابين بمتلازمة ما بعد كورونا في البلاد، فيما يُرجح رئيس اللجنة العلمية اللبنانية لإدارة ملف لقاح كورونا، د. عبد الرحمن البزري، أن “عددهم غير قليل”.
في الأثناء، يقول المتحدث باسم وزارة الصحة المصرية، د. حسام عبد الغفار، إن نسب الإصابة بمتلازمة ما بعد كورونا في مصر لا تزيد عن 0.5 في المئة من إجمالي مرضى كورونا الذين عانوا أعراضاً شديدة. علمًا أنه “لا يبدو أن هناك علاقة بين شدة أعراض عدوى كوفيد-19 الأولية واحتمال الإصابة بحالة ما بعد كوفيد-19″، وفق منظمة الصحة العالمية.
في تونس، تواصلنا مع أكثر من مسؤول في وزارة الصحة ولجنة مجابهة فيروس كورونا. وإلى حين نشر التحقيق لم نحصل على إجابة حول عدد المصابين بمتلازمة كوفيد.
في ظل غياب الاحصائيّات الرسميّة، أجرينا استبياناً في مصر وتونس وفلسطين ولبنان، لرصد حالات وتجارب مع المرض. أظهرت النتائج أن نحو ثلث المُستطلعين لا يعرفون ما هو “كوفيد طويل الأمد” برغم أن الكثير من استمارات الاستبيان نُشرت في مجموعات على مواقع التواصل تتعلق بمرض كورونا وآثاره.
وقال 69 في المئة من المستطلعين في الاستبيان إنهم لم يشخّصوا بمتلازمة ما بعد كورونا عن طريق طبيب، وإنما تمكنوا من توصيف إصابتهم عبر البحث الذاتي على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومشاركة التجارب مع مرضى آخرين بالمتلازمة. علماً أن الخولي يقول إن منظّمة الصحة العالمية تقدّم “الدّعم التقني” لجميع دول شرق المتوسط، من خلال المكتب الإقليمي الذي تتبعه 19 دولة عربية من بينها الدول الأربع محل التحقيق، بما يشمل تعريف الحالة المرضية وتدريب الكوادر الطبيّة على تشخيصها، وتوفير الأدلة الإرشاديّة للعلاج، ومتابعة الأبحاث والدّراسات، وأحياناً الدعم المادي.
يقر سامر الأسعد، مدير الطب الوقائي في الرعاية الصحية الأولية بوزارة الصحة الفلسطينية – رام الله، بأن “منظمة الصحة العالمية شريك دائم لنا في فلسطين في تقديم خدمات والدعم، على صعيد الإمكانيات وأجهزة الفحوصات والأجهزة المخبرية”.
وتقول وزارة الصحة المصرية، في تصريحات لـ”أريج”، إن “دعم منظمة الصحة العالمية في هذا الجانب تحديدًا اقتصر على الدعم الفني”. كما تشير إلى وجود “موازنة مخصصة من خلال وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لإجراء الدراسات البحثية والتخصصية” حول المرض من دون تقديم تفاصيل إضافية.
أخبرنا جوزيف الحلو أن وزارة الصحة اللبنانية لم تتلق أية مساعدات من قبل منظمة الصحة العالمية لعلاج مرضى كوفيد طويل الأمد، في حين أن مساعدات المنظمة كانت مخصصة لمواجهة وباء كورونا. لكنه أشار إلى أن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد أثرت إلى حد كبير على القطاع الطبي. كما ألقى باللوم على المرضى في لبنان ووصفهم بأنهم “مستهترون”، محملًا إياهم “نقص الوعي” لعدم الإبلاغ عن إصابتهم بالأعراض الممتدة بعد التعافي من كورونا.
Unsplash It – https://unsplash.it/
جسدي ما قبل كورونا ليس كما بعده
برغم تشخيصها بالمتلازمة منذ ثمانية أشهر، لم تتحسن ليلى إذ ما زالت تتردد على أربعة أطباء في تخصصات مختلفة لعلاج مياه بالرئة وآلام المفاصل والصداع المزمن واضطراب الشم. تقول: “حتى بعد عودتي للعمل، لم أكن بنفس نشاطي المعتاد. الصعود على الدرج يتعبني كثيراً، والحديث مطولاً خلال الشرح يرهقني. لكن لم أستطع الحصول على إجازات أخرى من العمل تفادياً لتعطيل سير الدروس. كنت أنهي يومي بصداع شديد يلازمني ساعات طويلة. الصداع لا يتركني منذ أصبت بفيروس كورونا”.
تقول الدكتورة عواطف الدريدي، أخصائية في الحساسية والأمراض الصدرية، إنّ ليلى تعاني منذ البداية من حساسية وأمراض مزمنة في الرئة وتحديدا توسع القصبات الهوائية وضيق تنفس قبل إصابتها بكورونا. وبطبيعة الحال بحكم حالتها الصحية فإن كورونا تؤثر عليها أكثر. كما تستعمل ليلى أدوية أمراض تنفسية قبل إصابتها بكورونا. وظلت تستعملها بعناية بعد الإصابة التي خلّفت لها كحة مطولة أكثر من العادة، لكنها تحسنت عما قبل المقابلة الأخيرة معها في كانون الثاني/ يناير الماضي.
وتضيف الدكتورة أنّها بحكم مباشرتها لحالات أصيبت بالفيروس فإنّه يوجد مرضى تسببت لهم كورونا في جفاف الرئتين، وظلو يستعملون الأكسجين لفترة. والعديد منهم شفوا نهائيا بعد فترة من استعمال الأدوية. كما لدى بعض المرضى وعي بما يعنيه long covid.
تتكرر معاناة ليلى مع آخرين في مصر. تُخبرنا ولاء إبراهيم (اسم مستعار لاعتبارات شخصيّة لدى الحالة) عن رحلة مع “التشخيص الخاطئ” منذ إصابتها بكورونا. تقول إنّ أعراض الإصابة في حزيران/ يونيو 2021 كانت قويّة، بينها الصداع الشديد وانخفاض ضغط الدم وعدم الاتّزان وتنميل في الرأس واليدين والساقين، ولم يدرك أي طبيب أنها مصابة بكوفيد-19 أو يطلب مسحة للتحقق منها.
بعد شهرين تقريباً من إصابتها، تكرّرت نفس الأعراض لكن بدرجة أشد. عقب التنقل بين عدد من الأطباء في تخصّصات مختلفة، رجّحت غالبية الأطباء أنها تعاني “حالة نفسيّة”. ذهبت الشابة (25 عاماً)، إلى طبيبة نفسيّة بالفعل والتي نفت ذلك، وقالت إن ولاء مصابة بالتهاب في الأعصاب.
استمرت ولاء في التردد على مزيد من الأطباء ولم تجد إلا تشخيص “حالة نفسيّة”، ما جعلها تشك في نفسها وتصاب بحالة من التخبّط إزاء ما تمرّ به. بلغ عدد الأطباء الذين زارتهم ثمانية، وأنفقت نحو 50 ألف جنيه ( نحو ألفي دولار) للعلاج.
بعد أربعة أشهر، شخّص طبيب مختص في المخ والأعصاب إصابتها بمتلازمة ما بعد كورونا، ووصف لها مجموعة من “الفيتامينات” وأخبرها أنها ستتحسن في غضون ثلاثة أشهر. لم تتحسن ولاء وشعرت بإحباط قررت على إثره ألا تذهب لطبيب مرة أخرى، وبقيت حبيسة المنزل مع هاجس دائم بـ”دنو الأجل” والإصابة بمرض عضال. “نفسي أرجع لحياتي الطبيعية أنا حتى مبعرفش أنزل أشم هوا”.
في لبنان، أدرك إبراهيم عبد (32 عاماً) إصابته بكوفيد طويل الأمد بـ”جهده الشخصي” بعدما بحث طويلاً عن أسباب استمرار فقدان حاسّتي الشمّ والتّذوق والإحساس بالإرهاق والتّعب، حتّى توصّل إلى مقالات تتحدث عن استمرار أعراض كوفيد بعد التعافي. “يمكنني الجزم أن جسدي ما قبل كورونا ليس كما بعده، تغير كثيراً”.
نظراً للظروف الاقتصاديّة في لبنان، قلّصت شركات التأمين خدماتها الصّحية، وهو ما أكده إبراهيم الذي اضّطر لدفع تكاليف معظم الفحوص الطبيّة التي أجراها. وتشوّهت حاسة الشم لديه (الهلوسة الشمّيّة أو ما يعرف بالباروسميا)، وهي حالة يشم فيها المريض روائح كريهة وغير حقيقيّة. وتنسحب هذه الحالة عادة على حاسة التذوق، وتجعل المصابين غير قادرين على تناول أصناف مختلفة من الطعام.
من هؤلاء أيضاً الفلسطينية ديالا حلايقة (38 عاماً من مدينة الخليل) التي دفعها “ضعف الثقة” بالكوادر الطبيّة إلى “البحث الذاتي” عن تشخيص عبر الإنترنت ونصائح شقيقها الطبيب المقيم في ألمانيا.
“لم أشعر أنّي حصلت على مساعدة من مؤسسات حكوميّة، فلم تتوفر هناك معلومات حول متلازمة كوفيد”. تقول حلايقة التي أصيبت بكورونا في شباط/ فبراير 2021، إنّها تعاني حتّى اليوم من تشوه حاسّتي الشمّ والتذوق، الأمر الذي أفقدها الرّغبة في تناول العديد من الأطعمة، بالإضافة إلى معاناة الأرق. تُضيف “أنها كانت تتوجه إلى الصيدليّة وليس لطبيب، لأخذ وصفات علاجيّة من هناك مثل بخاخة الأنف التي لم تساعد حالتها الصحيّة على التّحسن.
ويقول الطبيب الفلسطيني أحمد البرغوثي، من مستوصف الرحمة بنابلس، إنّه لا يوجد في مستشفيات الضّفة الغربيّة أي أقسام متخصّصة لعلاج مرضى المتلازمة. علماً أن قانون الصحّة العامّة الفلسطيني، يقول إن “واجب وزارة الصحّة وبالتنسيق مع الجهات المختصة مكافحة الأمراض المعدية وغير المعدية والوراثية بالوسائل كافة”.
يؤكد سامر الأسعد، من وزارة الصحة برام الله، ما تقوله حلايقة والبرغوثي، إذ يعتبر أن أهم المعوقات في فلسطين هي تشخيص المرضى بكوفيد-19 بوجه عام، وبالتالي متلازمة ما بعد كورونا. ويشرح أن الكثير من الأشخاص لا يفضلون تشخيص إصابتهم بالفيروس رسمياً نظراً للوصمة التي ارتبطت بالمرض في بداية ظهوره وطبيعته المعدية، لذا يفضلون العلاج في المنزل أو مشافي خاصة. علاوة على آلاف العمال الذين يخشون فقدان تصاريح العمل داخل أراضي الـ48.
للتغلب على ذلك، أعدت الوزارة الفلسطينية برنامجاً صحياً تثقيفاً وتوعويًا للمواطنين والمصابين، ووفرت العلاج المجاني ومعدات الأوكسجين البيتية، بحسب الأسعد.
تقول رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحّة اللبنانيّة، عاتكة برّي، إنّه لا يوجد أقسام خاصة لعلاج مرضى المتلازمة في المستشفيات بالبلاد، أو برامج حكوميّة للتوعية والعلاج. كما يقول جوزيف الحلو إن ثمة مقترح لإنشاء عيادات لعلاج مرضى متلازمة ما بعد كورونا، لكن المقترح لم يجد التمويل.
في غضون ذلك، ينبه عبد الرحمن البزري إلى وجود أقسام خاصة لعلاج مرضى المتلازمة في بعض المستشفيات الخاصة بلبنان ومنها مستشفى الجامعة الأميركي ببيروت، مشدداً على أن “هذا لا يعني أن المستشفيات الرسمية لا يوجد لديها أطباء يتعاملون مع مرضى كوفيد طويل الأمد”.
وتنص المادة الثالثة من قانون “الأمراض المعدية في لبنان” لعام 1958، على مكافحة الأمراض الانتقالية بعدة طرق بينها التثقيف الصحي العام، فيما يقر قانون رقم (574) الخاص بـ”حقوق المرضى والموافقة المستنيرة” لعام 2004 بمادته الأولى بالحق في العناية الطبية، بما يشمل “الوقاية، أو العلاج، أو العلاج الملطف، أو التأهيل، أو التثقيف”.
أمّا في مصر، فقد استُحدثت قبل أشهر “عيادات علاج ما بعد كورونا” في مستشفيات الجامعات الحكوميّة. تقول وزارة الصحة المصرية إنها توفر الخدمة عبر هذه العيادات “مجاناً” عبر “فريق متعدد التخصصات، ويكون التدريب لجميع الفرق الطبية لرفع قدرتهم على التعرف على المرض وآليات وأماكن الإحالة التخصصية”.
قمنا بزيارة إلى العيادات الحكومية المستحدثة في قصر العيني الفرنساوي، ولاحظنا ضعف الإقبال عليها، وغياب المعرفة بها حتى بين العاملين في المستشفى، وعدم وجود لافتة خارج العيادة تحمل اسم “عيادة ما بعد كورونا”. اقتصر الأمر على تخصيص مكتب في الدور الثالث المخصص للعيادات المتخصصة. لاحظنا أيضاً ارتفاع ثمن الكشف بها (205 جنيه ما يعادل 11 دولارا). وتكفل المادة (18) من الدستور المصري “لكل مواطن الحق فى الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة”، كما تجرّم “الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة”.
مرضى يواجهون “عدم تفهم” ومضايقات
منذ بداية رحلتها مع آلام “متلازمة ما بعد كورونا”، وجدت ليلى احتضاناً ورعاية من عائلتها وزملائها، وهو ما تعتقد أنه ساهم في تحسن حالتها النفسية ومواصلة العمل مغالبة أي إرهاق أو إعياء تشعر به. على النقيض، يفقتد مرضى آخرون كثر هذا التفهم، منهم الشّابة اللبنانية ساريا داوود (27 عاماً) التي تخبرنا عن تعرضها لتنمّر بسبب المتلازمة التي أثرت على تركيزها وذاكرتها، لدرجة أنها تواجه صعوبة في إنجاز مهامها اليومية.
تقول ساريا إن ذلك يعرّضها للإحراج والاستهزاء من قبل المحيطين، مستدركةً “لقد سجلت في معهد للغات وعندما تسألني المعلمة أي سؤال فإني لا أستطيع تذكر الجواب، وبعد فترة أتذكر الجواب، ما يجعل المعلمة وزملائي في الصف يضحكون عليّ، وهذا يعرضني لإحراج كبير”.
في استبياننا، قال 48.6 ،في المئة إنهم واجهوا عدم تفهم من المجتمع بوجه عام، فيما قال 11.7 في المئة، إنهم تعرّضوا لتنمر و/ أو سخرية.
فريق آخر من المرضى تركت المتلازمة أثراً قوياً على شخصيّته وحياته الاجتماعيّة بالتبعيّة. جمال سعيد من مصر (اسم مستعار، 36 عاماً) يقول إنه بات كسولاً للغاية راغباً في النوم باستمرار، منفصلاً عن الناس، ولا يرغب في مخالطتهم، علاوة على الشعور الدائم بالملل والعصبيّة المفرطة في التعامل.
الأمر نفسه بالنسبة للتونسيّة وفاء بن علي (36 عامًا)، التي أصبحت شديدة العصبيّة التي تُدخلها في نوبات غضب وتجعلها غير قادرة على التحكم في ردود فعلها. كما أصبحت تخشى الاختلاط بالآخرين إلى درجة أصبحت معها انطوائيّة وترفض زيارة الأهل والأصحاب، خوفاً من إصابة جديدة بالفيروس، بالرغم من تحسّن الوضع الوبائي في تونس.
تعتقد حالات عدة تحدّثنا معها أن “فقر/ عدم التوعية” بالمرض سبب تفاقم معاناتها على الصعيد الاجتماعي. أظهر تتبعنا الساب وزارة الصحّة المصريّة على فيسبوك ثلاثة منشورات للتعريف بالمتلازمة وبعض أعراضها. أمّا في تونس ولبنان وفلسطين، فلم يتوصل بحثنا إلى العثور على منشورات توعويّة على حسابات وزارات الصحة فيها.
أخبرتنا غالبية الحالات التي قابلناها أنّها لجأت إلى المجموعات في مواقع التواصل التي تضم أشخاصاً يعانون أعراضاً ممتدة بعد التعافي من كورونا للاستفادة من تجاربهم والبحث عن سُبل للعلاج. وجاءت نتائج الاستبيان مماثلة، إذ كانت مواقع التواصل هي مصدر معرفة غالبية المستطلعين بالمتلازمة، ومن ثم جاء الأطباء ووسائل الإعلام، كمصادر أخرى.
لا إجراءات لتوفير بيئة عمل ملائمة
تُلقي المتلازمة بظلالها على العمل، إذ تشير ليلى إلى أنّه على الرّغم من تواصل بعض الأعراض والتعب الشديد الذي ما زال يلازمها كلّما بذلت أي مجهود، إلاّ أنّه لا يسمح لها بقطع الدروس أو أخذ أي إجازات أخرى من العمل. مازالت تنسى أحياناً بعض الأمور، تنسى حتى بعض أسماء الطلبة. تفقد تركيزها في كثير من الأوقات ولكنها مضطرة لمواصلة العمل بسبب كثرة الدروس.
أخصائيّة التخاطب المصرية هدير علّام (29 عاماً) تقول إن حالة عدم التركيز وتشتت الانتباه التي تعاني منها بعد التعافي من كورونا تجعلها تنسى أسماء الأطفال الذين تعالجهم بعدما كانت تتذكر “كل تفاصيلهم”.
المراسلة التلفزيونيّة في لبنان مريم سليمان (23 عاماً) تقول إنها لم تعد قادرة على الخروج لتصوير تقاريرها كالسابق بسبب التعب والإرهاق المستمرين بعد التعافي من كورونا. علماً أن المؤسّسة التي تعمل بها تتفهّم ظروفها الصحيّة ومنحتها إجازات مدفوعة الراتب.
أحياناً، لا يستطيع بعض المرضى مواصلة العمل مع الأعراض القويّة. من هؤلاء ولاء إبراهيم التي تقول إنها اضّطرت لترك العمل تماماً بسبب تكرار الإغماء عليها وحاجتها إلى مرافق من ذويها في كل مكان تذهب إليه.
ويقول ياسر سعد، المحامي الناشط في الدفاع عن حقوق العمال، إنه منذ بداية الجائحة لم تستحدث الحكومة المصريّة أي إجراء أو قرار أو قانون يحفظ حقوق موظفي القطاعين العام والخاص لدى الإصابة بالفيروس ولاحقاً المتلازمة، عدا عن قرار رئيس الوزراء في بداية الجائحة والذي يسمح بمنح الموظف “إجازة مرضيّة” لا تُخصم من راتبه لمدة 15 يوماً من ظهور أعراض كوفيد-19 عليه.
بوجه عام، يلفت أمجد الخولي من منظمة الصحة، إلى أنه لا يمكن القول بوجود “إجراءات بشكل ممنهج” أو “خطوات ملموسة” لحفظ حقوق مصابي المتلازمة في الدول العربيّة، مشيراً في المقابل إلى تقييم فردي لكل حالة بحسب احتياجاتها.
في هذا الصدد، يوضح جوزيف الحلو أن “العلاج المجاني” متاح لأي مريض “لبناني ليس له صندوق ضامن آخر” في المستشفيات الحكومية من أي مرض بما في ذلك الأعراض الممتدة لكورونا. لكن البزري أوضح أنه “ليس هناك علاجاً مجانياً في لبنان. وزارة الصحة لديها إمكانية تغطية الاستشفاء لـ”بعض اللبنانيين”. وعلاج كوفيد ولا مرة كان مجاني، لا بلبنان ولا بغير لبنان حسب اعتقادي”.
وفقًا لاستبياننا، لم تتم مراعاة الحالة الصحيّة لقرابة 46 في المئة من المستطلعين في أماكن العمل، مقابل 26 في المئة تقريباً قالوا إنه كان هناك تفهم لوضعهم الصحي.
لتحسين أوضاع مرضى المتلازمة، توصي منظّمة الصحّة العالميّة، بحسب الخولي، بوجود آلية منهجيّة لتشخيص المصابين، ووجود بروتوكول خاص للتعامل مع المصابين في كل دولة، وتوفير “بيئة آمنة” للمصاب بالمتلازمة سواء بيئة عمل تتيح له إجازات بشكل استثنائي يلائم وضعه الصّحي وتتيح له عدم الإضرار بعمله وعدم التّنمر، الاهتمام بالدّراسات والأبحاث المتعلقة بالمتلازمة لكشف غموض المتلازمة والإجابة عن الأسئلة العالقة المتعلقة بها، والتوعية الصحيّة لأفراد المجتمع ليسهموا في مواجهة المرض.
وبينما حذّر من أن الكثيرين من مرضى الكوفيد الطويل يواجهون فترات انتظار “طويلة” و”محبطة” للحصول على الدعم أو التوجيه، شدد رئيس منظمة الصحة العالميّة، غيبريسوس، في مقابلته مع الغارديان، على أن الدول منوطة بوضع خطّة للتعامل مع متلازمة ما بعد كورونا تشمل: “توفير الوصول الفوري إلى الأدوية المضادة للفيروسات للمرضى المعرضين لخطر تطوير أعراض خطيرة، والاستثمار في البحث ومشاركة الأدوات والمعرفة الجديدة التي تثبت قدرتها على منع وعلاج المرضى بطريقة أكثر فعالية، ودعم الصحة البدنيّة والنفسيّة للمرضى بالإضافة إلى تقديم الدعم المالي لغير القادرين على العمل”.
كما أشار غيبريسوس إلى “خمسة عناصر رئيسيّة” لدفع جهود معالجة المتلازمة إلى الأمام، وهي: استماع الدول إلى المرضى، واستخدام “تجربتهم المباشرة” مع المرض لفهم المتلازمة، وخلق وعي أفضل بها، وتحسين تبادل المعلومات بين الدول لسد الفجوات المعرفية حول المرض في جميع أنحاء العالم. وذلك جنباً إلى جنب مع “الوصول العادل” إلى اختبارات وعلاجات ولقاحات كوفيد-19 لتفادي العدوى في المقام الأول، وبالتالي الحد من مخاطر المتلازمة، و”الاستثمار المستمر” في البحث العلمي حول المتلازمة والرعاية المتعددة التخصصات” الفورية لمرضى المتلازمة”.
أما ليلى، فبينما تتناول قهوتها المسائية، وتنظر من شرفة منزلها، يبقى حلمها البسيط المشروع “العودة إلى نشاطي المعتاد وأن أمشي بخطوات واثقة بلا خوف من أن تخذلني قدماي وتوقعاني أرضاً مثل كلّ مرّة. أو أن أستمتع من جديد بتلك الروائح التي كنت أستطيع تمييزها قبل إصابتي بهذا الفيروس. أتمنى لو يمرّ يوم من دون أن آخذ أدوية أتناولها منذ أشهر. لا أعرف متى ينتهي كل ما أعانيه”.