جريدة الوطن –رائحة العطن تفوح من المكان ومخلفات الفئران تبدو واضحة على الرولات المخزنة فى انتظار عملية التقطيع، وأحد العمال يقاوم الحشرات المنتشرة فى المكان باستخدام «بخاخة» لرش رذاذ لمزيج سائل من التوكسفين والكيروسين (الجاز)، معتبراً أن المبيدات العادية لا تُجدى نفعاً مع مثل هذه الحشرات.
وسط هذه الأجواء، بعيداً عن أعين الرقباء تخرج الرولات إلى ماكينة التقطيع لتحويلها إلى مناديل ورقية مختلفة الأحجام، تُعبأ فى صورة تحاكى علب المناديل لماركات مشهورة موثوق فيها. تجرى هذه العملية فى ورش بُدائية على أطراف القاهرة، وفى النهاية تصل المناديل الملوثة المقلدة إلى يد المستهلكين بأسعار تنافسية رخيصة، دون أن يعرفوا حجم مخاطرها الصحية المروعة.
إلى الشوارع وإشارات المرور تنتقل مسببات الموت داخل علب المناديل الورقية المقلدة، فالشوارع تمتلئ بالباعة الجائلين، أشهرهم باعة المناديل، يطرق أحدهم زجاج السيارة مغرياً إياك بسعرها الزهيد، سعر العلبة لا يتجاوز جنيهين فقط، العلبة المقلدة تشبه العلبة الأصلية، وتحمل العلامة التجارية نفسها واسماً مشابهاً تماماً، ربما تبدل حرف منقوط بآخر، أو اقترن الاسم بكلمة أخرى، الثوانى التى تمضيها فى الإشارة لا تمنحك الفرصة للتمعن، ربما تطمئن عندما تجد خاتماً على ظهر العبوة يقول «صنع فى مصر طبقا للمواصفات الأوربية.»
«الوطن» تتبعت خطوات عملية تقليد أسماء مشهورة فى مجال إنتاج أوراق المناديل، ورصدت الأماكن والأدوات والأشخاص الذين يتربحون من غمر الأسواق بهذا الإنتاج المعيب فى غياب الرقابة، وأثبتت التحاليل داخل معامل الهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة لأكثر الماركات الزائفة رواجاً أنها «ساقطة» طبقاً للمواصفات المصرية، وغير صالحة للاستخدام الآدمى.
وفقاً للإدارة العامة للمرور، فإن هناك ما يزيد على مليون سيارة ملاكى تسير فى شوارع محافظة القاهرة وحدها، يشترى أغلب ملاكها مناديل السيارات من الشارع، المناديل مجهولة المصدر التى لا يعرف أحد من أين جاءت، أو كيف صنعت، أو من قام بتعبئتها، خاصة أنه لا يوجد لأى منها عنوان أو سجل تجارى أو حتى رقم هاتف، ما جعل الأمر يزداد غموضاً.
وجاءت نتيجة التحاليل لعينات أكثر الماركات رواجاً فى الأسواق المصرية تحت اسم «زينة» و«برينة» و«رينيه» و«دريم فاين» و«الهدى»، لتؤكد ارتفاع معدلات الرقم الهيدروجينى، وهو ما يعنى أن هذه المناديل ذات خواص «قلوية» تسبب التهابات للجلد، لكن المشكلة الأكبر، كما تؤكد الدكتورة سوزان إبراهيم، أستاذ الأطفال بطب قصر العينى، تكمن فى نسبة الرماد، التى تنص المواصفات المصرية على ألا تزيد على 2.5%، إلا أن التحاليل المختبرية أكدت أن نسبتها تصل إلى 4.3%، وهو ما يتسبب -بحسب الطبيبة- فى إصابة مستخدميها من الكبار والأطفال بعدد كبير من أمراض الحساسية، مرجحة أن تكون هذه المناديل حلاً للغز الذى يحير الأطباء بخصوص انتشار أنواع جديدة من الحساسية المجهولة المصدر ويصعب تشخيصها.
وأكدت د. سوزان أن الخطورة الأكبر تكمن فى استخدام هذه الأنواع من المناديل غير الآمنة مع الأطفال، حيث تصيبهم بحساسية الجلد والأنف وحساسية الجهاز التنفسى، علاوة على عدد من أمراض العيون، الأمر الذى يضطر معه الطبيب إلى إعطاء الطفل أدوية مضادة للهستامين تؤثر بدورها على كرات الدم البيضاء وتضعف الجهاز المناعى فى سن مبكرة، ما يجعلهم عرضة للإصابة بأمراض خطيرة فى مراحل لاحقة، علاوة على العلاج بالكورتيزون الذى يصيب الأطفال بهشاشة العظام وارتفاع ضغط الدم ونسبة السكر، كما أن استخدامه لفترات طويلة يسبب العقم لدى الذكور والإناث.
وأشارت إلى أن دراسة حديثة أجرتها بالتعاون مع أحد المتخصصين بجامعة عين شمس، أثبتت أن الرماد العادى الموجود فى الهواء يسبب الإصابة بأمراض ذات تأثير قوى على الجهاز التنفسى والأنف، وهو ما يعنى -بحسب الطبيبة- أن الرماد الموجود فى هذه المناديل، وهو رماد ناتج عن تفاعلات كيماوية، خطير جداً، وتأثيره أضعاف الرماد العادى.
وربما تقدم هذه التفسيرات حلاً للغز حير الأطباء عن إصابة أطفال بحساسية فى العين لأسباب مجهولة؛ ففى زحام القاهرة المعتاد تجد أماً تحمل صغيرها على ساقيها وقد تصبب عرقاً.. المكيف الداخلى للسيارة لا يجدى نفعاً، تمتد يدها إلى علبة المناديل لتمسح قطرات عرق من جبينه ووجهه، ساعات وتتورم عينا الصغير، تحمله إلى طبيب متخصص ليخبرها أن هناك مادة غريبة أصابت عينه، يرجح أنها فيروس منتشر فى الهواء، تحمل الأم الدواء وتمضى وهى تتساءل كيف أصاب هذا الملوث صغيرها الذى تحافظ عليه من «الهوا الطاير»؟ ولا تدرى الأم أن حل اللغز ربما يكمن فى ورقة المنديل التى مسحت بها عين الصغير.
كان لا بد من البحث عما يسمى مصانع «بير السلم» التى تتخصص فى إنتاج هذه المناديل.. لم تستغرق عملية البحث كثيراً، قرية «باسوس» التابعة لمركز القناطر الخيرية هى بؤرة هذه الصناعة، ما إن تغادر الطريق الدائرى، على بعد كيلومترات قليلة من طريق (القاهرة – الإسكندرية) الزراعى، حتى تكتشف أن القرية التى أوقفها الملك الصالح عام 743 هجرية من أجل إنتاج كسوة الكعبة، قد تحولت إلى مركز لتعبئة وتوزيع المناديل الورقية المقلدة، وباتت هذه التجارة هى الحرفة الأشهر بين قاطنيها الذين يبلغ تعدادهم قرابة 50 ألف نسمة، وفق الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
على جانبى الطريق الرئيس للقرية تتراكم أطنان من المناديل الورقية بجميع أشكالها؛ مناديل المطبخ، الجيب، البكر، العبوات الورقية والبلاستيكية، المناديل المبللة.. كل ما يتعلق بهذه الصناعة موجود هناك، لكن دورهم فقط، كما يصفه خالد ع. أحد التجار، يتلخص فى تسلم الواردات القادمة من الخارج وإعادة تعبئتها حسبما يحتاجه تاجر التجزئة، ويقول: «لا توجد هنا ماكينات للتقطيع، تأتى إلينا الحاويات من الخارج ويتم إيداعها فى المخازن، ثم تأتى فتيات القرية اللائى يعملن باليومية من أجل مهمة الوزن والتعبئة، البعض يريد العبوة وزنها 90 جراماً وآخرون يريدونها 110 جرامات، كل حسب رغبته فى تحقيق هامش ربح أكبر».
المتضررون من استيراد المناديل «المجهولة» المصدر من الخارج هم أصحاب الشركات المحلية.. أحدهم المهندس عاطف أحمد، صاحب شركة «فينوس» للمنتجات الورقية، الذى يقول إن «تلك المناديل يجلبها مستوردو الموسكى والنزهة الجديدة، الذين تخصصوا فى جلب الشامبوهات ومستحضرات التجميل الصينية الرديئة». المشكلة -بحسبه- لا تكمن فى كونها تأتى بأسعار أقل من المنتج المصرى، فهذا أمر معتاد، لكن فى كيفية التصنيع: «المناديل القادمة إلينا من الصين وماليزيا والهند هى نتاج عملية تدوير بنسبة تزيد على 90% من المنتج، أى إنها مخلفات ورقية خالصة مضاف إليها مواد تبييض ونسبة قليلة جداً من اللحاء».
ويجرى تصنيف هذه النوعية من المنتجات الورقية على أنها ورق «تواليت» درجة ثانية، واسمها التجارى «نفرتيتى»، ولا يجوز تعبئتها فى عبوات للاستخدام المنزلى والسيارات ومناديل الجيب و«السفرة» وفى المطاعم، لكن ما يحدث هو العكس تماما. ويؤكد عاطف أحمد أن جهات الرقابة المحلية تمارس دورها فقط على المصانع الوطنية ويفرضون عليها عقوبات مغلظة ومجحفة، بحسب وصفه، فى حين تدخل الواردات القادمة من شرق آسيا وغيرها دون تحليل أو مراقبة، ما يتسبب فى ضرر اقتصادى للصانع المحلى وضرر صحى للمستهلك الذى يستخدم أشياء لا يدرى كيف صنعت ومن يقاضى إذا ما لحق به أى ضرر.
المناديل فى محلات «باسوس» لها مصدران؛ الأول: من مخلفات عمليات التقطيع للشركات الكبرى مثل «زينة» و«فاين» على هيئة «بكَر» أو «رول» ضخم، والثانى: من المستوردين رأساً، وهى الأسوأ حالاً، لكنها تحقق هامش ربح أكبر. تأتى الشاحنات هنا إلى محلات بعينها، رأس مال العاملين بالحرفة هو محل على رأس الشارع لا تهم مساحته، فالبضاعة تعرض فى الغالب فى حرم الطريق، أما حجم الاستثمار فيرتبط طردياً بمساحة وعدد المخازن التى يملكها كل تاجر، فهناك تخزن البضائع الخام، ويتم توريد أطنان المناديل المقطعة معبأة فى «بالات»، يبدأ سعر كيلو المناديل الخام من 8 جنيهات لماركة «نفرتيتى»، ويصل أجودها إلى 11 جنيهاً لمخلفات «فاين» والمصانع الشهيرة الأخرى.
الشوارع الخلفية تكتظ بالمخازن، كل ما يحتاجه التاجر هو طباعة «أكلاشيه» باسم وهمى على عبوات بلاستيكية إلى جوار اسم المنتج، الذى هو فى الغالب «رينيه»، تتكلف عملية طباعة الأكلاشيه 500 جنيه، بعدها تصبح المناديل جاهزة لتجار التجزئة وبائعى الإشارات، يصل سعر العبوة التى تباع لهم إلى 140 قرشاً، ليتم بيعها بجنيهين أو جنيهين ونصف الجنيه، حسب وزن العبوة وشكلها ونوعية المنتج.
وبالتقصى بدا أن هناك حلقة مفقودة؛ «البكرات» أو «الرولات» المستوردة من الخارج أو المجلوبة من فضلات المصانع المحلية، كيف وأين يتم تقطيعها؟ الإجابة جاءت من خلال أحد مندوبى الشركات الكبرى، الذى لم يمانع فى مساعدة مستثمر صغير يدرس إقامة مشروع استيراد مناديل من الخارج وتعبئتها محلياً وطرحها فى الأسواق تحت اسم وهمى، ينصحك المندوب «أفضل المنتجات التى تحقق ربحاً ورواجاً هى التى تأتى من مومباى فى الهند وسنغافورة والصين.. نسبة اللحاء قليلة لكن المبيضات والكلور بتخليها زى اللبن، وماحدش بيحس بالفرق».
الخطوة التالية داخل إحدى ورش التقطيع بالخانكة، محمود صالح بدأ مشروعه مندوباً للتوزيع بإحدى الشركات، كان يوزع منتجات شركته والمنتجات المقلدة أيضاً، فى سنوات قليلة حقق أرباحاً مكنته من شراء ماكينة التقطيع، سعرها 150 ألف جنيه، تبدو آلة بدائية، ملحق بالورشة مخزن رطب، تنبعث منه رائحة عطنة، فيما تلمح مخلفات الفئران متناثرة فوق المناديل، يحمل أحد العاملين «بخاخة» للتخلص من الناموس والحشرات الطائرة، يمزج بين «التوكسفين» و«الجاز»، ويقول مبادراً: «الحشرات دى مابينفعش فيها أى مبيد، الجاز هو اللى بيجيب نتيجة»، وفى الخارج يوضع «الرول» الذى يتجاوز قطره أربعة أمتار، على الماكينة ليتم سحب أحد أطرافه وإيصاله بجزء مخصص لطباعة «النقشة» على المنديل، تسمى «الدرفيل»، وكلما كان النقش بارزاً زاد الربح: «المنديل لما يكون هايش بيخلى العلبة تاخد عدد أقل، وبالتالى التاجر يكسب أكتر.»
على الناحية الأخرى من الآلة تقف إحدى الفتيات لاستقبال ما يتم تقطيعه، فيما تقف أخرى ممسكة بـ«بخاخة» لتعطير المناديل، مزيج من العطر الكحولى والماء وقليل من البنزين: «الماء لتخفيف الكحول، والبنزين ليساعد فى تطاير المادة المعطرة سريعاً من المناديل» يعلق صالح.
عملية التعطير هذه تصفها الدكتورة سوزان إبراهيم بالكارثة الصحية، حيث إن استخدامها لفترات طويلة يؤدى إلى الإصابة بسرطان الدم، فيما أضاف الدكتور محمد حسن عيد، استشارى الأنف، أن النتائج التى خلص إليها التحقيق من شأنها أن تؤثر على الجهاز التنفسى بشكل عام، مفسراً ذلك بأن «ارتفاع نسبة الرقم الهيدروجينى عن المعدل الطبيعى والمسموح به تؤدى إلى الإصابة بحساسية شديدة فى الأنف من الداخل إضافة إلى حساسية خارجية، كما أن ارتفاع نسبة الرماد الموجودة فى المناديل الورقية يزيد من شدة هذه الحساسية، خاصة على المصابين بالجيوب الأنفية»، فيما يؤكد سيد الطوخى، أستاذ طب العيون بمعهد بحوث أمراض العيون، أن هذه المنتجات الورقية تصيب مستخدميها بهياج فى أنسجة الملتحمة، وتحدث نقاطاً صغيرة فى القرنية، لكن الخطورة تكمن فى حدوث حالات الحساسية المزمنة، نتيجة تطور الحساسية الناتجة عن التأثير القاعدى للمناديل ونسبة الرماد «الكيماوى» العالق فيها.
الاستهلاك الأكبر يكون «لعلب المناديل» و«ورق التواليت»، لكن مناديل التجفيف أو مناديل المطبخ تعتبر مشكلة أخرى، ويؤكد الدكتور محمد صبرى، أستاذ التغذية العلاجية بجامعة حلوان، أن استخدام مناديل المطبخ التى عولجت بالطريقة ذاتها يمكن أن تسبب مخاطر صحية حال استخدامها فى إعداد أطعمة الأطفال، درجة الرقم الهيدروجينى (PH) فى معدة حديثى الولادة وحتى عمر 3 سنوات تكون قليلة وتتراوح ما بين 4.5-5، الأمر الذى يعنى أن التصاق أى من المواد العطرية التى تضاف إلى المناديل وتشبع الطعام بها علاوة على خواصه القلوية المرتفعة، تعنى تشبع كبد الأطفال بهذه السموم لفترات طويلة.
جاءت النتيجة النهائية للتحاليل المعملية لتثبت أن المناديل «مجهولة المنشأ» والمتداولة بالأسواق «ساقطة» وفق الاشتراطات الموضوعة من قبل هيئة «المواصفات والجودة» ووزارة الصحة والمركز القومى للبحوث ومصلحة الكيمياء ومصلحة الرقابة الصناعية وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات، وأكدت النتائج تفصيلياً كونها مخالفة فى كل من: الفحص الظاهرى، درجة البياض، الرقم الهيدروجينى، الشد الطولى والعرضى، نسبة الرماد، علاوة على عدم تدوين أى بيانات حقيقية على العبوة.
يعلق الدكتور طه عبدالحميد، أستاذ الصدر والحساسية بجامعة الأزهر، على نتائج التحاليل التى أجرتها «الوطن» على هذه العينة من المناديل الورقية قائلا: «هذه النتائج خطيرة للغاية، فوجود نسبة عالية من الرماد يؤثر سلباً على صحة المواطنين الذين يستخدمونها بصفة يومية، وإن الرماد يسبب التحجر الرئوى آجلاً أم عاجلاً، وهذا يعنى أنها قد تؤدى إلى الوفاة».
خالد أبوالمكارم، رئيس غرفة الصناعات الكيماوية، راح يؤكد أن القضية هنا تكمن فى تشعب الجهات الرقابية على المنتجات الورقية وعدم التصدى للواردات بالحزم والكيفية نفسها مع المنتج المحلى: «تدوير الورق وإعادة إنتاجه ظاهرة يتجه إليها العالم، لكن فى الغرب يتم استخدامها فى إنتاج الحقائب الورقية والكرتون وأشياء أخرى بعيدة عن صحة المواطن، وفى مصر نستورد هذه القمامة التى تحولت إلى مناديل ورقية دون أى رقابة، ونجعلها أيضاً تضرب المنتج المحلى وتقتل الاقتصاد الوطنى».
يلفت أبوالمكارم إلى أن الشركات الكبرى هى المتضرر الأكبر، ويجب أن تضغط بدورها على الجهات الرقابية لفرض عقوبات وسن تشريعات على هذه الواردات غير المطابقة لأى مواصفات محلية كانت أو دولية، مشيراً إلى أن أغلب المستوردين يقومون بـ«ضرب فواتير» وإدخال هذه «القمامة» على أنها أقل سعراً من أجل تقليل قيمة الجمارك، وأنها فرز أول أو ثان على أقصى تقدير، فى حين أنها فى الواقع أكوام من القمامة والمخلفات الورقية المعاد تدويرها وتصديرها إلينا.
Leave a Reply