الفقر والكبت وغياب التوعية الجنسية تساهم في زيادة الإستغلال الجنسي للأطفال في دمشق

25 يوليو 2007

تحقيق: بثينة عوض

كانت في العاشرة عندما فقدت عذريتها، ورغم ذلك كان لدى (فاطمة) ما يجعلها تعتقد أن الآتي أعظم.. فزوج والدتها الذي اعتدى عليها في تلك السن المبكرة، استمر في انتهاك جسدها يومياً، دون أن تستطيع منعه بعد أن هددها مراراً بالقتل، إن هي تفوهت بكلمة واحدة. وحصل المحظور وطردت بلا رحمة، لتقع فريسة رجال آخرين لم يكونوا أفضل حالاً من مفترسها الأول.

واليوم تقبع فاطمة ابنة الخمسة عشر خريفاً، سجينة في معهد الفتيات الجانحات والتهمة (داعرة).

في هذا المعهد (معهد الفتيات للتربية الاجتماعية) تتقاسم فاطمة حياتها الجديدة مع 17 فتاة، ُسجنَّ بتهم وجنايات مختلفة: سرقة، دعارة، تشرد… لم يكن مآل فاطمة ليكون هنا، لو أن هناك مراكز اجتماعية تعنى بمن تعرضوا لتجربتها.. أي للاستغلال الجنسي.. فبعد مرور سبع سنوات في الألفية الثالثة، مازالت سوريا تفتقر لأي مركز من هذا النوع، رغم تزايد عدد الحالات التي تندرج ضمن الاستغلال الجنسي للأطفال بنسبة ثلاثة أضعاف، خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

تقول المحامية مها العلي (ناشطة في مجال الجمعيات الأهلية): “هناك قرارٌبتعطيل إنشاء مثل هذه المراكز، والداعي هو التستر على مثل هذه القضايا التي مازال التعامل معها محظوراً ومحاطاً بالكثير من الكتمان والسرية”.

حكاية فاطمة لا تختلف في تفصيلاتها عما عداها من الحكايات، بعضها وجد طريقه إلى المحاكم والبعض الآخر بقي طي الكتمان.

من الحكايات إلى الأرقام

“لا يمكن ربط مشكلة الاستغلال الجنسي للأطفال على أرض الواقع مع الأرقام الإحصائية المتوفرة رسمياً عنها” وفقاً لرأي الدكتور عصام خوري رئيس قسم الطبابة الشرعية بدمشق، ويؤكّد “أن أضعاف هذه القضايا تبقى غير مكتشفة، وما يتم التبليغ عنه هو مجرد رقم ضئيل”.

ومع ذلك، فإن الإحصائية التي توصلت إليها مجلة (أبيض وأسود) بعد شهر تقريباً من مراجعة سجلات الطبابة الشرعية بدمشق، تشي بواقع حال ينذر بالخطر، إذ إنه ووفقاً للأرقام الواردة في هذه السجلات بلغت نسبة الأطفال المتعرضين للاستغلال الجنسي عام 2004 (25) حالة ارتفعت عام 2005 إلى (99) حالة بينما بلغت عام 2006 (189) حالة، أي بنسبة زيادة ثلاثة أضعاف عن عام 2004. وفي السنوات الثلاث كانت نسبة الذكور والإناث متقاربة (الذكور 56.6%، والإناث 43.4% عام 2006)، بينما سجلت الملامسة النسبة الأعلى وفقاً للتقارير الطبية الواردة (69.84% عام 2006) إضافة لحالات ارتخاء في (المعصرة الشرجية) نتيجة تكرار الاعتداءات الجنسية (16.4% عام 2006)، وتمزق في غشاء البكارة بنسبة (13.76% عام 2006) والجداول الإحصائية تبين ذلك.

يضيف د. عصام خوري: “هناك 5 حالات تراجع الطبابة يومياً، إذ أنّ الحالات تفاقمت كثيراً في السنوات الأخيرة”.

أما من حيث التوزيع المناطقي لانتشار هذه الحالات، فكان لمنطقة التضامن (منطقة سكن عشوائي فقيرة، تتميّز بالكثافة السكانية والتنوع الذي يختصر خارطة معظم المحافظات السورية) النصيب الأكبر من تعداد الحالات، ففي عام 2006 وصلت حالات الاستغلال الجنسي في هذا الحي الهجين إلى (14.8%) تليها منطقة الميدان، وهي منطقة محافِظة، كانت نسبتها (7.07%) في العام ذاته، أي أقل بنسبة النصف تقريباً.

ويعتبر د. توفيق داوود أستاذ علم الاجتماع بجامعة دمشق، أن الأرقام السابقة مؤشر خطير يستدعي الدراسة والتمحيص، موضحاً أن “المجتمع السوري يشهد تحولات كثيرة وخصوصاً العاصمة، فمعظم الوافدين الجدد إليها استقروا في أطرافها، والنتائج بيئة مختلطة تولد موبقات كثيرة كالاعتداء والسرقة بسبب الفقر والحرمان”.

إذاً أصل الحكاية فقر وكبت تتفاوت وطأتهما من حي لآخر، وهذا ما يؤكده د. تيسير حسون (أخصائي نفسي) بقوله: (70% من الحالات التي تراجع العيادة، تعرضت للاستغلال الجنسي في طفولتها هي من بيئات فقيرة ومنغلقة ومكتظة سكانياً).

عودة إلى الأرقام والدراسات

لا تتوافر في وزارة العدل أية إحصائيات لها علاقة بالاستغلال الجنسي، والأرقام والدراسات المتوافرة على ندرتها، هي نتاج لجهود فردية من قبل مهتمين بهذا الأمر. والذين غالباً ما يصطدموا “بعوائق كثيرة مرتبطة بطبيعة المجتمع السورية المبنية على ثقافة الستر خوفاً من الفضيحة” وفقاً لأحد المهتمين بإجراء مثل هذه الإحصائيات.

ففي دراسة للدكتور مطاع بركات أخصائي صحة نفسية أنجزها عام 2002، وزع استمارات البحث على 400 طالب وطالبة من جامعة دمشق، مئة منهم فقط أجابوا على الأسئلة المطروحة. وتبين الدراسة أن 40% من المفحوصين تعرضوا (لتجربة) جنسية في فترة الطفولة، ولم يخبروا بها أحداً، أما فيما يخص قيام المفحوصين تحت سن 12 عاماً بفعل جنسي حيال أطفال أصغر منهم، فقد تبين أن عدد من مرّوا بهذه (التجارب) 16%، في حين أن من قاموا بهذا الفعل وهم في عمر فوق 12 عاماً فنسبتهم 15%، وبالنسبة لتعرض المفحوصين لنفس الفعل من جهة أطفال يكبرونهم سناً، فكان عدد من مرّوا بمثل هذه (التجربة) وهم تحت سنة 12 سنة بلغ 40%، وفوق سن 12 بلغ 21%. وتوصلت الدراسة إلى أن 76% من المفحوصين تعرضوا لتجارب جنسية قبل سن 18.

يقول د. مطاع بركات: “تعرضت لمضايقات كثيرة من قبل جهات مختلفة حاولت عرقلة هذه الدراسة. ورغم صغر العينة فإنّها تكشف المستور”.

ويضيف: “من يتعرض لهذا النوع من الاستغلال، يعاني من بنية نفسية هشّة، تجعله عرضة لكل أنواع الانحراف، حيث تتجه الفتيات للدعارة والصبيان للسرقة والفشل. وكل هذا نتاج لنضوج جنسي مبكر ليس ضمن سياقه الطبيعي، يولد بدوره لدى المعتدى عليهم نزعة لإيذاء أنفسهم أو إيذاء الآخرين”.

ويبدو ذلك جلياً في دراسة حالات، أجرتها الهيئة السورية لشؤون الأسرة عام 2006 بعنوان (العنف وآثاره على الفتاة) شملت مسحاً لمعهد الفتيات (27) نزيلة، إضافة لنزيلات راهبات الراعي الصالح (5 فتيات)، إذ تؤكد الدراسة أن معظم لفتيات اللواتي سجنّ في المعهد بتهمة دعارة تعرضن للاستغلال الجنسي في طفولتهن كاعتداء المحارم (سفاح القربى) أو الاتجار بالفتيات، مما يؤدي لهروبهن من البيت، حيث أشارت الدراسة أنّ معظمهن من أسر متدنية المستوى الثقافي والاقتصادي.

حكايات تشبه بعضها

هدى كغيرها من الأطفال الذين تعرضوا للاستغلال، تحلم بيوم تتمكن فيه من النوم دون أن تطاردها الذكريات المرة، فهي مازالت تسترجع منظر الدم على الفراش، بينما والدها مسجّى إلى جانبها، بعد أن خلع عنها ملابسها وأفقدها عذريتها.

والد هدى يعتقد أن جسد ابنته ملكاً له، كما صرح أمام القاضي. فالمهم على حد قوله أن “يقضي شهوته”… هذه التفصيلات ترد يومياً في قضايا كثيرة غالباً ما يكون المعتدي فيها من العائلة، مما يضاعف حالة الصمت حفاظاً على الروابط العائلية، ففي دراسة ميدانية أجريت عام 2006 كرسالة تخرج لطلاب علم النفس بجامعة دمشق، شملت (77) شخصاً، تبين أن المعتدي هو غالباً من الأقرباء بشكل أساسي. في حين بلغت نسبة السكوت على التعرض للاستغلال من قبل الطفل 43.48%. أما أعلى نسبة منتشرة من أشكال الاستغلال، فهي وبحسب الدراسة نفسها: الملامسة (45.47%) يتلوها عرض الصور الإباحية على الطفل (23.14%). أما القيام بالفعل الجنسي مع مقدمات تقبيل فبلغت نسبته (27.29%).

التربية الجنسية في غياهب النسيان

“هناك غياب كامل لمراكز معالجة وتأهيل نفسي تؤهل المعتدى عليه بعد إجراءات التقاضي، نحن بحاجة لمراكز رعاية اجتماعية في كل منطقة أو حي تقريباً”، هذا ما تقوله صباح الحلاق الناشطة في رابطة النساء السوريات.

فيما ترى إيمان حيدر (مدرسة في قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق) أنّ “البيئة المحيطة بالطفل، يمكن أن تسمح بزيادة نسبة الاستغلال الجنسي للأطفال، لاسيّما مع غياب التربية الجنسية، إذ إنه ووفقاً لمبادئ التنشئة الاجتماعية السائدة لا يمتلك الطفل أدنى معرفة بالنواحي الجنسية).

و”هذا ما جعل العديد من رجال الدين، يتحدثون اليوم عن أهمية إدراج التربية الجنسية ضمن المناهج المدرسية، كخطوة أولى لإيجاد حالة من الوعي الجنسي لدى الأطفال دون المساس بالضوابط الدينية” بحسب د. محمد حبش (مدير مركز الدراسات الإسلامية)، والذي يعتبر أنّ (الخطاب الديني يدعو لرفع الظلم وتحريم الاعتداء على الناس، مما يتطلب البدء بحملات توعية دينية وجنسية). ويوافقه على ذلك الأب نزار مباردي الذي يرى أن (هذه الانحرافات المتزايدة، تتطلب المعالجة الفورية. وحلّها يكمن بإدراج التربية الجنسية ضمن المناهج، ودفع السلطة التشريعية لتحديث القوانين المتعلقة بالطفل وحمايته).

قريباً من القانون، بعيداً عن الواقع

تتم معاقبة المعتدي وفقاً للمواد 491، 492، 493، 945 من قانون العقوبات السوري، وتقول المحامية مها العلي، إن هذه القوانين “أصبحت بالية وتحتاج للتغيير، وخصوصاً أنها وضعت في العام 1949 ولم يطرأ عليها أي تغيير، سوى بعض التعديلات غير الجوهرية على بعض المواد عام 1979″ معتبرة أنّ “مدّة العقوبة المفروضة على المعتدي والتي تتراوح من 5 سنوات مع الأشغال الشاقة حتى 15 سنة حسب نوع الجرم، غير كافية للجم هذا النوع من الجرائم”، مضيفة: “وفي أغلب الأحيان تتم تبرئة المعتدي لعدم توافر الأدلة”.

تتابع المحامية العلي: “هناك مآخذ سلبية على القانون تجعله غير مؤهل لحماية الطفل، منها أنّ قانون العقوبات السوري، يسقط الحق العام ويتوقف عن ملاحقة المعتدي في حال تنازل الأهل عن القضية. إضافة إلى أن القانون لايلزم أي شخص بالتبليغ عن الإساءة التي يشاهدها بحق الأطفال”.

ويؤكد القاضي عبد الأحد سفر أن “الطريقة المتبعة في محكمة الجنايات خلال استجواب الأطفال، تحتاج لتطوير يعتمد التقنيات الحديثة كأشرطة الفيديو، حيث يمكن الحصول على إفادة الطفل عبر تسجيلات تجنبه رؤية المعتدي”

اتفاقيات بالجملة وتنفيذ لا حول ولا قوة

بعد مصادقتها على اتفاقية حقوق الطفل عام 1993، انضمّت سورية في عام 2002 للبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل، والمتعلق ببيع الأطفال واستغلالهم في المواد الإباحية.

أما في عام 2005 فقد أطلقت سورية (خطة وطنية لحماية الطفل) شارك في إعدادها جهات حكومية وأهلية، وكان من أهم البنود الواردة فيها: “إحداث مراكز إيواء لحماية الأسرة، وإيجاد ما يسمى بالخط الساخن، يمكّن الطفل من التبليغ في حال تعرضه لأي شكل من أشكال العنف، “إلا أن شيئاً من هذه البنود لم يطبّق، وكل ما طرح بقي مسودات لمشاريع معلقة في الهواء” بحسب القاضي عبد الأحد سفر.

بينما ترى منى غانم رئيسة الهيئة السورية لشؤون الأسرة، أنّ “هناك التزماً حكومياً بحماية الطفل، حتى لو تأخر موضوع تطبيق بعض الخطط”، مشيرة أنّ ” الخطة الخمسية العاشرة للحكومة تضمنت اعتبار قضية العنف ضد الأطفال كأولوية وطنية”.

وتتفق معظم آراء المختصين في الهيئة على صعوبة الخوض في مسألة مازالت تعتبر (تابو) يمنع اختراقه كالاستغلال الجنسي، فمجرد التلميح لهذا الأمر في دراسة تقوم بها الهيئة الآن بالتعاون مع اليونسيف (سوء معاملة الطفل) وهو أول بحث حكومي يتضمن 400 طفل وطفلة، أثار استياء جهات عدة، ما دفع مديرة الأبحاث أميرة أحمد لاستبدال السؤال بآخر يقارب القضايا الجنسية ولا يطرحها بشكل مباشر.

خبر.. بالدم الطازج

الخبر كما أوردته جريدة الثورة في عددها 13351 (أصدرت محكمة الجنايات قرارها بإعدام مصطفى محمد الشمالي، والذي أقدم على استدراج رقية بإغوائها بكيس (الشيبس) ليغتصبها خلافاً للطبيعة، ثم الإقدام على خنقها ودهس رأسها بقدميه، مما أدى إلى قلع عينيها ووضعه بكيس رماه على قارعة الطريق).

(ماتت واستراحت) هكذا علقت فاطمة على الخبر رغم قسوته، حالها في ذلك حال أطفال كثيرين لم يعد للطفولة مكاناً في حياتهم..

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net وباشراف من الزميل ثابت سالم


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *