الصيد الجائر يسبب انقراض الأسماك الفراتية الشهيرة

26 أغسطس 2008

تحقيق: حمود العجاج

بالأمس، قبل نحو ثلاثة عقود.. كان الفرات يزخر بأنواع متعددة من أسماكٍ شهيرة، بكمياتٍ كبيرة.اليوم.. من يقذف صنارته من هواة الصيد في الماء، ينتظر ساعات طوال قبل أن يصطاد سمكةً واحدة، وقد لا يأتي بشيء.”الصيد الجائر” الذي يستخدم فيه البعض أساليب محظورة، كالمتفجرات والكهرباء والسموم والغازات الخانقة، أدّى إلى تدمير جماعي للأحياء المائية وتسبب بمخاطر على صحة المستهلكين. تعتبر الرقة التي تمتد على مساحة 20 ألف كم2 تقريباً (10.1 % من مساحة سورية) من أغنى المحافظات السورية بأماكن صيد الأسماك لوجود مسطحات مائية شاسعة، منها “بحيرة الأسد” 460 كم2 من المياه العذبة، و”بحيرة البعث” 25 كم2، ومجرى الفرات الذي يعبر المحافظة بطول160 كم ومتوسط عرض يقارب ثلاثمئة متر.. وهناك مجموعة بحيرات صغيرة مغلقة، مثل “بحيرة معدان” و”الجبلي” و”دلحه” و”علي باجلية”، إضافة إلى المصارف وأقنية الري.

أنتجت محافظة الرقة حوالي 4000 طن من أسماك الأنهار والمزارع عام 2006 وفق إحصائيات مديرية زراعة الرقة، تشكل 28 % من إجمالي الإنتاج السوري البالغ 13800 طن من هذا النوع من الأسماك. بينما لم يتعدَ إنتاج ذلك العام من الأسماك البحرية 3400 طن. واللافت أن إنتاج الرقة من أسماك الأنهار والمزارع تزايد في الفترة بين 1997 – 2006 بنسبة 8 % فقط، بينما تزايد عدد السكان قرابة 25% خلال الفترة ذاتها. ومن المرجح أن الصيد الجائر هو السبب الرئيسي في تدني معدل نمو الإنتاج من الأسماك في حوض الفرات. في المقابل تنتج المؤسسة العامة للأسماك سمكَ البحر والمياه العذبة، وتدير عملها من مقرها في جبلة على الساحل السوري، مستخدمةً عدداً من مراكب الصيد البحري وبعضَ مزارع الأسماك في المسطحات المائية الداخلية، ولاسيما في حوض الفرات.

يقول مديرها العام الدكتور أديب سعد: “قامت المؤسسة ببيع إنتاجها من أسماك المياه العذبة بثمن رخيص هذا العام، قريب جداً من الكلفة. فلم تتعدَ أسعار الموسم الحالي 85 – 87 ليرة للكيلو من أسماك المشط بالجملة، وبسعر 100 – 110 ليرة لأسماك الكارب كحد أقصى، بالرغم من غلاء الأعلاف وارتفاع الأجور ونفقات الوقود، وقد بيعت للمواطنين بالمفرق بين 105 – 125 ليرة كحد أقصى. مع ذلك لم تستطع المؤسسة تسويق كامل إنتاجها البالغ ألفي طن حتى الآن (أيار 2008) بسبب المنافسة غير المتكافئة من أسماك مجمّدة مستوردة وأخرى مهرّبة، تباع بأسعار بخسة رغم انعدام الثقة بصلاحية الكثير منها للاستهلاك”.

لكلٍّ همّه.. إذ تبدو هموم المؤسسة العامة للأسماك متعددة الوجوه، تظهر مشكلة الصيد والصيادين في حوض الفرات أشد وضوحاً وحدّة: تراجع الصيد النظامي أمام الصيد المخالف في المياه المفتوحة (النهر والبحيرات)، وتدهور الثروة السمكية..الصياد محمد (50 عاماً) الذي يصطاد الأسماك في نهر الفرات بصورة مرخّصة منذ عام 1984 يقول إنه ظل يصطاد بالشباك “قرابة 200 كغ يومياً لسنين عديدة، بينما لا يتعدَ ما تخرجه شباكه اليوم 50 كغ، معظمها أسماك صغيرة ومن الأنواع غير المرغوبة”.

والسبب في رأيه أن “استخدام الديناميت على نحو خاص، لا يقتل الأسماك التي يصيبها مباشرة حتى القاع وحسب، بل يخلق حالة ذعر في محيط الانفجار الواسع، ما يجعل الأسماك تهرب إلى مواقع بعيدة في النهر”.فالمسطحات التي كانت تزخر بأنواع كثيرة، أصلية ومستزرعة، من الأسماك والأحياء المائية في محافظة الرقة، تطلَّبت دائماً إمكانيات بشرية ومادية كبيرة لحمايتها.. لكنّ ما توفّر منها جعل جهود الحماية تبدو قارباً صغيراً في محيط تجتاحه عاصفة: خمسون عاملاً دائماً، وأربعون من العمال الموسميين، لحماية مساحة شاسعة (ثمانون ألف هكتار) من بحيرات ومصارف وأقنية ري، إضافة إلى قطاع كبير من مجرى الفرات. حيث ينشط قرابة 230 صياداً مرخصاً وفقاً لبيانات مديرية زراعة الرقة،

وعدد غير معروف من صيادين غير مرخصين، يستخدم معظمهم طرق صيد مخالفة. وقد يساعد على تقدير عددهم وحجم نشاطهم معرفة أن أجهزة الحماية السمكية صادرت خلال العام الماضي 83 مولداً كهربائياً. أنواع ينقرض معظمها.. بمرور الزمن قضى الصيد المحظور على 20 نوعاً من الأسماك كانت تعيش في مياه الفرات، حتى أصبح من يصيد سمكة من أنواع الفرخ والمجناس والرومي كمن يربح ورقة يانصيب، وهي الأنواع مرتفعة الثمن في السوق اليوم (250 ل/ كغ) بسبب تناقصها. أما أسماك الكرسين والكارب فغدت كمياتها متوسطة، ولم يبقَ متوفراً في الماء سوى الأنواع العادية من أسماك المطواق والبوري والجرّي، التي يتراوح ثمن الكيلوغرام منها 60 – 130 ل.س.مع أن صيد الأسماك يعتبر في فترة التحريم الرسمي للصيد جريمة لا تغتفر، لأنها فترة تكاثر، إلا أن عمليات الصيد الجائر تتواصل رغم تكثيف المتابعة من قبل أجهزة الحماية، التي تعاني أصلاً من نقص الإمكانيات إلى درجة أنها تحتاج هي ذاتها أحياناً إلى الحماية.شهدت “فترة تحريم الصيد” هذا العام مصادرة 25 محركاً كهربائياً، ومئة زورق حديدي، و370 شبكة صيد، وأربع سيارات.

ويوم 20/5/2008 غنم الصياد ياسين (30 عاماً) سمكةً من نهر الفرات، أخرج من أحشائها قرابة كيلوغرامين من البيوض.ومن المفارقات الغريبة هذا العام أن صياداً اتصل برئيس مصلحة الإنتاج الحيواني في الرقة، خلال فترة المنع في نيسان الماضي، قائلاً: إننا نمارس الإجرام بحق الأسماك، يا أستاذ. كان الصياد المتصل قد صاد سمكةً تزن 24 كغ وأخرج من جوفها نحو خمسة كيلوغرامات من البيض، لكن الأرجح أن نأمة الضمير هذه لم توقفه، إضافةً لصيادين كثر معه، يوماً واحداً عن الاستمرار في الصيد الممنوع.

يقول المهندس الزراعي عبد العزيز العلي عضو المكتب التنفيذي السابق عن قطاع الزراعة في محافظة الرقة: “لو يتم الحفاظ على الأسماك أثناء فترة التكاثر لأمكن سداد حاجة البلد إلى السمك من أسماك حوض الفرات وحدها”.بعضها ينقرض بالصعق الكهربائي.. يصف الدكتور عصام كروما مدير الثروة السمكية في وزارة الزراعة الظروف التي انتشر بها الصيد بالصعق الكهربائي في منتصف السبعينيات:”عقب بناء سد الفرات وتشكّل بحيرة الأسد باشرت المؤسسة العامة للأسماك بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون العلمي والفني GTZ مشروعاً لدراسة خصوبة البحيرة والأنواع السمكية فيها.

وقد استخدم الخبراء الألمان مولدات كهربائية خاصة بالدراسات الحيوية تولد ساحة كهرطيسية تجذب الأسماك دون أن تؤذيها. التقط بعض العاملين معهم من سكان القرى المجاورة مشهد المولدة الكهربائية، فراحوا يستخدمون مولدات كهربائية متوفرة في الأسواق تولد كهرباء متناوبة تقضي على الأسماك.. وسرعان ما أغرت حصيلة الصيد الكبيرة بهذه الطريقة المربحة والمريحة صيادي نهر الفرات التقليديين الذين كانوا يستخدمون الشباك، فتحولوا تباعاً إلى الصيد بالكهرباء لترتفع حصيلة صيدهم من عشرة كيلوغرامات إلى قرابة 200 كغ من السمك يومياً”.وقد ازداد الحال سوءاً بمرور الزمن، خاصة وأن قانون الأحياء المائية لم يشر إلى الصيد المخالف بالكهرباء الذي لم يكن معروفاًيوم صدور القانون. وفقا للصياد جاسم (40 عاماً) إن كمية الأسماك التي يصيدها بالصعق الكهربائي تدر عليه دخلاً يعادل ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه صياد الشبك في المدة نفسها.

ويضيف الصياد محمد: “إن صياد الشباك لم يعد يستطيع اصطياد ما تزيد قيمته على ألف ليرة سورية من أسماك غير مرغوبة، خلال خمس ساعات من العمل، بينما يزيد دخل الصياد بالصعق الكهربائي عن خمسة آلاف ليرة، بسبب تمكّنه من اصطياد كمية أكبر، من أنواع مرغوبة”.وبعضها ينقرض بالسموم.. رغم مخاطر الصيد بالسموم على صحة المستهلكين إلا أن هذه الطريقة تلقى رواجاً كبيراً أيضاً لسهولة استخدامها، فهي لا تحتاج سوى إلى نثر كمية قليلة من “اللانيت” (مسحوق كيمائي أبيض اللون) ليطفو السمك بعدها على سطح الماء خلال دقائق معدودات. غالبية من يقوم بها صغار سن ويافعون، في بحيرات مغلقة ومصارف وأقنية الري.

يقول الدكتور أحمد علي أخصائي السموم والتخدير في طرطوس: إن التعرض لسم “اللانيت” يتسبب بسيلان في الأنف واللعاب وقيء وتعرّق وزيادةٍ في مفرزات القصبات ورجفان عضلي يتلوه شلل رخو.

وفي حالات متأخرة قد لا يفيد غسيل المعدة لأن مبيد “اللانيت” الذي يمتصه الجسم ينحل في الدم. وهو يؤدي إلى إبادة الحياة المائية بشكل تام في المدى الذي ينحل فيه بالماء.. وقد اقترح الدكتور البيطري إبراهيم عابو حصر بيع “اللانيت” في الصيدليات الزراعية وفقا لوصفات معتمدة من مهندسين زراعيين، بينما يباع حالياً حتى عند العطارين. أما الكلور الذي يستخدمه بعض صيادي الأسماك في حوض الفرات فهو “الكُلْسي”، وقوامه بودرة حبيبية يمزجونها بالماء ويضخونها في مجاري المياه الضيقة، على مسافة مئة متر من شباكٍ تُنصب لجمع الأسماك المُسمَّمة.

تم ضبط برميل من مادة الكلور السامة مع مجموعة من الصيادين في قرية “فخيخة” الواقعة على ضفاف الفرات، بعد أن قاموا بحقن كمية منه في قناة الري. كانت بحوزتهم كمية خمسة كيلو غرامات من الأسماك مصادة بالكلور، حسب ما جاء في الضبط رقم 266 المنظم في الشهر العاشر 2007. ووفقاً للطبيب البيطري محمد المحمد الرئيس السابق لمركز الثروة السمكية في قرية فخيخة: “السمك المصاد بالكلور الكلسي ما لم ينظف خلال 15 دقيقة من صيده، يحول لونه إلى الأزرق وتصبح رائحته نتنة..

وهذا النوع من الكلور غالباً ما يستخدم في الدباغات، ويفترض أنه محصور التداول لشدة سميته، لكنه يتسرب. وهو بالطبع غير الأنواع الحميدة من الكلور التي يستخدم بعضها في تعقيم مياه الشرب”. بينت اتفاقية استوكهولم الخاصة بالملوثات العضوية الثابتة POPS، النافذة منذ عام 2004، مخاطر الكلور على الأحياء المائية، التي تختنق به عند استنشاقه بكميات مرتفعة التركيز. ولكي لا ينتقل الضرر الواقع على الأسماك بسبب وسائل الصيد غير السليمة نصت المادة الخامسة من القرار 1983 لعام 1965، الصادر عن وزارة الزراعة حول تسويق الأحياء المائية، على لزوم “فحصها ومعاينتها في ساحات بيع الأسماك من قبل أطباء بيطريين ومراقبي الأحياء المائية، ويصادر المتفسخ وغير الصالح للاستهلاك منها، وكذلك المصاد بالديناميت والسموم أو بإحدى الطرق الممنوعة التي تؤثر على الصحة العامة”. يقول مدير المؤسسة العامة للأسماك لدى سؤاله عن الأمر: “لا توجد رقابة صحية على بيع الأسماك في ساحات السمك غالباً، غير أننا نمارس بأنفسنا مثل هذه الرقابة على الأسماك التي تسوقها المؤسسة”.

خلل بيئي.. لم تقتصر آثار الصيد الجائر على إبادة الأحياء المائية فقط. بل أدت إلى خلل في التوازن البيئي لحوض الفرات. فأسماك الكارب العاشب والفضي تتغذى على نباتات تلحق التلوث بمياه الفرات مثل نبات (الزل) وأعشاب أخرى. ومع انقراض هذه الأنواع من الأسماك التي زرعت بطريقة اصطناعية، عاودت تلك النباتات الملوِّثِة للمياه نموها ثانية، لتظهر مشكلة بيئية في بحيرة سد البعث وفي المياه الراكدة. ولم تقم الجهات المعنية حتى الآن بإعادة استزراع أسماك الكارب بنوعيه، مع استمرار الصيد الجائر، نتيجة تردي حالة الحماية المائية وضعف الردع القانوني.

بتمويل من مشروع ألماني قامت مصلحة الإنتاج الحيواني في مديرية زراعة الرقة بزراعة 220 ألف “أصبعية بيوض”، طُوِّرت من يرقات استوردت من المجر خلال أعوام 1990 – 1995، لتكثير أسماك الكارب العاشب والفضي، وهو المشروع الأول من نوعه حتى ذلك الحين. كان من شأن تكاثرها أن يولد في بحيرة البعث ملايين الأسماك، تعمل على تنظيفها من الأعشاب وتنقية مياهها. إلا أن الصيد بالكهرباء أحرق معظم تلك الأسماك الصغيرة المستزرعة، فعادت الأعشاب الضارة تخنق البحيرة.والمفارقة أن صاحب مسمكة خاصة قريبة من منطقة المشروع اشترى من المشروع كمية من “الأصبعيات” واستزرعها في أحواضه، وأمَّن لها الحماية، فتكاثرت بصورة ممتازة وقضت على جميع الأعشاب في مسمكته، وقد فعل مثله يومئذ عدد من أصحاب المزارع الخاصة.

وقد أعيدت تجربة زرع أصبعيات الكارب العاشب عام 2007 في وادي الفيض (مسطح مائي)، ولكن بتوزيعها على أسر فقيرة هذه المرة مع حصص من المسطح المائي، في نطاق مشروع تعاون سوري – ألماني سمي (المشروع 10070)، لتحقيق هدفين: أ. رفع مستوى معيشة تلك الأسر التي تقطن جوار الوادي. ب. مكافحة الأعشاب في المسطح المائي.ويأمل المشرفون على المشروع أن تنجح التجربة، نتيجة اتفاق مصلحة الأفراد المنتفعين بالمشروع مع المتطلبات البيئية. نُفذ هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة أريج”إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية وباشراف من الزميل ابراهيم ياخور.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *