"الخردة "..... غزو اسرائيلي آخر للاراضي الفلسطينية، ولا مقاومة

16 نوفمبر 2014

شبكة أجيال –   تحت ستار الظلام، يُشعل (غ.ع) 35 عاماً النار في أكوام من “الخردة” الصلبة. وقبيل بزوغ الشمس تكون النيران قد أتت على ما يعلق بالمخلفات من مواد بلاستيكية أو اسفنج وغيره، ليبدأ بعد ذلك فرز المعادن. الدخان الأسود يختلط بعتمة الليل، لتكشف الصباحات عن كارثة بيئية صحية تنتظر حلاً متأخراً منذ سنوات.

)غ. ع) نموذج من حوالي 2000 عامل- ثلثهم أطفال بحسب محاضر الشرطة- يعتاشون على إعادة تدوير آلاف الأطنان من “الخردة” بطريقة عشوائية، ليدفع كل من يعيش بجوار مناطق الحرق، من بشر أو حيوان أو شجر فاتورة هكذا عمل، على ما يوثق التحقيق خلال عامين من التقصي.

 تقع عمليات حرق الخردة ومعالجتها في تجمعين سكنيين يقدرعدد سكانهما بـ 40 ألف نسمة، غربي الخليل بالضفة الغربية (بلدة إذنا وثلاثة تجمعات تديرها بلدية الياسرية). وبحسب معطيات البلديتين فإن 30 طنا من “الخردة” تدخل يوميا الى مناطق نفوذهما قادمة من إسرائيل، ثم يتم تجميعها في قرابة 200 موقع أغلبيتها في العراء  بهدف تفكيكها و/ أو حرقها.

 معد التحقيق تتبع مسار رحلة “التلويث” على أيدي “وسطاء فلسطينيين وإسرائيليين” يشكلون حلقّات تدوير مضرة بالبيئة (إسرائيل- مستوطنة جيلو- أراض فلسطينية- ثم مستوطنات فإسرائيل). ورغم صدور قانون فلسطيني يحظر التعامل التجاري مع المستوطنات يستغل هؤلاء تقصير وإهمال أجهزة السلطة الفلسطينية، وسيطرة إسرائيل الميدانية وخروج المستوطنات عن مظلة الجمارك الفلسطينية.   

 ووجد أن “الوسطاء وعمّال معالجة الخردة” يستفيدون من إهمال أجهزة رقابية فلسطينية وامتناعها عن تنفيذ تعليمات صدرت عنها، إلى جانب وتضارب الصلاحيات بين الأذرع الوزارية الفلسطينية، الأمنية، الرقابية والقضائية، وتهرب ممنهج من المسؤولية وعدم إنفاذ القانون.  كل ذلك يلحق أضرارا بالبيئة والثروتين الحيوانية والنباتية كما يخسّر خزينة السلطة موارد جمركية كان يفترض فرضها على هذه التجارة. وتنشر أيضا أمراضا في الجهاز التنفسي وتحسس في عيون سكان بلدة “إذنا” وعدد من القرى القريبة غربي الخليل (بيت عوا، دير سامت، الكوم)، وتمثلها بلدية “الياسرية” جنوب الضفة الغربية.

” قررت الحكومة الفلسطينية في عام 2010 حلّ المجالس المحلية في قرى (بيت عوا، دير سامت، الكوم) ودمجها في بلديةواحدة أسمتها(الياسرية)”

 وبخلاف المسار المخصص لتبادل البضائع والسلع بين إسرائيل والضفة الغربية – من خلال أربعة معابر تجارية- تسلك “الخردة” مسارا مختلفا، إذ تأتي من داخل إسرائيل عبر حاجز مستوطنة (جيلو) جنوب القدس – علما أنه مخصص للأفراد- وصولا إلى منطقة غرب الخليل. وفي مسار العودة تذهب إلى مستوطنة (أدورا) الإسرائيلية القريبة أولا، ومن ثم إلى داخل إسرائيل، بحسب رئيس بلدية الياسرية عاطف العواودة وبحسب ما وثّق التحقيق بالصور.

 “معبر جيلو: يقع في جنوب القدس يخضع الداخلون للمدينة من الإسرائيليين فقط للتدقيق في هوياتهم، أما الخارجون منها فلا يعترض طريقهم أحد. وهذا المعبر مخصص للأفراد ولتسهيل ربط القدس الغربية بالتجمع الاستيطاني المعروف ب (غوش عتصيون) الواقع بين القدس والخليل. ومن هنا اعتمد تجار “الخردة” هذا المسار في رحلة القدوم من إسرائيل إلى الضفة.

أما في رحلة العودة.. ذهاب المعادن المستخلصة من “الخردة” إلى المستوطنة إجباري لسببين: الفحص الأمني لتسهيل إدخالها والثاني بقاؤها في الغلاف الجمركي الاسرائيلي لأن المستوطنات في الضفة تخضع للقانون الإسرائيلي. المصدر: (رئيس بلدية الياسرية عاطف العواودة)

يبلغ عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 حوالي 650 ألفا يسكنون في 144 مستوطنة. المصدر: (الجهاز المركزي للإحصاء)”

رحلة “الخردة

في العادة يذهب العامل إلى مكان العمل. لكن في حال “الخردة”، يأتي العمل إلى حيث يقيم العامل!

يُعرّف مدير معهد الأبحاث التطبيقية (غير حكومي) د. جاد اسحق “الخردة” بأنها “أجهزة الكترونية، ومخلفات صناعية وعسكرية وبقايا محركات وماكينات، يجلبها سماسرة إسرائيليون وفلسطينيون من إسرائيل إلى المناطق المذكورة. فيحرقها عمال فلسطينيون مقابل أجر زهيد لاستخلاص المعادن، ومن ثم تعود مفروزة ونظيفة إلى حيث أتت“.

وينفذ المعهد الذي يديره اسحق حاليا مشروع تعزيز وإدخال مفهوم الحوكمة البيئية، ويأخذ “النفايات الإلكترونية في بلدة إذنا بالخليل” كحالة دراسية.

1

2

3

تسلك الخردة هذا المسار نظراً للكلفة العالية في حال التخلص منها أو معالجتها في إسرائيل لأن قوانين البيئة هناك صارمة”، حسبما يشرح د. اسحق. “أما في الجانب الفلسطيني، يجد السماسرة في تقاعس الجهات الرسمية الإدارية والتنفيذية والقضائية عن منع الظاهرة، ملاذا آمناً للاستمرار بهذه التجارة غير المشروعة منذ سنوات“.  

 يتضح من دراسة أعدها “الاتحاد الإسرائيلي لحماية البيئة” عام 2011 أن العلاج السليم لطن “الخردة” –باستثناء المحركات- في المتوسط يبلغ 500 يورو (650) دولار، في حين لا تتعدى 100 دولار للطن تكلفة نقل هذه المواد إلى الضفة لحرقها عشوائيا ثم فرز المعادن النظيفة منها وإعادتها لإسرائيل.

 وعبر طرف ثالث تمكن معد التحقيق من التواصل مع مصادر في وزارة جودة البيئة الإسرائيلية، التي كشفت أن المردود السنوي من هذه التجارة غير المشروعة في السوق السوداء يبلغ ثلاثة مليارات شيكل (800 مليون دولار). هذه المصادر تقول إن نسبة التلويث نتيجة عمليات الحرق ارتفعت 7 % في إسرائيل خلال العامين الأخيرين، ويتوقع أن يكون الرقم أعلى بكثير في مناطق السلطة، وتقر هذه المصادر في وزارة جودة البيئة الإسرائيلية بوجود تجارة غير شرعية مع مناطق السلطة لكنها تدعي أن الجهات المختصة تراقب وتمنع.

 يقول رئيسا البلديتين (إذنا والياسرية) إن نسبة قليلة لا تتعدى 5 % من الخردة مصدرها المدن الفلسطينية بالضفة، يتم جمعها ثم تلتقي مع تلك القادمة من إسرائيل في انتظار رحلة العودة.

 درجة الإهمال وسوء الإدارة تصل حد قيام البلديتين بمنح خدمات الكهرباء والمياه لمحلات تجميع “الخردة” الواقعة في مناطق نفوذها، -حتى إن كانت بالقرب من مدارس، حسبما يوثق معد التحقيق. وتؤكد الجهات الرسمية أن جميع هذه المواقع غير مرخصة، ولم تستوف أيا من الشروط المنصوص عليها في قانون البيئة الفلسطيني –المذكورة أدناه- لكنها تحصل على خدمات.

 وبالإضافة إلى غياب المحرمات في الوصول إلى الهدف، (استخلاص المعادن من الخردة)، الحرق بالقرب من تجمعات سكنية، فوق الأراضي الزراعية، وتشغيل قاصرين، يكشف التحقيق أن أجهزة السلطة الفلسطينية تغمض العين عن تهربٍ ضريبي هائل في هذه التجارة، وهو ما تبرره مديرية الضريبة في الخليل بالقول: “الخردة لا تُستهلك في الأراضي الفلسطينية وانما تأتي للمعالجة فقط“.

اعتداء على البيئة 

يوضح عاطف العواودة رئيس بلدية “الياسرية” (قرى بيت عوا، الكوم، دير سامت) أن “الخردة” تأتي من إسرائيل  بواسطة تجار فلسطينيين وإسرائيليين، في انتظار فرزها واستخلاص المعادن منها، (الحديد، النحاس والألمنيوم)، على أن تعود ثانية إلى مستوطنة (أدور) الإسرائيلية، ومن ثم إلى داخل إسرائيل.

هذا المسار يختلف عن سائر البضائع المستوردة من إسرائيل إلى جنوب الضفة الغربية، والتي تدخل من معبر “ترقوميا” التجاري. إذ تخرج البضائع من هذا المعبر بأوراق ضريبية تخضع لاتفاقيات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. أما “الخردة”، فتصل من إسرائيل قادمة من (معبر جيلو) المخصص للأفراد، هذا ما يقوله عاطف العواودة رئيس بلدية “الياسرية” وتاجر “الخردة” السابق. “الخردة” تأتي وتعود على شكل معادن دون أي أوراق ضريبية.

بعد أن تصل البضاعة إلى محلات “الخردة”، تخضع لعملية فرز، لاستخلاص المعادن المختلفة، جزء بالتفكيك وجزء بالحرق العشوائي للتخلص من الزوائد البلاستيكية المُغلّفة للمعدن. وبعدها تعود المعادن المفروزة النظيفة إلى إسرائيل عبر المستوطنة”، يضيف العواودة.

 

محطات العودة

تتوقف المعادن المُستخلصة من الخردة في المستوطنة “بهدف أمني لفحص محتويات الحاويات قبل دخولها إسرائيل ويرتبط الهدف الآخر بقاء مسار البضاعة في غلاف جمركي إسرائيلي، بحيث لا يضطر التجار لدفع ضريبة القيمة المضافة في حال دخلت بطريقة رسمية عبر المعابر المعتمدة لنقل البضائع بين الجانبين”، حسبما يوضح عواودة.

يوضح مدير معهد الأبحاث التطبيقية د. جاد اسحق: “هذه آلية رخيصة للتخلص من النفايات، لأنه إذا بقيت في إسرائيل، وخضعت للقوانين الإسرائيلية فعلى كل مُلوّث أن يتحمل مسؤولية معالجتها بالطرق السليمة، ونقلها إلى مكب النفايات الخطرة في (رمومات حوفاف) في صحراء النقب. هذا بالنسبة إليهم أسهل وأرخص حل، للتخلص من هذه النفايات بأقل التكاليف“.

“نصت المادة 4 من قانون حظر ومكافحة منتجات المتسوطنات الفلسطيني الصادر عام 2010 على ما يلي: 1- تعد منتجات المستوطنات كافة سلعاً غير شرعية-2 . يحظر على أي شخص تداول منتجات وخدمات المستوطنات- 3 .  يحظر على أي شخص تقديم سلعة أو خدمة للمستوطنات.”

عاطف العواودة كان يتاجر في “الخردة” قبل أن يصبح رئيساً لبلدية الياسرية. يقول إن محل جمع “الخردة” الذي كان يمتلكه هو الوحيد الذي حاز على ترخيص من بين 200 محل في المنطقة. وتؤكد سلطة جودة البيئة والبلديتين (إذنا والياسرية) في مقابلات منفصلة مع معد التحقيق أن محلات الخردة في المنطقة جميعها غير مرخصة.

في عام 2011 دفع العواودة – كما أبلغ معد التحقيق – 1800000 شيكل (نصف مليون دولار) ضريبة لوزارة المالية الفلسطينية عن تجارته في “الخردة” لأنه كان يدخل بضاعته بطريقة رسمية وبواسطة فواتير مقاصة.

وعن سائر المحلات، يؤكد أنها “تعمل بأسماء شركات إسرائيلية تتولى جلب الخردة للحرق، ومن ثم إعادة المعادن النظيفة لإسرائيل” بحيث تبقى هذه التجارة في الغلاف الجمركي الإسرائيلي، وفي ذات الوقت تتم إعادة تدويرها بآلية رخيصة.

 برغم محاولات متكررة، يرفض أصحاب “محلات الخردة” التعامل مع أي صحافي أو شخص لا يعرفونه، بداعي أن “عيون الضريبة مفتوحة عليهم“.

يقول العواودة بثقة: “ملايين الشواكل بتروح علينا (نفقدها) كشعب فلسطيني، احنا بس بنوخذ (نحصل على) التلوث“.

وفي تعقيبه يقول مسؤول في مديرية الضريبة –اشترط عدم ذكر اسمه لانه غير مخول بالتحدث الى وسائل الاعلام- إن عدم خضوع هذه التجارة لفواتير ضريبية “يعود لأن البضاعة لا تسوق ولا تستهلك في الضفة الغربية… فهذه المادة تعود إلى داخل إسرائيل بعد إعادة معالجتها“.

واضاف: “محلات الخردة “غير مسجلة في الضريبة أصلا، ولا يوجد ملفات لدينا إلا لشركة واحدة تلتزم بدفع الفواتير كاملة هي (شركة كرامة في للمعادن)”. في حين يقول العواودة إن شركته كانت مسجلة في الضريبة قبل تصفيتها.

“المادة 3 من قانون مكافحة غسل الأموال الفلسطيني:

يعد مالاً غير مشروع ومحلا لجريمة غسل الأموال كل مال متحصل من أي من الجرائم المبينة أدناه” … الجرائم التي تقع مخالفة لأحكام قانون البيئة.”

 

تجارة ممنوعة على الورق مسموحة في الواقع

بالبحث في أرشيف الوزارات الفلسطينية، عثر معد التحقيق على وثيقة صادرة عن وزير الإقتصاد الأسبق ماهر المصري تعود إلى عام 2004، وتنص على حظر إدخال بعض السلع إلى الأراضي الفلسطينية، ومن بينها أجهزة الحاسوب المستخدمة أو أجزائها. (مرفق صورة للوثيقة).

ومنذ أن بدأت هذه التجارة قبل ثمان سنوات، بقي قرار وزارة الاقتصاد حبرا على ورق، مع استمرار تدفق مئات الشاحنات المحملة بأجهزة الحاسوب المستعملة إلى منطقة إذنا على مدار السنوات الماضية. (يملك معد التحقيق صورا وأشرطة فيديو تثبت ذلك).

يقول رئيس بلدية إذنا هشام طميزي إن “إقدام إسرائيل على إقامة الجدار الفاصل في الضفة بين عامي 2003 و 2007 أدى إلى انقطاع مئات العمال من البلدة عن أعمالهم داخل إسرائيل وفي هكذا ظروف بدأت الظاهرة بطريقة عشوائية فاجأت الجميع“.

نسبة البطالة المرتفعة أدت بالتزامن مع ارتفاع أسعار المعادن الخام في العالم إلى قيام مئات العمال بجمع الخردة من المناطق الفلسطينية، بهدف بيعها لتجار فلسطينيين يقومون بتصديرها لإسرائيل. ومن ثم تكونت نواة استيراد المخلفات الصناعية من إسرائيل لاستخلاص المعادن منها”، يضيف الطميزي.

في أماكن الحرق، ومحلات جمع الخردة، يوثّق معد التحقيق بالصور أن النفايات الإلكترونية تشكل جزءاً أصيلاً من مكونات الخردة.

وزارة الاقتصاد لم تنفّذ قرارتها بمنع دخول أجهزة الحاسوب المستخدمة رغم صدور هذا القرار. وقال مدير مديرية وزارة الاقتصاد في الخليل ماهر القيسي: “لا يوجد قرار لدى السلطة الوطنية، لمنع دخول هذه المواد إلى المناطق الفلسطينية“.

وأضاف: “كيفية تعامل المواطنين مع هذه المواد، يجب أن يكون وفق آليات لتجنب الضرر على المواطن وعلى البيئة، وهذه الآليات يجب أن تكون بالتنسيق بين الوزارات المعنية والجهات المستفيدة، إذ يعمل في هذه المهنة المئات وتشكلّ حلاً جزئيا لأزمة البطالة في الأراضي الفلسطينية“.

 

حرق عشوائي

يقول رئيس بلدية إذنا، إن معدل ما يدخل إلى البلدة يوميا يقدر بـ 30 طناً من “الخردة”، من أجل إعادة تدويرها بطرق مختلفة أبرزها الحرق.

في تاريخ 20 يوليو/ تموز 2012 قام رئيس سلطة جودة البيئة يوسف أبو صفية بزيارة المنطقة وقال: “هذه المواد يتم حرقها في مناطق قريبة من السكان، وهذا الحرق يؤدي الى انبعاث غازات خطرة مثل الديوكسين، وأقل شيء يتسبب الديوكسين بالسرطان“.

يؤكد د. رمزي صنصور مدير مركز صحة البيئة في جامعة بيرزيت أن المادة التي وردت على لسان الوزير “هي قطعاً مسرطنة“.

ولدى الاستفسار عن كيفية التأكد من وجود المادة مخبرياً يجيب د. صنصور: “للأسف لا يمكن ذلك في مختبرات محلية، ولا في مختبرات الإقليم، فقط في مختبرات موجودة في دول متقدمة يمكن ذلك، وبعد أخذ عينات بطريقة احترافية بواسطة خبراء”. د. صنصور يضيف أنه يمكن مقاربة وجود غاز الديوكسين من عدمه، نظرياً.

وبالعودة إلى تقارير منظمة الصحة العالمية (صحيفة وقائع رقم 225 أيار/مايو 2010) نجد أن “الديوكسينات من المواد شديدة السمية، وبإمكانها إحداث مشاكل إنجابية، نمائية والتسبب بالسرطان“.

وتتابع منظمة الصحة العالمية أن أحد أكبر مصادر انبعاث هذا الغاز الخطير يكون من خلال “حرق النفايات غير المراقبة (النفايات الصلبة ونفايات المستشفيات) نظراً لعدم اكتمال عملية الحرق فيها“.

*المصدر: (WHO Media Center).

توجه معد التحقيق إلى وزارة الصحة الفلسطينية، لرصد عدد حالات السرطان في المناطق المذكورة ومقارنتها مع أماكن أخرى، فكانت الإجابة “لا وجود لأي دراسة علمية إحصائية حول انتشار أمراض السرطان في المجتمع الفلسطيني، أو أماكن انتشاره“.

ويؤكد ياسر عيسى مدير صحة البيئة في مديرية الصحة بالخليل أن هناك انتشاراً مرتفعاً للأمراض الجلدية والتنفسية في بلدة إذنا لكن أيضاً لا يمكن قياسها عددياً، كون العلاج يتوزع بين عيادات خاصة، حكومية وثالثة أهلية.

وقال الطبيب صلاح الطميزي المقيم في عيادة طبية خاصة في قرية إذنا: “هناك ارتفاعا في نسبة تحسس القصبة الهوائية والربو المتوسط عند الاطفال، بالاضافة الى ارتفاع نسبة المواد الكبريتية الزائدة في الدم أدت الى زيادة امراض التهيج القصبي القولوني وتحسس الجيوب الأنفية فضلا عن الأمراض الجلدية الاخرى”. ولدى محاولة التوثيق اصطدم معد التحقيق في حقيقة غياب تسجيل الحالات المرضية التي تصل الى العيادات في المنطقة، فكل مريض يكتب له وصفة طبية لشراء الادوية وينتهي الامر.

يقول المتخصص في الصناعات الدوائية عبد الحميد اسليمية – من أبناء بلدة إذنا – إن نسبة الأمراض الصدرية والتنفسية مرتفعة في إذنا، وبالنسبة والتناسب تستهلك إذنا من الأدوية المتعلقة بأمراض التحسس الصدري ما معدله ضعفا ما تستهلكه اي بلدة أخرى مع الاخذ بعين الاعتبار عدد السكان وهو ما يؤشر الى نسبة انتشار المرض.

وللحصول على معلومة محددة اكد 8 من أصل 10 ممن عملوا في حرق “الخردة” انهم عانوا من مرض واحد على الاقل من الامراض المذكورة أعلاه. يقول هؤلاء إن ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية وغياب البدائل يضطرهم لهكذا عمل.

تقول اعتماد جبر المعملة في مدرسة (الكوم) الأساسية المتخلطة، إنها تلاحظ حالة “من التسطيل على الطلبة، بعد أن يدخل دخان الحرائق إلى الفصول المدرسية، ويستمر كذلك حتى انتهاء الدوام“.

ومن المشاهدات الميدانية لمعد التحقيق فإن “الخردة” تخرج من محلات تجميعها بصحبة عمال (في الليل غالبا) إلى الأراضي الزراعية لحرقها وقبل الصباح تعود إلى المحلات على شكل معادن نظيفة. (يمتلك معد التحقيق مقاطع فيديو توضح ذلك(.

عادة ما يمتنع العمال عن الحديث خشية تعرضهم للملاحقة كما يدّعون، ولكن هناك من استطعنا أخذ شهادته. “العمال بهذا المجال الخطر لا يحظون بأي تأمينات ضد إصابات العمل، كما أنهم لا يرتدون المناسب من الملابس، والأحذية”. وهذا ما شاهده معد التحقيق ويؤكده أهالي المنطقة.

وقال (غ. ع): “في إحدى المرات بعد أن وصلت كمية من الخردة من إسرائيل “كان في الكمية طن وسبعمئة كيلو غرام من الألغام والصواريخ، لو انفجرت فينا بنصير؛ والسماء والطارق“.

في أرشيف الشرطة الفلسطينية عشرات الصور التي تعود لنوفمبر/ تشرين الثاني 2011 عن مصادرة مئات من قذائف الهاون. وتصرح الشرطة بأن طواقم هندسة المتفجرات كانت تصل إلى المكان وتتحرز على المعدات العسكرية من قذائف ومتفجرات.

الموقع الرسمي للشرطة الفلسطينية (انقر هنا)

عامل آخر يدعى محمد يقول إنه طالب جامعي، واختار العمل في هذه المهنة نظراً إلى أن أي جهة أخرى لن تسمح له بالخروج من العمل من أجل الذهاب إلى المحاضرات بينما تمنحه هذه

المهنة حرية العمل متى شاء في حرق “الخردة“.

 

الزيتون الأسود

عبد المجيد سالم حمدان أحد مربي النحل المعروفين، وعضو مؤسس في بلدية “إذنا” يقول إن “البلدة فقدت قرابة 3000 خلية نحل بفعل دخان حرق الخردة، والخلية الواحدة كانت تنتج ما معدله 10- 15 كيلو غرام من العسل قبل عام 2006“. 

حمدان يشدد على العلاقة السببية، بين هروب النحل من خلاياه ودخان الخردة، “لأن النحل بقى يعطي على مدار سنوات، قبل ظاهرة الحرق دون أي مشاكل“.

في موسم قطف الزيتون، تصبح ملامح المزراعين شبيه بـ “ميكانيكي السيارات”، بسبب ترسبات سوداء على أوراق الشجر مع استمرار الحرق، هذا ما يرويه صبري مرشد من مزارعي المنطقة. ويقول: “لا يستطيع أن يأكل زيتونه، ولا بيعه، بسبب ترسب ذرات الدخان الدقيقة على الثمر“.

 

ردع صوري وتضارب صلاحيات

لا تقوم وزارتا العمل والصحة بمتابعة ورشات “الخردة” كل في مجال تخصصه، بحسب رئيس بلدية “إذنا”. يقول: “الكل يحاول تصدير الأزمة إلى البلدية، (…) أين دور وزارة العمل في الحد من عمالة الاطفال؟، ولماذا لا تتابع وزارة الصحة الامراض الناتجة عن الحرق؟“.

 “سلطة جودة البيئة ترفض ترخيص هذه المحلات وترفض وجودها… كلها غير مرخصة لأنها تضم بعض المواد الخطرة التي تعتبر مضرة وسامة ومسرطنة”، هذا ما يقوله نائب رئيس السلطة جميل المطور. لكنه يستدرك: “بعض المحلات تحصل على ترخيص محلي داخلي من البلديتين“.

هنا يرد رئيس بلدية إذنا: “البلدية لم تشرعن أي من المحلات القائمة لأنها تفتقد لشروط السلامة والحماية وعلى كافة الدوائر الحكومية ذات العلاقة القيام بدورها“.

ورغم أن قانون البيئة الفلسطيني الصادر عام 1999 نصّ في المادة 48: “على الجهات المختصة عدم إصدار أي تراخيص لإقامة المشاريع، المنشآت أو أي نشاطات إلا بعد الحصول على موافقة من وزارة البيئة”، فإن قرابة 200 منشأة مقامة كلها لم تحصل على تراخيص لكنها مخدّمة بالمياه والكهرباء من بلديتي “إذنا” و”الياسرية“.

بعض محلات الخردة التي تقع خارج حدود البلدات تحصل على ترخيص من وزارة الحكم المحلي (وزارة البلديات) بذات الأسلوب. يقول رائد الشرباتي مدير مديرية الحكم المحلي في الخليل إن هذا القطاع يحتاج الى تنظيم، لافتا الى أن إحصائيات لديه تفيد بأن هناك أكثر من 2000 عامل يعتاشون من هذا القطاع. وبحسب الشرباتي ورئيسي البلديتين فإن منح الترخيص يتم في البداية لغرفة زراعية على قطعة أرض وبعد ربطها بالكهرباء والمياه يقوم صاحبها بتحويلها لمحل “خردة“.

مدير دائرة صحة البيئة في محافظة الخليل أكرم شروف يقول إن التركيبة العائلية في المنطقة جعلت “أي أحد لا يستطيع رفع قائمة بأسماء من يقومون بالحرق ونحن طلبنا من بلدية إذنا الأسماء لكنها لم تفعل“.

ويقر رئيس بلدية “إذنا” هشام طميزي بصعوبة تطبيق القوانين بدون مساندة الأمن: “نظراً لطبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والعمل البلدي الشاق، فإن هناك أمورا لا يمكن تطبيقها حتى لو كانت قانونية وبوجود الجهات التنفيذية”. ويرى في المقابل: “هذه مشكلة أمنية بإمتياز، وتستطيع الأجهزة الأمنية إنهاء هذه الظاهرة في لمح البصر“.

 يدعو طميزي إلى أن تتعامل الأجهزة الأمنية من خلال “بعد معلوماتي أمني” حول الجهات أو الأشخاص الذين يقومون بعمليات حرق “الخردة” والتعامل معهم بحزم.  

معظم عمليات الحرق تتم في الليل، لأن سحب الدخان الكثيف تختلط بسواد الليل. كما يقول رئيس بلدية “الياسرية” عاطف العواودة الذي يؤكد أنه قام شخصياً باستدعاء الشرطة بينما كانت الحرائق مشتعلة في محيط السكان “لكنها لا تأتي“.

ويعتبر قائد شرطة بلدة “إذنا” حاتم كعبر أن الحرق في الليل دليل على الخوف من الشرطة، مؤكدا أن “الشرطة تستجيب للبلاغات في كل وقت في الليل والنهار“.

على أن العشرات من أهالي المنطقة أبلغوا معد التحقيق بأن “الشرطة لا تستجيب في غالبية الأحيان لبلاغاتهم حول وجود أعمال الحرق ليلا“.

معدل عدد البلاغات لدى الشرطة في كل عام يتراوح بين 50- 100 في حين كان 12 طفلا من بين 25 شخصا تم القبض عليهم خلال الشهور الأربعة الأولى من عام 2010 بحسب السجلات في مركز شرطة “إذنا“.

“بموجب الاتفاقيات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل يتطلب تحرك الشرطة إلى الأماكن غير المأهولة في هذه المناطق موافقة مسبقة من الجيش الإسرائيلي.”

يؤكد حاتم كعبر أن “دوريات الشرطة تقوم بدورها على أكمل وجه، وتلقي القبض على أي شخص يقوم بالحرق واحالته للقضاء”، لكنه يشدد على أن “دور الشرطة يقتصر على مكافحة الحرق، وليس منع دخول الخردة إلى بلدة إذنا”. وهو يرى أن القانون لا يحظر دخول هكذا مواد من إسرائيل.

المادة 13 من قانون البيئة:

 أ- يحظر استيراد النفايات الخطرة إلى فلسطين.

ب- يحظر مرور النفايات الخطرة عبر الأراضي الفلسطينية أو المياه الإقليمية أو المناطق الاقتصادية الخالصة إلا بتصريح خاص من الوزارة.

يقول نائب رئيس سلطة جودة البيئة (وزارة البيئة) جميل مطور إن جزءا من “الخردة” يعد ضمن نفايات صلبة تحوي مواد خطرة.

المادة 50 من قانون البيئة الفلسطيني: تقوم الوزارة بالتنسيق مع الجهات المختصة بمراقبة المؤسسات والمشاريع والأنشطة المختلفة للتحقق من مدى تقيدها بالمواصفات والمقاييس والتعليمات المعتمدة لحماية البيئة والمصادر الحيوية، الموضوعة من قبلها وفقاً لأحكام هذا القانون.

خلقت حالة تبادل الإتهامات، وغياب الرؤيا الواضحة للتعامل مع الظاهرة، بيئة حاضنة لدخول كل أنواع النفايات الصلبة من إسرائيل إلى البلدات الفلسطينية. وبينما تقوم الشرطة بمكافحة جزئية لعملية الحرق، تغض كل الجهات المختصة الطرف عن دخول عشرات آلاف الأطنان من “الخردة” طيلة السنوات الماضية الامر الذي أدى الى افشال خطط المكافحة. هكذا يعتقد حمد فضل العسود عضو اللجنة الشعبية لمكافحة ظاهرة التلوث البيئي في بلدة إذنا. ويتساءل: لماذا لا يتم منع دخول هذه المواد؟.

المحاكم

وثّق معد التحقيق ستا من قرارات المحاكم الفلسطينية، صدرت بين بداية عام 2009 ونهاية عام 2011 بحق عمال خردة تم القاء القبض عليهم إبان عمليات الحرق. وتراوحت العقوبات القضائية بحقهم، بين الإعفاء التام، وصولاً إلى أقساها الحكم بغرامة قدرها 100 دينار أردني (140 دولار) وبعضها الحبس لمدة أسبوع، استنادا الى المادة 23 من قانون البيئة الفلسطيني،

المادة 23 من قانون البيئة الفلسطيني:

“يحظر إلقاء أو معالجة أو حرق القمامة والمخلفات الصلبة إلا في الأماكن المخصصة لذلك ويعاقب من يخالف غرامة لا تقل عن عشرة دنانير أردنية ولا تزيد على مائة دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانوناً، وبالحبس مدة لا تقل عن يومين ولا تزيد على أسبوع، أو بإحدى هاتين العقوبتين“. 

ويرى قائد شرطة “إذنا” أن بنود القانون التي يتم تطبيقها عند النيابة او القضاء، غير رادعة لأنها تنطبق على حالات فردية يقوم فيها المخالفون بحرق النفايات الصلبة مثل (نفايات المنازل) في الاماكن غير المخصصة لذلك، ولا تتعلق بظاهرة واسعة كالتي تجري في إذنا والمناطق القريبة.

من يتحمل المسؤولية؟

نَمت ظاهرة “حرق الخردة” في بيئة معقدة على الأرض، حيث السيطرة لسلطة الاحتلال من جهة وللسلطة الفلسطينية بمؤسساتها الأمنية والمدنية. ولمّا كانت إسرائيل هي المتحكم الوحيد بالمعابر فإن مسؤولية دخول هذه المواد إلى الضفة الغربية المحتلة والمعالجة العشوائية لها تقع على عاتقها. تقول مصادر وزارة جودة البيئة الإسرائيلية أن إسرائيل تحتاج مادة النحاس لأن استيرادها من الخارج مكلف جدا.

ولكن أهالي المنطقة المتضررين يرون أنه وطالما كان لسلطة الاحتلال مصلحة في “التخلص الرخيص” من المخلفات. فماذا عن السلطة الفلسطينية التي يدفع رعاياها الثمن؟.  

برغم الآثار البيئية والصحية التي تؤكد أجهزة السلطة الفلسطينية وقوعها في المناطق المذكورة على مدار السنوات الماضية إلا ان السلطة امتنعت عن اتخاذ قرار إداري أو سياسي يمنع دخول المخلفات الى الاراضي التي تخضع لسيطرتها، والمناطق السكنية الواقعة في نفوذ بلدياتها.

لم تقم سلطة جودة البيئة (وزارة البيئة) بأي محاولة لإغلاق محلات الخردة بإصدار أمر إداري انطلاقا من الصلاحيات والنصوص الصريحة الممنوحة لها في قانون البيئة، كما لم تلجأ إلى المحاكم لاستصدار أمر قضائي بذلك، رغم إعلانها انها ترفض وجود المحلات.

وزارة الاقتصاد امتنعت عن تطبيق قرارها بحظر دخول أجهزة الحاسوب المستخدمة برغم صدور قرار رسمي مكتوب.

وواصلت البلديتان ووزارة الحكم المحلي تقديم خدمات الكهرباء لمكبات “الخردة” رغم عدم استيفائها شروط الترخيص. كما أن وزارة العمل لم تفعل ما من شأنه منع عمالة الأطفال في هكذا قطاع. وقبلت وزارة التربية والتعليم بواقع وجود مكبات “الخردة” على بعد أمتار من المدارس.

وبرغم إحالة الشرطة العشرات من حارقي “الخردة” الى النيابة العامة ومن ثم إلى المحاكم، لم تُجرِ النيابة العامة أي تحقيق معهم حول طبيعة المواد التي كانوا يحرقونهاـ ولم تسأل عن مصدرها أو عن مشغليهم، فقط قامت بتكييف تهمة عقوبتها غير رادعة وفق المادة 23 في قانون البيئة الفلسطيني. هذا ما يتضح من محاضر المحاكم التي بحوزة معد التحقيق. كما أن قضاة المحاكم اكتفوا بـ “البينات” التي كان يقدمها وكلاء النيابة دون أن يطلبوا استشارة فنية حول مدى خطورة الموضوع الذي يصدرون أحكاما بشأنه مع تكرار الحالات.

اما وزارة المالية ودائرة الضريبة، فترى أنه طالما أن “الخردة” لا تاتي من إسرائيل لتسويقها في الضفة فلا داعي لاخضاعها للأنظمة الضريبية المعمول بها. هذا بالإضافة إلى أن الاطراف سالفة الذكر تتبنى نهج تبادل الاتهامات، بدلا من التنسيق فيما بينها لمكافحة الحرق في ظل غياب قرار حاسم يمنع دخول المخلفات.

لم يتوصل منفذ التحقيق إلى أدلة قطعية بأن هناك جهات رسمية تتواطأ مع المستفيدين من هذه الظاهرة، وان كانت نتيجة الإهمال تتشابه مع نتيجة التواطؤ. إلا أن فرضية التواطؤ يتبناها عاملون على مكافحة حرق “الخردة”. وتقول سارة العواودة مديرة جمعية النهضة الأسرية الناشطة في المنطقة: “هناك مسؤولون معنيون ببقاء الظاهرة، رغم آثارها الكارثية”. وتتساءل العواودة “هل يسمحون لي بالاتجار بالمخدرات؟ ما الفرق بين هذه التجارة وتجارة المخدر؟ هذه تجارة موت والمخدرات تجارة موت“.

ولحين تطبيق بنود القانون يبقى أطفال مدارس المنطقة يحلمون ببيئة دراسية نظيفة بعيدا عن سحب الدخان الصادرة عن حرق الخردة وأضرارها.

 

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) وبإشراف الزميل محمد ضراغمة.


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *