تجميل بـ"صودا كاوية" يحرق الوجوه

8 مارس 2015

فيتو – “لما اشتريت كريما للبشرة.. كان نفسي أعمل زي ممثلات السيما.. لكن يا ريتني ما اشتريته”، نطقت ناريمان الفتاة العشرينية تلك الكلمات بحسرة، وهي تتحسس بيديها بشرتها الملتهبة.

تقول ناريمان: إنها اشترت علبة من مستحضر “قناع تنظيف البشرة” في مارس/ آذار 2014 من سوق العتبة- وسط القاهرة-  مقابل ستة جنيهات (أقل من دولار)، وما إن استعملت “الدهان” الذي يميل لونه للاصفرار، حتى شعرت بالتهابات حارقة في بشرتها، لم تستطع بسببها السير تحت أشعة الشمس.

سارعت ناريمان إلى طبيب الأمراض الجلدية الدكتور أحمد عبد الباقي في منطقة الصف بمحافظة الجيزة- محل سكنها- ليبلغها بأن وجهها تعرض لحروق، نتيجة استعمالها مستحضرا يعرفه العامة باسم “قناع تنظيف”، أو “صنفرة” البشرة، الذي يحضّر من عدة مواد بينها الصودا الكاوية في مصانع غير مرخصة.

ما تعرضت له ناريمان، واستدعى علاجا دوائيا على مدى أربعة أيام ينسحب على آلاف الفتيات والسيدات من مرتادات سوق العتبة، وغيرها من الأسواق الشعبية في مصر، حسبما توصل إليه معد التحقيق. وتتفاوت شدة الضرر حسب درجة حساسية البشرة؛ إذ ينبّه أستاذ الأمراض الجلدية /رئيس المركز القومي للبحوث سابقا الدكتور هاني الناظر إلى أن الحروق الناجمة عنه، قد تصل إلى الدرجة الثانية. (إطار- ما هي الحروق درجة ثانية/ ثالثة وأولى).

وزارة الصحة تنفي مسؤوليتها عن وجود تلك المنتجات في الأماكن غير المرخصة، في حين تفيد وزارة الداخلية بأنها تلاحق مصانع “بير السلم”، أو مصانع مستحضرات التجميل غير المرخصة. وتؤكد الداخلية أنها أغلقت 188 مصنعا عام 2014، لكن العديد منها لا يزال يعمل في الخفاء في المناطق العشوائية، حسبما عاين معد التحقيق.

في ديسمبر/ كانون الأول 2014 وصلت السيدة أمينة إلى مستشفى “الحوض المرصود” للأمراض الجلدية بالقاهرة، تستنجد بالأطباء لعلاج طفلتها ذات السبع سنوات، واكتشف الأطباء إصابة الطفلة بحروق من الدرجة الأولى بعد أن وضعت على وجهها بعضا من مستحضر “صنفرة البشرة” الذي اشترته والدتها من سوق العتبة، واحتاجت الطفلة إلى علاج أولي، وهو عبارة عن كريم للحروق يحمل اسم “ميبو” تضع الطفلة منه 4 مرات يوميا لمدة أسبوعين مع تجنب التعرض لأشعة الشمس.

يقول الحلاق إسلام في منطقة حلوان بالقاهرة إن زبائنه يطلبون استخدام مستحضر “صنفرة البشرة” لرخص سعره. فتكلفة عملية تنظيف البشرة لا تزيد على ثلاثة جنيهات (أقل من نصف دولار) باستخدام هذا المستحضر مقابل 30 جنيها للمستحضر الطبي.

في الإجمال، يؤكد أصحاب 17 صالون حلاقة من أصل 20  في القاهرة والجيزة، زارها معد التحقيق أنهم يستخدمون مستحضرات تجميل مجهولة المصدر.

ويقول الحلاق بمنطقة “بولاق أبو العلا” في القاهرة محمد حامد إن “غالبية مستخدمي هذه المستحضرات من الفئات الأكثر فقرًا، ويعملون غالبا في وظائف شاقة مثل عمال البناء. وهم يترددون على صالونات الحلاقة مرة كل شهرين تقريبًا”.

   يقول محمود حامد (17 عاما) إن تجريبه مستحضر “صنفرة البشرة” استدعى ذهابه إلى صيدلية بجوار مسكنه في “بولاق أبو العلا”؛ ليشتري منها مرهما ضد الحروق، لاستعماله مرتين يوميا لمدة أسبوعين. أما العامل عماد فتحي، فيؤكد أنه ابتعد عن استعمال هذه “الصنفرة” بعدما شعر بالتهاب شديد دفعه إلى إزالتها فورا من على وجهه وتعنيف الحلاق.

وفي منطقة المعصرة بالقاهرة، أفسد مستحضر صنفرة البشرة ليلة زفاف مينا عوض (27 عاما). إذ عرض عليه الحلاق استخدامه، وتحمل معاناة آثار التهاب بشرته التي استمرت عدة أيام، ولم يتمكن من الذهاب للطبيب بسبب مراسم الزواج.

وفى حي إمبابة بمحافظة الجيزة، يكشف الحلاق سيد ناصر عن إضافة أصحاب صالونات حلاقة في المناطق الشعبية المياه إلى هذا المستحضر؛ للتقليل من درجة الالتهابات.

ويؤكد السائق أحمد رشاد (إمبابة) أنه يستخدم كريما مرطبا للبشرة كلما أجرى عملية «صنفرة»؛ بسبب إحساسه بالتهاب في البشرة لنحو 24 ساعة. ويدفع رشاد خمسة جنيهات مقابل هذه العملية.

وفى مدينة 6 أكتوبر القريبة من القاهرة، يقول حسن أحمد ( صاحب صالون تجميل) إنه يحرص على شراء مستحضرات التجميل من صيدليات معتمدة من وزارة الصحة، مبينا أن تكلفة الصنفرة للمرة الواحدة في صالونه تصل لـ 30 جنيها.

الأصل.. مصنع بير سلم

رحلة البحث عن أصل هذا المستحضر بدأت من منطقة العتبة التجارية المزدحمة في وسط القاهرة. على أطراف سوق العتبة يقف الستيني عمر، ذو الجسد النحيل، مناديا بصوت عالٍ على بضاعته من مستحضر تنظيف البشرة: «لمّع وشك يا بيه.. نظفي وشك يا هانم بـستة جنيات». وحين فاوضه معد التحقيق حول سعر المستحضر، أبدى البائع استعداده لبيعه بسعر الجملة كما صالونات التجميل في المناطق الشعبية إذا اشترى منه كمية، وهو 12 علبة مقابل 24 جنيها بسعر جنيهين للعلبة.

يقول عمر إنه يبيع نحو 50 علبة “قطّاعي” كل ثلاثة أيام تقريبا. وحين تصله طلبية جديدة يتصل بالمورد ليبلغه بالكمية التي يحتاجها. «أنا معرفش بييجوا منين؟ فيه عربية بتجيب المنتجات وأنا أعطيهم الفلوس.. وكمان معرفش بيعملوها إزاي ومن إيه»، حسبما يقول لمعد التحقيق.

رحلة بير السلم

راقب معد التحقيق البائع طوال النهار على مدى ثلاثة أيام في أبريل 2014 لرصد مورد هذا المنتج. وفي الحادية عشرة من صباح اليوم الثالث، وصلت سيارة خاصة محملة بكمية كبيرة من علب مستحضرات التجميل في الحقيبة الخلفية. تصافح البائع مع سائق السيارة الذي أنزل (كرتونتين)، وأخذ منه ثمن الصفقة.

تتبع معد التحقيق السيارة، من منطقة العتبة حتى توقفت أمام عمارة سكنية في إحدى حواري منطقة دار السلام في حي مصر القديمة. دخل السائق إلى شقة في الدور الأرضي، وبعد قليل خرج وبصحبته عمال يحملون كراتين بها عبوات كالتي أنزلها عند البائع في سوق العتبة. وضع العمال الكراتين في حقيبة السيارة بينما كان يتابعهم رجل أربعيني يرتدي “جلبابا”

وبعد انطلاق السيارة في مهمة توزيع جديدة، اقترب معد التحقيق من أحد العمال، وسأله إن كانت لديهم فرصة عمل. أشار العامل إلى الرجل الأربعيني، قائلا: “اسأل الحاج جمالو.. صاحب المصنع”

معد التحقيق أبلغ الرجل بأنه جاء من قرية في محافظة سوهاج بصعيد مصر، ويرغب في الالتحاق بأي عمل ليساعد أسرته. رمقه الرجل بنظرة غير مبالية، وقال: “خش شيل معاهم البراميل وهعملك يومية 50 جنيها”.

المصنع عبارة عن شقة مؤلفة من أربع غرف وصالة كبيرة. تخزّن براميل المواد الخام في غرفتين فيما تخصص غرفتان لعملية التصنيع. يضم المصنع خمسة عمال في العشرينات من العمر. أحدهم مكلف بشراء المواد الخام من منطقتي العتبة والحسين وثلاثة يعملون في تحضير مستحضر «صنفرة البشرة» وأما الخامس فهو السائق الذي يتولى التوزيع.

يستخدم العمال براميل لمزج مكونات «صنفرة البشرة»، ومنها مادة هيدروكسيد الصوديوم أو «الصودا الكاوية» كما يعرفها العمال. يرتدون أكياسا بلاستيكية في أيديهم ويستخدمون عصا خشبية في مزج المواد في البراميل على مدى ساعات العمل من الصباح حتى السادسة مساءً، تتخللها فترة استراحة ساعة لتناول الغداء.

معد التحقيق، عمل يومين في تنظيف المصنع ونقل البراميل، وتعبئة قناع تنظيف البشرة في العلب الصغيرة.

في البدء، يضع العمال في كل برميل ثمانية جالونات من مادة “السكسابون” التي تعطي للمستحضر لونا ذهبيا، ثم تضاف ستة جالونات من هيدروكسيد الصوديوم، تعقبها مادة (المغلظ)، وهي عبارة عن مسحوق “بودرة”، يكسب المستحضر قواما لزجا. ويعود العمال لإضافة ثمانية جالونات من الصودا الكاوية، وتمزج هذه المواد في البرميل، مع اشتراط أن تكون باردة، باستخدام عصا خشبية لنحو 45 دقيقة حتى تصبح معجونا لزج القوام.

في أثناء العمل، سأل معد التحقيق صاحب المصنع عن سبب إضافة الصودا الكاوية رغم تأثيرها على الجلد، فيجيب الرجل: إنها أهم مادة في مستحضر “صنفرة البشرة” فهي على حد وصفه سبب نضارة الوجه؛ لأنها تزيل الطبقة الميتة من الجلد.

وفى مقابلة لاحقة، يدافع صاحب المصنع عن المنتج، ويعده غير مضر، مؤكدا أن نسب الخلط الموجودة فيه مناسبة، ويكتفي بالقول:”كل التجار شغالين على نفس المواد، ولم تردنا شكاوى من المنتج. مش أنا فقط”، رافضا استكمال الحديث.

النوافذ مغلقة، وستائرها مسدلة باستمرار؛ لتجنب نظرات المتطفلين إلى ما يدور داخل المصنع غير المرخص، حسبما يقول العمال. حجم الإنتاج في اليوم الواحد يقدر بـ 1600 علبة، زنة كل منها 500 جرام، توزع على تجار الجملة، والتجزئة بالقاهرة الكبرى.

بين الحين والآخر يتفقد صاحب المصنع العمال، ويطالبهم دوما بالتزام الهدوء، وعدم إثارة مشاكل مع السكان وأهالي المنطقة، فيما يقضي معظم أوقاته على مقهى قريب؛ للاطمئنان على سير العمل.

مادة حارقة

في اليوم الثاني حصل معد التحقيق على إحدى عبوات قناع تنظيف البشرة، ثمّ توجه  إلى معمل البحوث الدقيقة بجامعة القاهرة لتحليلها، حيث أظهرت النتائج أن نسبة هيدروكسيد الصوديوم، أو “الصودا الكاوية” في العينات تتراوح  بين 18- 20 %، وهي  النسبة التي تسبب حروقا من الدرجة الثانية، وفق تأكيد الدكتور هانيالناظر أستاذ الأمراض الجلدية، ورئيس المركز القومي للبحوث سابقا.

الناظر يقول:” إن تخفيف المستحضر بالمياه لاينهي خطورته، بل سيبقي حجم الضرر للبشرة ومدى إصابتها بتشوه أو حروق معتمدا على مدى تأثرها بالحساسية الناتجة عن استخدام المستحضر”.

مديرة إدارة التفتيش الصيدلي بوزارة الصحة د. مديحة أحمد تؤكد من جانبها أن الصودا الكاوية لا تدخل في صناعة مستحضرات التجميل على الإطلاق. فالمواصفة القياسية لمستحضرات تجميل البشرة تحظر استخدام أي مواد من شأنها إصابة مستخدميها بالحساسية، وهو الأمر الذي يتعارض مع وجود مادة هيدروكسيد الصوديوم في هذا المستحضر.

وتؤكد أن الوزارة تنفذ حملات تفتيش مفاجئة على الصيدليات للتأكد من عدم وجود مستحضرات تجميل مجهولة المصدر. لكن مهمة إدارة التفتيش الصيدلي تقتصر على الإشراف على الصيدليات المرخصة لدى وزارة الصحة بشكل رسمي.

في مصر قرابة 63 ألف صيدلية مرخصة في حين يعمل بالوزارة نحو ألفي مفتش، أي مفتش واحد لكل 30 صيدلية. وحرّرت الوزارة نحو ثلاثة آلاف مخالفة بخصوص مستحضرات التجميل خلال عام 2014، من بينها إغلاق 27 صيدلية، وإحالة المخالفين إلى النيابة الإدارية.

وتقول إن من ضمن الأسباب التي أدت إلى إغلاق هذه الصيدليات هي بيع هذا المستحضر “محور التحقيق”، فضلا عن مخالفات أخرى وقعت فيها الصيدليات سواء من بيع أدوية منتهية الصلاحية، أو أدوية مغشوشة، وأوضحت في الوقت ذاته أنها لا تملك معلومات تفصيلية عن أسباب غلق كل صيدلية في الوقت الراهن.

إضافة الصودا الكاوية تضع منتجي هذا المستحضر وصالونات الحلاقة التي تستخدمه تحت طائلة المادة الثانية من قانون مكافحة الغش والتدليس رقم 48 لسنة 1941 المعدل بالقانون رقم 281 لسنة 1994، والذي يعاقب على الغش في المستحضرات بعقوبة تصل إلى الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز خمس سنوات مع غرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تتجاوز 30 ألف جنيه أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر. ويعد المستشار زكريا شلش رئيس محكمة جنايات الجيزة أن العقوبة صارمة، ومتناسبة، لكن المشكلة تكمن في تقديم الجناة للعدالة.

ويقول المتحدث الرسمى باسم وزارة الداخلية اللواء هاني عبد اللطيف: إن الحملات على مصانع “بير السلم” أسهمت بشكل كبير في الحد منها. لكنه يؤكد أن عددا من هذه المصانع لا يزال يعمل بعيدًا عن أعين رجال الأمن. ويضيف إن الوزارة أغلقت نحو خمسة آلاف مصنع غير مرخص خلال عام 2013، منها 122 مصنعا لمستحضرات تجميل في حين ارتفع عدد المصانع المغلقة خلال 2014 نحو 188 مصنعا.

أما رئيس شعبة مستحضرات التجميل بالغرفة التجارية محمد البهي فيقدر حجم تجارة مستحضرات التجميل مجهولة المصدر في مصر بنحو مليارى جنيه موضحا أن حجم تجارة مستحضرات التجميل يصل إلى نحو 500 مليون دولار سنويا.

وما بين صرخات ناريمان، ومحاولة إفساد عرس مينا، يظل المواطن المصري، فريسة لتجار بلا ضمير، يستخدمون مواد حارقة لجني أرباح على حساب المواطن الفقير، في حين تحركات وزارتى الداخلية والصحة ليست كافية لحماية الناس من تجار مستحضرات التجميل .

 الصودا الكاوية واستخداماتها

مادة هيدروكسيد الصوديوم (الصودا الكاوية) لها تأثير كاو على الجلد، وتذوب في الماء بسهولة لتصبح محلولا قلويا، وتباع في أسواق العتبة والموسكي بقلب القاهرة، كأحد منتجات شركات الصناعات الكيماوية. ويعد ملح الطعام (كلوريد الصوديوم) العنصر الأساس في تصنيع هذه المادة، وللصودا الكاوية عدة استخدامات منها:

–  صناعة الورق.

–  صناعة الصابون.

–  تنقية البترول من الشوائب الحامضية.

–  إنتاج الألومينا.

–  تنظيف الأرضيات.

 – ترميم نوافذ الزجاج المرصص.

–  مقشر الدهانات.

–  في التحليل الكيميائي.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *