الشروق – خرجت الحاجة مريم منتصرة من مستودع البوتاجاز وهى تحمل على رأسها تلك الأنبوبة التى طال انتظارها. لكنها سرعان ما التفتت وسط نشوتها إلى جاراتها اللواتى مازلن يقفن فى الطابور وقالت فى حسرة «الأنبوبة نُزعت منها البركة.. لم تعد كافية لأكثر من عشرة أيام بعدما كانت تكفى أسبوعين».
فاحذر أيها المواطن عند شرائك أنبوبة بوتاجاز بعد أن تجتاز الدور وتحقق ما أصبح حلما للمصريين على وقع أزمة اختفاء غاز الطهى الذى تستورد مصر نحو 50% من احتياجاتها منه والتى تفاقمت بعد ثورة 25 يناير 2011. فهذا التحقيق الاستقصائى الذى استغرق ثلاثة أشهر تم خلالها وزن 38 أنبوبة بوتاجاز أظهر تلاعبا فى الأوزان المقررة للغاز فى الأسطوانات على حساب المواطن ولصالح مصانع التعبئة البالغ عددها 51 مصنعا فى مصر منها 43 تابعة للقطاع الخاص وثمانية مصانع تابعة لشركة بتروجاس الحكومية.
تتبعنا دورة ميلاد أنبوبة البوتاجاز بداية من مصانع التعبئة إلى مستودعات التوزيع ثم الموزعين أو المتعهدين ثم المستهلك. وتخصص شركة بتروجاس ــ الشركة الحكومية الوحيدة المنوط بها إنتاج الغاز وتوزيعه على المصانع ــ حصّة لكل مصنع تعبئة حسب احتياجات المحافظة التى تتبع المصنع وعدد السكان. وتنتج الشركة حوالى عشرة فى المائة من احتياجات مصر فى حين يتم استيراد كمية تعادل 50% تتولى الشركة أيضا توزيعها على المصانع.
ووجدنا نقصا فى غالبية الأنابيب التى وزناها بلغ فى المتوسط 1.5 كيلوجرام من وزن الغاز المعبأ الذى يفترض أن يكون 12.5 كيلوجرام، بحسب قرار لوزير البترول برقم 55 لسنة 1991 وهو ما يعنى خسارة حتى للمحظوظين الذين يحصلون على أنابيب تعادل حوالى 10% من الوزن المفترض.
عرضنا الأمر على مسئولى الشركات ووزارتى البترول والتموين.. البعض رفض الإقرار بوجود المشكلة أصلا واكتفى آخرون بتبادل الاتهامات بالمسئولية.
مفاجأة أخرى كشف عنها التحقيق هى وجود باب خلفى لتسريب الفائض الذى تحققه مصانع للتعبئة من إنقاص الوزن، إذ تبيع الأنابيب بسعر مضاعف لورش تصنيع الطوب الأحمر التى يفترض أنها تعمل بالمازوت لكنها تحقق مكاسب بآلاف الجنيهات يوميا هى الأخرى من استخدام اسطوانات الغاز. أى أن مصانع التعبئة تحقق مكاسب مزدوجة من إنقاص الوزن وبيع الأنابيب لمصانع الطوب.
دورة أنبوبة البوتاجاز تبدأ من مصانع التعبئة إلى مستودعات التوزيع ثم الموزعين أو المتعهدين ثم المستهلك. وتخصص شركة بتروجاس حصّة لكل مصنع تعبئة حسب احتياجات المحافظة التى تتبع المصنع وعدد السكان. ويبلغ الإنتاج المصرى من أسطوانات الغاز نحو 355 مليون أسطوانة سنويا بواقع 30 مليون أسطوانة تقريبا فى الشهر. وإذا قسمناها على 15 مليونا و200 ألف أسرة مستخدمة فى البلاد، يصبح نصيب كل أسرة أنبوبتين شهريا. ويبلغ حجم الدعم الذى تقدمه الدولة لأنابيب البوتاجاز 15 مليار جنيه سنويا، وفق تقرير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء.
وفى جولة داخل مصنع «النيل» الخاص لتعبئة أنابيب البوتاجاز فى بنى سويف وسط العمال والأسطوانات وعربات النقل بموافقة إدارة المصنع كانت الملاحظة الأولى عدم وجود أى غطاء بلاستيك على محابس الأسطوانات لمنع التسرب.
دورة التعبئة
تتم عملية تعبئة الأنابيب داخل «صينية التعبئة» وهى عبارة عن سير دائرى متحرك توضع عليه الأسطوانات الفارغة حتى تصل إلى «مسدس التعبئة»، وهو خرطوم موصول بخط الغاز السائل الذى يأتى من صهاريج التخزين بالمصنع. ويضم طاقم العمل بهذه الصينية ثلاثة أشخاص، أحدهم يتابع خط السير الذى يتسع لعشر أسطوانات والثانى يتولى تركيب مسدس التعبئة فى الأنابيب والثالث عند نهاية دورة السير لرفع المسدس بعد رصده للقراءات على شاشة تبين وزن الأسطوانة.
لكننا رصدنا بالفيديو عدة مخالفات فى وزن الأنابيب أثناء التعبئة إذ وجدنا أسطوانة تزن 5.24 كيلوجرام فقط أى أقل من الوزن المفترض بستة كيلوجرامات. وأثناء الدورة الثانية للصينية رصدنا أسطوانة أخرى أقل من الوزن المقرر بحوالى ستة كيلوجرامات أيضا.
يقول مدير المصنع محمد مصطفى إن الوزن المقرر لتعبئة الأسطوانة 12.5 كيلوجرام غاز ووزنها وهى فارغة 18 كيلوجراما أى أن إجمإلى وزنها بعد التعبئة 30.5 كيلوجرام.
وينفى مصطفى حدوث أى تلاعب فى الوزن، لافتا إلى أن حصة المصنع 200 طن بوتاجاز يوميا، وتتم تعبئة 16 ألف أسطوانة يوميا وفى حالة تشبع السوق يقوم المصنع بتخزين الكمية المتبقية فى صهاريج.
وعن الأسطوانات الناقصة يقول: «من الممكن أن تكون الأسطوانة لم تأخد دورتها كاملة فى التعبئة وهو ما يؤدى إلى إعادتها مرة أخرى بناء على أوامر رئيس الوردية الذى يراقب عمال التعبئة».
لكننا خلال وجودنا فى المصنع لم نشهد الأسطوانات المخالفة التى رصدناها تعاد مرة أخرى لاستكمال تعبئتها. ويقول مصطفى إن الأسطوانة توضع على ميزان صينية التعبئة للتأكد من أن وزنها 30.5 كيلوجرام. ثم توضع على سير آخر حيث تغمر فى حوض مياه للاختبار والتأكد من عدم وجود تسرب للغاز. وإذا خرجت فقاقيع دل ذلك على أن الأنبوبة غير محكمة الإغلاق ويتم استبعادها، أما إذا كانت صالحة فيتم وضع غطاء بلاستيك ضاغط أبيض على محبس الأسطوانة علاوة على غلاف خارجى بلاستيكى يحمل لونا معينا، حسب المصنع الذى يقوم بالتعبئة. ثم تحمّل هذه الأسطوانات على مركبات نقل ذات قفص حديدى، لنقلها إلى المستودعات.
رقابة غير منتظمة
فى مدينة الواسطى ببنى سويف، جنوبى القاهرة، قامت «الشروق» بوزن أربع أسطوانات من تريسيكل الحاج إسماعيل الذى يوزع الأنابيب على المنازل من مستودع يحصل على حصته من مصنع «النيل» الخاص. وتبين أن الأنابيب الأربع مخالفة للوزن المقرر، إذ تراوحت أوزانها بين 28.5 كيلوجرام و29 كيلوجراما فقط.
وفى زيارة لمصنع «المعتصم» بطريق غرب أسيوط ــ وهو مصنع خاص يبعد حوالى 300 كيلومتر جنوبى القاهرة ــ يقول المدير أيمن محمد إن «مفتشى التموين هم من يراقبون عملية التعبئة لكن بصورة غير منتظمة». فهم «يسحبون عينة عشوائية من خط الإنتاج وإذا ثبت حدوث تلاعب يتم تحرير محضر لإثبات الواقعة» باعتبارها تلاعبا فى تعبئة المواد البترولية.
ويؤكد أحد العمال فى صينية التعبئة ــ رفض ذكر اسمه ــ أن مفتش التموين لا يحضر إلا بصورة موسمية فى بداية الشتاء فقط. لكن غالبية الأهالى فى منطقة مصنع غرب أسيوط رفضوا التعاون معنا خشية إغلاق المصنع إذا ثبتت مخالفته، وبالتالى يصبحون أمام أزمة أخرى نتيجة عدم توافر الأسطوانات. لكننا أخذنا عينة من أحد الباعة الجائلين للأنابيب ووزنا خمسا منها كانت أقل من المقرر.
ممنوع دخول الصحفيين
وفى محافظة الفيوم حيث يوجد مصنع «كوم أوشيم» الحكومى لتعبئة الغاز بالمنطقة الصناعية رفض سكرتير عام المحافظة ــ اللواء سعد العجمى ــ وهو رئيس مجلس إدارة المصنع دخولنا المصنع أو إمدادنا بأى معلومات. وتتبعنا سيارات لنقل أسطوانات الغاز بعد خروجها من المصنع حتى توقفت أمام مستودع فى مركز «سنورس» لكن صاحبه الحاج رأفت عبدالعزيز رفض أيضا السماح لنا بوزن أنابيب من المستودع لتجنب الحرج، مشيرا إلى أن المصنع يتبع الحكومة ورئيس مجلس الإدارة هو سكرتير عام محافظة الفيوم. وقمنا بتتبع سيارة خرجت من المستودع حتى توقفت أمام متعهد تموين فى ذات المنطقة حصل على 60 أسطوانة. وسمح لنا المتعهد الذى يوزع الأسطوانات على البطاقات التموينية بوزن عدد من الأسطوانات الموجودة فى مخزن التموين. وقمنا بوزن 11 أسطوانة كانت واحدة فقط وزنها مطابق واثنتان وزنهما 32 كيلوجراما أى بزيادة 1.5 كيلوجرام، فيما كان وزن ثمانى أسطوانات أقل من المفترض بما يتراوح بين 500 جرام وثلاثة كيلوجرامات.
وفى القاهرة، قمنا بوزن ثلاث أسطوانات كعينة عشوائية من إنتاج مصنع «بتروجاس» بالقطامية التابع لوزارة البترول وكانت كل منها تزن 27 كيلوجراما فقط وتم توثيق عملية الوزن بالفيديو.
اتهامات متبادلة
لكن كيف يحدث كل هذا النقص بعيدا عن أعين الرقابة؟ يؤكد المهندس عادل الشويخ رئيس شركة بتروجاس، التابعة لوزارة البترول، أن وزارة التموين هى الجهة المنوط بها مراقبة أرصدة المصانع سواء الخاصة أو الحكومية. ويشير إلى أن المصانع تتسلم حصتها كاملة من بتروجاس إلا فى حالة ورود بلاغ من التموين عن وجود فائض فى تلك المصانع فيخصم من الحصة.
لكن وزير التموين اللواء محمد أبوشادى يقول فى تصريحات لـ«الشروق»: «صهاريج الغاز الصب بالمصانع لا يمكن مراقبتها فنيا إلا من خلال بتروجاس، بحساب الوارد والصادر». ويضيف أنه أصدر مؤخرا قرارا بأنه فى حالة ثبوت مخالفة المصنع بخصوص الوزن يتم تغريمه فى المرة الأولى عشرة آلاف جنيه (1450 دولارا تقريبا) وتحرير محضر بالواقعة وإحالتها للنيابة. ويتم تشكيل لجنة من التموين والبترول لمراقبة التعبئة على مدى يوم واحد وأخذ عينات عشوائية حتى ينتظم الوزن.
وإذا لم يدفع المصنع الغرامة يحول المحضر للنيابة ويطبق عليه القانون رقم 94 لسنة 2013 الذى غلظ العقوبة على المتلاعبين بالمواد البترولية (السولار والغاز) إلى الحبس خمس سنوات وغرامة تتراوح من عشرة آلاف جنيه (1450 دولارا) حتى 100 ألف جنيه (14500 دولار). وكانت العقوبة قبل ذلك الحبس ستة أشهر وغرامة 500 جنيه (72 دولارا تقريبا) وفى حالة دفع الغرامة يتم إيقاف تنفيذ الحبس.
ويؤكد المهندس فتحى عبدالعزيز، رئيس قطاع الرقابة والتوزيع بوزارة التموين والتجارة الداخلية، أنه تم بالفعل ضبط العديد من المخالفات لمصانع تعبئة البوتاجاز وتحرير محاضر لها من خلال حملات على الأسواق، لكن لا يمكن حصر عدد المحاضر لأنها تحرر على فترات متباعدة.
ويشير إلى أن الأزمة الحقيقية تكون أعمق فى فصل الشتاء لكثرة استهلاك البوتاجاز ليس للطهى وإنما للتدفئة فى مزارع الدواجن. ويقول المهندس أحمد غراب، رئيس شركة بتروجاس السابق، إنه كان قد طلب من وزارة التموين تغليظ العقوبة على المخالفين للأوزان بإغلاق المنشأة شهرا فى المرة الأولى. وفى حال تكرار المخالفة يتم سحب رخصة المنشأة وهو ما تم رفضه بشكل شفهى فى أحد الاجتماعات بحجة أن عدد المصانع غير كاف لاحتياجات المواطنين أثناء الأزمات.
أنبوبة الأحلام
وإلى جانب كسب مصانع التعبئة من إنقاص وزن الأنابيب، كشف هذا التحقيق عن باب خلفى تتسرب منه أنابيب الغاز من تلك المصانع ومن المستودعات إلى ورش تصنيع الطوب التى يفترض أساسا أنها تعمل بالمازوت. وأقر العديد من العاملين فى تلك الورش أنها تحصل على أنابيب بوتاجاز للتشغيل فى حال نقص المازوت.
ويوضح محمود حسنى، صاحب ورشة «أولاد حسنى» للطوب: «الورش الصغيرة هى التى تستخدم اسطوانات الغاز بسبب حجم الفرن الصغير الذى لا يحتاج ضخ كميات كبيرة من المازوت».
أما الحاج محمود شعبان الروضى، صاحب ورشة طوب بالقرب من قرية هوارة بالفيوم، فيقول إنه يحصل على اسطوانات بوتاجاز من مصنع تعبئة الفيوم أو مصنع «المعتصم» فى طريق غرب أسيوط فى حالة وجود نقص بالمازوت الذى تعمل به الورشة. وتكلفة تصنيع ألف طوبة بالمازوت تبلغ 120 جنيها (17.5 دولار) وهى ضعف التكلفة باستخدام الغاز، بحسب الروضى، علما أن الورشة تنتج من 150 ألفا إلى 170 ألف طوبة يوميا، أى أن الوفر اليومى يمكن أن يتراوح بين تسعة آلاف وعشرة آلاف جنيه (1308 دولارات و1453.5 دولار).
ويؤكد صاحب ورشة طوب بطريق القاهرة ــ بنى سويف، طلب عدم ذكر اسمه، أنه يحصل على ستة آلاف اسطوانة بوتاجاز فى الأسبوع من مصنع غرب أسيوط لتشغيل الورشة. وإذا احتاج للمزيد يحصل على ثلاثة آلاف اسطوانة من مستودع الواسطى الرئيسى فى بنى سويف الذى يحصل على حصته من مصنع «النيل».
ويوضح أن هناك لجانا من التموين تقوم بالتفتيش على الورش وتحرير محضر فى حالة إثبات وجود اسطوانات بوتاجاز داخلها لكن فى النهاية «يتم حلها وديا» مع مفتشى التموين. ورفض ذكر تفاصيل عن كيفية هذا الحل الودى.
ويشير كذلك إلى أن سعر الأسطوانة للجمهور عشرة جنيهات (1.5 دولار تقريبا) لكنه يحصل عليها مقابل 20 جنيها (ثلاثة دولارات)، وفى وقت أزمات أنابيب البوتاجاز يصل السعر إلى 30 جنيها (4.5 دولار) من المصنع و35 جنيها (خمسة دولارات تقريبا) من المستودع.
وبدون سد هذا الباب الخلفى وعلاج ما كشفه هذا التحقيق الاستقصائى فربما ستبقى أنبوبة البوتاجاز صعبة المنال.. حتى فى الأحلام.
فى أرقام
استهلاك مصر من البوتاجاز يصل إلى 4.5 مليون طن سنويا، بحسب المهندس عادل الشويخ رئيس شركة بتروجاس، فى حين يبلغ الإنتاج المحلى 2 مليون طن والباقى يتم استيراده من الخارج. ويشير المهندس شويخ إلى أن الإنتاج المحلى ينقسم إلى 15% من المعامل و25% من حقول الغاز.
تستورد مصر البوتاجاز من الجزائر ودول الخليج، وفى حال زيادة الطلب يتم الاستيراد من فرنسا حيث سعر الطن 1200 دولار.
فى أرقام
وأوضح رئيس الشركة أن استهلاك البوتاجاز موسمى الطابع، فيزيد حوالى 20% مع بداية شهر نوفمبر وحتى نهاية مارس. وقد لخص المصدر نفسه أسباب الأزمة كالتالى: «عدم امكانية الحصول على الأسطوانة، سوء التداول والتوزيع، واستغلال البائعين لحاجة المواطنين»، ما يجعل الأزمة متجددة.
نشر هذا التحقيق بالتعاون مع مؤسسة «أريج» إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية
Leave a Reply