إسطنبول – أحمد حاج حمدو
الحياة: رفض صاحب مصنع نسيج تركي دفع كلفة علاج اللاجئ السوري وتعويضه، بعد أن أقعدته إصابة بقدمه اليسرى عن الحركة نهائياً أثناء عمله على آلة ضخمة في منطقة صناعية داخل مدينة اسطنبول.
نقل اللاجئ “ابراهيم العلي” 33 عاما إلى مستشفى خاص حيث قام الأطباء بتركيب أسياخ معدنية في ساقه. دفعت عائلته المنكوبة في سورية تكلفة العلاج بشق الأنفس وأخبره الأطباء أنه لن يتمكن بعد اليوم من الاعتماد على رجله في الحركة والمشي.
ابراهيم، ليس السوري الوحيد، الذي يتعرض لهدر حقوقه العمالية في بلد لجأ إليه رسميا أكثر من 2.5 مليون مواطن سوري، منذ أن بدأت الحرب في بلادهم عام2011، ويبحث نصف مليون منهم على الأقل على فرص عمل، دون أن يكون لدى غالبيتهم تصاريح عمل رسمية تضمن لهم حقوقهم العمالية.
سماسرة سوريون في تركيا احترفوا مخالفة قانون العمل يترصدون هؤلاء الباحثين عن عمل ليوصلوهم إلى ورشات خياطة ومصانع أخرى بحسب ما وثق معدا التحقيق خلال لقاءات فردية مع 16 عامل سوري في تركيا يعملون في ظروف مشابهه، وخوض تجربة العمل في أحد الورش وتوزيع استبيان على 36 عامل سوري آخر.
احتراف مخالفة القانون تبداء بتشغيلهم لمدة 15 يوماً تحت التجربة ثم تسريحهم دون إعطائهم أي تعويض، مروراً بغياب التأمين الصحي في حال حدوث أي ضرر جسدي للعامل، وانتهاء بعدم تساوي الفرص والأجور وساعات العمل، في نظام أصبح يعرف باسم “أون بيش” وهي كلمة تركية تعني “خمسة عشر”.
بعد صدمتي اللجوء والإصابة، تلقى ابراهيم الصدمة الثالثة. إذ أخبره مديره التركي أن لا حقوق له في الشركة، بما فيه تعويض عن الضرر الذي لحق به وثمن العلاج، على الرغم من أن قانون العمل التركي يضمن هذه الحقوق للعمال الذين يعملون بعقود قانونية.
وعندما هدده ابراهيم باللجوء إلى الشرطة كان رد المدير: “إفعل ما يحلو لك”.
بالطبع، إبراهيم لم يلجأ للشرطة خوفاً من المقاضاة والترحيل، كحال آلاف السوريين.
خصص قانون العمل التركي المعدل في منتصف 2013 ثلاث مواد توصف حال العامل الوافد. وبحسب بنوده فإما أن يكون مستثمراً صاحب مشروع أو مقيماً بصفة العمل الخاص لدى القطاع المستثمر في البلاد، أو حاصلاً على تصريح عمل اعتيادي ما يمنح هذه الفئات الحق في التأمين والطبابة والعطل الرسمية والحد الأدنى للأجور. وبخلاف ذلك يعد العامل مخالفاً للقانون التركي، ولا جدوى من تقديم الشكوى والبراهين على المظالم التي تمارس بحق اللاجئ العامل.
معاناة اللاجيء السوري “نشأت” ذو الـ 18 ربيعا ليست أفضل من ما حال إبراهيم، الذي تعرض لإصابة في يده أدت إلى معالجتها بثمانية غزر وباتت يده نصف مشلولة، نتيجة إصابته خلال عمله على ماكينة خياطة من طراز قديم جداً.
يقول نشأت: “أجبرني “البترون” المعلم أن أعمل عليها حصراً، علماً أنها سببت له ذاته بإصابة قبل ثلاثة أشهر في يده، كونها ” تتسبب بكسر الإبر”.
وبعد ساعة من عملي على الماكينة كسرت الإبرة مخلفة لي شرخاً احتاج لخياطةً 8 غرز “قطب” في كف يدي الأيمن.
يستذكر نشأت كيف ارتبك الجميع وأرسل “البترون” أحدهم لاستطلاع الشارع قبل إخراجي للمشفى الخاص لا الحكومي. وبعد ساعة أرسل لي 70 ليرة تركي “20 دولار أميركي” وعبارة “لا أريد مشاكل بسببك” بما يعني “أترك العمل”.
يقول المحامي السوري المتخصص بالوضع القانوني للسوريين في تركيا غزوان قرنفلإن نسبة السوريين الذين يحملون أذن عمل لغاية اليوم متدنية جداً، بسبب صعوبة الحصول عليه، كونه يحتاج لأوراق ثبوتية وإقامة سياحية باهظة التكلفة، وهو ما لم يكن متوفراً لدى أي عامل سوري هنا.
ويضيف قرنفل إن “عدم امتلاك العمال السوريين لأي وثيقة عمل جعلتهم فريسة للسماسرة وبعض الشركات لتحتال عليهم، دون أن يتمكنوا من تحصيل حقوقهم”، إلا أنه أكد أن بإمكان اللاجئ مراجعة الشرطة وتقديم شكوى.
غير أن مأساة استغلال العمال السوريين، قد تجد طريقها إلى الحل بعد قرار الحكومة التركية مطلع العام الحالي منح السوريين على أراضيها تصاريح للعمل.
هذا الإجراء بحسب قرنفل “سيحصّن السوري من شبح الترحيل الذي يعاني منه غالبية اللاجئين في دول الجوار، حيث لا يمنحوا تصاريح عمل الإ نادراً ويتعرض كثيرون منهم للاستغلال”.
كما ويأمل قرنفل أن تجد مأساة الرواتب المتدنية طريقها إلى الحل بعد قرار تحديد الحد الأدنى للأجور بـ 1300 ليرة تركية/ 420 دولار أميركي، التي تم إتخاذها بتاريخ 15/1/2016.
بالتزامن مع إقرار السلطات التركية لـ”تصريح عمل” للسوريين المتواجدين على أراضيها، فرضت تركيا أيضا تأشيرة على دخولهم أراضيها، بينما أعفت المخالفين للإقامة من شروط المغادرة. هذه الحزمة من القرارات جاءت بعد تسريبات عن اتفاق تم بين تركيا ودول الاتحاد الأوربي يتضمن منع تركيا تدفّق السوريين إلى أوروبا، مقابل حصولها على أكثر من 3 مليار يورو ولقاء استضافتهم على أراضيها.
من داخل الورشات
ويقدّرمسؤول العلاقات العامة في وزارة العمل التركية صفوان باش ألمازي لمعد التحقيق أنّعدد تصاريح العمل التي سيتم منحها للسوريين بأكثر من نصف مليون تصريح.
وزارة العمل التركية أقرت بشكل مبطّن بوجود حالات استغلال، حيث بينت في رد على أسئلة وجهها معد التحقيق:”إن الوزارة اتخذت قراراً بمنح أذونات العمل للأجانب الذين هم “تحت الحماية المؤقتة للحكومة التركية” بهدف وضع معيار قانوني لتشغيلهم، حسب المادة رقم 91 من القانون الدولي لتشغيل العمال الأجانب، ومنع استغلالهم بطرق غير قانونية بما في ذلك تحديد الحد الأدنى للأجور بـ 1300 ليرة تركية”.
إلا أن هذا الحد للأجور لم يتم تطبيقه حتى اليوم وفق لقاءات مع عمال سوريين بعد صدور القرار بثلاثة أشهر، وهو ما يعني أن منح تصاريح العمل ليس بإمكانه الوقف السريع للاستغلال الممنهج بحق العمال السوريين.
وتضيف الوزارة: “إن العمال الأجانب الذين يتعرضون للاستغلال بإمكانهم تقديم شكوى، وإذا أُرسلت الشكوى بطريقة صحيحة، يتم متابعتها في قسم التفتيش”، موضحةً أن عام 2015 وحدة شهد 318 شكوى من عمال أجانب علىأرباب عملهم وتم تعيين مراجعين للتحقق منها، دون أن توضح الوزارة، إن كان بينها شكاوى من عمال سوريين.
لكن هذا الإجراء يواجه ـ بحسب وزارة العمل ـ مشكلتين، الأولى تتمثل في أن بعض الشكاوي لا أساس لها من الصحة. أما المشكلة الثانية فتتمثل بالفترة التي تحتاجها الوزارة لتدقيق الشكوى وجمع مستنداته، والتي قد تصل إلى شهرين في بعض الأحيان، وخلال هذه الفترة يكون العامل قد انتقل من مكان عمله الذي تعرض فيه للانتهاك إلى مكان آخر، ويصعب بعدها متابعة الشكوى.
وفي الأثناء يستمر توظيف السوريين في ورشات عمل على نظام مايعرف باسم “أون بيش” في دلالة على الفترة المحددة التي يقضيها في أقبية الخياطة أو الأعمال الأخرى، قبل طرده أو فزره لمكان عمل جديد لا يعلم عنه شيء.
كل ذلكيأتي تهرباً من الخضوع لقانون العمل التركي، الذي يلزم رب العمل بتقديم كافة الحقوق في حال تم تسجيله عبر ضابطات العدلية الجوالة التابعة لوزارة العمل، والتي تزور المنشآت الصناعية والتجارية للتدقيق كل أسبوعين، حيث تتأكد الدوريات التابعة لمؤسسة الضمان الاجتماعيمن أن كل العمال في المنشأة حصلوا على تأمين عمل وتأمين صحي، لكن ماحصل، أنّ معظم أصحاب المحلات موعد حفظ قدومها، فكانوا ينهون التعاقد قبل قدوم الدوريات بحسب مقابلات معد التحقيق مع 36 عامل سوري.
وبيّنتوزارة العمل التركية لمعد التحقيق: “أن مفتشي الوزارة ومفتشي مؤسسة الضمان الاجتماعي، يعملون على التدقيق والرقابة لأي انتهاك للقانون من قبل أرباب العمل بحق العمال الأجانب، وفي حال تم توثيق أي انتهاك للقانون يتم تطبيق العقوبات الإدارية المعمول بها بالقانون”.
ويقول بينيامين آغادولانر، المدير التنفيذي لشركة “سيكورتا” وهي شركة حكوميةتختصبالتأمين العمالي منذ العام 1987، أن نسبة التهرب من التأمين على العامل في السنوات الطبيعية كان نحو 42%. أما الآن ومع اختلاف العمالة وعوزها الشديد للعمل وغض النظر المتعمد من وزارة العمل تجاوز 65%، معتبراً أن عملية استغلال ممنهجة تتم بحق العمال، حول هذه النقطة.إلا أن وزارة العمل التركية تقول لمعد التحقيق: “إنها لا تملك أي معلومات عن هذا التصريح”.
طرق الوصول إلى الورشات
الرقم القياسي
السوري “عمار.ن”، 26 عاماً، صاحب الرقم الأكبر في تغيير الورشات التي عمل بها حتى أصبح يعرف باسم “الاون بيش”.
تواصل معداالتحقيق مع ورشة خياطة بمنطقة “غازي عثمان باشا” في اسطنبول بتاريخ 3/12/2015 وطلباالعمل لديهم بعد إعلان وضعه مواطن سوري مقيم في اسطنبول على أحد الملصقات بمنطقة “بيرم باشا”.
اتصلنا بالرقم فردَّ علينا هذا المواطن الذي يعمل لدى رب العمل التركي. أخبرناه أننا وجدنا الإعلان ونريد العمل في الورشة فكان الرد: “عليك أن تعمل أول أسبوعين مجاناً كمرحلة تجريبية، لنتأكد من جودة عملك، وبعدها يتم الاتفاق على الدوام والراتب، أما في حال لم يناسبك العمل فمن الممكن الانتقال إلى ورشة أخرى للتجريب هناك”.
يؤكد رد وزارة العمل التركية أن الوزارة لا تيسر الدوريات كل 15 يوماً، لكنها لم توضح سير عمل الدوريات ولا آلالية، وإنما اكتفت بنفي تسيير دوريات بمواقيت محددة.
غير أنّ ما تعرض له الشاب السوري “وائل بيلوني” من احتيال ثلاث مرات من ذات السمسار المتواطيء مع رب العمل التركي لاستغلال العمال، يثبت قصة “الأون بيش” والتي أكدها 36 عاملاً سورياً التقاهم معد التحقيق. تعرف وائل إلى السمسار في أحد المقاهي الشعبية بغازي عنتابووعده أن يؤمن له عملاً في ورشة لصنع “تريكو” وهو أحد طرق نسج الصوف. يضيف وائل: “عملت في ورشة صغيرة لمدة 10 أيام بعد أن وقعت على عقد مكتوب باللغة التركية لم أفهم شيئاً من محتوياته.بعدها أخبرني أن رب العمل غير راضٍ عن أدائي ونقلني إلى ورشة أخرى،حيث عملت لمدة 12 يوماً قبل أن يطردني من العمل هو الآخر.
“وعندما سألت عن الراتب، كان رب العمل في كل مرة يطلب مني أن أعود في الأسبوع الذي يليه، بحجة أنه لا يملك أموالاً فعلمت أنني تعرضت للاحتيال”.
حاول معدي التحقيق الحصول على نسخة العقد من وائل لكن تعذر ذلك بسبب إصرار رب العمل على الاحتفاظ به. وبما أن الشاب لا يملك نسخة من العقد، فهو بمثابة من لم يوقعه بالأساس، لأن القانون يشترط عليك أن تحمل نسخة منه لتحصيل حقوقك. وفي استبيان معدا التحقيق مع 36 عاملاً سورياً تبين أنهم لم يحصلوا على نسخ من عقود العمل التي عملوا وفقها.
الإعلان عن امرأة مفقودة خلال العمل
اصطياد
يتم اصطياد الباحثين عن العمل تحت مسميات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”،عبر مئات الصفحات والمجموعات المعلنة والمخفية، منها ما يدعي أنه يساعد السوريين ومنها صفحات باسم “فرص عمل في اسطنبول”، وأخرى باسم “صبايا وشباب سورية في تركيا”
غير أنه بحسب خبير التسويق الإلكتروني “محمود حباك”، فإن نسبة كبيرة من هذه المواقع مهمتها الاحتيال واستدراج السوريين لاستغلالهم فيما بعد.
يضيف حباك أنه بمراقبةإنشاء الصفحات المعنية بعروض العمل، تبيّن أن أكثر من عشر صفحات ومجموعات تنشأ يومياً، تعود ملكيتها لشبكة محددة، حيثتتطابق أرقام الهاتف والعناوين المتشابهة.أما الأكثر خطورة فهي الجروبات المخفية والتي تكون الدعوة إليها خاصة من مستخدم لهدف معين، وهنا تكون درجة الاستدراج والتأثير أكبر على الضحية، بحسب ما حصل في حالات الإتجار بالبشر والأعضاء وحتى رحلات التهريب إلى أوروبا.
كما تنتشر ملصقات بلغة عربية ركيكة الصياغة في المناطق الشعبية ذات الكثافة السورية المرتفعة، كمناطق “الفاتح و أكسراي” في اسطنبول أو منطقة الكورنيش في “مرسين”، وكذلك منطقة “تشارتي” في عنتابتدعو للاتصال على رقم مرافق بحجة توفر فرصة عمل برواتب مغرية، دون شروحات وافية عن المكان و طبيعة الدوام.
خلال إعداد هذا التحقيق رافق معد التحقيقالشاب دريد وهو وافد سوري إلى تركيا منذ 2011 لخمسة أيام في ورشة على مشارف اسطنبول. دريدبات مستعداً– كما يقول- للانتقال من ورشة لأخرى في سبيل توفير لقمة العيش. “كل 15 يوم تقريباً يطلب مني “البترون” الاختباء أو التخفي لمدة ساعة، ريثما تنتهي دورية وزارة العمل من التفقد،ويضيف: “هذه ليست معاناة للسورين فقط بل لكل أمثالنا من اللاجئين كالبنغلادشين والسودانين وجنسيات مختلفة”.
أظهرت نتائج معاينتنا لخمسة ورشات وإجراء استطلاع شمل شريحة من 36 من عامل سوري أن نحو 76% من العمال طلب منهم الانتقال لورشة أخرى بعد 15 يوم أو أكثر بقليل. و68% من العمال لم يطلب منهم تصريح عمل أو اثبات شخصية عند العمل. و64% من العمال قام بتغيير ثلاث إلى خمسورش خياطة في تركيا.
لمتابعة بقية الاستبيان والأسئلة من خلال الرابط التالي:
http://bit.ly/1Por9Tk
منافسة السوريين
في تركيا كما في الأردن ومصر وغيرها، دخلت الآلة السورية إلى الأسواق المحلية، وتمكّنت من جر الزبائن وأصحاب رؤوس الأموال إليها، بسبب عنصر المنافسة الذي حققته البضائع السورية والأيدي العاملة على حدٍ سواء؛ بدايةً بأسعار مخفّضة، ونهاية عند العمل بأجور معقولة تنافس الأيدي العاملة المحلية، وهنا بعض الفروقات بين المنتجات السورية والتركية:
الصنف سوري تركي تسعيرة غرف الصناعة
أجرة خياطة البانطو
30 ليرة تركية
90 ليرة تركية
من 75 لــ 100
أجرة خياطة البيجامة القطن
5 ليرات تركية
22 ليرة تركية
من 17لــ 30 ليرة
خمسة أيام قضاها معد التحقيق داخل ورشة خياطة في تركيا كانت كفيلة أن تعرفك على إجابات لم تكن لتسمعها. فحمزة ذو الـ 48 عاما ًيدعو بعد كل صلاة “الله يديم الأتراك علينا، ما قصروا ولو بدي كل 15 يوم ورشة أنا مبسوط”، لكن التخوف الأكبر هو ما تحمله سلمى 52 عام وزوجها ماجد 60 عام والعاملان في قسم التعبئة والتجهيز، تقول سلمى: “نخاف من تكرار ما جرى لنا في مصر، اشتكينا على صاحب العمل فأرسل لنا دورية في اليوم الثاني ورحّلتنا إلى تركيا”.
ملاحظة: ساهم في إنجاز هذا التحقيق الزميل محمد بارودي والصحفية التركية توغبا تكريك.
تم انجاز هذا التحقيق بأشراف شبكة اعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (اريج) www.arij.net.
Leave a Reply