الأصباغ «المحظورة» تتفاعل مع الطعام وتصيب بـ«المرض الخبيث»

3 مارس 2013

الوطن – اقترب موعد زفاف ابنتها، لكن ينقصها بعض الأغراض فى «جهاز» عرسها. تصطحب الحاجة أم حسين ابنتها إلى أسواق تجهيز العرائس كعادتها مثلما فعلت مع بناتها الثلاث الأخريات.. أسواق الموسكى الشعبية بوسط القاهرة، تتجول داخلها فتنجذب عيناها صوب «الصينى والميلامين والأركوبال».. تهتم بما هو جميل الشكل، قليل السعر. ويستقر اختيارها على شراء الميلامين لأنه الأرخص، لكنّها لا تعلم أن وراء كل طقم ميلامين رخيص قصّة تحايُل لو أدركتها ما أقبلت على شرائه.

القصة يبدأها حامد موسى، رئيس جمعية منتجى ومصدرى البلاستيك، بحديثه عن خطورة منتجات الميلامين المقلدة. يروى موسى كيف أن دولا عربية وأجنبية قامت قبل ثلاث سنوات بسحب وتحليل عينات من أسواقها، لتكتشف أنها تحتوى على مواد شديدة الخطورة على صحة الإنسان، فأقدمت على مصادرة جميع منتجات الميلامين الضارة وأعدمتها، ثم أوقفت استيرادها. «فى أسواق مصر تنتشر هذه المنتجات الضارة دون قيد والجهات الرقابية دورها محدود»، حسب ما يؤكد موسى.

غزلت هذه الجملة خيطا دفعنا للبحث داخل أسواقنا المحلية عن هذه المنتجات المضرة. قررنا أن نجرى بعض التحاليل المعملية داخل المركز القومى للبحوث والمعتمد لدى وزارة الصناعة والتجارة، بإشراف الدكتور خالد ناجى، رئيس قسم التعبئة والتغليف بمعهد التغذية بمركز البحوث الزراعية. أخذت أربع عينات من الأسواق لمصانع شهيرة منتجاتها رائجة بالسوق المصرية وأخرى مستوردة من الصين، فجاءت النتيجة لتؤكد أن كل العينات تحتوى على مادة تسمى «اليوريا فورمالدهايد» وهى مادة مسرطنة.

من الناحية العلمية يؤكد د.خالد ناجى أن الصناع يتلاعبون فى مكونات صناعة الميلامين، ويستخدمون مادة تسمى يوريا فورمالدهايد «Urea-formaldehyde» وهى بديلة لمادة الميلامين الأصلى المعروف علميا بـ«Formaldehyde- Melamine» وهى مادة آمنة ومصرح باستخدامها فى صناعة أدوات المائدة من أكواب وأطباق. لكن المادة «المضروبة» تشبه مادة الميلامين الأصلى تماما ومحظور استخدامها فى صناعة أدوات المائدة لأنها مسرطنة.

«الوطن» تجرى تحاليل على أربع عينات لماركات شهيرة محلية ومستوردة.. والنتيجة: «كلّها مسرطنة»

من الناحية الطبية يوضح د.محمود عمرو، رئيس قسم طب البيئة والأمراض المهنية السابق بقصر العينى، أن مادة اليوريا فورمالدهايد تسبب السرطان وتضر بمن يتعامل معها بشكل مباشر من العمال بالمصانع، ومن يستخدمها من المستهلكين.

ويشرح «د.عمرو»: «من الخواص الكيميائية للمادة أنها تتحلل بفعل درجة حرارة الغذاء المرتفعة أو الأصناف الحامضية أو القاعدية منه، وتنتقل إلى داخل الجسم وتسبب تغيرا بخلاياه وتعرضه للإصابة بسرطان الكبد أو الكلى، ويتوقف ذلك على مدة وكثافة استعمال هذه الأوانى».

ويشدد «د.عمرو» على خطورة هذه المادة إذا تعرض لها الأطفال، قائلا: «تأثير هذه المادة يظهر سريعا على الأطفال، ومن الممكن أن يصاب الطفل بنزلة معوية لتناوله الطعام فى أوانى ميلامين مضروبة ولا يستطيع الطبيب تشخيص أسباب مرضه».

حديث المتخصص فى الأمراض المهنية دفعنا إلى البحث عن ملابسات حظر استخدام مادة «اليوريا فورمالدهايد» عالميا. بالبحث عبر شبكة الإنترنت عثرنا على أبحاث عديدة صادرة عن جهات حكومية أمريكية ودور نشر عالمية، منها بحث أجراه باحثون أمريكيون نشر بدار النشر الشهيرة «Elsevier»، يربط بين تسرب مادة اليوريا فورمالدهايد للجسم والإصابة بمرض سرطان الدم. ويذكر أن مادة اليوريا فورمالدهايد انتشرت عالميا فى منتصف السبعينات وكانت تستخدم كمادة لاصقة فى صناعة المنازل الأمريكية وبعض الصناعات الكيماوية، لكن كانت تتسرب للهواء، وينتج عنها روائح نفاذة، دفعت المواطنين لتقديم شكاوى عديدة للحكومات المحلية.

منذ ذلك الحين أصبحت اليوريا فورمالدهايد محل اهتمام الباحثين فى الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت المراكز البحثية تتحقق من أضرارها على الصحة العامة، وأجرت جهات تابعة لمنظمة الصحة العالمية أبحاثا توصلت فيها إلى أن هذه المادة تسبب أمراضا سرطانية، إذا استنشقها الشخص بشكل متكرر لأنها من الممكن أن تصيبه بسرطان فى الجهاز التنفسى أو سرطان الدم، وهى بالتالى محظور استخدامها فى صناعة المنتجات الاستهلاكية من أدوات المائدة.

ويشير التقرير إلى أنه فى شهر يوليو من عام 2004 أدرجت الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية مادة «اليوريا فورمالدهايد» ضمن المجموعة الأولى المسببة للسرطان، بعد التأكد من سميتها بإجراء بعض الفحوصات والأبحاث على بعض العاملين بأحد المصانع. وعلى المستوى المحلى تضع هيئة المواصفات والجودة المصرية مواصفة خاصة بأدوات المائدة تفيد بإحدى صفحاتها نصا: «محظور استخدام مادة اليوريا فورمالدهايد لأنها تتأثر بالحرارة والأحماض والقلويات».

لكن «الواقع يشير إلى أن الصناعة المحلية يشوبها كثير من التجاوزات»، هذا ما يؤكده الكيميائى محمد أبوهرجة، مدير غرفة الصناعات الكيميائية باتحاد الصناعات، ويشير إلى أن أغلب المصانع المسجلة بوزارة الصناعة تستخدم مادة اليوريا فورمالدهايد لأنها أرخص من مادة الميلامين الأصلى بنصف السعر.

ويضيف: «المصانع الكبرى اضطرت لاستخدام مادة اليوريا كى لا تخسر فى سباق المنافسة مع المصانع غير المرخصة والمنتجات المستوردة، لأن السعر معيار السوق المصرية وليس الجودة».

وتساءل قائلا: «هناك 4 آلاف مصنع تنتج وتستخدم مواد كيميائية كيف تتم عملية الرقابة عليها»؟

الأرقام الرسمية الصادرة عن غرفة صناعة الكيماويات تشير إلى أن أعداد مصانع أدوات المائدة لا تتعدى الـ15 مصنعا. لكن من خلال جولات بمناطق عديدة بمحافظة الدقهلية وتحديدا مدينة المنصورة وبعض القرى التابعة لها، بجانب جولات أخرى بمحافظة كفر الشيخ ومحافظات أخرى، اكتشفنا وجود مئات المصانع غير المرخصة التى تعمل فى الظلام فى قرى مختلفة، أنشأها بعض الأهالى أسفل منازلهم، وجلبوا لها عمالا ليعملوا بها واستطعنا أن نصل إلى أحد المصانع المخالفة وننقل ونوثق بالصوت والصورة استخدام أصحاب هذه المصانع لمادة اليوريا فورمالدهايد المحظور استخدامها.

ويؤكد حامد موسى، رئيس جمعية منتجى ومصدرى البلاستيك»، فى حديثه ما رصدناه من عشوائية انتشار المصانع ويحذّر من وجود مليون ونصف مليون طن من مخلفات البلاستيك والمخلفات الطبية تنتج كل عام بمصر، يصل جزء منها إلى مصانع «بئر السلم» فتعيد استخدامها فى شتى الصناعات ومنها الميلامين.

ويضيف «موسى»: «هناك صبغات تستخدم فى صناعة الميلامين، لإعطاء أشكال مختلفة للأوانى، هذه الصبغات تتفاعل مع الطعام وتسبب أمراضا خطيرة».

اخطر ما رصدناه خلال تحقيقنا أن هذه المادة المحظورة هى الأكثر شيوعا واستخداما بين أغلب مصانع أوانى الطعام المرخصة وغير المرخصة التى تنتج أطباقا مصنوعة من الميلامين، هذه النتيجة كوّنها كاتب التحقيق من خلال مقابلات عديدة مع بعض العمال والصنايعية وجاءت نتائج التحاليل لتدعمها، وما يضفى تأكيدا على هذه المعلومة، أنه من السهل شراء كميات كبيرة منها وبشكل قانونى، لأن هذه المادة مصرح باستخدامها فى الصناعات البعيدة عن أدوات المائدة فقط.

محمود عمرو: «عجينة» الأطباق تصيب «الصنايعى» والمستهلك بسرطان الكبد والكلى

من داخل المصنع الشهير الذى يمد أغلب مصانع الميلامين المرخص منها وغير المرخص بمادة «اليوريا فورمالدهايد»، كان المشهد من مدينة العاشر من رمضان، خارج أسوار المصنع، سيارات نقل كبيرة تلج داخل مخزنه الذى يتسع لبضعة آلاف من الأمتار، تحمل شحنتها من المادة، لا تستغرق العملية سوى 30 دقيقة، لا يشترط أن يبرز المشترى ترخيصا لمصنع أو منشأة، أو هوية شخصية، كان تسهيل بيع مادة «اليوريا فورمالدهايد» دون ضابط أو رابط يمثل مخالفة أخلاقية، لأنه طبقا لأحد المصادر الذى رفض ذكر اسمه، فإن إدارة هذا المصنع تعلم أن هناك مصانع تستخدم هذه المادة فى صناعة الأوانى وأطباق الطعام، لكنهم يغضون الطرف، حرصا على المكسب المجزى، لكن يرى مدحت إبراهيم، مدير تنفيذى بإحدى الشركات الكبرى التى تصنع اليوريا فورمالدهايد، أن المصانع تبيع مادة «اليوريا فورمالدهايد» لمن يطلبها وليس من صلاحياتنا أن نتحقق من أنه سيستخدمها فى صناعة الميلامين فالشركة تخلى مسئوليتها من الاستخدام المخالف بوضع عبارة على الأجولة التى تباع فيها المادة «محظور استخدامه فى صناعة أدوات المائدة» طبقا لقرار وزير الصناعة. لم يفصح مدير الشركة الكبرى عن معلومات إضافية، وكانت مهمتنا البحث عن قرار وزير الصناعة الذى أشار إليه. وكان البحث فى القرارات الوزارية أمرا شاقا. لكن فى النهاية توصلنا لنص القرار الذى أصدره الدكتور مصطفى الرفاعى، وزير الصناعة الأسبق، فى عام 1999 برقم (197)، والذى نص على حظر حيازة أى مصنع أدوات المائدة لمادة اليوريا فورمالدهايد. كما حظر الجمع بين ترخيص تصنيع منتجات أدوات المائدة من الميلامين ومنتجات اليوريافورمالدهايد بذات المصنع. كما ألزم المنتجين والمستوردين بوضع عبارة على أجولة المنتج تفيد بأنها تحتوى على مادة غير مصرح باستخدامها فى صناعة أطقم الميلامين.

ما يزال الصناع يرفضون هذا القرار لأنهم يعتقدون أن المادة المحظورة لا تضر بالناس. فعلى حد قول «س.ى»، أحد أصحاب مصانع الميلامين، فإن استخدام اليوريا صحى ولا يضر بالناس لأن هناك مادة عازلة تسمى «الجليز» توضع على سطح الأوانى وتحجب مادة اليوريا عن الأطعمة وتمنع تسربها للغذاء.

لكن يختلف مع هذا الرأى د.خالد ناجى رئيس قسم التعبئة والتغليف بمعهد التغذية بمركز البحوث الزراعية، مؤكدا أن هذه المادة تنجلى وتزول عن أسطح الأوانى بفعل عوامل الغسيل والتنظيف بالاحتكاك.

أين الجهات الرقابية من كل هذا؟

الواقع يقول إن هذه المصانع تعمل بدون رقابة بدليل أن منتجاتها تنتشر بالأسواق.

من جانبه يشدّد الكيميائى حسام الدين حجازى، مستشار بجهاز شئون البيئة، على أن كل المصانع المنتجة لأدوات المائدة تخضع للرقابة الدورية، وأنه فى حال اكتشاف أى مخالفات يتم التعامل معها طبقا للقانون سواء بتوقيع غرامات أو تنفيذ قرارات الغلق بالاشتراك مع الجهات التنفيذية بالمحليات.

من جهة أخرى يجزم الكيميائى «أبوهرجة»، بأن كل أدوات المائدة المستوردة تدخل إلى مصر بدون إجراء أى تحاليل أو فحوص للتأكد من خلوها من اليوريا فورمالدهايد ولا تتحرك هيئة الرقابة على الصادرات والواردات إلا بناء على بلاغات أو إخباريات بأن هناك منتجا مخالفا.

لكن هيئة الرقابة على الصادرات والواردات تنفى تقصيرها فى رسالة إلى المحرر، تؤكد أنها تقوم بدورها فى فحص كل أدوات المائدة المصنوعة من الميلامين، طبقا للمواصفات القياسية الخاصة لكل نوع، وأنه لا يتم الإفراج عن أى شحنة إلا إذا اجتازت الاختبارات وفى حالة عدم اجتيازها يتم إعادة تصديرها أو إعدامها.

بذلنا محاولات عديدة للاتصال بمنسق العلاقات العامة التابع لوزارة التجارة والصناعة التى تتبعها مصلحة الرقابة على الصناعة وهى الجهة المسئولة عن مراقبة المصانع المرخصة التى تعمل فى مصر، لمواجهتها بنتائج التحقيق، لكن لم نتمكن من الحصول على رد.

التحقق من غياب الجهات الرقابية لم يكن أمرا صعبا، جولة ميدانية بعدة أسواق شعبية كشفت أن الماركات التى قمنا بتحليلها من المستورد والمحلى تملأ الأسواق، والبائعون لا يعلم العديد منهم أضرارها أو طريقة اكتشافها، فهم يقنعون المستهلك بسلعتهم معتمدين على شهرة الماركة.

د.خالد ناجى يؤكد أن الجهات الرقابية فى مصر «رخوة» لا تنفذ القوانين ولا تراقب بشكل فعال الأسواق ولا تمنع المنتجات المستوردة، ويقول إنه لو كانت هناك أجهزة رقابية قوية ما كنا رأينا منتجات الميلامين المسرطن تملأ الأسواق.

يبقى السؤال مطروحا: متى يتم القضاء على هذه الصناعة المضرة التى تؤثر على المستهلكين المصريين؟

تم انجاز هذا التحقيق بدعم مع شبكة (إعلاميون من اجل صحافة استقصائية «أريج») وبإشراف الزميل عماد عمر


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *