انقضت ثمانية أشهر على دخول قانون حقوق الطفل الجديد حيز التنفيذ. فترة لم تكن كافية لأن تلتزم وزارة الصحة الأردنية بمسؤولياتها -المنصوص عليها- بإنشاء مركز متخصص لعلاج إدمان الأطفال على المخدّرات. ورغم أن القانون الساري مطلع 2023، حدد الجهة المسؤولة بوضوح، بعدما كانت متفرقة بين عدة جهات؛ إلا أن وزارة الصحة لم تدرج في موازنتها للعام 2023 أي مخصص لبناء المركز المنشود. لتبقى مسألة علاج وتأهيل الأطفال من براثن الإدمان قائمة، وسط مسلسل مستمر من التسويف.
وفي الوقت الذي ما زال فيه المركز مجرد نص في قانون لم يطبق بعد، يجد عُمر (17 عاماً) نفسه في “ورطة” مع الإدمان، الذي لازمه منذ انتقاله إلى الصف السابع في مدرسة جديدة شرق العاصمة عمّان.
“بس مرة خلوني أجرب وأفرجيكم إني زلمة (رجل)، جربت وكانت راح تطلع روحي من الكحة (السعال)، وبعدها عجبني الموضوع وصرت آخذ السجائر منهم وأخدمهم… أشتري لهم سندويشات وأجيب لهم طلباتهم”، هكذا يشرح عمر رحلته مع الإدمان، ليتحول من طفل حالم إلى “حدث” في خصومة مع القانون.
يصف عمر الأجواء في المدرسة الجديدة: “الأولاد كلهم صاروا أطول مني وصوتهم أعلى وأخشن، وكانوا مش شايفيني ولا كأني موجود، وهذا بلش يستفزني ويحسسني إني أقل منهم (…) صرت أتقرب منهم وأصاحبهم، وأقلدهم بأي شي بيعملوه، لحد ما اجا (أتى) اليوم اللي ترجيتهم يخلوني أجرب الدخان اللي معهم”.
بعد التجربة الأولى للدخان، يحكي عمر: “صاروا يضحكوا عليّ ويحكولي: أنت ولد، وهذا الدخان مزاجه عالٍ وما بتتحمله وما معك مصاري عشان تجربه”.
أهمل عمر مدرسته، وانجذب نحو ترويج المخدّرات حتى يؤمن “المونة”. وحينما أصبح في الصف التاسع، قٌبض عليه في أول قضية تعاطٍ وترويج.
يقول عمر: “رحت على دار تأهيل ثلاثة أشهر، وبعدها طلعت ورجعت لصحابي اللي علموني الكيف (المخدّرات) وصرت ساعتها أبيع عشان أجيب مصروفي وشمتي، لأن الإدمان تطور معي، وانتقلت من الحشيش، وأخذت (جوكر) وبعدها هيروين وبطلت أرجع على البيت”.
قُبض على “عمر” مرة أخرى، وأُودع دار الأحداث: “رجعت انمسكت ورحت دار أحداث ستة أشهر، ومثل المرة الأولى ما تعالجت ولا شي”.
وحينما خرج، عاد إلى السوق ثانية: “ودخلت أكثر بالمخدّرات”.
حالة عمر، واحدة من بين 73 حالة وثقها التحقيق ضمن 66 قراراً قضائياً لأطفال دخلوا عالم إدمان المخدّرات، وجرى تحويلهم لدور الأحداث (تابعة لوزارة التنمية)، من دون حصولهم على العلاج في مراكز طبية حكومية مخصصة لهذه الفئة، نظراً لعدم وجودها أصلا، وارتفاع تكاليف العلاج في المراكز الخاصة، رغم أن قانون الأحداث الأردني نص على تأهيل وعلاج الأحداث.
إحصائيات رسمية غير متوفرة
في الفترة بين عامي 2017 و2021، استقبلت دور تربية وتأهيل الأحداث التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، نحو أحد عشر ألفاً و300 حدث.
ولدى سؤال “التنمية” عن أعداد المدمنين من بين المُودَعين في مراكزها، أجاب الناطق باسم الوزارة أشرف خريس: “لا توجد أرقام، ويصعب حصرها، نظراً لعدم وجود مركز متخصص لعلاجهم”.
وفي محاولة لمعرفة حجم ظاهرة إدمان الأطفال، بحثنا عبر محرك البحث القانوني قسطاس عن قرارات قضائية صادرة عن محكمة أمن الدولة (المحكمة الوحيدة المخولة بالنظر في قضايا المخدّرات في المملكة)، للفترة المذكورة.
وجدنا أن المحكمة أدانت 73 حدثاً في 66 قضية (أعمارهم وقت ارتكاب الجرم بين 14 – 18 عاماً) بواحدة أو بأكثر من جرائم المخدّرات (التعاطي/ الحيازة/ الاتجار/ الترويج).
أظهرت قرارات المحكمة أن الفئة العمرية (17 عاماً) كانت الأكثر تكراراً لتلك الجرائم، بواقع 42 من أصل 73 حالة.
وفيما يتعلق بأماكن تنفيذ العقوبات، أظهرت البيانات أن 97 في المئة من الحالات أودعت في “دور الأحداث”، وأن النسبة المتبقية طُبقت عليها عقوبة الحبس، بعد إتمامها السن القانونية (18 عاماً).
وبالطبع، فإن الأطفال المدانين لم يتلقوا علاجاً أو برامج تأهيلية، على غرار حالة “عمر”. اقتصر التأهيل على الإيداع في دور الرعاية، وتوفير بعض الأدوية والفحوص.
العلاج والتأهيل.. حبر على ورق
ضاع حق “عمر” ونظرائه في العلاج والتأهيل، بين نصوص قانونية غير مُطَبقة. فقانون الأحداث لسنة 2014 نص على أن: “تراعى مصلحة الحدث الفضلى وحمايته وإصلاحه وتأهيله ورعايته”. ولكنّ الممارسة الفعلية لا تحقق هذه المصلحة، باقتصارها على تحويلهم إلى المركز الوطني لعلاج الإدمان (تابع لوزارة الصحة، وهو مخصص للبالغين)، لأخذ الدواء والعودة إلى المركز، من دون أي برامج تأهيل.
يقول الناطق باسم وزارة التنمية أشرف خريس: “عند تحويل حدث متعاطٍ للمخدرات، تُقدم له الخدمات الأساسية، مثل: الإيواء والمأكل والمشرب والملبس”.
وبعد ذلك، يُجرى له الفحص الطبي الأولي لتقييم حالته من قبل ممرض الدار، وفي حال تبيّن أنه يعاني الإدمان، يُحوّل للمركز الوطني للمراجعة من دون مبيت، ويُفصل الأحداث المتهمون بقضايا المخدّرات داخل الدور عن غيرهم في المنامات فقط، وفق خريس.
والمصلحة الفضلى المنصوص عليها، توجب تحويلهم إلى مركز متخصص لعلاج إدمان الأطفال، وليس إلى مركز للبالغين، وفق المحامية المختصة في حقوق الإنسان تغريد الدغمي، التي حمّلت وزارة التنمية الاجتماعية مسؤولية ضياع حق الإصلاح والتأهيل والرعاية: “لا يمكن أن يتحقق التأهيل قبل العلاج”.
علاوة على ذلك، تعاني دور رعاية وتأهيل الأحداث ضعف خدمات الرعاية النفسية والإرشادية لقلة عدد الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين، مقارنة بعدد الأحداث الموقوفين والمحكومين، وفق ملاحظات المركز الوطني لحقوق الإنسان (هيئة رسمية) في تقريره السنوي الأخير لعام 2021، الذي أوصى برفع قدرات العاملين في قطاع عدالة الأحداث وزيادة التدريب المتخصص، في ظل عدم التزام معظم دور الإيواء بمبدأ الفصل على أساس الفئة العمرية؛ إذ يكون الفصل فقط على أساس المحكومية والتوقيف.
المركز الوطني لتأهيل المدمنين للبالغين فقط
الاكتفاء بتحويل الأحداث المدمنين إلى المركز الوطني لتأهيل المدمنين ليس فعالاً، لعدم وجود قسم خاص للأطفال، وفق اختصاصي الطب النفسي وعلاج الإدمان وليد سرحان، الذي يرى أن علاج الأطفال المدمنين “أمر صعب”؛ لأن المركز الوطني لا يوفر لهم الرعاية الصحية اللازمة، في حين أن تكاليف العلاج في المراكز الخاصة باهظة.
ويتفق الرئيس السابق للمركز الوطني لتأهيل المدمنين محمد السحيم، مع سرحان، في أن هناك حاجة إلى إنشاء مركز متخصص لعلاج إدمان الأطفال. مرجعاً السبب في عدم حدوث ذلك، لعدم توفر المخصصات المالية المطلوبة، وهو ما أكده مدير إدارة المستشفيات في وزارة الصحة عماد أبو اليقين.
في المحصلة، تقول المحامية الدغمي إن الحكومة تتحمل مسؤولية عدم تنفيذ القوانين؛ لأنها الجهة المكلفة بتنفيذ أحكامها. وتضيف: “جميع القوانين عند صدورها تنتهي بأن مجلس الوزراء والوزراء مكلفون بالتنفيذ، أي أن إنشاء مركز متخصص لعلاج إدمان الأحداث من مسؤولية الحكومة بشكل عام، ووزارة التنمية الاجتماعية، التي لم تراعِ المصلحة الفضلى للحدث، وأيضاً وزارة الصحة التي لم توفر المراكز اللازمة”.
وزارة الصحة تناقض نفسها
جاء رد وزارة الصحة مؤكداً أن “خطوات إنشاء مركز مخصص لعلاج إدمان الأطفال تسير بحسب الأنظمة والقوانين، وقد تمت الموافقة على المشروع من قبل وزير الصحة، وستشرف على المشروع عدة جهات تُحدد لاحقاً”. لكنّ الوزارة لم تحدد موعداً لبدء المشروع، ولم ترصد الأموال اللازمة لتنفيذه في موازنتها للعام 2023.
واكتفت “الصحة” في ردها عبر البريد الإلكتروني، بالقول إنها وافقت على المشروع على أن تحدد خطوات التنفيذ لاحقاً. “لا توجد معوقات تواجه المشروع، والأمور تسير على خير ما يرام”، ختمت الوزارة ردها.
تعارض مع الاتفاقيات الدولية
يتعارض التقصير الأردني في علاج وتأهيل الأحداث المدمنين، مع الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها المملكة، خصوصاً اتفاقية حقوق الطفل (قبل نحو ثلاثة عقود)، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المختص بضمانات المحاكمة العادلة (قبل 47 عاما).
يرى رئيس منظمة “محامون بلا حدود”، المحامي المختص بقضايا حقوق الإنسان معاذ المومني، أن عدم وجود مركز متخصص لمعالجة إدمان الأحداث يعني عدم التزام بعض المؤسسات بما فيها وزارة الصحة بواجباتها تجاههم. ويضيف المومني: “الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، تتحدث عن فصل الأحداث عن غيرهم في مراكز الإصلاح والتأهيل، فما بالك بقضايا معالجة الإدمان؟”.
ويوضح المومني أن المادتين (10 و14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تطرقتا إلى ضرورة فصل الأحداث عن البالغين، وفصل المتهمين عن المدانين. وعليه، فإن التعامل مع الحدث (من ناحية العلاج) يجب أن يكون بشكل مختلف عن التعامل مع البالغ، وفق المومني.
وترى خبيرة حقوق الإنسان نهلا المومني، أن الالتزام بالاتفاقيات الدولية المرتبطة باتفاقية حقوق الطفل، يُوجِب على الجهات المعنية تخصيص بند يتعلق بالإنفاق، مع ضرورة التنسيق بين مختلف الجهات على أرض الواقع، حينها “ستكون هناك آثار واضحة”. لكن استمرار غياب التنسيق، وعدم وجود قاعدة بيانات للأطفال المدمنين؛ أسباب أخرى من شأنها زيادة نسب تعاطي الأطفال للمخدرات، وفق نهلا المومني.
فاتهم القطار
محمد (27 عاماً)، عاطل عن العمل. بدأتْ رحلته مع الإدمان بعمر 16 سنة، وقبض عليه أول مرة بعد عام من بدء التعاطي. يقول: “والدي ووالدتي منفصلان. أنا أصغر أشقائي، كلهم تزوجوا، وكل واحد بمنطقة. كنت متفوقاً بالدراسة وكنت من حفظة القرآن وهذا منع إثارة الشكوك حولي وما حدا صدّق إني مدمن”.
يعود محمد بالذاكرة عشرة أعوام إلى الوراء: “أول مرة تعاطيت فيها كنت بسهرة شباب ووزعوا حشيش، كنت متردداً وخائفاً، ومن حكي الشباب إنها بتعيشك بجو حلو، صار عندي فضول للتجربة”.
يتابع: “قعدت فترة وأنا أتعاطى بس حشيش أو (الكيس الأخضر)، بعدين دخل مخدر جديد اسمه الكبت (الكبتاغون)”.
أُودع محمد مرتين في دار الأحداث بعمّان (الجويدة) بعمر 16 عاماً، ولم يحصل على علاج يُنقذه من وحل الإدمان في ذلك الوقت. لكن في مراحل لاحقة (بعد العشرين من عمره) تعالج مرتين في المركز الوطني لتأهيل المدمنيِن.
يقول محمد: “يمكن لو اكتشفوا الموضوع وعالجوني وأنا بعمر 16 – 17 سنة، كان الحل أسهل. بس بعمر 25، حتى لو تعالجت راح ترجع للبيئة نفسها، وما راح ينفع العلاج معك، لو تعالجت في صغري، كنت ما رجعت تعاطيت أصلاً”.
كذلك الحال بالنسبة لـ “عمر”: “يمكن لو تعالجت بدور الأحداث أو أهلي ساعدوني بأي شيء غير الضرب والطرد من البيت عشان سمعتهم في الحارة، ما وصلت لهون. طريقي ما فيها رجعة… لأن دمي صار مخدّراً”.
وهكذا فات قطار العلاج كلا من “عمر” و”محمد” وأطفال آخرين.