"إغاثة سوداء"

9 أغسطس 2016

  • فساد علني واتهامات متبادلة
  • المساعدات الإنسانية تملأ الأسواق وتباع أمام أعين المحتاجين

تحقيق: أصيل سارية
العربي الجديد: الآلاف من أبناء مدينة عدن تركتهم الحرب الدائرة في اليمن تحت رحمة العوز، يصارعون للحصول على لقمة العيش، بيمنا تمتلئ أرصفة المدينة وشوارعها وأسواقها بمساعدات الإغاثة الإنسانية المجانية، التي يحرمون منها وتباع علنا أمام أعينهم.

مواد الإغاثة التي تعلن عنها العديد من الدول، ويعلم السكان بوصولها من خلال القنوات الفضائية، أصبحت مصدراً مهماً لتحريك السوق والتبادل التجاري في مدينة عدن، الأمر الذي يثير عاصفة من الأسئلة: من أين جاءت هذه المواد؟، لماذا لم توزع على السكان؟، من يقف وراء تسريبها وبيعها في الأسواق؟.

يقرع هذا التحقيق الاستقصائي بنسختيه (التلفزيونية والمكتوبة) جرس الإنذار بكشف هذه الظاهرة وحجمها وأبعادها، كما يبحث عن إجابات شافية، معززة بالأدلة للتساؤلات التي تثار في نفوس السكان ورواد الأسواق على حد سواء.

في حي دار سعد، أحد أحياء مدينة عدن، وأكثرها تضرراً من الحرب، والذي شهد مواجهات شرسة بين أطراف الصراع، خلفت دماراً هائلاً في المساكن والبنى التحتية، التقينا عبدالله فرج (60 عاما) والذي يسكن مع أفراد أسرته المكونة من أحد عشر شخصاً في منزله المتهالك، ينفضون عنهم ما تبقى من غبار الحرب، التي تركت وجعاً مستمراً في نفوسهم المنكسرة وأجسادهم المنهكة.

يقول عبدالله “المواد الغذائية كانت شحيحة أثناء الحرب، والناس يجرون من مكان إلى آخر بحثاً عنها، ليحصلوا على سلعة هنا وأخرى هناك، وكثير من الأحيان لا يجدون شيئاً”.
ويتابع عبدالله حديثه قائلاً: “بالنسبة للمواد الغذائية المقدمة كإغاثة، حصلت في مرتين فقط طوال الحرب على كيس قمح ولتر زيت ومرة أخرى سلة غذائية تحتوي مواد متنوعة”.

المعاناة ذاتها ترويها فوزية محمد (55 عاما) التي تقيم أيضاً في حي دار سعد، وتقول: “كنا نتصارع لساعات طويلة من أجل توفير الغذاء للأولاد، وفي كثير من الأحيان نبات بدون عشاء، لأن كل المحلات كانت مغلقة، ولا يتوفر معنا مال”.

وتتابع فوزية حديثها بألم وحسرة “كنا عايشين بيأس”، وتضيف: “طوال الفترة الماضية حصلت على علبتين زيت و30 كيلو عدس وكيس قمح”.

فوزية التي نزحت وأفراد أسرتها من منزلهم، لم تحصل على أي مواد إغاثية أخرى، وتقول: “تم توزيع بعض مواد الإغاثة في اليوم الذي نزحنا فيه، وعندما ذهبت إليهم في اليوم التالي قالوا لي خلّصت”.

آلاف الأطنان

مواد الإغاثة الإنسانية تدفقت إلى مدينة عدن من مصادر عدة، منذ إعلانها مدينة منكوبة في الـ27 من أبريل 2015، وتراجع حدة المواجهات وسيطرة قوات التحالف على المدينة ومنافذها، حيث استقبل مطار عدن وموانئها أكثر من 40 ألف طن من مواد الإغاثة الإنسانية وفقاً لتقارير الجهات المقدمة للمساعدات والجهات الرسمية.

وتشمل هذه المساعدات المواد الغذائية والطبية ومستلزمات النظافة والمشتقات النفطية، المقدمة من جهات عدة أبرزها السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، وبرنامج الغذاء العالمي بحسب ما أعلنت عنه المواقع الرسمية لهذه الجهات على شبكة الانترنت.

بيد أن مدير مطار عدن المهندس طارق عبدالعليم يقول أنهم في المطار ليس لهم علاقة بمصير هذه المواد، لأن دورهم في المطار هو تقديم الخدمة والتسهيلات لمختلف الجهات المعنية التي تقوم بدورها باستلام مواد الإغاثة الإنسانية باعتبارها مخولة بذلك.

ورغم وصول آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية إلى اليمن، إلا أن فوزية وعبدالله، وغيرهم الكثير من أبناء مدينة عدن الذين تضررت منازلهم بشكل مباشر من الصراع المسلح، لم يكونوا قادرين إلا على رؤية تلك المساعدات تباع في الأسواق دون الحصول على شيء منها.

4

مساعدات تباع بالأسواق

الجمعيات والتجار

معد التحقيق تجول في بعض أسواق مدينة عدن، وبحذر شديد صوّر بشكل سريمواد مساعدات إنسانية معروضة فيها، نظراً لأن إشهار كاميرا التصوير في مثل هذا المكان يعد مجازفة غير مأمونة العواقب، لاحتمالية الدخول في مواجهة مع عصابات السوق التي ستعتبره هدفا لها.

أجرى كذلك معد التحقيق اتصالات عديدة حتى وصل لمسؤول منظمة محلية تواصل معه بصفته الصحفية، ووافق على الإدلاء بتصريحات تلفونية ليشرح كيف يتم التلاعب بمواد المساعدات الإنسانية من قبل بعض المؤسسات التي استملتها.

مسؤول الجمعية المحلية الذي رفض الكشف عن اسمه يقول: في التقرير الخاص بكمية المساعدات التي وزعت من قبل ائتلاف عدن في حي كريتر كان مكتوب أنه وصل 1200 سلة غذائية، بينما الكمية التي وصلت فعلاً 400 سلة فقط، بينما كان الاتفاق أن تصل 2000 سلة غذائية إلى حي كريتر، ما يعني أن نحو 1600 سلة غذائية لم تصل إلى وجهتها. والسلة الغذائية تحتوي على دقيق وزيت وتمر ومواد غذائية بسيطة.

وكذلك تواصل معد التحقيق مع أحد التجار القريبين من مصادرنا في مدينة عدن والذي قال إنه حصل على كمية كبيرة من المياه التي قدمها الهلال الأحمر الإماراتي، وقال: “حصلنا على كميات كبيرة من مياه نوع (بيور لايف) المقدمة من الهلال الأحمر الإماراتي، وبسعر زهيد جدا”. من الذي زوده بها؟

وبرغم التكتم الشديد والخوف الذين يحيطان بموضوع تسرب مواد الإغاثة الإنسانية إلى أسواق مدينة عدن، وإنكار الجميع علاقتهم ببيع هذه المواد،

إلا أن أطرافاً عديدة أكدت حصول عمليات فساد تخللت إدارة وتوزيع مواد الإغاثة في عدن، وهذا ماتحدث عنه الدكتور علي النعيمي المسؤول بالهلال الأحمر الإماراتي، والذيقال: “تفاجئنا أن مواد إغاثة سلمناها للمنظمات تباع في الأسواق”.

مشيراً إلى أنهم استقبلوا أهالي يطلبون مواد إغاثة، في الوقت الذي تباع هذه المواد في الأسواق، وأضاف: “قلنا لهم اذهبوا لمراكز الإغاثة إحنا سلمناها لهم”.

هذه المشكلة تؤكدها أيضا رئيسة منظمة (غيّر حياتك) شادية جلال وتقول: “للأسف سلّمت مواد الإغاثة لغير مستحقيها، لأن المواد كانت كبيرة ما توحيش أن المواطن نفسه هو الذي يبيع، بل تأتي سيارات كبيرة وتنزلها إلى الأسواق”.

معد التحقيق تواصل أيضاً عبر أحد مصادره مع أحد السماسرة، والذي تولى ترتيب صفقة شراء مواد إغاثية مع أحد مسؤولي منظمات المجتمع المدني في عدن، باعتباره تاجر ويريد شراء كمية من مواد المساعدات، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً فالجميع يخافون من العواقب ويتعاملون بحذر شديد.
يقول السمسار في تسجيل صوتي لمكالمة هاتفية إن أحد مسؤولي المنظمات طلب منه الذهاب إلى منطقة “كابوتا” للمستودعات في عدن وسيبيعه كمية من التونة، لكنه رفض إعطاء رقمه للسمسار.

وبعد محاولات عدة تواصل معد التحقيق عبر مصادره مع أحد مسئولي المنظمات والذي نتحفظ عن ذكر اسمه واسم منظمته، لأسباب أمنية تتعلق بسلامة المصدر، وقام معد التحقيق بإجراء مكالمة هاتفية مسجلة معه تضمنت اعترافاً بتورطه في عملية بيع مساعدات إنسانية.

يقول مسؤول الجمعية في المكالمة الهاتفية: “لقد دبرنا لكم الكمية، 40 كرتون (والمقصود هنا 400 سلة غذائية)، وهي مواد مضمونة لأنهم كلمونا عنك أنك تريد مواد مضمونة من التي وزعها الهلال الأحمر الإماراتي”، ويتابع “أذهب إلى السمسار وهو يفهمك ويتفق معك على الأسعار”.

كان لا بد من التوجه أيضاً إلى الجهات الرئيسية التي تولت توزيع المساعدات في عدن لمواجهتها بهذه الحقيقة، فبدأنا بفرع الهلال الأحمر اليمني في عدن والذي أتُهمه الهلال الأحمر الإماراتي بالتلاعب في توزيع الإغاثة التي قدمها له، ثم أوقف التعامل معه في أغسطس 2015 وباشر توزيع المساعدات بنفسه.

غير أن المدير التنفيذي للهلال الأحمر اليمني فرع عدن أحمد المنصوري نفى هذه الاتهامات، قائلاً: “هذا الحديث غير صحيح”.

ويضيف المنصوري: “قبل ما يكون الهلال الأحمر اليمني فرع عدن العمل في مجال الإغاثة في عدن، كانت هناك سفن موجودة تحمل مساعدات إنسانية مقدمة من الهلال الأحمر الإماراتي، لم نستلمها نحن”.

ليست المساعدات الإماراتية وحدها التي تباع في الأسواق، فهناك أيضا مساعدات قدمتها المملكة العربية السعودية عبر مركز الملك سلمان، بالتنسيق مع لجنة الإغاثة اليمنية، وتوزع عبر ائتلاف عدن للإغاثة الشعبية، والذي أسسته أكثر من 45 منظمة في عدن، وبإشراف من السلطة المحلية في المدينة.

الجهات الرسمية

تواصلنا أيضا مع قبلة محمد سعيد نائب رئيس لجنة الإغاثة بمحافظة عدن والتي أعطتنا أكثر من موعد ومن ثم اعتذرت عن التصوير معنا برسالة نصية، ولكننا اتصلنا بها مجدد وواجهناها بالحقيقة التي توصلنا إليها، وأنه يوجد لدينا تسجيلات صوتية تثبت تورط منظمات محلية تشرف عليها لجنة الإغاثة بمحافظة عدن في بيع مواد المساعدات الإنسانية.

غير أنها نفت ذلك وقالت إن اللجنة لم تكن مسؤولة عن عمليات الإغاثة، وليس لها أي دور مباشر في الرقابة على تلك المنظمات، وطلبت التواصل مع قيادة الائتلاف الشعبي في عدن لطرح هذه المشكلة عليها.

بيد أن نائب رئيس إتلاف عدن للإغاثة القاضي فهيم الحضرمي فرّق بين نوعين من الجهات التي كانت تستقبل مواد الإغاثة الإنسانية، وقال: “لم نكن مسؤولين عن الإغاثة الحكومية، بل عن الإغاثة الشعبية، ويمكنكم النزول للشارع وسؤال الناس”.

كل طرف يلقي باللوم على الطرف الآخر، وبرغم توقف الحربفي عدن والتصريحات المتكررةلمسؤولين محليين،يؤكدونمباشرة التحقيق في عمليات الفساد الذي تخلل إدارة وتوزيع مواد الإغاثة وملاحقة المتورطين، إلا أنه وحتى لحظة إنجاز هذا التحقيق ما تزالالمواد الإنسانية المقدمة كمساعدات تملأ الأسواق.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية (أريج) www.arij.net.


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *