إسرائيل تغزو الضفة بـ "توابيت"سيارة مشطوبة

28 ديسمبر 2023

أسماء مسالمة

 يكشف التحقيق عن كيفية عبور سيارات غير قانونية أو “مشطوبة” كما يصطلح عليها في فلسطين، من  الأراضي المحتلة إلى أراضي الضفة الغربية على أيدي فلسطينيين وإسرائيليين؛ مستغلين غض الطرف من الجانب الإسرائيلي، وضعف القبضة الأمنية من جانب السلطة الفلسطينية.

في الوقت الذي يبدو فيه المواطن الفلسطيني مستفيداً من انخفاض كلفة هذه السيارات؛ إلا أنه في نهاية المطاف يدفع فاتورة باهظة اقتصادياً، وبيئياً واجتماعياً. 

رحلة العبور: من أراضي الـ 48 وصولا إلى الخليل

يجلس أحمد في سيارته على حافة الطريق الممتد لعدة كيلومترات، نحو قرية حوسان غرب بيت لحم، قرب حاجز بيتار (حوسان)، الذي يفصل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 عن تلك المحتلة عام 1948. ساعات طويلة يقضيها أحمد، متفقداً هاتفه، مبقياً عينيه على الطريق، منتظراً عبور “الجرار” (ناقلة شحن) المحمل بخمس سيارات “مشطوبة”.

تقتصر مهمة أحمد على التواصل مع سائق الجرار، ليطمئنه عن أمان الطريق، وخلوه من دوريات الشرطة الإسرائيلية؛ فيتمكن الأخير بدوره من المرور عبر الحواجز، التي لن تدقق كثيراً على الحمولة “المهربة”، وفق أحمد.

في الأيام التي تغيب فيها دوريات الشرطة الإسرائيلية عن الحواجز، يصبح المرور يسيراً. فوفقاً لمَن قابلناهم، يتساهل الجيش الإسرائيلي في عبور البضائع والشحنات إلى أراضي الضفة الغربية، في حين يتشدّد على الخارج منها. 

يسير أحمد بسيارته أمام الجرار؛ يُفاجأ بدورية شرطة توقفه، لكن سرعان ما تتركه يواصل طريقه، لأنها كانت تبحث هذه المرة عن سيارات مسروقة، وفق أحمد. يصل الجرار محطته الأخيرة في بلدة بيت عوا، بعد رحلة استغرقت ست ساعات؛ من منتصف الليل إلى السادسة صباحاً. هذا الجرار واحد من جرارات تصل “بيت عوا” أسبوعياً.

نمر صفراء “إسرائيلية” تغزو شوارع الخليل

 مثل هذه الجرارات أغرقت بلدة بيت عوا، التي تقع جنوب غربي محافظة الخليل، بالسيارات “المشطوبة”؛ فعدد المركبات المميزة بنمر صفراء يكاد يفوق المرخصة. 

يقدّر المقدم بشير النتشة، مدير دائرة العلاقات العامة في شرطة الخليل، وجود نحو عشرة آلاف سيارة “مشطوبة” في الخليل وحدها. يقول النتشة، إن ظاهرة السيارات المشطوبة من سجلات وزارة النقل الإسرائيلية تنتشر في الخليل وباقي محافظات الضفة الغربية، ويُحظر قيادتها في الشوارع، وبطبيعة الحال هي سيارات لا تخضع لأي نوع من أنواع الفحص.

ويشير النتشة أيضاً إلى انتشار السيارات المشطوبة بشكل أكبر في مناطق (ج)، ويعزو ذلك لكون تلك المناطق خارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية، بحسب التقسيمات السياسية للمناطق، لافتاً إلى وجود نقص في كوادر الشرطة يمنعهم من الرقابة والتفتيش بشكل كامل، إضافة إلى انتشار هذه السيارات في المناطق البعيدة عن مركز المدينة.  ووفقاً لتصريحات رسمية منشورة، هناك أكثر من 150 ألف سيارة غير مرخصة، فيما تُظهر الأرقام وجود 378 ألف و861 سيارة مرخصة في الضفة الغربية مع بداية 2023، ما يعني أن 40 بالمئة من المركبات غير مرخصة.

لكن كيف وصلت آلاف السيارات الإسرائيلية إلى أراضي الضفة الغربية؛ رغم عدم قانونيتها وانتشار نقاط التفتيش والحواجز على امتداد الحدود الفاصلة بين أراضي الـ 48 وأراضي الـ 67؟

سيارات شطب “صالحة” للشراء: تجارة بالعلن!

يكفي أن تبحث عن “سيارات شطب للبيع”، حتى يُظهر لك الفيسبوك عشرات الصفحات والمنشورات، التي لا تقتصر على مَن يروجون لسيارات مشطوبة فقط؛ بل على إعلانات لبيع لوحات تسجيل فلسطينية وهمية، وهي عمليات تتمّ بين فلسطينيين وإسرائيليين وبين الفلسطينيين بعضهم البعض.

باسمه الصريح، الذي نتحفظ عن ذكره، ينشر شاب عشريني إعلانات يروج فيها لبيع سيارات شطب، وبأنواع مختلفة. ولدى سؤاله عمّ إذا كان لديه سيارات للبيع؛ يسهب في شرح أنواع السيارات المتوفرة بين شطب وأخرى فلسطينية مرخصة، وللتوثيق يُرسل صوراً لإحداها. لكن  بمجرد أن أخبرناه أننا نعمل على مادة صحفية عن تجارة السيارات، اعتذر عن عدم مواصلة الحديث، قائلاً: “بدنا نعيش، بدنا نترزق”.

حاولنا التواصل مع عدد من تجار السيارات المشطوبة من مناطق طولكرم، ورام الله، ونابلس والخليل؛ إلا أنهم رفضوا التسجيل خوفاً من الملاحقة القانونية.

توجهنا إلى منطقة الفحص جنوب محافظة الخليل، حيث تنتشر السيارات المشطوبة هناك، بل وتصطف على أسطح المنازل أيضاً. وتوجد على جانبي الطريق محطات لتفكيك السيارات، ومحال لبيع القطع وكراجات لتصليح السيارات. 

توقفنا عند إياد الرجبي، صاحب أحد معارض السيارات في المنطقة، الذي أكد أنه يشتري السيارات المشطوبة ويبيعها قطعاً فقط. أما محمود توفيق (اسم مستعار) فأقر أنه يبيع السيارات “هياكل” كاملة: “قد نكسب في السيارة الواحدة 100 شيكل إلى 1000 شيكل، وقد لا نكسب شيئاً على الإطلاق”. وهو ما ينطبق على تجار آخرين قابلناهم في المنطقة نفسها. 

أجمع من قابلناهم على أن إدخال السيارات لمناطق الضفة الغربية ليس سهلاً، إلا أن هناك نقاطاً “عمياء” تمر من خلالها، وفق تعبيرهم.

ثغرات ونقاط عمياء

في بيانات رسمية، تحظر وزارة النقل والمواصلات الفلسطينية استيراد السيارات المستعملة من إسرائيل؛ مستندة إلى قرار منع شراء المركبات المدفوعة الجمارك من الجانب الإسرائيلي، الذي بدأ العمل به منذ أواسط عام 1997 حتى الآن.

المحامي عمرو عمرو أكد أن القانون يمنع بيع وشراء السيارات المشطوبة، ولكنّه يسمح بشرائها قطعاً.  بحثنا عن نص القرار، فلم نجد إلا ما نشر عبر صفحة وزارة النقل والمواصلات الفلسطينية.

قرار منع شراء المركبات المدفوعة الجمارك من الجانب الإسرائيلي بدأ العمل به منذ أواسط ال 1997 وما زال ساريا إذ أن الأراضي الفلسطينية والجانب الآخر يخضعان لمنطقة غلاف جمركي واحد والجانب الإسرائيلي يرفض تحويل جمارك المركبات إلى الخزينة الفلسطينية في حال شراء مركبة إسرائيلية مدفوعة الجمارك.

لكن لا يوجد قانون يحظر بيع قطع غيارات السيارات وهنا الثغرة الأولى التي يستغلها البعض لإدخال السيارات إلى الضفة الغربية.

رغم ذلك، تسمح السلطة الفلسطينية باستيراد بعض المركبات.

عبدالله (اسم مستعار) أربعيني عمل لأكثر من خمسة عشر عاماً، تاجراً للأثاث المستعمل بالداخل المحتل، ولا يعمل في تجارة السيارات المشطوبة، إلا أنه وبحكم قيامه بدور الوسيط في مرات عديدة، ولإتقانه اللغة العبرية؛ يعرف الكثير عن أسرار هذه التجارة. 

يشرح عبدالله كيف يعثر بعض التجار على سيارات مشطوبة، قائلاً: “يقوم التاجر بجولات دورية في الحارات، وهناك يضعون ملصقات على السيارات المشطوبة المصفوفة على حافة الطريق، مزودة بأرقام هواتفهم ويحثون من لديه رغبة في بيع سيارته على التواصل معهم”. هو نفسه يحمل عدداً من تلك الملصقات، التي لا يتردد في إظهارها لنا؛ مؤكداً ما لا يخفى على أحد، أن هذه السيارات تباع هياكل كاملة في كثير من الأحيان.

الملصقات كتبت باللغة العبرية وحملت أرقام تواصل إسرائيلية، يترجم عبدالله عباراتها “هل أنت مهتم أو معني ببيع سيارتك، إذا كنت مهتما ببيعها اتصل على هذا الرقم”. 

يقوم مالك السيارة -وفقاً لرواية عبدالله- بفك لوحة التسجيل، تجنباً لاستخدامها بطريقة مخالفة للقانون؛ إلا أن البعض يُبقي لوحات التسجيل على سياراتهم. يوضح عبد الله أن السيارات المشطوبة تشمل أيضاً المسروقة وتلك التي يعجز أصحابها عن سداد أقساطها، كسيارة أحد معارفه الإسرائيليين الذي قام بشرائها عن طريق البنك، الذي وضع عليها “عكول” (وهو مصطلح تستخدمه السلطات الإسرائيلية لحجز البنك على السيارة) بعد عجزه عن سداد الأقساط.  

“أغلب السيارات الشطب بتدخل مشي؛ أي أن صاحب السيارة يقودها للداخل ويسلمها بنفسه، ثم تأتي مرحلة تسليم المفتاح، وهنا تبقى النسخة الأساسية من المفتاح بحوزة المالك الأصلي للسيارة”، يوضح عبدالله.  بالطريقة هذه، يكسب مالك السيارة الأصلي تعويضاً من شركات التأمين، بعد أن يُقدّم بلاغاً لأجهزة الشرطة، مدعياً سرقة سيارته، وفقاً لعبد الله، الذي يؤكد أن الإسرائيليين أيضاً يعملون في تجارة السيارات المشطوبة.

“في إسرائيلي لما كنت أتجول بمنطقة السبع، كان هو الآخر يتجول في الحارات، ومعه ولد صغير لما بشوف سيارة مشطوبة وعليها لصقة غير لصقته، ينزل الولد الصغير بشيلها ويضع لصقته و يشتري هذه السيارات ويبيعها، والسيارة التي تعمل يعبر بها بنفسه للضفة”، يشرح عبد الله.

التجار الذين التقيناهم بمنطقة الفحص، أكدوا رواية عبد الله؛ فمنهم من تصله السيارة مباشرة من خلال أفراد، وبعضهم تصله من خلال تجار يأتون بها من “الداخل” عبر جرارات.

لفهم سير هذه العملية بشكل أوضح، تواصلنا مع “بسيم” مالك أحد كراجات السيارات في إسرائيل، فأخبرنا أن التاجر الذي يريد شراء سيارات مشطوبة لبيعها قطعاً؛ يتقدّم بطلب للحصول على فاتورة “مقاصة” من مكتب ترخيص إسرائيلي، فيرسل المكتب الفاتورة إلى معبر ترقوميا المخصص للتجّار، ومن هناك تتمّ الموافقة على إدخال هذه الشحنة من السيارات. ويضيف “بسيم” أن مخالفة شرط بيع سيارات الشطب قطعاً تأتي من الجانب الفلسطيني، لأن شحنات السيارات لا تمر من دون فاتورة مقاصة.

فاتورة المقاصة

فاتورة لها علاقة بتحصيل قيمة الضريبة المضافة، بين سلطة الضرائب الإسرائيلية والفلسطينية؛ فعند إتمام معاملة تجارية خاضعة لضريبة القيمة المضافة، بين طرف فلسطيني وآخر إسرائيلي، يقوم البائع بإصدار فاتورة خاصة يطلق عليها اسم فاتورة مقاصة، ويسلمها للمشتري. مع العلم أن ما تسلمه السلطات الإسرائيلية للجانب الفلسطيني هو فقط “القيمة المضافة”، ولا يشمل ذلك الرسوم الجمركية. والبضاعة التي يتمّ نقلها من السلطة الفلسطينية إلى إسرائيل أو العكس يجب أن تكون معها فاتورة مقاصة، وكل بضاعة يتمّ ضبطها من دون الفاتورة تكون عرضة للمصادرة والحجز، وذلك وفق القانون.

المشطوب: هروب من ضرائب عالية

يخفق قلب “جهاد” في كل مرة تعبر فيها أمام دورية للشرطة الفلسطينية. تحاول أن تخفي توترها، وأن تلتزم بالسرعة المطلوبة، كما تتأكد من ربط حزام الأمان الذي يُطبق على صدرها. سيارة “البولو” طراز فولكس فاجن، التي اشترتها جهاد، مقابل 3000 شيكل (نحو 780 دولاراً وقت العمل على التحقيق)، هي كما يقولون “الحيلة والفتيلة”؛ ما يجعلها تسلك طرقاً التفافية في كل مرة تخرج فيها، وهي تدعو أن يحالفها الحظ بالإفلات من يد السلطة، التي تصادر السيارات ذات النمر الصفراء. تلتقط جهاد أنفاسها، يبتسم لها الشرطي ويتركها تمر؛ غير مبالٍ بالنمرة الإسرائيلية. هي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، إلا أنها تخشى “ألا تسلم الجرة” في كل مرة.

تُقر جهاد بأن الأسعار المرتفعة للسيارات المرخصة دفعتها لشراء سيارة “شطب”، من خلال معارف لها.

لا تقل أسعار السيارات المشطوبة عن 3000 شيكل (نحو 780 دولاراً وقت العمل على التحقيق) بحسب البائعين الذين التقيناهم، إلا أنها تشهد إقبالاً كبيراً من المواطنين؛ نظراً لتكلفتها المنخفضة مقارنة بنظيراتها “الفلسطينية المرخصة”.

يؤكد مدير شركة فونيكس للتخليص الجمركي، رامي القواسمي، أن سعر السيارات في فلسطين (المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية) أعلى بكثير منها في الدول الأخرى. يتفق المتحدث باسم وزارة النقل والمواصلات، موسى رحال، مع القواسمي في كون أسعار السيارات المرخصة أعلى من سعر السوق العالمي.

في لقاء تلفزيوني سابق، تحدث رحال بشكل تفصيلي عن قيمة الضريبة المضافة المفروضة على السيارات، مبيناً أن قيمة الضريبة تتراوح ما بين 50 بالمئة إلى 75 بالمئة للمركبات التي تعمل بالوقود، ويُضاف إليها قيمة الضريبة المضافة 16 بالمئة. بحسبة يسيرة، السيارة التي يبلغ ثمنها 5000 دولار أميركي بالأساس، يضاف إليها ألفان و500 دولار، إذا كانت ذات محرك سعته دون  cc 2000، ليصبح سعرها سبعة آلاف و500 دولار، بالإضافة إلى قيمة الضريبة، ليصل إجمالي سعرها إلى ثمانية آلاف و700 دولار.

“بروتوكول باريس” هو الإطار الذي تحدّدت ضمنه العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في المرحلة الانتقالية، والذي وُقع في أيّار عام 1994، وشكّل قسماً من اتفاقية “أوسلو”. وقد اتفقت إسرائيل والسّلطة الفلسطينية في هذا البروتوكول على وجود حدود خارجية مشتركة في المرحلة الانتقالية، بما يخصّ البضائع التي تأتي من دول أخرى. واُتفق على أن تجبي إسرائيل ضرائبَ الاستيراد (الجمارك) المفروضة على تلك البضائع، ومن ثمّ أن تحوّل إلى السلطة الفلسطينية الأموال المستحقة من الضرائب المفروضة على البضائع المُعدّة للمناطق المحتلة. وبحسب هذا البروتوكول، يحقّ لإسرائيل أن تقررّ وتغيّر بشكل أحاديّ الجانب نسبة الضرائب المفروضة على البضائع المستوردة. أما فيما يخصّ ضريبة القيمة المضافة، فتقرّر أن تحوّل إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية الأموال التي جبتها لقاء البضائع أو الخدمات التي بيعت في إسرائيل، وهي مُعدّة للاستهلاك في المناطق المحتلة، وذلك وفق نظام محاسبة شهري.

خسائر مركبة للفلسطينيين: توابيت متحركة

خلال السنوات الخمس الأخيرة، ارتفعت نسبة حوادث السير في فلسطين من 2.6 بالمئة إلى 17 بالمئة، وفق التقارير السنوية للشرطة الفلسطينية منذ عام 2019 إلى 2022؛ خمسين في المئة من هذه الحوادث- وفق تقديرات مدير دائرة العلاقات العامة بمحافظة الخليل المقدم بشير النتشة- تكون بسيارات مشطوبة، تحمل اللوحة الصفراء.

توابيت الموت، كما يتفق النتشة وآخرون على تسميتها، تتسبب يومياً في العديد من حوادث الطرق، التي تُخلّف وفيات وإصابات عديدة؛ نظراً لعدم خضوعها لأي شكل من أشكال الفحص.

محمد صاحب الحادية والعشرين عاماً، انتهت حياته بعد أن توقفت مكابح سيارته المشطوبة عن العمل، ليُتوفى مباشرة، ويُصاب من كان معه بالسيارة. رغم ذلك، لا يزال رفيقاه اللذان كانا معه وقت الحادث، يستخدمان سيارات مشطوبة. يقول السويطي، صديق “محمد” الذي آثر أن لا يجيب عن الكثير من أسئلتنا: “والله رجعنا استخدمنا سيارات مشطوبة بس بنظل هايبين وإذا واحد يسرع فوق الـ 60  بنزل من السيارة”.

الحادثة التي تعرض لها السويطي، وخسر فيها أحد أصدقائه، هي سيناريو يتكرر في بلدة بيت عوا والضفة الغربية كافة. وخلال إجراء هذا التحقيق، رصدنا بالبلدة عدداً من حوادث السير خلال السنوات الثلاث الأخيرة؛ التي أودت بعضها بحياة الكثير من الأشخاص، وكان القاسم المشترك بينها وجود سيارات مشطوبة تحمل نمراً صفراء.    

التقينا المهندس محمود مناصرة، نائب مدير دائرة فحص المركبات في محافظة الخليل، الذي أشار إلى أن المركبات المشطوبة تُستبعد لعدم صلاحيتها من الناحية الفنية أو القانونية: “موضوع الأمان فيها متدني جداً، والسيارة بتكون انشطبت لحادثة فيها، أو ضرر حاد في أنظمة التوجيه، أو الفرملة أو أنظمة التوقف؛ فمن الطبيعي في حالة الحوادث راح تسبب أذى كبير، لأن هذه السيارة أصلاً غير خاضعة لفحص سنوي للتأكد من سلامتها وصلاحيتها للسير على الطريق”، يقول مناصرة. 

ويضيف المناصرة: “المشطوب اليوم معروف اللي يسوقه شباب صغير، وفي بداية عمره، يعني بتحكي عن سيارة غير سليمة من الناحية الفنية والقانونية وعن سائق غير مؤهل لقيادتها”.

يأتي ذلك متفقاً مع دراسة تحليلية حول حوادث الطرق في إسرائيل، أظهرت أرقامها أن الحوادث بالسيارات القديمة، تكون احتمالية الوفيات فيها أكثر بمقدار الضعف، عن غيرها من المركبات. علاوة على المستويات العالية من التلوث، التي تسببها تلك السيارات مقارنة بالسيارات الأحدث. كانت إسرائيل وضعت برنامجاً لسحب السيارات التي يزيد عمرها على 20 عاماً، مقابل مبلغ مالي توفره الدولة لهم.

المقدم بشير النتشة يشير إلى أزمة مختلفة، فيقول إن هناك مَن يستخدم هذه السيارات في السرقة وتجارة المخدّرات وغيرها من الجرائم، ويصعب تتبعها لعدم وجود لوحة أرقام مسجّلة في دائرة الترخيص.

غياب قانون رادع وضعف قبضة أمنية “متعمد” 

أكد المحامي عمرو عمرو عدم وجود نص قانوني مثل قانون المرور، للتعامل مع السيارات المشطوبة غير المرخصة؛ لذا تقوم سلطة المرور أو دورية السلامة على الطرقات، بمصادرة المركبة أو مخالفة صاحبها، ومن الممكن أن تحوله إلى المحكمة، وفق تقديراتها. 

ويضيف عمرو أنه في حال ضبط أي تاجر أو سائق يستخدم سيارة مشطوبة، فلا توجد عقوبة محددة بنص قانوني، إلا أن هناك غرامة لا تتعدى 180 ديناراً، بناء على تقديرات القاضي.

يجيز قانون المرور الفلسطيني للشرطي إلقاء القبض على قائد المركبة في حال قيادتها بدون لوحات تحمل أرقامها وهو ما ينطبق على السيارات المشطوبة، كما يُجيز حجز المركبة التي تسير بدون لوحات تحمل أرقامها.

أما عن دور وزارة النقل والمواصلات وإجراءاتها تجاه السيارات المشطوبة، يقول موسى رحال إن الوزارة تقوم بإتلاف السيارات المشطوبة، بعد مصادرتها من قبل الشرطة، وذلك وفقاً لأحكام قانون الجمارك، لأنها تُعدّ مهربة.

ولكن من يتحمّل مسؤولية مرور هذه السيارات من الأساس؟ 

 تسيطر إسرائيل على جميع المعابر من الضفة الغربية وإليها؛ ما يعني أن مسؤولية الرقابة على مَن وما يمر من وإلى الضفة الغربية تقع على عاتق السلطات الإسرائيلية وحدها، التي تغض الطرف عن دخول هذه السيارات.

 يقول رامي الحروب، أستاذ العلوم السياسية، والباحث القانوني، إن إسرائيل لطالما استخدمت أراضي الضفة الغربية كمكب لنفاياتها، وللتخلص من فائضها كذلك، ووصف مشكلة السيارات المشطوبة بـ”المهلكة للاقتصاد الوطني”، على حد تعبيره.

ورغم عدم توصل معدّة التحقيق لما يثبت تواطؤ الجانب الإسرائيلي، لتسهيل دخول هذه السيارات إلى الضفة الغربية؛ إلا أن الحروب يرى أن إسرائيل معنية بدخول هذه السيارات إلى الضفة؛ لأنها تتسبب في إنهاك الاقتصاد الوطني بشكل مباشر وغير مباشر، نتيجة عزوف الناس عن شراء السيارات المستوردة، أو دفع تأمين وترخيص.

وأخيرا، قد ينتهي المطاف بسيارة جهاد تحت آلية تُدمّرها، وقد يعود الجرار المحمل بسيارات الشطب من حيث جاء، أو تتمّ مصادرته، إلا أن الأكيد أن ثمن شراء سيارة مشطوبة جديدة، أو حتى نقل خمس سيارات، سيبقى أقل كلفة من شراء سيارة مرخصة جديدة في فلسطين.