انتهاكات جنسية ضد طلبة مكفوفين في الأردن
منى أبو حمّور
سمع خالد رنة هاتفه الجوّال، فسارع بالرد؛ كان معلمه فؤاد يطلب لقاءه لمساعدته في بعض المهام داخل المدرسة. التقى الفتى الكفيف خالد معلمه في اليوم التالي، الذي لم يكن يوماً دراسياً عادياً؛ فحياة خالد تغيرت إلى الأبد، بعد تعرضه لاعتداء جنسي على يد المعلم، الذي انفرد به في إحدى غرف المدرسة.
خالد أسعد (اسم مستعار) طالب كفيف، يدرس في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم للمكفوفين. يوضح خالد أن معلمه فؤاد، وهو كفيف أيضاً، كان يعامله بداية الأمر باحترام ويتواصل معه، من دون أن يصدر منه شيء لافت.
يقول خالد إن المعلم قدم له هدية قبل وقوع الحادثة: “جاب لي مرة سماعة صغيرة… كنت أيامها صغير ومو فاهم شي”. ما زال خالد يتذكر الحادث وتفاصيله جيداً.
لم يتلقَ الفتى أيّ علاج تأهيلي أو دعم نفسي؛ فالخوف دفعه إلى عدم إبلاغ والديه بما تعرض له، يقول خالد: “كنت خايف يقولوا لي أنت السبب”.
لم يكن خالد الضحية الوحيدة لفؤاد؛ إذ يؤكد الفتى أن هناك ضحية أخرى من زملائه الذكور : “كان بده يعمل مع أشخاص تانيين لكن ما زبطت”.
في مقهى صغير تابع لمؤسسة مختصة بالمكفوفين، قابلت صديق خالد، سامر عبد الله ( اسم مستعار)، وهو طالب كفيف، درس سابقاً في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم، وما تزال تربطه علاقات وثيقة بزملائه داخل المدرسة.
يوضح سامر أن المعلم فؤاد، الذي درّسه، كان يبدو ذا شخصية محببة، يحاول التقرب من الطلبة ومصادقتهم، ومع ذلك فقد كان يُلقي أحياناً على مسامعهم عبارات ذات إيحاءات جنسية.
يقول سامر إن المعلم فـؤاد كان يبدي اهتماماً بالطلبة الأكبر سنّاً. يستذكر سامر حواراً دار بينهما، حين سأله يوماً: “لماذا لا تُدرّس الطلبة الأصغر سنّاً؟”. أجاب المعلم: “هذه الفئة ما بتهمني”.
بعد إجراء عدد من المقابلات لمعرفة ما يحدث خلف أسوار المدرسة، التي تبدو مثالية أمام عدسات الصحافة، قادني البحث إلى سمر إبراهيم ( اسم مستعار)، التي عملت سابقاً معلمة في مدرسة للمكفوفين، وهي ناشطة في مجال تعليم تلك الفئة.
في منزلها، الذي يقع في أحد أحياء العاصمة، استقبلتني سمر بحفاوة. سألتها عن تجربتها مع الطلبة المكفوفين، فانطلقت في حديثها وكأنها تنتظر شخصاً منذ سنوات؛ تبوح له بما يعانيه هؤلاء الطلبة.
توضح سمر أن الطلبة المكفوفين يتعرضون لمختلف أشكال الإهمال، وقبل ذلك كله، فهم لا يحظون بتقبل المجتمع؛ ما يجعلهم يجدون في المدارس المخصصة للمكفوفين ملاذاً، لكنه قد لا يكون آمناً.
تقول سمر إن طالبـاً كفيفاً في مدرسة للمكفوفين بالعاصمة، تعرض لحادثة اعتداء جنسي على يد معلمه، قبل أكثر من عشرين عاماً.
غياب الكاميرات
زرت مبنى المدرسة وتجولت في أروقتها؛ بناء ضخم مكون من أربعة طوابق، أقيم على مساحة تسعة دونمات. بالمدرسة عدة غرف مساندة، منها غرفة الحياة اليومية، وغرفة التأهيل الحسي، وغرفة المصادر، والمكتبة وغرفة طباعة كتب برايل وغيرها، بالإضافة إلى الغرف الصفية وطابق مخصص للسكن الداخلي.
لفت انتباهي غياب الكاميرات داخل غرفة تعليمية، بعيدة عن الغرف الصفية. علِمت، خلال إجراء التحقيق، بوقوع محاولة اعتداء جنسي على عاملة نظافة في هذا المكان.
رصدْت وجود الكاميرات، التي لا أعلم إن كانت تعمل أم لا، في أماكن محدودة داخل المدرسة، لم تكن غرفة الموسيقى منها، التي شهدت حادثة اعتداء جنسي على طالب من معلم قبل سنوات.
استدرج المعلم الطالب البالغ من العمر أربعة عشر عاماً؛ “مبيتاً نيته على الاعتداء الجنسي عليه بحجة تدريبه على الطبلة، مستغلاً وظيفته وسلطته التي استمدها من عمله لدى مدرسة المكفوفين، وكذلك كون المجني عليه أحد طلابه وفاقداً للبصر مثله”، حسب قرار المحكمة.
قام المعلم بمباغتة الطالب بفعله، كون الأخير لا يرى ما يفعله المتهم، حسب ما أوضحت تفاصيل القضية. أصدرت المحكمة قرارها بوضع الجاني في الأشغال الشاقة المؤبدة؛ عشر سنوات وستة أشهر.
تؤكد أمل سعيد، اسم مستعار، وهي إحدى العاملات في المدرسة، غياب الكاميرات عن العديد من مرافق المدرسة؛ إذ توجد في أماكن محدودة ومنها مكان جهاز بصمة الموظفين، وموقف الحافلات وبعض الممرات.
كشف تقرير نشره المركز الوطني لحقوق الإنسان عام 2019، عن عدم تفعيل كاميرات المراقبة داخل المدرسة لأكثر من شهر، وذلك عقب زيارة رصد أجريت في الشهر ذاته، الذي شهد وقوع حادثة الاعتداء في غرفة الموسيقى.
انتهاكات مستمرة
تقول أمل إن معلماً آخر كان يتعمد الإمساك بالجزء العلوي من أجساد طالبات، خلال بعض الأنشطة المدرسية؛ بحجة أنه يحاول التحقق من هويتهن.
يقول مدير مديرية برامج الطلبة ذوي الإعاقة، في وزارة التربية والتعليم، الدكتور محمد الرحامنة، إن الوزارة لديها نظام إبلاغ عن التجاوزات والانتهاكات التي تقع بحق الطلبة ذوي الإعاقة في المدارس الحكومية، ويتم الإبلاغ من خلال “قسم الحماية الآمنة في إدارة التعليم – مديرية الإرشاد التربوي”.
ووفقاً للرحامنة، لم تتلقَ الوزارة، عبر هذا النظام الذي وصفه بالآمن، أيّ شكاوى تتعلق بانتهاكات جسدية تعرض لها الطلبة، في مدرسة المكفوفين الحكومية.
من جهته كشف مصدر حقوقي مطلع، غير مخول بالتصريح، عن عدد من حوادث الاعتداءات الجسدية، التي تعرض لها الطلبة في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم للمكفوفين، وهي المدرسة الحكومية الوحيدة للمكفوفين.
وفق المصدر، فإن معلماً كفيفاً حاول الاعتداء جنسياً على طالب في غرفة الصف أثناء الحصة الدراسية؛ إذ بادر باحتضانه من الخلف، بعد أن أمره بالكتابة على السبورة.
كما أكد المصدر أن العديد من الطلبة (من الجنسين) تعرضوا للتحرش بمسك أجزاء من أجسادهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحديد الفاعل لعدم قدرتهم على رؤيته.
تضمن التحقيق، الذي نُفذ بالتعاون مع شبكة أريج، إجراء مقابلات مع أكثر من عشرين شخصاً، من بينهم ناجون؛ بهدف كشف حقيقة ما يتعرض له طلبة مكفوفون في المدرسة.
لم يكن الأمر سهلاً، بسبب خشية الأهالي والمعلمين، الذين قابلتهم، من عواقب ذلك؛ وبالتحديد من احتمالية إغلاق المدرسة؛ ما يضطرهم إلى اللجوء إلى مدارس عادية لا تتقبل الكفيف؛ معلماً كان أم طالباً، ولا ترى في دمج المكفوفين مع الآخرين حقاً أساسياً من حقوقهم الإنسانية، بحسب مخاوف أفصح عنها العديد من المكفوفين، الذين قابلتهم خلال إجراء التحقيق.
أشار تقرير المركز الحقوقي إلى أن أوضاع الطلاب النفسية في المدرسة غير جيدة؛ لعدم تقبل المجتمع لهم، لافتاً إلى “ضعف الدمج بالتعليم، ومعاناة الطلبة من حالة العزل الاجتماعي الذي يعانونه، والاغتراب في المدارس الحكومية التي كانوا ملتحقين بها، بسبب تهميشهم والسخرية منهم”.
“أخذت بنتي وهربت”
سناء علي، اسم مستعار، طالبة درست في الصفوف الأساسية الأولى بمدرسة عبد الله بن أم مكتوم. تحدثت والدة الطالبة سناء عن تجربة ابنتها في المدرسة، شجّعها على الحديث انتقال ابنتها للدراسة في مدرسة أخرى منذ سنوات.
قابلت سناء في منزل أسرتها. جلست الفتاة بشجاعة وبدأت تتحدث عن تجربتها، حين تعرضت للتحرش من معلمها، عندما كانت في الصف الثالث. كان المعلم يتلمّس أجزاء مختلفة من جسد الطفلة، على نحو لا يفسر بحاجة تعليمية، بحسب ما أوضحت والدتها.
تقول والدة سناء، إن الخوف على سلامة ابنتها دفعها إلى نقلها من المدرسة المهيأة لتعليم المكفوفين: “أخذت بنتي وهربت… لم أتحمل أن أترك ابنتي في هذه المدرسة”.
الاعتمادية على الآخرين
تعرضت سناء أيضاً لحوادث متعددة، منها حادثة سقوط مع عدد من الطالبات، نتيجة عدم قدرتهن على التنقل بسهولة.
تقول أسماء عيسى إن ولدها الذي يدرس في المدرسة، لم يتلقَ تدريباً على التنقل بمفرده؛ على الرغم من رفض إدارة المدرسة أن يستخدم الطالب عصاة بيضاء داخل مرافقها.
تؤكد أمل، اسم مستعار، التي تعمل في المدرسة، أن هناك تراجعاً في الاهتمام بالقسم الذي يطور مهارات الطلبة في الاعتماد على أنفسهم، والتنقل بحرية، من دون الحاجة إلى الاستعانة بمعلمين ومعلمات للتنقل.
مرام محمد، اسم مستعار، طالبة كانت تدرس في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم حتى وقت قريب، تقول إن الاعتماد على الآخرين في التنقل أمر مألوف داخل أروقة المدرسة، مؤكدة أن العديد من المعلمين المكفوفين غير قادرين على التنقل من دون الاستعانة بآخرين، مع أنهم قضوا سنوات طويلة في هذا المبنى.
“درس خصوصي” غطاء للتحرش
امتدت حالات التحرش الجسدي بالطلبة إلى المنازل، تحت غطاء “دروس التقوية”.
تقول والدة سناء، إنها اكتشفت تعرض ابنتها للتحرش في المنزل، على يد معلمها الكفيف، وهو معلم في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم.
الأمر ذاته تعرض له خالد، الذي قال إن معلمه فؤاد حاول التحرش به، أثناء إعطائه درساً خصوصياً في منزل أسرته، إلا أن محاولته لم تنجح وقتها.
يؤكد تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان، الذي نُشر حول الأكاديمية عام 2019، عدم كفاية الإجراءات بحق المعلّمين المُشتكى عليهم، ممن يقومون بصورة من صور العنف الجسدي، ومنها لمس الطالب.
كما لفت التقرير إلى أن الأمر ذاته ينطبق على مَن يمارسون العنف اللفظي.
تقول سناء، التي تستذكر أيام دراستها في المدرسة، إنها اضطرت يوماً إلى الاختباء في خزانة داخل غرفة الصف، خشية تعرضها للعقوبة من أحد المعلمين؛ إذ كان يهددهم بالضرب إن لم يقوموا بحل الواجب.
لم يقتصر التحرش الجسدي على الطلبة؛ إذ صرحت أمهات بتعرضهن للتحرش، “بمسك” أجزاء حساسة من أجسادهن، من جانب عدد من المعلمين لدى زيارة المدرسة.
سيطرة واستغلال
يوضح خبير علم النفس، دكتور علي الغزو، أن المتحرش يلجأ لتحقيق أهدافه إلى أساليب للسيطرة على الضحية، ومنها التلفظ بعبارات نابية، أو جمل تحمل إيحاءات جنسية، ويُعد ذلك اختباراً قبلياً للضحية.
وحسب الغزو، يُشكل صمت الضحية تجاه ذلك إشارة للمتحرش، بالانتقال إلى مرحلة اللمس الجسدي لمناطق كالوجه والشعر والأماكن الحساسة، فيحاول المتحرش بواسطته استشعار خوف الضحية، ويتمادى في ذلك وصولاً إلى السيطرة الكاملة.
كما أوضح الخبير النفسي أن المتحرش قد يلجأ إلى تقديم الهدايا لخلق نوع من الألفة بينه وبين الضحية. فيبني الأخير آمالاً بأن يحصل على هدايا أخرى أو هدايا أكثر قيمة في المرات المقبلة.
وفي مرات قليلة، قد يستغل المتحرش موهبة أو ميولاً لدى الضحية. تجاوز تلك المراحل يُشعر المتحرش بالأمان ويتمادى بشكل أكبر.
أُلحقت مدرسة عبد الله بن أم مكتوم بوزارة التربية والتعليم عام 2001، بعد أن كانت تتبع وزارة التنمية الاجتماعية. تضم المدرسة 278 طالباً وطالبة، يقوم على تدريسهم 151 معلماً ومعلمة.
يؤكد تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان وجود عدد فائض من الأساتذة على الأعباء الدراسية في المدرسة، ليس لديهم برامج للتدريس، ما يُشكّل “وجود أوقات فراغ لديهم، ويخلق جواً غير تعليمي فيها”.
ومع ذلك، يوجد في المدرسة طلبة لا يقرأون ولا يكتبون، وهم في مستوى الصف السادس و التوجيهي، فق تقرير المركز.
الخوف من الوصم
تؤكد مرام أنها تعلمت الكثير في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم، ومع ذلك فهناك العديد من الطلبة في المدرسة انطوائيّون وغير قادرين على القيام بحاجاتهم اليومية باستقلالية.
خالد، الذي وقع ضحية للمعلم فؤاد، يؤكد أنه لم يسبق لأحد أن قام بتوعيته بشأن حدود علاقته بالآخرين، والأجزاء التي يمكنهم لمسها من جسده.
يقول خالد: “بتمنى لما بدهم يوظفوا معلم في المدرسة يكونوا واثقين منه”. أما سامر فيقول: “ما حدا بوعي الطالب، ما بيقولوا له ما تخلي حدا يشلحك بنطلونك”. مضيفاً أن هناك العديد من المعلمين الجيدين في المدرسة، ومع ذلك على الطالب أن يحافظ دائماً على مسافة آمنة بينه وبين معلمه.
كما أوضح سامر أنّ الطالب من ضحايا التحرش قد يمتنع عن الإبلاغ عما يتعرض له؛ خوفاً من الوصم، أو من لومه على ما حدث. سامر أكد أيضاً تعرض أحد الطلبة من ضحايا التحرش في المدرسة للوصم والتنمر، من طلبة ومعلمين بسبب ما وقع عليه. يقول سامر بمرارة: “الضرر النفسي هنا قد يكون أكبر من الاعتداء ذاته… والمجتمع ما برحم”.