«أسمنت سيناء».. السرطان يطير فى الهواء

13 يونيو 2013

المصري اليوم –تشير عقارب الساعة إلى الثالثة عصرا، موعد انصراف العمال من مصنع «أسمنت سيناء» بوسط سيناء، نوبات سعال شديد تهاجم بعضهم وهم فى طريقهم إلى المنازل، لكنهم تعودوا عليها فأصبحت طقساً من طقوس الحياة اليومية.

وسط سيناء حيث التربة الخصبة تفتقر لأياد تحييها وآبار مياه، تنادى أقداماً صماء تخطو فوقها، لا شىء يوحى بالحياة إلا هذا المصنع حيث «أكل العيش مر»، فلا توجد فرصة عمل لأبناء وسط وشمال سيناء المقدر عددهم بحوالى ٤٠٨ آلاف و٥٤١ نسمة، حسب إحصاء الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى ٢٠١٢، إلا فى ذلك المصنع، الذى يبعد مسافة ٣٥ كيلومتراً عن مدينة العريش، الذى تمتلك شركة «فيكا مصر» الفرنسية الحصة الكبرى فيه، ولا خيار ثان أمامهم.

لا توجد احتياطات صحية للعاملين بالمصنع أو قدر من الاحتياطات البيئية الذى يضمن الحفاظ على البيئة، بل إن المصنع يلقى بـ«مخلفات الأسمنت» التى يطلق عليها اسم «الباى باص» فى التربة، تلك التربة التى يضع عليها المصريون آمالاً يتخيلون بها سيناء سلة الخبز، وممر التنمية الذى يعولون عليه فى مستقبل الأجيال القادمة.

تتحطم هذه الآمال على صخرة استباحة الشركات الأجنبية أرض القمر المنسية لتأتى أنات أهلها مستغيثة من هذه الانتهاكات.

بطلة المشهد هى حلة «الباى باص»، وهى عبارة عن إناء دائرى كبير نصف قطره ١٠ أمتار تقريباً، مركب على موتور يساعده على اللف، تصلها خامة الباى باص ناعمة جداً، يخرج منها الباى باص بودرة، يرش عليها العمال الماء، ليتمكن سائقو السيارات من نقلها.

يقف عليها العامل مستنشقا أتربتها التى تحتوى على مجموعة من المواد الكافية لتدمير جهازيه التنفسى والعصبى بالكامل، حسب ما ذكر الدكتور محمد الهمشرى، الباحث بالمركز القومى للبحوث، وكل ما يرتديه من أدوات السلامة المهنية هو «خوذة».

يقول جهاد محمد، من أبناء الشيخ زويد، ٢٤ سنة، أحد العمال بمصنع أسمنت سيناء: «مافيش شغل فى سيناء إلا فى الزراعة أو المصنع، وطبعا المزارع عاوزة إمكانيات وفلوس، فالشغل فى المصنع أحسن، ما باليد حيلة، كان راتبى قبل الثورة ٧٠٠ جنيه وزاد بعد الثورة إلى ١١٠٠ جنيه، كلما طالبنا بزيادة يردوا علينا إن المصنع بيخسر».

يضيف: «كثيرا ما أشعر أننى على شفا الموت، فأحيانا ندخل فى أماكن ليس بها تهوية، حيث نقوم بتنزيل بعض الخامات، ووقعت بها مرتين وكدت أختنق لكن الحمد لله قدرت أخرج سليم».

فصل المصنع العامل (جمال . ك) بعد إصابته بالربو ولم يحصل على أى من حقوقه، وعندما غضبت عائلته وتسببت فى بعض المشاكل لملاك المصنع، تم تعيينه فى مصنع أكياس التعبئة الخاصة بالأسمنت والمملوك لنفس الشركة. رفض (جمال) أن ينطق بأى كلمة عن مرضه أو عن المصنع، خوفا على مورد رزقه الجديد، ولكن ما لم يكن فى الحسبان أن يتم فصل جمال من مصنع التعبئة كذلك، لأنه لم يعد قادرا على القيام بأى عمل.

جهاد عامل آخر يعمل فى قسم «مخلفات الأسمنت»، الباى باص، المتطايرة فى المكان كله ويعانى من صعوبة فى التنفس وضعف فى الإبصار، لكنه يستطيع رؤية عينى زميله محمود الحمراوين من شدة الالتهاب.

محمود طلعت (٢٦ سنة) يعيش فى العريش منذ ١٢ عاما يعمل فى «حلة الباى باص» منذ ٤ أعوام يقول: «لو فتحت صدرى هتطلع منه باى باص، ساعات كتير أطلع بلغم وساعات أكح دم». يفسر الدكتور محمد الهمشرى، الباحث بالمركز القومى للبحوث، احمرار العينين المنتشر بين عمال المصنع بوجود مادة السليكا التى تقطع أغشية الرئة وأغشية العين، فتسبب احمرارا تعقبه التهابات شديدة وأمراض بالعين تؤثر على الإبصار فيما بعد.

وعن استمراره فى العمل بحلة الباى باص رغم معاناة جهازه التنفسى، يقول محمود: «للأسف مافيش مكان تانى». محمود مشترك فى التأمين الصحى ولكنه لا يستفيد منه، معللا ذلك بقوله: «فيه تأمين صحى لكن كشفه يخليك ماتعرفش راسك من رجليك، يعنى لو ماكنتش تكشف انت على حسابك بره مش هتعرف عندك إيه بالضبط».

عندما اصطحبنا العاملين بالمصنع محمود طلعت وجهاد محمد لإجراء أشعة على الصدر اتضح أنهما مصابان بالتهاب فى الشعب الهوائية، رغم أنهما لم يعملا سوى عامين فى حلة الباى باص، ويخشى العاملان من مصير زملاء لهما من قدامى العاملين أصيبوا بأمراض خطيرة، منها زميل لهم من العريش قام بنقل عائلته بالكامل ليعيش فى القنطرة شرق بعد إصابته بالسرطان، خوفا على أبنائه من أن يواجهوا نفس المصير.

ويعتبر الدكتور محمد الهمشرى، إخصائى الأمراض الصدرية، أن التهاب الشعب الهوائية هو بداية لأمراض أخطر تصيب الجهاز التنفسى، ويضيف الباحث المساعد بقسم الطب البيئى والمهنى وإخصائى الأمراض الصدرية والمهنية: «توسعت مصر فى صناعة الأسمنت مؤخرا بسبب غنى التربة المصرية بعناصر الأسمنت، ورغم أنها صناعة مربحة للغاية إلا أن لها أضراراً صحية وبيئية خطيرة».

وعن خطورة هذا الغبار يقول الشهاوى: «تكمن خطورة هذه المخلفات فى احتوائها على أكاسيد وهيدروكسيدات وكربونات وكبريتات لعناصر مختلفة، تتعامل هذه المصانع مع المخلفات على أنها عبء يجب التخلص منه، فيجب بناء مدفن خاص بهذه المواد بمواصفات خاصة تمنع تسرب هذه المواد للتربة أو الآبار الجوفية على المدى البعيد بسبب تأثيرها المدمر».

ويكمل «الشهاوى»، الذى أسس عيادته الخاصة بجانب أحد تجمعات مصانع الأسمنت فى القاهرة لعلاج وفحص عمال هذه المصانع، بجانب عمله بالمركز القومى للبحوث: «أهم الأمراض الناتجة من استنشاق هذه المادة تبدأ بالتهابات الجهاز التنفسى والحساسية الصدرية التى تصيب معظم السكان حول هذه المصنع، ثم تتطور مع مرور السنوات إلى التحجر الرئوى، الذى يوقف وظائف الرئة ليتحول الإنسان إلى عالة على المجتمع لا يستطيع القيام بأى مجهود».

تكشف النشرة الإحصائية الصادرة عن البنك االمركزى المصرى فى أكتوبر ٢٠١٢، أن حجم إنتاج مصر من الأسمنت فى ٢٠١٠/٢٠١١، بلغ ٤٤ مليون طن، بينما ارتفعت فى العام الذى يليه حسب أرقام الرقم أحمد الزينى رئيس شعبة مواد البناء بغرفة تجارة القاهرة، الذى يؤكد «أن مصر أنتجت ٦٥ مليون طن فى ٢٠١٢»، مضيفا: «لدينا ١٩ مصنع أسمنت، منها مصنعان فى سيناء، وينتج مصنع أسمنت سيناء ٧ آلاف طن يوميا».

ويوضح «الزينى» أن صناعة الأسمنت فى مصر صناعة مربحة، لذلك حولت شركات الأسمنت العالمية نشاطها إلى مصر، نظرا لعدم وجود قوانين ملزمة ورادعة ما يسمح باحتكار السوق والسيطرة عليها والتحكم فى الأسعار، بالإضافة إلى عدم وجود نصوص واشتراطات كافية ومفعلة بقوة للحفاظ على البيئة، وإلا ما أنشأ رجال الأعمال مصانعهم وسط الكتل السكنية.

حاولت «المصرى اليوم» كثيرا الحصول على معلومات عن قراءات الهواء لأجهزة الرصد الخاصة بجهاز شؤون البيئة، التى ترصد جميع مداخن المصانع كل ٦ ثوان، أو صور المخالفات والمحاضر الخاصة بالمصنع أو أى معلومة عن مصانع الأسمنت، فكان رد الجهاز: «لماذا لا تكتبوا عن قش الأرز أو السحابة السوداء.. لماذا تصرون على مصانع الأسمنت»، وقال الدكتور جمال رضوان، رئيس جهاز شؤون البيئة بالسويس، إن الجهاز لم يقم بالتفتيش على المصنع عقب الثورة ولمدة عامين تقريبا. وعلل «رضوان» ذلك بالثورة والحالة الأمنية، وطلب الانتظار حتى يبعث بـ«لجنة تفتيش إلى المصنع عله يكون وفق أوضاعه»، حسب قوله.

وتفنن مسؤولو الجهاز فى إخفاء المعلومات والمماطلة فى الردود بشكل يثير الريبة، بينما وافق أحد أعضاء الجهاز- طلب عدم ذكر اسمه- خوفا من عقاب مديريه: «إن ملف صناعة الأسمنت شائك وأصحاب المصانع نافذون ولم يجرؤ أحد على اقتحام هذا الملف».

وينص قانون ٤ لعام ٩٤ الفصل الثانى مادة ٥ على أن «من وظائف جهاز شؤون البيئة فى المتابعة الميدانية لتنفيذ المعايير والاشتراطات التى تلتزم الأجهزة والمنشآت بتنفيذها واتخاذ الإجراءات التى ينص عليها القانون ضد المخالفين لهذه المعايير والشروط، ووضع المعدلات والنسب اللازمة لضمان عدم تجاوز الحدود المسموح بها للملوثات والتأكد من الالتزام بهذه المعدلات والنسب».

ومن الشركات الأجنبية التى نقلت أجزاء من نشاطها لمصر شركة «فيكا»، التى تمتلك الحصة الأكبر فى مصنع أسمنت سيناء وكانت مثار انتقادات بيئية كثيرة فى فرنسا قبل أن تقرر زيادة استثماراتها فى مصر.

ويشرح الدكتور محمد الهمشرى أن أحد مصانع البويات فى ألمانيا يقع وسط منطقة سكنية، ولكن الفلاتر يخرج منها فقط بخار ماء نقى بسبب قوة عملية الفلترة وإعادة التدوير لإنتاج منتجات أخرى وليست مخلفات، لكن الصناعات كثيفة التلويث والتى لا يمكن التعامل مع مخلفاتها بالفلاتر مثل مصانع الأسمنت تنقل نشاطها إلى مصر، بل إن بعض المصانع القديمة تم فكها من أوروبا وإعادة تركيبها فى مصر، بسبب الرقابة البيئية العالية هناك والاحتياطات الصحية المكلفة من وجهة نظر أصحاب المصانع».

ويوضح أن الاحتياطات الصحية للعمال فى الصناعات الخطرة فى أوروبا هى عمل فحص دورى سنوى على العمال فى مصانع الأسمنت، حيث يتم عمل كشف على الصدر ومقياس سمع وكشف وظائف رئة وأشعة عادية على الصدر، وذلك وفقا لقوانين العمل فى هذه الدول».

ويرجع سمير مأمون، سكرتير عام الصحة والسلامة المهنية والتأمين الصحى بالاتحاد العام لنقابات عمال مصر، عدم التزام بعض مصانع الأسمنت بصحة وسلامة العمال لديهم إلى عدة أسباب منها: وجود ٥٠٠ مفتش عمل موزعين على ٢ مليون منشأة ومصنع ما بين مهندس وكيميائى، حيث أوقف النظام السابق تعيين مفتشى الصحة والسلامة المهنية فى إطار سياسة إيقاف التعيينات بالقطاع الإدارى للدولة، متسائلا عن قدرة هذا العدد الصغير هذا العدد الضخم من المصانع والمنشآت، مؤكدا وجود مصانع لم يزرها على الإطلاق مفتش صحة، كما أن العدد المحدود من المفتشين يعانى من عدم وجود سيارات تسهل لهم السفر فى أنحاء الجمهورية، كما أن أجورهم متدنية ولا يتقاضون بدلات انتقال».

وعن قوانين العمل الملزمة للمصانع يقول مأمون: «حتى المخالفات فى قانون العمل رقم ١٢، تصل أقصى عقوبة للمصنع المخالف إلى ٥ آلاف جنيه وهو مبلغ زهيد جدا، مقارنة بمصاريف أدوات الصحة والسلامة المهنية، التى يجب على المصنع توفيرها للعمال والتى يرى أصحاب مصانع الأسمنت- رغم مكاسبهم الضخمة- أنها مكلفة، كما أن ثقافة الاهتمام بزيادة الإنتاج فقط ولو على حساب صحة العامل منتشرة فى مصر، لذلك نجد زيادة فى معدلات التلوث والأمراض، ولكنها للأسف بتعدى والدنيا ماشية ولا تقف إلا عند العامل المريض الذى يخسر قوة عمله».

«لا يوجد حصر للعاملين بمصانع الأسمنت أو رقم المصابين بالأمراض السرطانية منهم لا فى وزارة القوى العاملة ولا فى التأمين الصحى» يقول مأمون، مفسرا ذلك بالقول: «أصحاب المصانع يتنصلون من مسؤوليتهم تجاه العمال، وذلك بتشغيلهم من الباطن عن طريق مقاول، فبينما تكون القوة العمالية بمصنع أسمنت لا تقل عن ألفى عامل، نجد المقيدين منهم فى دفاتر المصنع ٤٠٠ عامل فقط».

بالإضافة إلى الأمراض الخطيرة مثل سرطان الرئة، فإن العمال فى هذه المصانع يعانون من أمراض مزمنة وإن لم تكن خطيرة فى بداية الإصابة بها، كما ذكر الدكتور الهمشرى وعن هذه الأمراض يقول: «تجريح الشعب الهوائية يؤدى إلى التهابات شعب مستمرة، وتكرار نزلات البرد بصورة مبالغ فيها، وبعد كل دور برد تزيد الالتهابات المزمنة والتى عادة ما تنتهى بتضخم الشعب وحساسية على الصدر، ومن العوامل التى تساعد على سرعة تطور الأمراض الحرارة العالية المنبعثة من الأفران، وهو ما يساعد على نمو الفطريات والبكتيريا مع تجريح السليكون للأغشية مما يؤدى إلى حدوث تليف أو مايطلق عليه تحجر الرئة ثم الإصابة بسرطان الشعب الهوائية، بالإضافة إلى استخدام الوقود الذى تتصاعد منه أبخرة مسرطنة بالدرجة الأولى للجهاز التنفسى».

لا ينحصر الضرر الصحى على العمال داخل المصنع ولكنه امتد إلى صحة البدو الذين يعيشون حول المكان، «عبدالله الترابينى» أحد أبناء البدو، الذين كانوا يقطنون ضمن مجموعة من أهالى وسط سيناء فى خيام متناثرة على مقربة من المصنع يقول: «ذهبت إلى الجبل بأسرتى هربا من المصنع والباى باص الذى يلقيه المصنع بجانبنا يوميا».

يخرج البدوى بخاخاً للتنفس من تابلوه سيارته: «لا أستطيع أن أعيش بدون هذا البخاخ فأنا أعانى من ربو مزمن على الصدر، لست وحدى ولكن ابنى أيضا (٥ سنوات) يعانى من نفس المرض، أخبرنا الطبيب بأن ذلك بسبب أتربة وعندما أخبرته بمصنع الأسمنت أخبرنى بضرورة الانتقال إلى مسكن آخر».

خرج عبدالله عن المألوف بحديثه لـ«المصرى اليوم» عن تأثير «الباى باص» على صحته وصحة ابنه، فمصنع أسمنت سيناء يقع فى منطقة تابعة لقبيلة الترابين، وعدد كبير من أبناء القبيلة يتحدثون عن الأضرار التى أصابتهم أو أصابت أقرباء لهم من المصنع، إلا أنهم فى نفس الوقت يرفضون نشر أى معلومات حول ذلك.

تحت «عريشة» بالقرب من مصنع الأسمنت، التف عدد من أبناء القبيلة حول شيخهم، رحبوا بنا، وقدموا لنا الشاى البدوى، وما إن سألناهم عن المصنع حتى انقسموا، البعض يشكو من آثاره، والبعض الآخر ينفى أى آثار، تدخل الشيخ بحزم وصرامة قائلا: «إنهم لا يواجهون أى مشكلة مع المصنع طالما أنهم مستفيدون من وجوده»، وعندما حاول أحدهم الشكوى قاطعه الشيخ قائلاً: «لولا المصنع ما كنت ركبت سيارة».

علمنا فيما بعد من بعض أفراد قبيلتى التياهة والترابين- الذين رفضوا نشر اسمهم- أن إدارة المصنع تدفع للشخصيات المؤثرة فى المنطقة المحيطة رواتب شهرية كبيرة، بحجة أن الأرض كانت تحت يدهم قبل تخصيصها للمصنع، وهذا ما يجعلهم يصمتون، بل يمنعون أى شخص من الحديث عن المخالفات.

امتد تأثير «الباى باص» ليتجاوز البشر إلى النبات فعلى بعد مسافة قصيرة من المصنع تقع مزرعة زيتون على مساحة خمسة أفدنة احترقت كل أوراقها ولم تعد تثمر.

يفسر ذلك الدكتور حمدى العوضى، استشارى تلوث المياه بالمركز القومى للبحوث: «تتكون مخلفات الأسمنت (الباى باص) من أكاسيد السيليكون والأومينيوم والتيتانيوم والحديد والماغنيسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم، ومنها عناصر شديدة القلوية تشبه البوتاس الكاوى، وعند القائه على التربة مباشرة فإنها تدمر تركيبتها وتفسدها نهائيا، كما أنها عند اختلاطها بمياه المطر تلوث المياه الجوفية، وعند تتناثرها فى الجو فإن ذراتها تعلق بالهواء وتلوثه بشدة، مما يؤثر على الجلد والرئة والعين».

وعن تأثيرها المباشر على النباتات، يشرح العوضى: «عندما تستقر الجزيئات على أوراق النبات مع وجود الندى، تنتج مادة الكاوية تؤثر على التركيب المورفولوجى للورقة ويحرقها».

حصلت «المصرى اليوم» على عينة من مادة «الباى باص» من «داخل المصنع» وحللتها فى المركز القومى للقياس والمعايرة التابع لوزارة البحث العلمى، ومقارنتها بعينة من «الباى باص» الذى تلقيه سيارات النقل التابعة للمصنع فى منطقة قريبة منه، وتطابق التحليلان فى تركيب المواد.

يقول الدكتور أمير الشهاوى، الباحث بقسم الطب البيئى والمهنى بالمركز القومى للبحوث: «فى الفترة الأخيرة ارتفع عدد العاملين فى مصانع الأسمنت بسبب زيادة عدد المصانع التى لا يهتم معظمها بإجراءات حمائية للبيئة المحيطة، ومن أخطر المواد الناتجة عن هذه الصناعة هو غبار الباى باص أو ما يسمى مخلفات المسار الجانبى».

ولكن النتيجة المثيرة للدهشة، لفريق عمل التحاليل بالمركز القومى للقياس والمعايرة، أن المادة الملقاة على سطح التربة بجوار المصنع توجد بها مواد تمثل «نفايات إلكترونية»، ما كان لها أن تتواجد فى التربة بالصدفة وبطريقة طبيعية بل تم دفنها عن عمد.

وللتأكيد كررت «المصرى اليوم» التحليل مرة أخرى وحصلت على عينة من «الطفلة»، المادة الخام من الجبل التى تمثل الأساس لصناعة الأسمنت، وعينة من الباى باص، المدخل، وعينة من الأسمنت، المخرج، من نفس خط الإنتاج فى نفس اليوم، فكانت النتيجة بجانب وجود المواد الأساسية المتعارف عليها كمكونات تربة أسمنت أو مخلفاته من الأكاسيد، وجود مواد غريبة منها «اليتريوم، الرصاص، المنجنيز، الزركينيوم، الكروم، والكلور، والبروم، والثيريوم، والرابديوم» وكلها مواد أكد اثنان من الباحثين بالمركز القومى للبحوث أنها تدخل فى تصنيع الإلكترونيات والكابلات الكهربية، ولا تتواجد فى التربة بطريقة طبيعية.

بدت علامات الاندهاش على وجه باحثى المركز القومى للبحوث أمير الشهاوى، ومحمد الهمشرى عند رؤيتهما نتائج تحاليل الطفلة والباى باص، يقول الهمشرى: «من الظواهر الغريبة فى مصر أن الأمراض عندنا تتطور بدرجة سريعة ليس لها تفسير، فمثلا تليف الكبد يستغرق فى أوروبا ٢٠ عاما لتحوله إلى سرطان، بينما يتطور عندنا فى ٥ سنوات فقط.

ليست المصادفة الغريبة هى فقط وجود هذه النفايات الإلكترونية بطفلة الأسمنت ومخلفاته، ولكن المصادفة الأغرب كانت فى إشارة شركة «فيكا» على موقعها الإلكترونى على شبكة الإنترنت أن من بين أنشطتها الجانبية «تجارة وصناعة الإلكترونيات».

برغم مخالفات مصانع الأسمنت القاتلة إلا أنها لا تظهر فى أجهزة قياس البيئة، ويفسر «الهمشرى» ذلك بقوله: «بعض الشركات تتحايل على أجهزة قياس وزارة البيئة بعمل (بلف) جانبى بالفلاتر بعيدا عن رصد أجهزة الوزارة حتى يزيدوا من عمر الفلاتر ذات الأسعار المرتفعة، حيث يقوم هذا البلف بإخراج الانبعاثات فى الهواء بحيث لا تمر على أجهزة الوزارة وبالتالى لا ترصد الأجهزة انهيار حالة الفلاتر وتطالب بتجديدها».

ويضيف: «هناك دراسات عدة لإعادة تدوير مخلفات الأسمنت والاستفادة منها ولكن المستثمر يستغل غنى التربة المصرية بعناصر الأسمنت والتى يحصل عليها مجانا بدلا من تكلفة إعادة التدوير خاصة فى ظل ضعف الرقابة البيئية».

وصرح مصدر بوزارة البيئة، أن الوزارة توفر منحا للمصانع التى تنشئ مشاريع إعادة تدوير تقدر بـ٢٠% من مصاريف المشروع إلا إن معظم المصانع لا تفكر بتدوير مخلفاتها أو صحة العاملين بها.

«رغم خطورة مادة (الباى باص) إلا أنها يمكن أن تتحول إلى مادة مفيدة بعد إعادة تدويرها سواء لاستعمالها كأسمنت لتوفير المادة الخام التى سوف تستنفد من التربة أو استخدامها فى صناعات أخرى»، حسبما تقول الدكتور هناء غراب، وكيل كلية العلوم بجامعة حلوان، أستاذ الكيمياء الفيزيائية التطبيقية، التى تضيف: «هناك ١٣ طريقة لإعادة تدوير الباى باص (تراب الأسمنت)، ويجب إقامة مصانع وسيطة لإنتاج زجاج أو مخصبات للتربة بعد معالجته»، وتوضح أن «كل خط إنتاج بيطلع فى اليوم ١٠٠ طن من تراب الأسمنت»، متسائلة: «أين سيذهب هذا الكم، الباى باص بكمياته الضخمة قنبلة موقوتة نفكر فى حلها منذ التسعينيات من القرن الماضى».

يؤكد على ذلك الدكتور حمدى العوضى، الذى قام بعمل بحث لإعادة تدوير تراب الأسمنت لاستخدامه فى مدابغ الجلود، كما قام بعمل بحث آخر عن استخدامه معالجة مياه الصرف الصحى». مشيرا إلى أن مصر رفضت اعتماد أبحاثه إلا أن إحدى الدول الخليجية طبقته فى محطات معالجة مياه الصرف الصحى».

وعن اتهام المصنع بالتخلص من «تراب الأسمنت» السام، قال محمد عبدالعزيز مدير الإنتاج بالمصنع: «هناك مدفن صحى على بعد ٣ كيلو مترات من المصنع اشترته الشركة للتخلص من النفايات، ولكن سائقى بعض سيارات النقل يفرغون المادة فى الشارع لأنهم «معندهمش ضمير»، حسب قوله.

وعن إشراف إدارة المصنع على عملية التخلص، أكد «عبدالعزيز» أن «المصنع يشرف عليها، وأنه فى حالة تضرر الأهالى من وجود المادة فى الشارع يذهبون لمدير المصنع كى يرفعها، وكانت شركات رصف طرق فى السابق تأتى لتأخذ هذه المادة لاستعمالها فى الرصف، ولكنها توقفت».

السائقون.. هم المتهمون بالتخلص من المادة السامة فى الشارع حسب مدير الإنتاج بالمصنع، لكن محمد سلمى، سائق سيارة تعمل يوميا فى نقل «باى باص»، تراب الأسمنت السام، خارج المصنع، يقول: «المهم للمصنع هو إخراج الباى باص منه حتى لو خارج السور بـ١٠٠ متر، خاصة بعد أن امتلأ المدفن الذى تحدث عنه مدير إنتاج المصنع قبل عدة أعوام».


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *