محمد القزاز - عجز مراكز البحث العلمي بمصر

2011/11/16
التاريخ : 16/11/2011

جاءت فكرة التحقيق من خبر صغير فى الأهرام يقول : القاهرة تتفوق على لندن فى الأشعة، وذكر الخبر أن وزير الصحة اندهش بشدة عندما علم بأن مجموع الأشعة المقطعية بالكمبيوتر فى القاهرة الكبرى 275، بينما عددها فى لندن 17 فقط .
بدورى اندهشت من ذلك أيضا، وبدأت افكر فى تحقيق دقيق يرصد هذا الأمر، وكان تفكيرى أن معاناتنا من البحث العلمى ليس سببها تمويلا فقط، ولكن تنظيم وتنسيق بين المراكز البحثية، وانطلقت من فكرة أن مراكز البحث العلمى قد يوجد لديها أجهزة علمية ومجالات بحث متكررة فى المكان الواحد هو السبب فى تآكل الميزانية ولا تتم الاستفادة من الميزانية بالشكل المناسب .
كان التحقيق صعبا، وكان ينتابنى كثير من اليأس فى إثبات ذلك بالدليل، فالحديث مع أى باحث يؤكد ذلك ،بيد أن الدليل شىء غير متوافر .
كان التفكير فى إجراء استبيان رأى كدليل على هذه الفرضية، وعندما بدأت فى ذلك وجدت صعوبات جمة ، البعض تعامل معه بجدية، والكثيرون كانوا يرفضون إجراءه لظنهم أن هذا يعد إدانة وليس إصلاحا، وليس أبسط من ذلك مدينة الأبحاث العلمية والتكنولوجية ببرج العرب، إذ رفض رئيسها بالإنابة دكتور ياسر رفعت إجراء الاستبيان، وشعرت أنه فقط يريد منك إبراز مميزات المدينة فى المجال البحثى وإظهارها أنها تنافس وادى السيليكون، أو على أقل تقدير إظهار فساد من قام على رئاستها سابقا، وكان غريبا أنه وافق مبدئيا على حضورى لإجراء التحقيق، ولكن ما لمسته عن قرب هو إظهار إنجازاته فقط، بدورى أرجعت ذلك إلى أنه ليس رئيس المدينة ولكنه قائم بالأعمال وأن خلافات تدور حول من يكون رئيسا، لذا فإن إظهار مميزاته التى فعلها فى السنة ونصف السنة الفائتة وإظهار فساد رئيسها السابق المتنازع قضائيا للعودة لمنصبه له وجهة نظر، وهو ما يفسر لنا لماذ رفض الاستبيان وإجراء حوار معه، أيضا مدير معهد بحوث البترول الذى وافق على إجراء الاستبيان وحينما علم أننى التقى بعض الباحثين دون علمه هددنى بالحبس إذا تحدثت عنه.

التعامل مع مجتمع بحثى وعلماء يرون أن المجتمع لا يعطيهم حقهم كان يمثل صعوبة شديدة، وكان من الصعب انتزاع الاعتراف بأنهم مخطئون أو أن تأخر البحث العلمى هم السبب فيه، فقط الدولة وهزالة الميزانية المخصصة للبحث العلمى، وأن إعطاء ميزات لمركز بحثى على حساب آخر هو سبب التدهور، كما إن تقدم البحث العلمى توارى خلف كلاسيكيات ثقافة مترسخة هى البحث عن الترقية، وليس البحث عن العلم.

صعوبة هذا التحقيق جاءت من حداثة فكرته ، لأننى لم أجد تحقيقا تناول ذلك من قبل ، بل كلام متناثر هنا وهناك ، حتى بعض الباحثين أنفسهم لم يجدوا ذلك مفيدا، هم يرون أن يتركز حديثى وتحقيقى على ضعف الميزانية والاهتمام بزيادتها فقط، وحتى عند الحديث عن تكرار الأجهزة فى المكان الواحد يكون الجواب أن هذه الأجهزة المتكررة جاءت من منح أوروبية ومشروعات بحثية .
حين ذُكر لى أن الأجهزة معظمها ممول من مشروعات أوروبية كان ذلك بداية خيط جديد وتغيير فى الفرضية ، إذن ما أفكر فيه من أن الميزانية ليست ضعيفة صحيحا، ومن هنا تتبعت تكرار المشروعات الممولة أيضا فوجدت الكثير منها وباعتراف باحثين كُثر، واستطعت الحصول على وثائق تُثبت ذلك.
وقد وجد التحقيق صدى كبيرا، إذ لم تمر أيام على نشر التحقيق حتى تغيرت الحكومة بفعل الأداء السياسى بشكل عام، وأصدر رئيس الوزراء المكلف قرارا بفصل وزارة البحث العلمى عن وزارة التعليم العالى، وتخصيص وزير لها، وبالفعل اهتمت الوزيرة الجديدة بكل ما جاء فى التحقيق وبدأت تنفيذه على أرض الواقع، كما تناولته فضائيات عدة واستضافت مسئولين تحدثوا عن عجز مراكز البحث العلمى وتكرار الأجهزة والمشروعات.

ما أريد قوله أن مجال البحث العلمى فى حاجة إلى مزيد من التحقيقات العديدة والجادة كى ينصلح حاله، وهو أمر ليس صعبا، لأننا فى النهاية نتعامل مع مجتمع متعلم ومثقف يستطيع الاستيعاب بسهولة والتغيير أيضا .
كان تحقيقى هذا هو أول تحقيق استقصائى قمت به ، ورغم الصعوبات، فإنى تعلمت منه مهارات كثيرة فى الأداء الصحفى، وزادنى إصرارا على إجراء مزيد من هذه التحقيقات، وكان رأى الزملاء لى بالصحيفة التى أعمل بها أنهم لم يقرأوا تحقيقا دقيقا مثل هذا منذ فترة مشجعا على المضى قدما فى هذا اللون الجديد من الصحافة.


تليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *