نماذج جديدة تعِد الصحافة الاستقصائية بالازدهار

2012/05/20
التاريخ : 20/05/2012

كاترينا فاندن هوفيل – (الواشنطن بوست)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة – جريدة الغد

في الأسبوع الماضي، استيقظنا على عنوان لا يقل إثارة عن أي شيء ربما كانت صحيفة “نيوز أوف ذا وورلد” التي اختفت الآن لتنشره: “روبرت مردوخ لا يصلح لإدارة شركة كبرى”. وقد شكل ذلك، إلى حد بعيد، سقوط شخص كان أمله، حسبما ورد، هو أن “يغزو العالم”. وقد كشف سقوط مردوخ المطوّل والمدوي من القمة عن علاقة السفاح المحرمة بين الإعلام، والنخبة السياسية والمالية في إنجلترا، والفساد الذي يهدد مؤسسة الصحافة البريطانية نفسها. أما هنا في أميركا، حيث تقيم صحافة المساءلة أيضاً تحت الحصار، فإننا سنكون حكيمين إذا رأينا الأزمة عبر المحيط بوصفها حكاية تحذيرية.

الآن، أصبح هلاك الصحف موثقاً جيداً؛ ففي العام 2011 وحده، تم القضاء على أكثر من 3700 فرصة عمل في المؤسسات الصحفية. وبغية الحد من تآكل أرباحها، فإن تكتلات الإعلام التي اشترت بشراهة ذات يوم كل صحيفة تقع عليها الأبصار، تقوم اليوم بإغراق هذه الصحف والتخلص منها بمعدل ينذر بالخطر. خذوا على سبيل المثال شركة تريبيون، التي قامت بخفض الكوادر ودمرت الكثير من قيمة صحف شيكاغو تريبيون، ولوس أنجيلوس تايمز وغيرهما، لكنها دفعت ما لا يقل عن 100 مليون دولار على سبيل المكافآت لأداء المديرين التنفيذيين فيها. ولم يكن مهماً أن يكون هؤلاء المديرين التنفيذيين أنفسهم هم الذي قادوا الشركة إلى الإفلاس.

يمتلك مواطنو هذا العصر الرقمي مدخلاً هائلاً إلى عدد كبير من المنابر والقنوات أكثر من أي وقت مضى. لكن الصحافة الجيدة التي تمارس الرقابة على قادتنا، والتي تحمّل المسؤولية للأقوياء والنافذين –والتي تجعل الديمقراطية شيئاً ذا معنى في واقع الأمر، أصبحت الآن في خطر. وتحت الضغط الساحق للمبادئ التجارية، حيث ترجح السرعة وكسب قصب السبق على الفكرة والنوعية، أصبح إنتاج الأخبار ونقلها يتدهور وينحدر إلى مجرد تغذية محمومة لدورة الأخبار على مدار 24 ساعة.

وفي هذه المناخات، كثيراً ما شغل الفراغ الذي تركته صحافة المساءلة الكذابون والدجالون الذين يروجون الحكايات الخيالية: الرئيس أوباما مسلم كيني المولد؛ ظاهرة الاحتباس الحراري هي مؤامرة عالمية يحيكها علماء المناخ الجشعون؛ الأزمة المالية كانت نتيجة لتدخلات الحكومة التنظيمية. والنتيجة هي ما يصفه جون نيكولز وروبرت دبليو ماكنزي بأنه “التهديد الأكثر خطورة في حياتنا كلها لفكرة حكم الذات وسيادة القانون”.

ولا يقع جوهر الأمر ببساطة في أن غرف الأخبار تفتقر إلى الموارد، أو أن مواقع التجميع التي تعطي الأولوية للقطط الراقصة تحصل على الكثير جداً من زيارات جمهور الإنترنت (على الرغم من أن كلا الأمرين صحيح). أنه يتعلق أيضاً بأن الصحفيين، في سياق جهدهم المخلص لإعادة تقديم جميع جوانب القصة بنزاهة، إنما يمنحون في كثير من الأحيان مصداقية أكثر للأطروحة عن ضمان عرض الحقائق.

ولكن، وكما كتب عالما السياسة نورمان أورنستين وتوماس مان مؤخراً في صحيفة الواشنطن بوست، فإن “المعالجة المتوازنة لظاهرة غير متوازنة إنما تقوم بتشويه الواقع”. إن دور الصحفيين ليس إعطاء كل طرف مساحة متساوية، أو الموافقة على واقعة ذر الرماد في العيون بادعاء التكافؤ الزائف. إن دورهم هو السعي إلى الحقيقة ونشرها.

أنا رئيس تحرير مجلة تتعامل مع الرأي والخبر. ونحن نقدر الأطروحات الذكية، كما نقدر النقل الدقيق للخبر، لأننا، كما كان الراحل دانيال باتريك موينيهان مولعاً بالقول، مؤهلون للالتزام بآرائنا الخاصة، ولكن ليس بحقائقنا الخاصة.

على الصعيد الوطني، تستمر العديد من الصحف والمجلات مثل مجلتنا -بما في ذلك البعض التي هي تحت خطر الإغلاق- في تقديم تغطية نوعية حيث أحجم الآخرون. لكنه لا يمكن قول الشيء نفسه عن غرف الصحافة الفارغة في عواصم الولايات وقاعات بلديات المدن عبر أنحاء البلاد – والانعكاسات خطيرة. في مسرحية توم ستوبارد “ليلة ويوم”، يقول مصور الحرب المتقاعد جورج غوثري: “إن الناس يفعلون أشياء فظيعة لبعضهم بعضا. لكن الأمر يكون أسوأ في الأماكن التي يتم فيها الإبقاء على الجميع غارقين في الظلام وغير عارفين بما يجري”.

لحسن الحظ، هناك بصيص أمل. فقد كانت الصحافة الاستقصائية المتفوقة في إحدى الصحف، بعد كل شيء -في صحيفة تنظر إلى دورها الرقابي على أنه مصدر نفع عام- هي التي كشفت عن شبكة فساد إمبراطورية مردوخ. وقد روى ألان روزبريدجر رئيس تحرير صحيفة “الغارديان”، أنه عندما تلقى المراسل المخضرم نيك ديفيس معلومات حول قرصنة الهواتف، فإنه قام بمتابعتها بإصرار، غير عارف إلى أين يمكن أن يؤدي ذلك، وعلى الرغم من المخاطر -المالية وغير ذلك- التي ينطوي عليها تعقب شركة هائلة النفوذ وقادرة على فعل كل شيء تقريباً.

وقد استطعنا أن نرى جذوات ما تزال مشتعلة من هذا النوع من صحافة المساءلة في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، حيث كان لي شرف تقديم جائزة هيلمان للعام 2012 لصحافة الصحف -التي تكرم الصحافة المعنية بخدمة الصالح العام- لمؤسسة أتلانتا جورنال، عن تحقيقها الرائد الذي كشف الغش الذي يُمارس في الاختبارات الموحدة للمدارس العامة في أتلانتا. وقد هددت مصالح الشركات بوقف عملها مع الصحيفة التي كانت تعاني من ضائقة مالية، في حال نشرت سلسلة المواد الناتجة عن التحقيق. ومع ذلك، تمسكت أتلانتا جورنال بالقصة بشجاعة.

هذا النوع من التقارير يصبح أكثر ندرة على نحو متزايد. ومع ذلك، وحتى بينما تمر وسائل الإعلام الأميركية والعالمية بعملية تحول زلزالي، فإن هناك إمكانات هائلة لبناء صحافة جديدة تعمل لخدمة المصلحة العامة، وتضع نماذج المنظمات غير الربحية، مثل “برو بابليكا” ProPublica حجر الأساس لذلك. لكن هناك الكثير مما ينبغي عمله في هذا الصدد. هناك التقرير الذي أصدرته مدرسة صحافة كولومبيا في العام 2009 تحت عنوان “إعادة بناء الصحافة الأميركية”، وشارك في وضعه المحرر التنفيذي السابق للواشنطن بوست ليونارد داوني جونيور، والذي يستكشف الكيفيات التي يمكن أن تساعد بها الحكومة الفدرالية في الإبقاء على وسائل الإعلام العامة والمجتمعية قائمة.

إذا أردنا أن نقارع بنجاح خصخصة الإعلام وارتهانه للشركات المساهمة واحتوائه، فإن علينا تطوير مصادر تمويل عام جديدة لصحافة المساءلة، وتدريب الجيل القادم من الصحفيين على البحث عن الحقيقة بصدق وجرأة. وليس هذا اقتراحاً راديكالياً؛ فهناك بلدان أخرى، بما فيها تلك التي تقع في الجزء العلوي من مؤشر “الإيكونوميست” للدول الحرة والديمقراطية –والتي تقوم علناً بتمويل الصحافة المستقلة. لكن التغيير ضروري لن يجيء حتى يطالب به مجتمع معنيّ ومنخرط فعلياً.

*نشر هذا المقال تحت عنوان:

New models will allow investigative journalism to thrive

أخبار ذات صله