مساعدات على الورق

4 سبتمبر 2022

منظمات إغاثة دولية ومحلية تهدر ملايين الدولارات في اليمن

“لم أكن أعلم أن هذه الحرب ستقلب حياتي رأسا على عقب”، بهذه الكلمات بدأ الحاج عبده بلال أحمد وصف معاناته. أحمد، أحد النازحين من منطقة الملاحيظ بصعدة (شمال اليمن وتخضع للحوثيين) إلى مديرية الزهرة بمحافظة الحديدة (على البحر الأحمر)، بسبب الغارات الجوية على المناطق الحدودية. نزح أحمد وأسرته، يقول: “مشينا ثلاثة أيام من قرية إلى أخرى أنا وزوجتي وأطفالي، وتنقلت من مخيم إلى آخر حتى استقر بنا الحال هنا”.

نزح أحمد وأسرته، يقول: “مشينا ثلاثة أيام من قرية إلى أخرى أنا وزوجتي وأطفالي، وتنقلت من مخيم إلى آخر حتى استقر بنا الحال هنا”.

أحمد أب لخمسة أطفال، ويسكن في العراء، بسبب عدم شمله في مخيمات ثابتة للنازحين. قام بتجهيز خيمة بسيطة (ارتفاعها متر وطولها متران)، ليسكن فيها مع أطفاله وزوجته التي فارقت الحياة قبل أشهر، بسبب المرض وعدم توفر أي رعاية طبية.

يعيل أحمد أطفاله الخمسة الذين توقفوا عن الدراسة لعدم وجود مدارس قريبة منهم، ولمساعدة والدهم في جمع المخلفات البلاستيكية وبيعها. يخرجون بعد الفجر ويعودون عند الغروب لتوفير قوت يومهم. عائلة أحمد لم تحصل على مساعدات إغاثية من أي منظمة، رغم أن موظفين من منظمات عدة جاؤوا إليه لسؤاله عن احتياجاته التي “سجلوها على الورق”.

على مدى سبعة أشهر، تتبع معدا التحقيق مجموعة مشاريع نفذتها منظمات دولية في اليمن. وقاما بتحليل وثائق وعقود أربعة عشر مشروعا منفذا من قبل منظمات أمريكية وبريطانية وأخرى تابعة للأمم المتحدة. أظهرت الوثائق أن الميزانيات التشغيلية لبعض المشاريع كانت أكبر من النسبة المخصصة لها من قبل وزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية. مشاريع أخرى حدث فيها تلاعب في أسعار صرف العملات أو في تفاصيل العقود، ما فوّت المساعدات على مستحقيها.

فائدة أقل وموازنات أكبر

تلقى حسن مبارك، نازح من محافظة حجة، مساعدة نقدية مرة واحدة من قبل مشروع “الاستجابة الإنسانية في محافظة حجة”. بلغت ميزانية المشروع 1.079 مليون دولار، ونفذ من قبل المجلس النرويجي.

تكشف وثائق المشروع أن القائمين عليه لم يلتزموا بصرف المبالغ التي حددها العقد. 30 في المئة من الميزانية (353 ألف دولار)، صُرفت على أنشطة تحقق هدف المشروع وهو صرف مساعدات نقدية لمتضرري الحرب. فيما ذهبت الحصة الأكبر من المخصصات تحت بند مصاريف تشغيلية للمشروع ومكاتبه في حجة وعدن وصنعاء.

وثيقة تظهر حجم الموازنة التشغيلية مقارنة بالموازنة العامة للمشروع

وثيقة تظهر حجم الموازنة التشغيلية مقارنة بالموازنة العامة للمشروع

مشروع آخر خاص بالخدمة المجتمعية للنازحين والمجتمع المضيف نفذته منظمة “أدرا” الأمريكية في محافظات عدة بينها محافظة حجة خلال الفترة 2019 – 2020. كانت النفقات التشغيلية الخاصة بالمشروع 440 ألف دولار، ما نسبته 58 في المئة من موازنة المشروع البالغة 757 ألف دولار، وصرف باقي المبلغ (317 ألف دولار) لتنفيذ انشطة مرتبطة بالمشروع.

لم يصلنا حتى لحظة نشر التحقيق أي رد من مكتب المنظمة في اليمن لتوضيح سبب صرف تلك المبالغ كنفقات تشغيلية، في مخالفة لتعليمات وزارة التخطيط والتعاون الدولي في اليمن.

تشترط الوزارة ألا تتعدى نسبة الميزانية التشغيلية 30 في المئة من إجمالي ميزانية المشروع، وهو ما لم تلتزم به منظمات نفذت مشاريع إغاثية في اليمن. وعلى الرغم من هذه المخالفات، إلا أن وزارتي التخطيط في صنعاء وعدن صادقتا على تنفيذ تلك المشاريع المخالفة.

وزارة التخطيط والتعاون الدولي في صنعاء (خاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله – الحوثيين)، تم تغيير اسمها إلى وزارة التخطيط والتنمية، وتم نقل صلاحيات التعاون الدولي إلى المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، والذي أصبح مسؤولا عن ادارة ملف المنظمات الدولية في اليمن.

ويقول الناطق الرسمي بإسم المجلس طلعت الشرجبي، إن “المجلس لا يتدخل في عمل المنظمات الدولية في اليمن، إلا أن خطط الاستجابة يعلنها المجلس بشكل رسمي، وتنفذها المنظمات وهي مشاريع معلومة التفاصيل، وهناك مشاريع تقدمها المنظمات يتم دراستها من قبل المجلس بما يتلائم مع خطة الاستجابة واحتياجات المستهدفين”. وعن الحالات التي يعترض فيها المجلس، يقول الشرجبي: إذا كانت هناك تكاليف مرتفعة وغير معقولة، مثل أن تكون الميزانية التشغيلية أكبر من الفائدة العائدة على المستفيدين. وبحسب قوله، فإن المجلس أوقف مشاريع من هذه النوع “وكأن المنظمات تريد من المجلس أن يعطي تلك النفقات الصفة القانونية”.
وفي هذه الحالة يقول الشرجبي، إن المشاريع التي أوقفت تذهب إلى مناطق الطرف الآخر، في إشارة إلى مناطق سيطرة “الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا”.
لكن النفي من عدن (اتخذتها الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا عاصمة مؤقتة منذ العام 2015)، جاء على لسان مدير عام المنظمات في وزارة التخطيط والتعاون الدولي زهير حامد.
ويقول حامد إن الوزارة تشترط في الموازنات التشغيلية للمشاريع التنموية ألا تتجاوز 30 في المئة من إجمالي الموازنة، من دون شروط مسبقة في تنفيذ المشاريع سوى أن تخدم الإنسان وتحقق شروط التنمية التي تتبناها الحكومة اليمنية.
لكن الوثائق التي حصلنا عليها تخالف ردود الأطراف في صنعاء وعدن، فأكثر من 11 مشروعا (تم توثيقها خلال الفترة 2016 – 2021) تتجاوز ميزانياتها التشغيلية أكثر من 30 في المئة وتصل إلى 40 و50 في المئة من إجمالي ميزانية المشروع.

تلاعب آخر

لم يقتصر الأمر على الميزانيات التشغيلية في تبديد مساعدات كان يفترض أن تصل المحتاجين. بعض المنظمات المحلية اتجهت للاستفادة من تضارب أسعار صرف الدولار، إذ أنه مسجل في نشرة البنك المركزي بصنعاء بـ 250 ريالا. في حين وصل سعره منذ أكثر من عامين إلى 600 ريال في السوق الموازية خلال الفترة 2019 – 2020 من دون أن يتغير في الأنظمة المحاسبية للمنظمات.

يثبت ذلك، حسين الفضلي “اسم مستعار”، عمل مسؤول احتياجات في منظمة محلية خلال الفترة 2019 – 2020. توصل من خلال عمله إلى أن المنظمات تعتمد سعر الصرف الرسمي، وهو ما يوفر فوارق كبيرة أثناء تنفيذ الأنشطة”.

وأورد الفضلي مثالا: “في مشروع صغير وهو تركيب خزانات مياه في محافظة حجة، نفذته المنظمة بدعم من صندوق التمويل الإنساني التابع للأمم المتحدة، بلغ سعر الخزانات 55 ألف ريال يمني، أي ما يعادل 92 دولارا بسعر السوق الموازية. أما بسعر البنك المركزي فبلغ 220 دولارا، أي أن هناك 128 دولارا فارق سعر في كل خزان”.

وفي وثيقة أصدرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” في العام 2020، تظهر ثلاثة أسعار للدولار، الرسمي بـ 250، وسعر الأسواق الموازية 600 ريال، وسعر جديد 666 ريالا.

وتعليقا على هذه الوثيقة، يقول الدكتور عبدالقادر الخراز عضو حملة “لن نصمت وين الفلوس”، والتي بدأت في العام 2019 لكشف فساد المنظمات الدولية، إن “هذه الوثيقة تكشف فسادا في سعر اعتماد الدولار خصوصا بعد الاختلاف بين صنعاء وعدن، وهذا تلاعب كبير بالبيانات التي ما تزال كما هي في نشرات البنك المركزي خصوصا في صنعاء”. ويضيف أن :”المنظمات تدخل بلعبة أكبر وهي عدم صرف الدولار بالبنك المركزي وبالتالي عدم دخول هذه التمويلات إلى البنك، وهذا يؤثر سلبا على الاقتصاد ككل إلى جانب أنها تصرف للمحتاجين والمتضررين من الحرب بسعر صرف 250 ريال وتتلاعب بعملية المصارفة بين صنعاء وعدن”.

مليارات الدولارات وأزمة إنسانية

مع دخول الحرب في اليمن عامها الثامن، أصبح 80 في المئة من السكان بحاجة ماسّة إلى المساعدات العاجلة، فيما بات 3.6 مليون يمني على حافة المجاعة، في وقت أرغمت فيه الحرب قرابة أربعة ملايين شخص على النزوح من مناطقهم، والعيش في ظروف بالغة الصعوبة داخل عشرات المخيمات، وفق تقارير أممية.

بالنظر إلى المساعدات الدولية المقدمة لليمن عبر منظمات الأمم المتحدة خلال السنوات الست الماضية، فقد وصلت إلى 17 مليار دولار، ضمن “خطة الاستجابة”.

أموال كفيلة بسد حاجة اليمنيين من الحبوب بنظر الباحث الاقتصادي عبد الواحد العوبلي: “نصف أموال تلك المساعدات ذهبت إلى برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، ومتوسط واردات اليمن السنوية من الحبوب يبلغ حوالي 4.2 مليون طن متري، وبضرب هذه الكمية في متوسط ​​سعر الحبوب حوالي 220 دولار أمريكي، نجد أن الفاتورة السنوية للحبوب تكون حوالي مليار دولار سنويا، فهذا يعني أنه بمبلغ 17 مليار دولار نستطيع توفير الحبوب لثلاثين مليون يمني لمدة سبعة عشر عاما”.

راسلنا عبر البريد الإلكتروني المنظمات الدولية التي وردت أسماؤها في التحقيق حول ما توصلنا إليه، من دون أن يصلنا أي رد منهم (حتى تاريخ النشر)، في حين ينتظر كل من حسن وعبده حصتهم الثانية من المساعدات الإنسانية التي تم جمعها باسمائهم. وبينما يضرب الفقر أطنابه في اليمن، تستمر المنظمات الدولية بالشراكة مع منظمات محلية، في إنفاق السواد الأعظم من المساعدات على مصاريف تشغيلية لمقراتها وعامليها.