الوحدوي-
بانتظار الموت، يستهلك عبد العليم ما تبقى له من سنوات عمره. هكذا غدا واقع حال الشاب الثلاثيني الذي لم يكن يدرك أنه على موعد مع الوباء القادم من بيت الصحة؛ “المستشفى”. الحكاية لم تنته حين تعرض عبد العليم لحادث مروري أواخر عام 2003.
بل من هنا بدأت، وتحديداً من داخل غرفة العمليات بالمستشفى الجمهوري بعدن – ثانية كبرى مدن اليمن- حيث قرر الأطباء بتر قدمه اليمنى. نزف عبد العليم بغزارة، واستدعى الأمر تزويده بالدم للمحافظة على حياته.
لكن اتضح بعد أشهر في القاهرة – التي وصلها عبد العليم مطلع 2004 لتعديل مجرى البول بمداخلة جراحية بعد أن بتر عضوه الذكري جراء الحادث – أن دمه ملوث بفيروس الإيدز.
لم يخضع عبد العليم الذي تحولت قضيته إلى قضية رأي عام وتناولتها وسائل إعلام محلية للعملية التي ذهب من أجلها، وعاد محملاً بالهم والفيروس، دون أن يكون له ذنب سوى أنه أدخل مستشفى ينقل لمرضاه دما ملوثا، وهذا ما تثبته الوثائق التي حصل عليها معد التحقيق.
عبد العليم و62 متعايشا آخر بالإيدز مسجلين وعشرات آخرون غير مسجلين وقعوا ضحايا آليات بدائية وتقنيات قديمة لفحص الدم ونقله إلى مرضى في مستشفيات يمنية حكومية وخاصة، ما سهّل انتقال فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) إليهم، حسبما يوثق هذا التحقيق بعد عام من التقصي.
وتوصل أيضا إلى أن 60 من 70 مستشفى حكوميا وخاصا في صنعاء تستخدم تقنية بدائية في فحص الدم (Chromatography)، تعطي في غالبية الأحيان نتائج فحوص مغلوطة.
عشرة منها فقط تستخدم تقنيات حديثة كالأليزا (ELISA) و (B C R) الأكثر دقة في تحليل الدم. عدم كفاءة مختبرات فحص الدم تحمل ناقوس إنذار بوجود آلاف المتبرعين بالدم أو متلقيه في صفوف المجتمع دون أن ينبهوا إلى أنهم يحملون الفيروس. في اليمن 35 ألف متعايش مع الفيروس، وفق إحصائيات البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز التابع لوزارة الصحة؛ 64 % منهم ذكور و34 % إناث. اكتشاف أول إصابة يعود إلى عام 1978.
أطباء في مستشفيات ذات تقنيات بدائية يحثّون مرضاهم على إجراء فحوص دم لدى مستشفيات أخرى، وفق الدكتور جمال المسني الذي يعمل في مستشفى خاص في حي السنية غرب صنعاء. وخلص معد التحقيق إلى عدم كفاءة مختبرات حكومية وخاصة بعد تحليل نتائج استبيان غير علمي تناول أسماء الأجهزة المخصصة لفحص فيروس الإيدز شمل 70 مستشفى حكومي وخاص، تبين ان 33 منها لا تعتمد على تقنياتها البدائية وتطلب من المرضى اجراء فحوصات الدم في مشافي اخرى، بينما تقوم 27 مستشفى حكومي وخاص بإجراء فحوصات الدم بالتقنية البدائية. (انظر جدول نتائج الاستبيان) .
وتفيد الإحصائيات الرسمية، شهادات مختصين وجولات معد التحقيق الميدانية بأن الفيروس ينتشر بتسارع بسبب ضعف الرقابة الصحية على إجراءات السلامة فيما يتعلق بأجهزة وأدوات نقل الدم داخل مستشفيات حكومية وخاصة. نكران وتقاض مطول حين واجهها عبد العليم بشبهة نقل الدم الملوث، أنكرت إدارة المستشفى تلك الواقعة، وفق محاميه محمد علي، وأخضعته لفحص دم جديد في مختبرات المستشفى، بيّنت نتائجه بأنه سليم. على أن لجنة مؤلفة من أطباء اختصاص من القطاعين العام والخاص والأجهزة الأمنية توصلت إلى أن عبد العليم متعايش فعلا مع الفيروس بعد أن فحصت عينة من دمه في مستشفى الثورة العام بصنعاء، الذي يملك جهاز فحص متقدّم، وفق تأكيد د. نبيل عبد الرب مدير برنامج مكافحة الإيدز في عدن وأحد أعضاء اللجنة.
وتوصلت اللجنة إلى أن المتضرر زوّد بـ 16 وحدة دم (سعة كل منها 500cc) أخذت من نحو 20 متبرعا في مناطق متفرقة. وحين حاولت اللجنة البحث عن هوية المتبرعين لإخضاعهم للفحوص، تبيّن خلو سجلات المستشفى من عناوينهم أو هوياتهم الشخصية، باستثناء أربعة.
فيروس متجول!
ولأن المستشفى لا يملك قاعدة بيانات بأسماء وعناوين المتبرعين بالدم وكذا من يتم تزويدهم به، فإنه من “الصعب العودة لهؤلاء الأشخاص لإخضاعهم لفحوص واتخاذ الإجراءات الصحية الوقائية في حال ثبتت إصابتهم بالفيروس قبل أن ينتقل لآخرين”.
ذلك ما جاء في تقرير اللجنة التي وجهت اتهامات مباشرة لإدارة المستشفى بمخالفة الاجراءات المتبعة لدى التبرع بالدم، واعتبرت عدم تدوين أسماء المتبرعين وحفظ عناوينهم جريمة يعاقب عليها القانون. وان كان القانون اليمني لم يعرف الخطأ الطبي بصورة منفردة، لكنه عرف الخطأ بشكل عام، ونصت المادة رقم (245) من قانون الجرائم والعقوبات رقم 12 لسنة 1994م، بأنه “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة و بالغرامة المالية كل من تسبب بخطئه في المساس بسلامة جسم غيره ونشأ عن الخطأ عاهة مستديمة جراء اخلال الجاني بما يتوجبه عليه اصول وظيفته او مهنته اوحرفته”.
وسعت إدارة المستشفى في دفاعها أمام المحكمة لتبرير ذلك بأن الحال كانت إسعافية ولم تكن تحتمل كل تلك الاجراءات الروتينية. ثم عاد محامي المستشفى لتحميل فني المختبر أحمد حسين مسؤولية التأكد من سلامة الدم المتبرع به، وأقرّ الأخير بوجود خطأ في جهاز الفحص ولذلك أعطى نتائج مخالفة. قبل ذلك، فحصت اللجنة زوجة عبد العليم بعد أن رجّحت إدارة المستشفى أن يكون الفيروس انتقل إليه منها قبل دخوله المستشفى، فبيّنت الفحوص أنها سليمة. كما بيّنت ذات اللجنة أن الفيروس في دم عبدالعليم لا يزال في مراحله الأولى، ولم يتجاوز عمره المدة الزمنية التي مرت منذ دخول عبد العليم إلى المستشفى.
في أروقة النيابات العامة والقضاء أمضى الرجل عامين حتى تأكدت المحكمة الجزائية من أن الفيروس أتى نتيجة خطاً طبي وقع فيه فني جهاز نقل الدم، لتقضي بعد ذلك بتغريم المستشفى ووزارة الصحة 50 مليون ريال (233 ألف دولار) كتعويض لعبد العليم.
وتضمن القرار حبس الفني المسؤول عما حدث لمدة عام وتخصيص غرفة في المستشفى لعبد العليم مع تحمّل المستشفى لنفقات علاجه. على أن إدارة المستشفى تنصلت من مواصلة علاج الرجل. وزارة الصحة استأنفت الحكم لكن محكمة الاستئناف أيّدت الحكم الابتدائي، بعد عامين آخرين. ومثلها فعلت أيضاً المحكمة العليا بالعاصمة التي استهلكت نحو عامين للمصادقة على حكم الاستئناف. ثم ماطلت الوزارة في تنفيذ الحكم عاما آخر، على حد قول محمد علي محامي عبد العليم الذي استلم مع موكله مبلغ التعويض على دفعات، أولاها عام 2010.
إثبات بالتجربة
بالتعاون مع جمعية مدافعة عن حقوق المصابين بفيروس نقص المناعة وبمساعدة طبيب متخصص، أجرى معد التحقيق فحصين لمريض سبق ثبوت إصابته بالفيروس. في المرة الأولى استخدمت التقنية البدائية المعمول بها في عدد من المختبرات حكومية وخاصة (Chromatography) فظهرت النتيجة سلبية.
ولدى فحص الشخص ذاته في مختبرات العولقي – خاصة تستخدم تقنية (ELISA)- ثبتت إصابته بالفيروس، علما بأن الفارق الزمني بين الفحصين لم يتجاوز أسبوع. التناقض في نتائج فحوص فيروس الإيدز تكرر سابقا مع عبد العليم. وفي تفاصيل السنوات السبع العجاف التي أمضاها الرجل في التقاضي، تكشّفت حقائق تؤكد فداحة ما يجري داخل مختبرات الدم في المستشفى الجمهوري؛ الأكبر في عدن.
متعايشون مجهولون
يؤكد تقرير اللجنة بأن جهاز فحص الدم الوحيد في المستشفى لا يعطي نتائج حقيقية، بالنظر إلى أن المحاليل المستخدمة منتهية الصلاحية. “إدارة المستشفى اشترت محاليل منتهية الصلاحية من مؤسسة الرضوان بمبلغ 200 ألف ريال (930 دولار)، فيما القيمة الحقيقية للصفقة في حال سلامتها 2 مليون ريال (9300 دولار)”، وفق ما جاء في التقرير، وهو المبلغ الذي قيدته إدارة المستشفى في سجلاتها. وبعد فحص المحاليل تبيّن أنها غير مطابقة، وأنه لم يتبق على إنتهاء مفعولها سوى شهر كما خزنت بطريقة سيئة، وبالتالي فهي لا تعطي نتائج حقيقة للفحوص”.
على ضوء تلك النتائج، استقال مدير المستشفى سليمان الجفري، بعد ان أثارت القضية الرأي العام، كما أحيل ستة إلى نيابة الأموال العامة بتهم العبث بالمال العام وتزوير وثائق رسمية، بينهم مدير مكتب الصحة في عدن الخضر ناصر فيما أودع فني المختبر السجن كـ”كبش فداء لكل ذلك العبث”، بحسب وصف محمد علي محامي عبد العليم.
في انتظار الموت
الحُكم القضائي لم يُبهِج عبد العليم الذي يقول إن “أموال الدنيا لن تعوضني عما تعرضت له”. فالرجل لم يتمكن من إجراء عملية إصلاح مجرى البول ولم يحصل على غرفة داخل المستشفى لتلقي العلاج. وحين زاره معد التحقيق وجده وحيداً على سريره المتهالك داخل إحدى حجرات منزله الكائن بمحافظة الضالع جنوب اليمن.
إقصاء مجتمعي
يشتكي عبد العليم بمرارة جور المجتمع وقسوته: “بعد أن علم الناس خبر الإصابة بالإيدز عدت إلى منزلي لأجد نفسي معزولاً عن المحيط الأسري والاجتماعي، بعد أن هجرتني زوجتي وبناتي وأشقائي السبعة، وهم من شريحة الصم والبكم الذين كنت أقوم على رعايتهم قبل تعرضي لحادث السير”.
إقرار رسمي
د. عبدالحميد الصهيبي مدير البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز والأمراض المنقولة جنسياً التابع لوزارة الصحة يقر بوجود إهمال وأخطاء طبية تتسبب بانتقال فيروس الإيدز سواء أثناء عمليات نقل الدم، أو عبر أدوات الجراحة. لكنه يؤكد صعوبة إثبات مثل هذه الوقائع، إذ أن فيروس الإيدز قد يكون في فترة فراغ الأجسام المضادة، أي أنه غير قابل للقياس ولا يظهر إلا بعد أشهر.
على أنه يعود ليؤكد: “هناك تقنيات لم تعد مجدية لتحاليل الدم في اليمن وهناك أخطاء كارثية قاتلة تحدث ليس فقط مع فيروس الإيدز، وإنما مع فيروسات أكثر مقاومة للتعقيم كفيروس الكبد الوبائي”. وتعمل الوزارة “على تجاوز هذه الاشكاليات وتحديث أدوات فحص الدم”.
متعايشون مجهولون
وفقا للأرقام المعلنة رسميا، أصيب 3763 شخصا بفيروس الإيدز في اليمن حتى عام 2012. لكن البرنامج الوطني الذي أعلن هذا الرقم، يفيد بأن الأرقام الحقيقية أضعاف المسجلة والمعلنة، إذ قدّر في تقرير رسمي أصدره مطلع 2013، عدد المصابين بأكثر من 35 ألف شخص. ولم يتسن للمركز إصدار احصائيات حديثة نظرا للاضطرابات الأمنية، وفق الدكتور عبدالحميد الصهيبي. منظمة الصحة العالمية قدرت في تقرير صدر عنها منتصف 2013 بأن وراء كل إصابة معلنة بالفيروس تتوارى 10 حالات غير مسجلة. الخبير الدولي في منظمة الصحة العالمية ومسؤول برنامج مكافحة السل والإيدز بالمنظمة/ مكتب اليمن أسامه مسلم يشبه واقع المصابين بـ”رأس جبل جليدي” جلّه تحت الماء.
ويوضح أسامة أن 31 % من المتعايشين يصابون بالفيروس جراء إهمال التعقيم وضعف التعامل مع الأدوات الطبية ورداءة أجهزة نقل الدم، وفق مسح ميداني لعينة عشوائية من المرضى والمشافي داخل العاصمة صنعاء أجرته المنظمة العام 2010. يكشف المركز الوطني للإيدز في تقرير رسمي صدر العام 2012م – حصل معد التحقيق على نسخة منه – عن تسجيل 63 إصابة بالفيروس عن طريق نقل الدم فيما سجلت 19 إصابة عن طريق الحقن وأدوات الجراحة غير المعقمة. ويقر بتسجيل 496 إصابة غير معروفة الأسباب فضلاً عن آلاف الحالات الأخرى غير المسجلة رسمياً.
وفي محافظة إب وسط اليمن، إعترف متعايش مع فيروس الإيدز للأجهزة الأمنية – التي اعتقلته عام 2009 بتهمة إقامة علاقة غير شرعية مع امرأة أفريقية – بأنه تبرع بدمه لمرضى عدة مرات دون أن تكتشف المختبرات أمر إصابته بالفيروس. المصاب أقر بأنه تبرع بالدم بين عامي 2006 و2009 في عدة مشافي بمحافظات صنعاء وتعز وإب، وانه كان على علم بإصابته بالفيروس منذ عام 2005، حين خضع لفحوص بأحد مشافي دولة مجاورة كان يعمل فيها.
وأقر أيضا بأن نزعة انتقامية من المجتمع الذي “احتقره وتبرأ منه” كانت وراء تبرعه بالدم رغم علمه بإصابته، على حد اعترافاته في محضر التحقيقات بأحد أقسام شرطة مدينة إب والذي يحتفظ معد التحقيق بنسخة منها. إهمال وسوء إدارة في المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه – المركز المعني بالتحقّق من خدمات نقل الدم في مختلف المرافق الصحية الحكومية والخاصة- يلحظ المراجعون إهمالا لدى الكوادر الطبية – بعضها غير مؤهل- (وفقاً للتخصصات والمؤهلات التي يحملها عدد منهم) وأجهزة متوقفة عن العمل رغم حداثتها، لعدم توافر المحاليل الخاصة بها.
يتكون كادر المركز من 46 موظفا رسميا ونحو 15 متعاقدا (لا يتبعون جهاز الخدمة المدنية)، وبحسب افادة احد موظفي الشؤون الادارية بالمركز (رفض ذكر اسمه) يتضح ان ما نسبته 30 بالمائة من العاملين بالمركز هم الحاصلون على مؤهلات عملية عليا تتناسب والمهام المنوطة بهم (بكالوريوس وما فوقها)، بينما تتوزع بقية المؤهلات بين المتوسطة ودون الجامعية كخريجي المعاهد الصحية فضلا عن وجود نحو 17 موظفا يحملون شهادة الثانوية العامة وما دونها في الوظائف الادارية.
كما ان 90 بالمائة من كادر المركز ليست لديهم خبرات سابقة ولم يحصلوا على دورات تأهيلية في مجال نقل الدم وأبحاثه. فضلا عن ذلك فان المقر الرئيسي للمركز صغير للغاية مقارنة بالدور الذي يجب ان يقوم به، حيث تتم الفحوصات على الفيروسات داخل غرفة واحدة فقط، بينما خصصت غرفة ثانية لنقل الدم وثالثة لسحبه من المتبرعين ورابعة لثلاجات حفظ الدم وأخيرة لمطابقة مكونات الدم وهذا هو كل المركز، الى جانب المكاتب الادارية القليلة والمكتظة بالموظفين.
ويلحظ أيضا في المركز قِرب دمٍ يشتبه بتلوثها بالفيروس لمتبرعين عجز المركز عن تأكيد إصابتهم من عدمها، وفقاً لتصريحات مسؤولين في المركز وتوثيق معد التحقيق اثناء جولته الميدانية الى المركز. “إنها كارثة حقيقية”، على حد وصف الدكتور فوزي رحيم، مدير المركز الوطني لنقل الدم الذي أنشىء عام 2006. للمركز فرع وحيد في مدينة عدن إلى جانب المركز الرئيسي بصنعاء.
يشتكي د. رحيم من “أن الدولة لم تقدم الدعم الكافي ليقوم بعمله بالشكل الصحيح”، لافتا إلى أن “غالبية المستشفيات اليمنية لا تزال تعمل بأجهزة فحص قديمة لا تعد نتائجها حقيقية”. ورغم حصول المركز عام 2010 على منحة قدرها 2.2 مليون دولار من الصندوق العالمي لمكافحة السل والإيدز، على شكل أجهزة فحص حديثة، فإن هذه الأجهزة متوقفة عن العمل بسبب عجز المركز عن توفير المحاليل الطبية الخاصة بها، والتي تتجاوز قيمتها 10 ملايين ريال سنوياً (46.511 دولار).
يقول الدكتور رحيم: “رصد المركز حالات اشتباه بمتبرعين بالدم يحملون فيروس الإيدز، لكنه لم يتمكن من تأكيد ذلك كون الأمر يتطلب مختبرات مركزية وأجهزة حديثة وهذا ليس بوسعنا نظراً لمحدودية إمكانياتنا”، فقمنا باستبعادهم عن التبرع. صفقات فساد مستشارة الهيئة العربية لخدمات نقل الدم الدكتورة أروى عون كانت قد تولت إدارة المركز الوطني لنقل الدم منذ تأسيسه وحتى العام 2010، حين أقالتها وزارة الصحة.
فانتقلت بعدها إلى أروقة المحاكم لتربح قضية كشفت عن تورط وزارة الصحة باستيراد محاليل لفحص الدم منتهية الصلاحية. تقول عون: “وزارة الصحة استغلت جزءا من المنحة المقدمة عبر اليونيسيف لإبرام صفقة استيراد محاليل طبية خاصة بـ(b.c.r) هندية وكورية والمستخدمة لفحوص فيروس الايدز، دون العودة إلى المركز الوطني لإعداد المواصفات. ووصلت المحاليل إلى مطار صنعاء، ولم يتبقَ على انتهائها سوى ستة شهور”. وبعد تخزينها لنحو “أربعة أشهر أتوا بها إلى المركز لاستخدامها في فحص الدم رغم أنها منتهية وتعطي نتائج مغلوطة وتسبب ذلك بكوارث صحية”.
الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة المرتبط برئاسة الجمهورية- أعلى سلطة رقابية في البلد – أكد تلك الواقعة في تقرير أصدره عام 2011. وكشف أن المركز تزود بمحاليل (دون أن يسميها) بقيمة 131.572 دولار، رغم أن صلاحية معظمها قريبة جدا من الانتهاء.
ولمعرفة نوعية المحاليل تمكن معد التحقيق من الحصول على وثائق صفقة التوريد، وبعد دراسة وترجمة الوثائق برفقة خبير في هذا الشأن اظهرت التفاصيل ان المركز استورد محاليل دم (anti-hcv) من شركة ورش العالمية على الرغم من ان النشرة الخاصة بالشركة ذاتها تفيد بأن المحلول (anti-hcv) محظور في بنوك الدم. ونصا تذكر النشرة الخاصة بالشركة: “لا يجوز استخدام محلول ( ant-hcv) من قبل بنوك الدم ، مراكز التبرع بالدم أو أي مؤسسات أخرى قد تختص باختبارات الدم أو منتجاته”.
وكانت مؤسسة “قرار” أحدى منظمات المجتمع المدني في اليمن توصلت لنتائج مشابهة في وقت سابق. إذ وجهت رسالة إلى رئيس الجمهورية في شهر مايو/ أيار 2012 دعت لإيقاف مدير المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه وحظر استخدام محلول anti-hcv)) في بنوك الدم. المؤسسة قالت في رسالتها التي نشرتها صحيفة الأولى اليومية بتاريخ الخامس من ذات الشهر أن هذه المحاليل ستتسبب أيضا في زيادة نقل العدوى بفيروس الكبد c بين اليمنيين.
عون التي تحمل شهادة دكتوراه في نقل الدم وأبحاثه تقول: “هناك أخطاء ليس فقط في نقل دم ملوث بفيروس الإيدز من شخص مصاب لآخر سليم، ولكن أيضاً في عدم تطابق الدم من شخص لآخر وحصلت حالات وفيات لكنها غير مسجلة، ونشر هذا الكلام قد يدفع أهالي ضحايا للإبلاغ عما تعرضوا له”. وترى أن “المحاليل والأجهزة الحالية لا تؤدي الوظيفية المناطة بها، والقائمين على ذلك لا يعون خطورة التساهل إزاء خدمات نقل الدم التي تدخل ضمن الأمن القومي في عدد من دول العالم”.
وبحرقة تواصل حديثها: “أنا طبيبة وأقلق من أي عملية نقل دم في ظل الأوضاع الحالية، وحين يقول لي مريض إنه يريد نقل دم أقف حائرة وأقلق بشدة ولا أستطيع إرشاده إلى مكان معيّن لإن احتمالات نقل دم ملوث، حاضرة”. غياب مكافحة العدوى الدكتور عبد القوي الشميري أمين عام نقابة الأطباء اليمنيين يرجع وقوع أخطاء طبية تتسبب بانتقال فيروس الإيدز إلى غياب وحدات مكافحة العدوى في المستشفيات والتعقيم الخاطئ للأدوات واستخدام أجهزة عتيقة ومحاليل غير مطابقة للمواصفات. ينتقد الدكتور الشميري دور وزارة الصحة ووصفه بـ”السلبي والهش”، لافتا إلى أن الكادر الصحي يعاني من ضعف شديد وكذلك الحال بالأجهزة الطبية. “الخطر هنا لا يكمن في انتقال فيروس الإيدز فقط وإنما فيروسات أكثر فتكاً كفيروس الكبد الوبائي الذي إنتشر بين اليمنيين بصورة مخيفة”.
ضعف الإمكانيات
توجه معد التحقيق بكل هذه الاتهامات الموجهة لوزارة الصحة العامة والسكان وطرحها على طاولة الوزير أحمد العنسي الذي أحال معد التحقيق إلى مدير عام قطاع الرعاية الصحية في الوزارة، علي العلفي. العلفي يرجع القصور في أداء الوزارة إلى تدني الموازنة المرصودة لها: “فهي لا تمكّن الوزارة من تغطية متطلبات القطاع الصحي في البلد”. وحول عدم توفير وزارة الصحة للمحاليل الخاصة بتشغيل الأجهزة الحديثة في مركز أبحاث الدم، يجيب العلفي: “إن كلفة تلك المحاليل لم تكن ضمن موازنة الوزارة، وبالتالي من الصعب توفير بند لشراء هذه المحاليل”، لافتا إلى أن الوزارة أدرجتها ضمن موازنتها للعام 2014م (62 مليار ريال/ 288 مليون دولار أي 4 % من موازنة الدولة المقدر عدد سكانها ب25 مليون نسمة). بينما تجاوزت الموازنة المرصودة لوزارة الدفاع 500 مليار ريال (2.325 مليون دولار)، وبلغت الموازنة التي رصدت للمركز الوطني عام 2014 مبلغ(378.169ريال/ 1.758.925دولار).
العلفي يرفض الحديث عن تورط الوزارة بإبرام صفقات لاستيراد محاليل منتهية الصلاحية، مؤكداً أن ذلك أمر يخص قيادات سابقة فيها معنية بالرد والتوضيح، حيث ان الوزير العنسي تم تعيينه لقيادة الوزارة في الربع الاول من العام 2012م. وحول غياب رقابة وزارة الصحة على إجراءات السلامة فيما يتعلق بأجهزة وأدوات نقل الدم داخل المستشفيات، يقول العلفي إن “الوزارة تمارس دورها الرقابي وفق الإمكانات المحدودة، وأنها تسعى من وقت لآخر لتشديد الرقابة”.
مشيرا الى انها سحبت تراخيص عمل عن عدد من المرافق الصحية – دون ان يحددها – خلال العام 2013م “نظراً لعدم مراعاتها لأدنى المعايير الواجب توفرها”. لكنه عاد ليقول إن “الموارد الخاصة بالوزارة من أبرز اسباب عدم قدرتها على الإرتقاء بالقطاع الطبي”. موت صحة عبد العليم ساءت للغاية، وقبل أن ننتهي من إعداد هذا التحقيق وتحديدا في يناير/ كانون الثاني 2015 توفي الرجل، ودفن بآلامه ومعاناته.
في آخر زيارة قام بها معد التحقيق لعبد العليم في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، قال الرجل: “لا أنتظر سوى الموت ليخلصني من معاناتي النفسية، الجسدية والاجتماعية”. واستطرد بيأس: “لولا خوفي من الله لانتحرت وتخلصت من حياتي”.
أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) www.arij.net
Leave a Reply