الوطن -ميشيل عبدالله – يرتسم الوجوم والترقب على وجوه المرضى أمام مركز غسل الكلى بمحافظة الفيوم في انتظار دورهم. كلهم يتشابهون في البؤس بعد أن تحول نشاطهم الإنساني إلى جولات من الصبر أمام هذه المراكز التي يتعالجون فيها على نفقة الدولة.
بالنسبة لغالبية المرضى الـ1300 المسجلين في لوائح غسل الكلى، تعمّق هذه الجلسات الصراع مع مرض يصيب – وفق إحصائيات مديرية الصحة- ما يزيد على 30 ألف من سكان المحافظة المقدر عددهم بثلاثة ملايين ومائة ألف نسمة.
يعاني غالبية المرضى إهمال أطباء وممرضين وسوء معاملة إلى جانب ضعف إجراءات التعقيم والنظافة العامة وسوء صيانة أجهزة غسل الكلى، بالتوازي مع نقص حاد في توفير الأمصال والأدوية وأجهزة قياس الضغط، على ما يوثق هذا التحقيق بعد عشرة أشهر من التقصي.
وتتزايد المخاوف بين مرضى الفشل الكلوي، من إصابتهم بفيروس التهاب الكبد الوبائي “B” و”C ” أو الإيدز بسبب عدم اتباع طاقم التمريض لإجراءات مكافحة العدوى، التي قررتها إدارة مكافحة العدوى التابعة للإدارة المركزية للشؤون الوقائية بوزارة الصحة والسكان عام 2008.
الفيوم وبورسعيد
وفي ضوء اكتظاظ أحد عشر مشفى محليا فوق طاقتها الإجمالية (1300 مريض) . سبعة مراكز غسل حكومية تضم مستشفى التأمين الصحي ومستشفى الجامعة وأربعة خاصة- يلجأ عديدون إلى تلقي العلاج في القاهرة القريبة من الفيوم، حيث ينتشر فيروسات التهاب الكبد الوبائي (سي) والبلهارسيا وغيرها من الأمراض المرتبطة بالبيئة الزراعية المصرية.
وتحتل الفيوم المرتبة الثانية في الإصابة بفيروس (c) – بعد محافظة المنوفية، وفقا لمسؤول سابق لملف الكلى بالفيوم. بينما تعد محافظة بورسعيد الأقل في معدلات الإصابة بالمرض لعدم وجود ريف فيها.
وفاة نزيه
مأساة نزيه صالح (أحد سكان المحافظة) تختزل معاناة هذه الشريحة. في السادس من آب/ أغسطس 2014، توفي هذا الرجل عن 50 عاما إثر إصابته بهبوط في الدورة الدموية، عقب تفاقم التهاب كبده كان أصيب به في أثناء جلسات غسل كلى في مستشفى التـأمين الصحي. “أصبت بالفيروس في 2012 وأظهرت نتائج التحاليل إيجابية الإصابة، رغم أنها كانت سلبية في 15 أغسطس 2009″، حسبما اشتكى صالح في عدة مقابلات مع معد التحقيق كان آخرها في تموز/ يوليو 2014.
المريض الذي كان برعاية زوجته حتى وفاته، تحدث مرارا عن “عدم توفر شاش طبي وقطن ومطهرات داخل المركز والأدوية العلاجية لبعض الأعراض المصاحبة لمرضى الكلى”.
معد التحقيق تتبع نحول جسم صالح بعد أن أصيب بنزف، وطلب منه طبيبه المتابع لحالته عمل منظار، غير الموجود سوى في مستشفى الجامعة ومستشفى الفيوم العام. وقبل يوم من إجراء المنظار بالجامعة أصيب صالح بهبوط في الدورة الدموية، وأدرج في سجلات المستشفى ضمن الوفيات، لكي يحل مكانه مريض آخر يعاني الفشل الكلوي.
“مرضى الفشل الكلوي، هم أكثر الناس عرضة للإصابة بالتهاب الكبد الوبائي (B)، ثم (c) يليه فيروس نقص المناعة “الإيدز” حسب ترتيبهم”، وفقا للدكتور محمد مسعود، أستاذ بكلية الطب بجامعة الفيوم. انتقال العدوى بين حاملي الفيروس ومرضى الفشل الكلوي تتم عن طريق الدم، حسبما يضيف.
ويؤكد د. مسعود أن معدلات الإصابة بالعدوى تنخفض في المراكز الحكومية بسبب تجميع المرضى حسب حالتهم المرضية، بينما ترتفع في الخاصة لقلة عدد أجهزة غسل الكلى فيها، وقبولها المرضى المصابين بفيروس (c) ورفض مصابي (B) والإيدز.
يحتاج كل مريض ثلاث جلسات أسبوعيا بتكلفة 140 جنيها (20 دولارا) لكل منها، على نفقة خزينة الدولة. ويعفى المريض من سداد 1680 جنيها عن 12 جلسة على مدار الشهر، ليصل إجمالي ما تدفعه الدولة عن المرضى المسجلين لديها بالمحافظة قرابة مليونين و184 ألف جنيها شهريا.
ويقول وكيل وزارة الصحة بالفيوم، إن جميع المرضى المسجلين لدى المديرية، يتلقون جلساتهم على نفقة الدولة، متضمنة التحاليل المعملية وتحاليل الفيروسات، وصرف العلاج الشهري للمريض والحقن الخاصة بالأنيميا.
شكاوى معلقة
تقدم 29 مريضا بشكاوى إلى النيابة العامة بالفيوم، يتهمون فيها إدارة مستشفى التأمين الصحي بالتسبب بإصابتهم بفيروس “سي”- وفق بلاغ في عام 2013 إداري بندر الفيوم. النيابة حفظت الشكاوى واعتبرتها إثبات حالة لمقدميها بعد تراجع بعضهم وإثباتهم في أقوالهم أن الخدمة تحسنت خلال فترة التحقيق في البلاغ بينما لم يذهب آخرون للإدلاء بأقوالهم، عدا مريض يدعى هلال السيد الذي كان أكثرهم اهتماما، وتوفي العديد ممن اشتكوا بعد تدهور حالتهم المرضية.
تضارب في الأرقام
إحصائيات مديرية الصحة بالفيوم تشير إلى 1300 مستفيد، وفقا لآخر إحصائية لعام2014 بينهم 22 مصابا بفيروس (B) بعد أن كانت 745 مستفيدا في منتصف فترة اعداد التحقيق، في اختلاف مع تقدير مسؤول ملف الكلى السابق فيها. إذ يؤكد هذا المسؤول -الذي يرفض الإفصاح عن هويته- أن العدد الحقيقي ضعف المعلن (بين 1400 و 1500) مريض.
نزيه صالح، أحد المتقدمين بشكاوى لنيابة بندر الفيوم رجل خمسيني كان أصيب بفيروس “سي”. بدأ الرجل جلسته في السادسة صباحا في قاعة “إيجابي” التي تضم 24 جهاز غسيل. لا يوجد بالقاعة سوى حوض واحد لغسل الأيدي.
تأتي إليه الممرضة لربط وصلات الجهاز بذراعه من جهة وعبوتين من جهة أخرى، تمهيدا لبدء الجلسة. لكن سرعان ما تندلع مشادة بينهما بعد أن وضعت “فلترا” لم يعجبه نوعه. ولكن طبيب المركز – المتخصص في أمراض الباطنية وليس الكلى- يرفض صرف نوع الفلتر الذي يطلبه المريض، رغم أنه يتناسب مع ارتفاع نسب الباولينا (فضلات الكلى) بالدم، وفق روشتة طبيبه المشرف. في النهاية يرضخ المريض لرغبة الطبيب والممرضة.
مشادة أخرى تندلع بين ممرضة ومريض موصول بجهاز غسل على بعد ثلاثة أمتار من هذه الحالة احتجاجا على عدم توافر محلول ملحي كاف، بسبب “قلة المخزون”.
تزحف عقارب الساعة ببطء نحو السابعة صباحا. تتجه الممرضة نحو معد التحقيق لتطلب منه الخروج من القاعة “لأنه ممنوع”. يخرج مؤقتا، لكنّه يواصل تسجيل المشاهد.
السابعة وعشر دقائق. ترتفع صفارة إحدى الماكينات معلنة تعطلها خلال جلسة غسيل. عندها يلاحظ معد التحقيق تكدس عدد كبير من عبوات سوائل الغسيل الكلوي الفارغة بمدخل قاعة الغسل المجاورة لها.
الساعة السابعة والنصف.. أربع ممرضات فقط يجلسن في مدخل قاعة غسل الكلى بينهن مشرفة، فيما جلست أخريات في نهاية القاعة، وممرض آخر في وسطها للتعامل مع 24 مريضا (ممرض/ة لكل أربعة مرضى).
نفايات خطرة
أكياس حمر مخصصة للنفايات الخطرة – وصلات طبية وإبر (سرنجات)- تغطي سلات المهملات بجوار الأسّرة. عبوة فارغة أسفل سرير أحد المرضى، ما يتعارض مع “الأساليب المانعة للتلوث”، بالجزء الثاني من الدليل القومي لمكافحة العدوى (2008).
ممرضتان تتسامران في آخر القاعة، بينما تربط عبوتان بذراع أحد المرضى وهما مكشوفتا الغطاء، في مخالفة لسبل معالجة المياه المستخدمة في إجراء عملية غسل الكلوي (الديال)، بالدليل القومي لمكافحة العدوى.
في الساعة الثامنة و55 دقيقة يتوقف أحد أجهزة الغسيل، فيستغيث المريض من أجل إعادة تشغيلها. وبعد دقائق تستجيب الممرضة لطلبه.
أحد المرضى يطلب زيادة محلول الأملاح المستخدم لتنقية الدم من السموم والأملاح المعدنية المتأينة. ولكن الممرضة تؤكد له أن صيدلية المستشفى لا تصرف سوى “عبوتين” يوميا.
دقت عقارب الساعة التاسعة وعشر دقائق دون أن يمر طبيب لمتابعة الحالات المرضية أو أي عامل لتنظيف أرضية القاعة، في مخالفة لإجراءات مكافحة العدوى بالمنشآت الصحية والتعامل مع بيئة وحدة الغسيل الكلوي. إذ تقضي بتنظيف الأسطح البيئية لمنطقة الغسيل الكلوي “الديال” المخصصة لخدمة المريض، وكذلك إزالة أي انسكابات دموية ناتجة عن تركيب وصلات الماكينة بذراع المريض.
وفي التاسعة و20 دقيقة، توقف جهاز آخر عن العمل. هنا يطلب موظف أمن من معد التحقيق الخروج بسبب وصول الطبيب المسؤول. يعود الكاتب بعد دقائق ليشاهد ممرضة لا ترتدي “كمامة واقية”، وهي تلقي بوصلة نقل دم في سلة المهملات ذات الكيس الأحمر والثانية في عبوة فارغة، مع انتهاء الوقت المحدد للجلسة، استعدادا لاستقبال حالة جديدة على ذات الجهاز.
ثم يأتي مشهد زحف الصراصير أسفل سرير المريض ليختم جلسة الرجل الخمسيني في هذا اليوم. وتخترق قطّة قاعة الغسل أمام أعين المرضى.
وحدة الغسيل الكلوي بمستشفى إطسا بطاقة 120 مريضا
أسرّة متراصة بفواصل ثلاثة أمتار – بسبب إضافة جهازين جديدين ليرتفع العدد إلى 24 جهازا، في مخالفة لمقاييس وزارة الصحة بخصوص المسافة بين الوحدات؛ ستة أمتار مربعة. ثلاث ممرضات تتنقلن بين 24 مريضا، في مخالفة للحد الأدنى؛ ممرض لكل أربعة.
ويرد وكيل الوزارة بالفيوم على هذا بأن مستشفيات إطسا، طامية، وأبشواي أدرجت ضمن خطة تطوير وتوسعة مراكز غسل الكلى. “نقدم للمواطنين الخدمة مع التخطيط لتطويرها بدلا من وقفها بسبب شرط المسافات بين الماكينات”.
أ. ك – متزوجة ولديها ثلاثة أولاد – تترقب مؤشرات ولمبات جهاز غسل الكلى قبل توصيلها بذراعها اليسرى، لتبدأ رحلة تنقية الدم على مدى أربع ساعات.
السيدة الثلاثينية تعلمت تشغيل الجهاز بنفسها بسبب انشغال الممرضات بحالات أخرى. وتقول: “أحيانا أوصل وصلات الوريد من غير ما أنادي الطبيب”.
تدخل عاملة بيدها عصا بنهايتها قطعة من القماش المببلة والمطهرة، خلال ساعتين من الجلسة، وتنظف أرضيات المركز. دقائق وتدخل ممرضة تحمل “صينية ” شاي، وتقدمه لزميلاتها خلال الجلسة، في مخالفة لبند العاملين بوحدات الغسيل الكلوي من المعايير المقررة لمكافحة العدوى. كل ممرضة تضع على فمها واق ضد المرض.
ممرات ضيقة
على مسافة أقل من متر مقابل حالة أخرى، يرقد س.ر (52 عاما)، الذي يغسل كليتيه منذ سبع سنوات. هذا الرجل المصاب بالسكري اكتشف إصابته بالفشل الكلوي بالصدفة عندما أصيب بقيء وآلام فى البطن. الممرضة ترتدي ذات الكمامة في تعاملها مع مرضى آخرين. تتنقل بين المرضى لقراءة عدادات أجهزة غسل الكلى، ومواجهة أعطالها بعد انطلاق صوت “صفارة”، لتوقف عملية تنقية الدم بين عبوات مياه غسل الكلى.
المسؤول السابق لملف الكلى بالفيوم يقر ب”وجود ماكينتين زيادة عن العدد المقرر، ويجري حاليا فحص هذه المشكلة”. ولكنّه يقلل من تأثير ذلك على جودة الخدمة، مشيرا إلى تخصيص مركزي إطسا وطامية لمصابي الفيروس (B). ويتم حاليا تخصيص مركز لهم في مستشفى الحميات لعزل هذه الفئة وصولا إلى تحقيق أقصى درجات الوقاية.
مركز مستشفى الفيوم العام
سيدة في العقد الخامس من عمرها تجلس فجرا مع غيرها من المرضى على سلم مركز الكلى في سباق معهم لتلحق الوردية الأولى في الثامنة صباحا، في أحد أكبر المراكز في المحافظة. المركز مكون من ثلاث طبقات بينها قاعة أطفال.
ويحمّل الدكتور مدحت شكري، وكيل وزارة الصحة بالفيوم مرضى غسل الكلى مسؤولية نظام الدخول لمراكز الكلى، ويؤكد “أن كل مريض يعرف موعد جلسته والماكينة الخاصة به ولا داعي للزحام”.
تستلقي السيدة ذات الخمسين عاما على سرير في الطابق الثالث، اعتادت الاسترخاء عليه خلال جلسة غسل الكلى، بعد وزن جسمها النحيل لتحديد كمية المياه التي تحتاجها عملية الغسل.
ملاءات غير نظيفة
تتوجه السيدة إلى غرفة مستلزمات الغسل لتحصل على “سرنجين”، أحدهما أسود والآخر يؤخذ تحت الجلد، زيستخدم مرة واحدة أسبوعيا في الجلسة الثالثة. تحصل أيضا على ملاءة تبدو غير نظيفة، لتفترش بها السرير الخاص بجلستها، لكن وكيل وزارة الصحة بالفيوم ينفي عدم تغيير ملاءات الأسرّة، مؤكدا وجوب “تغيير طقم الملاءات بين كل مريض”.
قفاز للجميع
دقائق وتأتي الممرضة المشرفة على قاعة الغسل لتصل ذراع السيدة اليمنى بوصلات نقل الدم. ثم تتم ذات الخطوات مع مريضة أخرى بالقاعة، دون أن تغير القفاز الطبي ما قد يعرضها لانتقال العدوى، مخالفة بذلك إجراءات منع انتقال عدوى فيروس إلتهاب الكبد الفيروسي (B) الواردة بالدليل القومي لمكافحة العدوى.
د. محمد مسعود الأستاذ بكلية الطب بجامعة الفيوم يحذر من مخاطر عدم تغيير الممرضة القفاز خلال التعامل مع حالات مختلفة. “يجب تغيير (الجوانتي) وروب التمريض لمنع نقل الفيروس من دماء ملوثة”، وفقا لـ د. مسعود.
كانت الجلسة بدأت في المركز، وبها قرابة ثمانية مرضى بإشراف ممرضة واحدة فقط. ثلاثة أسرّة بقيت دون مرضى بسبب “تعطل الماكينات” رغم انتظار حالات أخرى في الخارج.
حوض واحد لغسل الأيدي في هذه القاعة، رغم أن الإحتياطات القياسية لمكافحة العدوى – طبقا للدليل القومي لمكافحة العدوى- تتطلب توافر حوض غسيل أيدي لكل أربعة أسرّة وممرضة لكل أربع حالات.
ويؤكد د. سامر رشدي، المدير السابق لمستشفى الحميات وأخصائي الحميات، وجود عجز دائم في فريق التمريض بمراكز الغسل الكلوي الحكومية، لانخفاض إقبالهم على العمل فيها خشية انتقال العدوى لهم، بالإضافة إلى قلة عدد ماكينات الغسيل الكلوي.
بينما يرد الدكتور مدحت شكري: عالجنا نقص عدد الممرضات بمستشفيات أبشواي والفيوم العام، بتعيين دفعات جديدة في الأقسام الحرجة، وتضم غسل الكلى والحضانات والعناية المركزة والإستقبال والعمليات”. ويؤكد توزيع خمس ممرضات على الوردية الواحدة، ولكن غياب بعض الممرضات يتطلب متابعة من رئيس القسم.
بعد ساعة على بدء الجلسة، تدخل ممرضة أخرى لمتابعة المرضى ومساعدة زميلتها. وفي التاسعة وخمس دقائق، تدخلت إحدى العاملات، وهي ترتدي قفازات “جوانتي” لمسح وتنظيف أرضيات القاعة، خوفا من انسكاب دماء ملوثة، طبقا للمعايير الخاصة بمكافحة العدوى.
أعطال وإهمال
أحد المرضى يطلب من الممرضة “حقنة” للبرد، فيما تطلب مريضة أخرى وهي تتألم، حقنة لعلاج آلام المعدة. عدة دقائق تمر دون أن يلبى طلبها حتى أنهت الممرضة متابعتها لحالة أخرى في القاعة.
بعد دقائق تعلو “صفارة” إحدى أجهزة الغسل لتعطلها في أثناء جلسة غسل لمريضة. ولم تسارع الممرضة لتشغيلها، إلا بعد أن ربطت مريضة أخرى بجهازها.
غياب ممرضات
ممرضتان أخريان تأتيان لمساعدة زميلتيهما بالقاعة. ثم يأتي الطبيب المسؤول عن متابعة المرضى، للاطمئنان عليهم. ولدى خروجه يوجّه اللوم لبعض الممرضات لعدم إخطاره بغياب زميلاتهن العاملات بالوردية.
دقائق أخرى تمر لتعلو “صفارة” ماكينة أخرى. صراخ المريض المربوط بها يعلو على صوت الصفارة، مناديا الممرضة لإعادة تشغيلها، وسط صراخ مرضى من آلام بالمعدة، وهم يطلبون أدوية لعلاجها دون استجابة من التمريض. وفي الحادية عشرة، تنضم ثلاث حالات جديدة إلى ماكينات الغسل الكلوي المعطلة بعد أن تم تشغيلها.
“أعطال ماكينات الكلى واردة ولكنها لا تؤثر على المريض، والممرضة تستطيع تشغيلها يدويا، وفريق التمريض مدرب على ذلك”، هكذا يعلق وكيل وزارة الصحة بالفيوم.
ويوضح شكري أن لجميع الماكينات عقود صيانة مع الشركة الموردة، وتشمل الفحص الدوري إذ ترسل الشركة مهندسيها لمتابعة الماكينات.
ممرضة تنزع الوصلات الوريدية من ذراع السيدة، وتتخلص منها في كيس المخلفات الخطيرة. ثم تطهر سقف الجهاز وجوانبه بقطعة قطن مبللة بالكحول، خلال جلوس الحالة على السرير، وقبل مغادرتها القاعة.
يسمح لبعض المرافقين بالجلوس بجوار المرضى الذين يعانون ضعف المناعة، دون ارتداء كمامة طبية.
مشادات وطرد أقارب المرضى
على بعد أمتار قليلة من القاعة، تقع مشادة بين طبيب وأحد أقرباء مريضة في قاعة أخرى، احتج على تعرضها للنزف خلال تركيب الوصلة الوريدية بذراعها. الطبيب الغاضب يستدعي مسؤول الأمن لطرد المتواجدين في ساحة القاعتين.
مشهد آخر يكسر صمت المرضى. بائع شاي من خارج المركز ينادي بين المرضى بالقاعة: “حد عايز شاي”.
مستشفى أبشواي المركزي
فتاة نحيلة الجسد في عقدها الثاني تتجه إلى قاعة غسل الكلى بالمستشفى وبيدها “الفلتر والسرنجات”. تضم القاعة ثلاثة أجهزة وحوضا واحدا لغسل الأيدي، تماشيا مع مقاييس الوزارة.
ملاءة السرير لم تتغير من الجلسة السابقة، في مخالفة لمعايير مكافحة العدوى، التي توجب تغيير الأغطية مع مراعاة غسلها وتنظيفها في كل مرة.
رحلة عشرينية مع الفيروس
“انتقلت ليّ عدوى التهاب الكبدي الفيروسي بعد عامين من غسل الكلى في قسم “السلبي” (لغير المصابين بالفيروس)، هكذا تستذكر الفتاة العشرينية رحلتها مع الفيروس. يومها “فوجئت بالممرضات يخبرنني بتحويلي للغسل في القسم “الإيجابي”.
خمس عشرة دقيقة مرت منذ بداية الجلسة ولم تقم أي عاملة بتنظيف أرضية القاعة بعد توصيل المرضى بالأجهزة. تتجمع الممرضات للتسامر في ساحة تتوسط ثلاث قاعات. لا يتحركن لمتابعة المرضى إلا في حال توقف أحد الأجهزة أو صرخ أحد المرضى طلبا لأدوية مسكنة بعد أن يفقد الأمل في تلبية ندائه.
ذباب ومبيد حشري
ممرضة توزع وجبات غذائية على المرضى ثم تختفي، تاركة المرضى دون إشراف طبي، ودون متابعة الطبيب المشرف على المركز.
“هناك خطورة من عدم وجود طبيب مشرف خلال الجلسة، ويعرض المرضى للوفاة، إذا أصيبوا بقصور في الدورة الدموية والقلب”، وفقا للدكتور رشدي، مدير مستشفى الحميات السابق.
ولكن وكيل الوزارة يعلق على عدم وجود أطباء كلى في العديد من المراكز:”نستعين بأطباء الباطنة في الفيوم لسد العجز في أطباء الكلى، وهو على مستوى الجمهورية”.
الساعة تقترب من الظهر. أسراب الذباب تحلق في القاعة كاسرة حال الهدوء. بعد عشر دقائق، تأتي عاملة لرش القاعة بمبيدات حشرية ثم تغلق النوافذ، وهنا يؤكد شكري خطورة رش مبيدات حشرية في مراكز غسل الكلى بوجود المرضى.
هنا تلحظ معد التحقيق وتطلب منه الخروج من القاعة لأنه “ممنوع”. تغلق عاملة الباب الرئيسي لقاعات الغسل وتمنع دخول أقرباء المرضى.
عاملة وممرضة
يخيم الصمت على المكان. لا تخترقه سوى أصوات ضحكات الممرضات بساحة المركز، وصفارات ماكينات الغسل التي تتعطل بين الحين والآخر. في الساعة 2:40 بعد الظهر تنزع ممرضة وصلات الماكينة من ذراع مريضة، ثم تأتي عاملة لتضع قطنا وشريطا لاصقا مكانها، بدلا من الممرضة، في مخالفة لإجراءات غسل الكلى. تنتهي الجلسة وتخلو القاعة لتستقبل مرضى آخرين.
سوء المعاملة بالمركز وتدني الخدمة بالمركز يسفر عن إقالة مسؤول وحدة الكلى بإبشواي المركزي وتعيين آخر، وفقا لمسؤول الملف السابق بالمحافظة، منذ قرابة عام.
“1500 مريض كلى يغسلون في 11 مركزا”
يخضع بين 1400 – 1500 مريض بالفشل الكلوي لجلسات غسل كلى في 11 مركزا بينها خمسة حكومية وسادس بمستشفى التأمين الصحي وسابع بجامعة الفيوم، بالإضافة إلى أربعة مراكز خاصة تخضع لمتابعة مديرية الصحة، وفق المسؤول السابق عن ملف غسل الكلى بمديرية الصحة/ محافظة الفيوم، الذي يرفض ذكر إسمه.
في الفيوم 250 ماكينة لغسل الكلى، كل منها تخدم كل منها ستة مرضى يوميا، في حين يزيد عدد المصابين بالفشل الكلوي على 30 ألف، العديد منهم يغسلون كلاهم في القاهرة، حسبما يضيف. وباعتبار أن المصابين يحتاجون ثلاث جلسات غسل أسبوعيا في المتوسط، فإن الأجهزة المتوافرة – بطاقة 7500 جلسة أسبوعيا- تغطي أقل من 10 % من حجم الطلب على هذه الأجهزة الحيوية في المحافظة.
معدلات وفاة طبيعية
رغم وفاة عدد من مرضى الكلى أخيرا، فإن المسؤول السابق لملف الكلى بالفيوم، يرى أن معدلات الوفاة بالمحافظة أقل من المعدلات العالمية البالغة 25 %. ويدلل على ذلك بتحسن الخدمة الصحية في المراكز.
نقص في الأطباء والتمريض
لكنه يقر بوجود “عجز في طاقم التمريض بالفيوم بشكل عام (ممرضة لكل أربعة مرضى”. ويرجع النقص إلى “تغيب بعض الممرضات، دون التأثير على الخدمة”. كما يؤكد “النقص في طاقم الأطباء بوجود خمسة فقط لخدمة 210 مرضى كلى بمستشفى الفيوم العام”.
لم يوافق هذا المسؤول السابق على رواية مريضة بتوصيل وصلات الماكينة بنفسها، ولكنه لا يعترض على اتهامات المرضى بقلة خبرة أطباء في تشخيص حالتهم للإصابة بالفشل الكلوي.
خبرة للكشف عن الفشل الكلوي
“الكشف على المرض يتطلب خبرة طبية طويلة في العمل وتحاليل معملية. وقد تغيب الخبرة عن أطباء حديثي التخرج”، بحسب تقييم مسؤول الكلى، الذي يشدّد على تغيير كمامات الممرضات دائما.
تقصير ممرضات
فيما يؤكد د. شكري أن تقصير الممرضات في ارتداء “كمامات” يستدعي متابعة مشرفة التمريض ورئيس قسم الكلى بالمركز. ويؤكد وجود قرابة مليوني (ماسك) كمامة في مخازن مديرية الصحة.
تقرير رسمي
يرصد تقرير طبي من لجنة المتابعة بمديرية الصحة برئاسة الدكتور إبراهيم عمر، مدير عام إدارة المتابعة، في 22 أبريل 2014، مخالفات وحدة غسل كلى الأطفال بمستشفى الفيوم العام، إذ يؤكد تحوّل حالة الطفلة ندى ياسر من الفيروس السلبي إلى الإيجابي في شهر يناير 2014، رغم وصولها للوحدة في7/2 /2013 بحالة “سالبة”، نتيجة انتقال العدوى إليها من عدم إلتزام العاملين بتطبيق إجراءات مكافحة العدوى.
التقرير يكشف أيضا سماح العاملين بالوحدة، بالغسيل للمرضى الكبار بنفس قاعة الأطفال بحجة وجود أعطال في الماكينات بالقاعة الكبرى.
ويوضح التقرير أن الوحدة تم افتتاحها في 5/6/2013، وكانت تجري عمليات الغسيل لـ 10 حالات، توفي منهم أربعة، راصدا عدم وجود أخصائي أطفال بالوحدة، وشكوى العاملين من تأخر نتائج تحاليل المرضى، الأمر الذي قد يؤدي لنشر العدوى بالوحدة.
كما ورد بالتقرير أنه تم تحويل 3 أطفال للغسيل بقاعة الإيجابي بالدور الأول المخصصة للمرضى الكبار بحجة أنهم إيجابي (سي)، على الرغم من وجود وحدة الأطفال، إذ يتم التعامل معهم مثل الكبار، ما قد يؤدي لزيادة عدد الوفيات.
إجمالي عدد الحالات بوحدتي الغسيل السلبي والإيجابي والأطفال يبلغ وفق التقرير الطبي 223 حالة، منها 84 إيجابيا، و134 سلبيا، و5 أطفال بينهم 2 سلبي و3 إيجابي.
تم اعداد هذا التحقيق الاستقصائي بدعم شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) www.arij.net ضمن برنامج تدعيم الاعلام لتغطية قضايا الإدارة العامة في المحافظات.
Leave a Reply