في خانيونس.. (200) ألف نسمة يشربون مياهاً سامة

3 يناير 2013

خانيونس – صفا- بقع داكنة تشوه جمال رمال منطقة المواصي الذهبية التي تمتد عليها أراض زراعية، لا يمكن لأنف الزائر أو المقيم أن يتجنب استنشاق الروائح الكريهة المنبعثُة منها، فأحواض الصرف الصحي الضخمة المشيّدة قرب البحر زائر ثقيل الظل طالت إقامته.

سوء التخطيط، وضعف التمويل وفيتو “إسرائيل” هي الأسباب التي أدت إلى إقامة هذه الأحواض المكشوفة قرب المساكن والمزارع، كبديل عن إنشاء محطات التكرير.

تسربت المياه العادمة لتلك الأحواض إلى خزان المياه الجوفي وتربة منطقة المواصي الخصبة، ضمن أراضي خان يونس- سلّة الفواكه والخضار لجنوب قطاع غزة.

كتمنا أنفاسنا وارتدينا واقيات الأنف والفم حين دخلنا إلى تلك المنطقة، أحواضٌ ضخمة يعتبرها المسؤولون طوق نجاة لمعاناة المواطنين فيما يتعلق بصرف المياه العادمة، لكنها حوّلت حياة سكان المنطقة جحيمًا وجعلت مياههم غير صالحة للشرب أو الري، فضلاً عن أنها باتت مصدراً للروائح الكريهة وانتشار البعوض والذباب.

مياه المجاري في ارتفاع ومعدات التكرير معطلة بسبب الحصار

إبراهيم المجايدة (45 عاما) مزارع من سكان المنطقة يقف حائرًا أمام أرضه الزراعية – بعد أن غمرت مياه الصرف الصحي جزءًا كبيرًا منها- فلم يعد بئر المياه الوحيد الذي يعتمد عليه لري أرضه صالحًا لذلك بعد أن تحولت مياهه العذبة إلى مياه سوداء حالكة، لا تصلح للشرب والاستخدام الآدمي.

المجايدة يمتلك خمسة دونمات مزروعة بالجوافة، النخيل، الليمون والبرتقال، تلف بعضها والمتبقي يتلف تدريجيًا. ينظر إليها بحسرة دون أن يمتلك شيئًا يوقف به زحف التلوث على أرضه، متخوفًا من قرب فقدانها بالكامل.

كثبان رملية

ويُرجع مهندسو وزارة الزراعة مشكلة أحواض معالجة مياه الصرف الصحي الموجودة في منطقة “المواصي” إلى أنّها مُقامة على مناطق كثبان رملية من السهل أن تتسرب للخزان الجوفي لتحدث ضررا وتلوثا، وهو ما كان واضحًا من خلال زيارتنا للمحطات المهترئة التي ظهر فيها عدم وجود تبطين جيد لأحواض المعالجة.

تلك الأحواض كانت مصممة لخدمة سكان منطقة خان يونس قبل 30 سنة، ومنذ ذلك التاريخ تضاعف عدد السكان من مليون إلى مليون و800 ألف، وأصبحت المحطات عاجزة عن خدمة هذا العدد الهائل، إذ يصل المحطة يوميًا –وفق سلطة المياه- ما يُقارب 12 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي يتم ضخها في البحر دون تكرير، فيما تحتاج محطات التكرير المقامة على البرك إلى تطوير كامل وإعادة تأهيل في بنيتها وأحجامها.

كيف نشأت المشكلة

يقول رئيس البلدية السابق محمد الفرا إنّ مشكلة معالجة مياه الصرف الصحي في خانيونس ظهرت قبل 33 عاماً، حين كانت تلك المياه لسنوات طويلة تسيل في شوارع المدينة والمخيم مسببة التلوث والأذى.

ولمواجهة المشكلة عمد السكان –وفق الفرا- إلى حفر 25 ألف حفرة امتصاصية أدت إلى زيادة نسبة النترات في آبار المياه بالمدينة إلى 350 M/L، بل وصلت وفق سلطة المياه إلى 600 M/L في بعض الآبار.

والمسموح به حسب مواصفات منظمة الصحة العالمية 50 M/L، ما يعني عدم صلاحية مياه هذه الآبار للاستخدامات الآدمية، وفق تقرير أقرّته اللجنة العليا للمياه في وزارة الصحة الفلسطينية عام 1995، حيث أوضح التقرير أنّ المواصفة القياسية الفلسطينية حدّدت نسبة النترات المسموح بها في آبار المياه بـ10 ملغم/لتر فقط.

ويوضح الفرا أنّ المشكلة وصلت ذروتها منتصف 2007، حين ارتفع مستوى الصرف الصحي في بركة تجميع مياه الأمطار المشتركة مع مياه المجاري في حي الأمل القريب من “المواصي” إلى مستوى عال، كان ينذر بحتمية حدوث كارثة إنسانية وبيئية في أي لحظة، إذ كان الخطر وشيكاً بانهيار البركة وغرق عدة أحياء سكنية محيطة بها.

بناء على ذلك، يضيف الفرا: “عقد اجتماع عاجل بادرت إليه مصلحة مياه بلديات الساحل بناءً على رغبة بلدية خان يونس، وبمشاركة عدد من المؤسسات الوطنية ذات العلاقة من أجل دراسة الوضع الخطير والبحث عن حل عاجل لإنقاذ سكان تلك المنطقة من الكارثة البيئية التي كانت على وشك الحدوث”.

وأقر الفرا بأنّ الحلول التي وضعت لم يتم تنفيذها بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة، إذ لم تستطع بلدية خان يونس تمديد أي شبكات صرف صحي جديدة منذ العام 2008 وحتى نهاية 2010م.

مساعي العلاج

وفي مسعى آخر لعلاج المشكلة كان من المقرر عام 2008 أن تنشئ البلدية محطة الصرف الصحي لمحافظة خان يونس شرق قطاع غزة بعيدا عن السكان بتمويل ياباني (13 مليون دولار) والبنك الإسلامي للتنمية (30 مليونا). إلا أن “إسرائيل” رفض السماح بإنشاء المحطة بذريعة قربها من حدودها مع القطاع.

منسوب مياه المجاري في ارتفاع ومعدات التكرير معطلة بسبب الحصار

السبب الآخر وراء تعطيل المشروع، وفق الفرا هو “تراجع الحكومة اليابانية عن تمويل المشروع بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، مما أوصلنا للحديث عن حلول مؤقتة”.

وأمام استفحال خطر المجاري المنسابة في شوارع المدينة ومخيمها والخطر المحدق بالسكان البالغ عددهم 200 ألف نسمة تقريباً، قررت سلطتا المياه والبيئة، بلدية خان يونس، وزارة الزراعة، محافظة خان يونس ووزارتا التخطيط والحكم المحلي إنشاء محطات معالجة مياه الصرف الصحي بخانيونس عام 2007 على بعد ما يُقارب 200 متر فقط من السكان، وهو ما يعرف باسم “الأحواض المؤقتة في المحررات”، التي كان الاحتلال يقيم عليها المستوطنات في قطاع غزة.

تدمر الأراضي الزراعية

وهكذا أقيم المشروع في منطقة المواصي بتمويل اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي وبتنفيذ مصلحة مياه بلديات الساحل بشكل تجريبي غطّى عام 2008 ما مساحته 60 دونماً، وتوسع عام 2010 إلى 90 دونماً، ثم وصل ذروته عام 2012 ليغطي مساحة 110 دونمات مزروعة بالجوافة والنخيل.

وسعى المشروع إلى تحقيق عدة أهداف منها إثبات مدى فاعلية تقنية الاختبارات المعيارية لمقاييس جودة المياه في إعادة استخدام المياه العادمة، وتزويد المزارعين في منطقة المواصي الزراعية بمياه ري ذات جودة عالية نسبياً (مياه أقل تلوثاً)، إضافة إلى تنفيذ مخطط إعادة استخدام المياه العادمة لتقليل العجز في خزان المياه الجوفية المحلي وحمايته من التلوث. لكن النتائج على الأرض جاءت على عكس ما وضع من أهداف.

إذ أجرت مصلحة بلديات الساحل بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي فحوصا متتالية للمياه والتربة في تلك المنطقة خلال عامي 2011 وحتى شهر مايو لعام 2012، للتعرف على الضرر الذي تتسبب به محطات المعالجة. وأظهرت نتائج الفحوص التي حصلنا عليها من مصلحة بلديات الساحل أنّ نسبة ملوحة مياه الآبار الجوفية المستخدمة في الري عالية جدًا، وهي تؤدي إلى تلف الثمار أو موت الأشجار بالكامل. ويظهر ذلك جليا من خلال موت وتلف أراضي المزارعين في تلك المنطقة.

ورغم أن كاتب التحقيق جال في تلك المنطقة ووثق المشهد بالصور الفوتوغرافية، فإن وزارة الزراعة تشكّك بأن تكون مياه الصرف الصحي هي السبب في تلف المحاصيل الزراعية، مشيرة إلى أن مسببات تلف المحاصيل عديدة يصعب حصرها في عنصر واحد.

تضر بصحة المواطنين

يؤكد سامي لبد مدير مختبر الصحة العامة في وزارة الصحة أنّ السكان يتأذون بشكل مباشر من تلك الأحواض إما بسبب الروائح الكريهة وانتشار البعوض أو من تلوث المياه، متخوفًا أنّ تنفجر تلك الأحواض وتكتسح البيوت بعد امتلائها كما حدث عام 2007 في أحواض مياه الصرف الصحي في القرية البدوية شرقي بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، بعد غرق ٢٥٠ منزلا بالكامل جراء انهيار برك الصرف الصحي، التي يقدر عددها بأكثر من ١٥ بركة، أدت في حينه إلى مقتل تسعة مواطنين وإصابة ٥٠ آخرين.

وأظهر تقرير أصدرته الأمم المتحدة عام 2009 بعنوان “غزة على حافة العطش” أنّ مستوى التلوث الناتج عن محطات معالجة مياه الصرف الصحي بلغ حدًا يجعل أطفال غزة معرضين لخطر التسمم بالنترات”.

وأوضح التقرير أنّ إجراء اختبارات في تسعة آبار خاصة في مواصي خانيونس بينّ أن معظمها يعاني من تركيزات عالية من النيترات تتجاوز الحدود الإرشادية لمنظمة الصحة العالمية، وأن الاختبارات أظهرت أن واحداً من هذه الآبار تتجاوز فيها تركيزات النيترات 331 مللي غراماً للتر الواحد.

ويشير التقرير إلى أن المستويات العالية من النيترات يمكن أن تتسبب في ظهور نوع من الأنيميا لدى الأطفال الرضع والمعروفة “بظاهرة الرضيع الأزرق.”

جهود قاصرة لمكافحة التلوث

في الجانب الزراعي، أظهرت الفحوص أنّ النفايات السائلة تلائم ري المحاصيل مثل الزيتون والتمور من دون أي آثار حساسة، في الوقت الذي تحتاج فيه الجوافة (التي تكثر زراعتها في تلك المنطقة) عناية إضافية للحد من الملوحة مثل مراجعة متطلبات الترشيح وتجنب المراحل الحساسة من زيادة الملوحة.

ويعد أهم معيارين يحكمان تطبيق النفايات الصلبة المعالجة لأغراض الري هما الطلب الحيوي-الكيميائي على الأوكسجين، ومجموع المواد الصلبة العالقة.

وبالإشارة إلى معايير منظمة الصحة العالمية والمعايير الفلسطينية المنصوص عليها في استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، وطبقاً لأنواع المحاصيل في المنطقة، فإن نتائج النفايات الصلبة تبين أن أرقام الطلب الحيوي على الأكسجين ومجموع المواد الصلبة العالقة من حيث المبدأ، شكلت نتائج مشجعة لري أشجار النخيل، حتى محاصيل الأعلاف مقارنة مع المعايير الفلسطينية التي أشارت إلى ضرورة وجود ما نسبته 45 إلى 60 ملغم في اللتر، وذلك في التحليل الذي استمر من يناير حتى يونيو 2011.

ووفق فحوصات مياه بلديات الساحل، فإنّ تركيز المادة العضوية وكميات المعادن الثقيلة في التربة أقل من المستوى المطلوب للاكتشاف، ما يعني أنّ نسبة الملوحة في التربة منخفضة، في المقابل كشفت تلك الفحوصات وجود ملوحة عالية في المياه، ما يُشير –وفق الفحوصات- إلى أنّ المياه في تلك المنطقة تؤثر سلبًا على النباتات وتقتلها كما تؤثر على صحة الإنسان الذي يستهلكها، فيما يؤدي –وفق سلطة المياه- استمرار ري المزروعات بتلك المياه لفترات طويلة إلى تدهور التربة وملوحتها.

بدوره، يؤكد مدير تطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي في مصلحة مياه بلديات الساحل فريد عاشور أنّ المصلحة بذلت عدة جهود لمنع وصول المياه المعالجة للخزان الجوفي، “لكن معارضة الاحتلال لإقامة محطة المعالجة شرق خان يونس، أجبرتنا على نقل المحطة في أقصى بعد موجود بالخزان الجوفي مقابل البحر مباشرة، وأصبح هناك عدة دلائل على وجود بعض الآثار السلبية والملوثات”.

الحل معلق بموافقة “اسرائيل”

ويؤكد مدير عام دائرة التربة والري بوزارة الزراعة نزار الوحيدي أنّ رفض الاحتلال إنشاء محطة مركزية ما بين مدينتي رفح وخانيونس شرقًا، “جعل المفاضلة صعبة واضطرننا لوضع المحطة غربًا، أي في منطقة المواصي، علما أنها لو وضعت شرقًا فسيكون الوضع أفضل لأنها منطقة بعيدة عن السكان ولن يتسبب تسرب مياه الصرف الصحي للخزان الجوفي حينها بمشاكل لأنه لا يوجد مياه عذبة في تلك المنطقة”.

ويُتابع “كنا أمام خيارين، إما أن نترك مياه المجاري بخانيونس ونقتل أطفالنا بعد انتشار الأمراض، وإما أنّ ننقلها غرب المدينة ونُفسد مياهنا الجوفية”.

ويضيف مدير دائرة التخطيط الاستراتيجي في سلطة المياه م. جمال الددح أنّ المشروع كان طارئًا وأنّ المؤسسات الوطنية المُشرفة عليه كانت مضطرة لتصريف المياه بهذا الشكل إلى أن يتم وصول المبالغ المقررة لإنشاء المشروع شرق القطاع ونقل كل محطات المعالجة شرقًا لتلافي الأمراض والمشاكل البيئة.

ويصل خانيونس –حسب الددح- 12 ألف لتر مكعب من مياه الصرف الصحي، “فلا يوجد مفر إلا أن نستخدم هذا الأمر بشكل طارئ إلى حين إنشاء المحطة الجديدة شرق المدينة (والتي تعترض عليها اسرائيل) باعتبارها حلا جذريا”.

اتضح لنا من التحري الميداني والمعلومات التي جمعناها أنّ مشروع إنشاء محطات المعالجة في منطقة المواصي جاء لدفع الضرر وليس لجلبه، لكن مشكلة الأحواض أو البرك التي تتجمع فيها مياه الصرف الصحي تتمثل في أنّها غير مبطنة بشكل جيد وبالتالي تتسرب إلى المياه الجوفية العذبة، وأنّ مياه المجاري غير المعاجلة تفيض على السكان بعدما تتشبع التربة.

وعندما واجهنا المسؤولين في البلدية وفي وزارة الزراعة بحقيقة أنهم لا يفعلون شيئاً للحد من عدم صلاحية البرك من ناحية التبطين أو من ناحية القدرة الاستيعابية، لم نجد لديهم اجابة شافية مكتفين بالقول اننا نعرف هذه الأخطار!

وقد بات واضحاً لكاتب هذا التحقيق أن اعتراض “اسرائيل” على إقامة محطة المعالجة شرق خان يونس، وتراجع المؤسسات الأجنبية عن دعمها المالي، واستمرار الحصار القائم على قطاع غزة، والزيادة السكانية المطردة ووجود برك المجاري وضعف جهود المعالجة للمياه العادمة، ستؤدي كلها إلى استمرار تسرب المياه السامة إلى المياه الجوفية التي يعتمد عليها السكان للشرب والزراعة.

وعليه، فان الكارثة الحقيقية تتمثل في اعتبار الحكومة والبلديات والمؤسسات الوطنية (المشرفة على فحص المياه والتربة في تلك المنطقة والتي أظهرت نتائج سلبية لكل حي في المنطقة)، أن خياراتها محدودة، وأن الجهود القائمة التي تبذلها لمكافحة تلوث الخزان الجوفي هو كل ما تستطيع القيام به في غياب ظروف سياسية مواتية.

وفي ظل تضاؤل الأمل في حل سريع للأزمة المتفاقمة يستمر تلاشي الأراضي الصالحة للزراعة في المنطقة، ويتلاشى معها حلم المواطنين في الحصول على كوب ماء نقي.

تم انجاز هذا التحقيق بدعم من شبكة (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية “أريج”) وبإشراف الزميل د. عبد الله السعافين


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *