صحيفة الوسط – المنامة- يتزاحم 72 عاملاً أجنبيّاً، غالبيتهم من الهند وآخرون من بنغلاديش، في منزل متهالك من منازل منطقة النعيم في المنامة. يتوزّعون على منزل ذي 7 غرف، 4 منها في الطابق الأرضي، و3 في الطابق الأعلى الذي تهدّم السلّم المؤدي إليه، فتمت الاستعاضة عنه بسلم خشبي لا يمكن لمستخدمه إلا أن يحبس أنفاسه صعوداً وهبوطاً لئلا يتهاوى به.
تزدحم الغرف التي تمتد على جدرانها الأسلاك الكهربائية المكشوفة، بأسرّةٍ بعضها بطابقين، وتستخدم الأسرّة السفلى لتخزّن تحتها صُرر ملابس مستأجريها وأواني الطبخ ومتعلقاتهم الحياتية البسيطة جدّاً. الأسرّة الموجودة لا تكفي عدد الساكنين، فبعضهم يؤجر السرير لمدة 12 ساعة في اليوم فقط نظير مبلغ أقل.
لم يوقفني أحد عند دخولي، ولم يسألني أحد من العمال من أكون، فبعضهم منشغل في إعداد الطعام على مواقد الكيروسين البدائية، والبعض الآخر في غسل الملابس في وعاء كبير، فيما وقف عدد من العمال ينظرون اليّ بفضول وريبة، إذ يعيشون جميعاً حالة متواصلة من القلق والخوف. المنزلُ الذي لا يوجد على بابه قفل؛ مؤجَّرٌ لأشخاص لا يعرفون بعضهم، فعلاقتهم فردية بالمؤجِّر، وهو – في الغالب – وسيط آسيوي يستأجر المنزل من مالكه البحريني، ويحوله إلى سكن للعمال ويؤجره بـنظام السرير.
الساكنون في هذا المنزل هم من العمالة السائبة، أو «الفري فيزا» كما هو متعارف على تسميتهم، والمقدر عددهم في البحرين بنحو 80 ألف عامل (أي خمس العمالة الكلية المقدرة بنصف مليون وافد. يقع غالبية هؤلاء ضحية تحايل مواطنين يستغلون ثغرات في قانون العمل وضعف الرقابة فيستقدمون عمالاً بتأشيرات ظاهرها من أجل العمل لدى المستقدم في شواغر وهمية في الغالب، وباطنها تسريح العمال ثم ربطهم بـ «أتاوات» سنوية. يتشارك في هذه التجاوزات «مرابون» في بلاد العمال الأصلية؛ الهند، الباكستان، بنغلاديش.
ووجد هذا التحقيق أن هذه الظاهرة في تزايد بسبب عدم كفاءة أجهزة الرقابة وخشية العامل من تقديم شكوى ضد الكفيل لأنه مكبل بالديون، وعليه أن يفي بما عليه قبل أن يفكر في العودة.
يعيش العمال السائبون ظروفاً غير إنسانية، وهم يصلون الليل بالنهار في أعمال غير مجدية ماليّاً لتغطية أتاوات الكفيل البحريني والوسطاء في بلادهم إلى جانب أفواه عائلاتهم الجوعى خلف البحار.
تتكرر هذه الظاهرة منذ ثلاثة عقود. ما أن يصل العامل يحتجز الكفيل جواز سفره ويسرّحه في سوق العمل، بعيداً عن المقصد الذي استقدمه من أجله. المحظوظ منهم من يحصل على عمل ثابت بنظام الساعات، فيما غالبية هؤلاء يجولون الشوارع بحثاً عن سبل رزق بسيطة وغير مضمونة، كغسل السيارات وبيع السلع والخدمات في الشوارع، من دون أي غطاء قانوني أو صحي أو عمّالي. فهم يُستقدمون بناء على وعود وإغراءات من أقربائهم واصدقائهم العاملين في البحرين، وقد دفعوا مبالغ طائلة حتى يستوفوا نفقات شراء التأشيرة وتذاكر السفر بالإضافة إلى عمولات الوسطاء، فهم كالدجاج الذي يتغذى على الفتات ويبيض ذهباً لكفيله!
سكن العمال ليس إلا وجهاً من جملة أوضاع غير إنسانية تتعرض لها «العمالة السائبة» في البحرين، فهؤلاء – وهم ضحية مزيج من الفقر والجهل والاندفاع بالرغبة في حياة أفضل – يكبلون أنفسهم ومستقبلهم باستدانة مبالغ مالية كبيرة نسبيّاً لشراء تأشيرة الدخول للبحرين أملاً في الخروج من دوامة الفقر في بلدانهم، ولا يعرفون أنهم إنما اشتروا قيودهم (ومشانقهم أحياناً) بأنفسهم، فيدخلون بالتأشيرة في دوامة وضع غير قانوني يُجبرون عليه منذ لحظة وصولهم المطار ومعرفتهم بأن لا عمل ينتظرهم، ولا كفيل حقيقيّاً يتولى مسئولية وجودهم، وأن عليهم تأمين الحياة لأنفسهم ولذويهم وتسديد ديونهم أيضاً.
فوق ذلك؛ تغلق دونهم أبواب العودة بعد وقوعهم تحت عبودية الدَّين الذي يتعاظم كلما طال أمد تسديده. يقبلون بحياة البؤس، وشظف العيش وقسوة العمل غير المضمون، كل ذلك عليهم أن يفعلوه بعيداً عن عيون المفتشين الرسميين. تشد كهذه الحبال على رقابهم مما يضطر العشرات منهم سنويّاً إلى إنهاء حياتهم انتحاراً، متدلين من السقوف والأشجار.
حجم العمالة السائبة
الرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم سوق العمل أسامة العبسي، يصنّف العمالة السائبة كالتالي: المسجلون على منشأة غير قائمة، من لم تجدد تراخيص عملهم في السوق المحلية، ومن أُلغي ترخيصه ولم يغادر.
وكشف مسح ميداني، أجرته الهيئة هذا العام، عن وجود فئة رابعة من العمالة السائبة تضم عدداً أكبر من أولئك المصنفين من قبل الهيئة، وهم عمّال ببيانات صحيحة قانوناً، إلا أنهم لا يعملون لدى الكفيل الأصلي المسجلين باسمه في السجلات الرسمية.
يقدِّر العبسي عدد الفئات الثلاث من العمالة السائبة بنحو 39 ألف عامل، فيما يؤكد نائب الأمين العام لاتحاد عمال البحرين، إبراهيم حمد، أن الفئة الرابعة (المقيمة قانونيّاً والمخالفة بعدم عملها لدى كفيلها الأصلي) يتجاوز عددها 40 ألف عامل.
وعلى رغم سلامة وضع الفئة الرابعة القانوني بالنسبة إلى الإقامة؛ فإنها تعتبر مخالفة في سوق العمل، ذلك لأن قانون العمل ينص على إلزامية أن يعمل العامل الأجنبي لدى كفيله.
ينفي العبسي ما يتردد في أوساط الناس من ارتباط ظاهرة «الفري فيزا» باختراق متنفذين لأجهزة إصدار تأشيرات الدخول وتصاريح العمل كما هو متداول في الأوساط العمالية، ويقول إن 78 في المئة ممن تم تعريفهم بالعمالة السائبة من الفئات الأربع استقدموا أصلاً للعمل لمؤسسات صغيرة الحجم ممن توظّف أقل من خمسة عمال.
فخُّ الجهل
تبدأ مشكلة العمالة السائبة في بلدانهم عندما يشترون تأشيرة الدخول الى البحرين بما معدله 1450 ديناراً بحرينيّاً (3836 دولاراً أميركيّاً)، وفي الغالب يستدين العامل هذا المبلغ الذي يعادل 8 الى 10 أضعاف مرتّبه الشهري الموعود. وعلى رغم وجود نص صريح في قانون هيئة تنظيم العمل البحريني يجرّم بيع التأشيرة على العمال الأجانب بحسب الفقرة(ج) من المادة (23) التي تنص على أنه «يحظر على أي شخص تقاضى أية مبالغ أو الحصول على أية منفعة أو مزية من العامل مقابل استصدار تصريح عمل بشأنه أومقابل استخدام هذا العامل أو استبقائه في عمله»؛ إلا أنه لا يوجد أي إثبات على تسلم هذه المبالغ في الاتفاقات التي تتم بين العامل والوسطاء، والتي يتم إبرامها من دون عقود ووثائق، ومعظم هؤلاء العمال لا يلتقون بكفيلهم الأصلي، فالوسطاء هم من يتكفلون باستكمال الإجراءات.
يقول المحامي أحمد الذكير: «إن هذا القانون ينص على عدم قانونية استقدام عامل أجنبي وتشغيله في غير العمل الذي استُقدم من أجله (المادة 23 البند ب) إلا أن ما نراه هو عدم الالتزام بذلك». ويشير الذكير إلى أن هذا النص يتيح ـ في رأينا ـ للسلطات العامة تقديم أصحاب العمل المخالفين الى المحاكم الجنائية بناء على ما قررته المادة (36) من القانون ذاته التي تنص على أنه «مع عدم الاخلال بأيه عقوبة أشد ينص عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر؛ يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تجاوز سنة وبالغرامة التي لا تقل عن مبلغ ألف دينار ولا تجاوز مبلغ ألفي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين؛ كل من يخالف أيّاً من أحكام الفقرتين (ب) و (ج) من المادة (23) والمادتين (28) و (30) من هذا القانون، وفي حالة العود تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز سنتين والغرامة التي لا تقل عن ألفي دينار ولا تجاوز أربعة آلاف دينار».
ويؤكد «في المحاكم تندر القضايا المرفوعة من قبل العمال على أصحاب العمل بسبب جلبهم ثم تركهم لتدبير معيشتهم، إما بسبب الجهل، أو لعدم الرغبة بسبب الحاجة إلى العمل والمال مادام العامل قد وقع، أو، وهذا يحدث كثيراً، أن يكون العامل على علم أصلاً بوضعه هذا، سواء بقانونيته أو عدمه، وأنه جاء من بلاده على هذا الإساس أملاً في فرص العمل الوهمية التي يتم إغراؤه بها من قبل الوسطاء الذين لا يهمهم سوى مبلغ العمولة الذي سيحصلون عليه من وراء هذه الصفقات».
ويعتبر استقدام العمالة الأجنبية وسيلة مربحة لبعض أصحاب السجلات (الكفلاء المرتقبين) ممن تمرسوا في التحايل على القانون باستيفاء متطلبات استصدار السجل التجاري، وهو أوّل الطريق لاستقدام العمالة. ويستفيد هؤلاء من سرعة الإجراءات التي تحرص هيئة تنظيم سوق العمل عليها تماشياً مع المناخ المشجع للاستثمار، إذ لا يستغرق استصدار تصريح العمل أكثر من أربعة أيام. وتبلغ رسوم السجل نحو 200 دينار بحريني عن كل عامين، كما كان تُفرض 10 دنانير شهريّاً عن كل عامل، وتم وقف هذا الرسم منذ يونيو/ حزيران 2011 بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي في ظل الأحداث التي تمر بها البحرين.
وفي المقابل؛ يحصل الكفيل (صاحب السجل) في المتوسط على 1450 ديناراً عن كل عامل لبقائه عامين في البحرين، وإذا رغب العامل في التمديد (وهذا ما يحدث غالباً) يقوم بدفع مبلغ 800 دينار (2116 دولاراً) من أجل تجديد بقائه لعامين آخرين.
فلو استطاع كفيل أن يجلب 100 عامل «فري فيزا» (ويقال إن هناك من لديهم المئات منهم) فإنه يتقاضى منهم لأول مرة 145.000 دينار بحريني (383.6 ألف دولار أميركي) من دون أن يبذل جهداً، ومن دون أن يغطي هؤلاء العمال بالتأمين الصحي والقانوني. وإذا ما أراد هؤلاء المئة أن يواصلوا العمل لعامين آخرين على أمل تسديد الديون وتحسين أحوالهم بالمزيد من العمل؛ فعليهم أن يدفعوا له مجدداً 80 ألف دينار (211.640 دولاراً أميركيّاً).
وتشير المؤشرات الاقتصادية الصادرة عن مصرف البحرين المركزي (مارس/ آذار 2012) إلى أن متوسط رواتب البحرينيين في القطاع الخاص يبلغ 7368 ديناراً سنويّاً (19.492 دولاراً أميركيّاً)، وفي القطاع العام يصل المتوسط إلى 8544 ديناراً سنويّاً (22.603 دولارات)، وبذا تكون المتاجرة بالبشر وأقدارهم أكثر ربحاً وسهولة.
وبحسب نائب الأمين العام لاتحاد عمال البحرين؛ فإن البعض لديه عشرات العمال المسرحين في السوق ولا يعرف عنهم سوى المبالغ المعلومة التي تصله منهم من الوسطاء. ولا توجد آلية لمتابعة مصير العمال فيما بعد وما إذا عملوا فعلاً في مؤسسات تابعة لكفلائهم إلا من خلال عملية التفتيش.
هذا جانب مما انتقده تقرير أصدرته وزارة الخارجية الأميركية بعنوان: «الاتجار بالبشر 2012» بالإشارة الى «أن وكالات التوظيف تجبر العامل على دفع مبالغ كبيرة للقدوم، وهذا يجعلهم أكثر عرضة للعمالة القسرية بسبب الضغوطات المالية التي يقيدون أنفسهم بها».
ويشار إلى أن غالبية هذه الفئة من العمالة الأجنبية لا تعلم شيئاً عن طبيعة العمل الذي ستلتحق به، ولا عن عقد العمل بينهم وبين كفلائهم. وبحسب التقرير الأميركي نفسه؛ فإنه – واعتماداً على معلومات من هيئة تنظيم سوق العمل؛ فإن «65 في المئة من العمالة الأجنبية لم يروا عقود عملهم قبل القدوم الى البحرين».
يؤكد ذلك مسح أُجري لهذا التحقيق على 22 عاملاً من العمالة السائبة من جنسيات هندية وبنغالية، حيث تبين أن معظم هؤلاء لم يكونوا على علم مسبق بالوضع الذي سيكونون عليه، فلقد جاؤوا بناء على إغراءات الكسب الوفير من قِبل أقرباء أو أصدقاء ربما حصلوا بدورهم على عمولة من وسطاء آسيويين يعملون لصالح كفلاء محليين.
مخالفون بالإكراه
منذ لحظة وصوله إلى البحرين، يتحوّل عامل «الفري فيزا» إلى «مخالف للقانون بالإكراه»، ويجب عليه تحمّل تبعات هذا الوضع غير القانوني، وإخفاء نفسه عن المفتشين العماليين، لأن اكتشافهم أمره يعني تعرضه للغرامة والسجن والترحيل.
سرينكات س. (هندي من «الفري فيزا»)، أتى قبل عامين ونصف العام؛ يجوب الشوارع يوميّاً لغسل السيارات، يقول إنه لا يعرف كم عليه أن يعمل كي يفي بالديون التي خلّفها في بلاده والتي تتضاعف فوائدها بسبب تأخره في السداد.لا توجد لدى س. بطاقة سكانية فلا يمكنه الذهاب إلى المراكز الصحية عند المرض ويقول: «أعرف أن وضعي غير قانوني، لكن لا أعرف التفاصيل، كل ما أعرفه أنني يجب ألا أقع في يد الشرطة. عندما أقرر العودة، سأسلّم نفسي، وأقدم بلاغاً ضد كفيلي لاستعادة جواز سفري، وليس لدي مانع من دفع غرامة الإقامة غير القانونية، فقد يكون كفيلي قد قدم بلاغ هروب في حقي كي لايحمّل نفسه المسئولية». ويفرض القانون غرامة قدرها 10 دنانير عن كل عام من الإقامة غير القانونية. والتكلفة التي يتحملها الكفيل حينئذ هي قيمة تذكرة العودة فقط.
احتجاز جواز السفر
تبدأ معاناة العمالة السائبة بتجريد العامل من جواز سفره بمجرد وصوله، على رغم تحريم ذلك دوليّاً، وعلى رغم أن القضاء البحريني يصدر أحكاماً بأن جواز السفر وثيقة شخصية ويحكم دائماً لصالح تسليمها للعامل إلا أن المشكلة تكمن في التنفيذ، مع وجود معوقات لغوية وطبقية يعاني منها المتضررون من العمالة.
ويضع احتجاز الجواز العامل تحت عبودية الكفيل، ويحرمه من الاستفادة من قانون تغيير الكفيل لو تمكن من الاتفاق مع كفيل آخر يضفي الصفة القانونية على وجوده، ويكفل له دخلاً ثابتاً. وحتى لو قرر العامل العودة إلى بلاده بعد انتهاء مدة عقده؛ فإن معظم الكفلاء يطالبون العامل بدفع 500 دينار لاسترجاع جواز سفره.
رانا ج. شاب بنغالي، من العمالة السائبة، رفض كفيله إعطاءه الجواز عندما أراد العودة ليرى والده الذي كان يحتضر، ورفض كفيله أيضاً منحه الموافقة لكي يعمل لدى كفيل آخر على رغم مرور 18 شهراً على دخوله البحرين، مع أن القانون يسمح للعامل بتغيير الكفيل بعد مرور عام على تأشيرة الدخول. تبنت جمعية حماية العمالة الوافدة، قضيته لحل هذه المشكلة، واضطرت عضو اللجنة التنفيذية للجمعية، ليز زالي، وعلى مدى ثمانية شهور إلى الذهاب مرات عديدة إلى مراكز الشرطة، وإلى النيابة العامة، والتقت وكيله الذي كال السباب والشتم لكل من رانا والكفيل المرتقب. وبعد عدة جلسات أمام القاضي، تمكن رانا من الحصول على وثيقة سفر مؤقتة (ورقة مرور للخارج) وذلك لإنكار كفيله حيازته الجواز.
إنها واحدة من القصص التي تشير إلى صعوبة الأمر لو أراد العامل الشكوى بنفسه، وبإمكانياته الشخصية المحدودة، يضاف إليها صعوبة التواصل اللغوي. مع العلم أن هذه الفئة لا يمكنها اللجوء لتقديم بلاغات الشكوى بسبب عدم قانونية تواجدها أصلاً. فالحالة الوحيدة التي يتوجهون فيها الى الجهات الأمنية للشكوى؛ هي عندما يصبح قرار العودة الى بلادهم هو آخر الدواء.
تقول المحامية مها جابر، إن احتجاز جواز السفر يعتبر من المشاكل الرئيسية التي تعاني منها العمالة الأجنبية، وإن الوضع يتفاقم مع العمالة السائبة بسبب هشاشة وضعهم المخالف للقانون، وخوفهم من أن يتم القبض عليهم وإيقاع العقوبة.
وتشير جابر إلى قضايا عمالية يومية تُنظر في المحاكم، فالقانون يمنح فسحة للكفيل البحريني للمراوغة في تسليم الجواز. إذ يستغرق الأمر ما بين ثلاثة وستة أشهر، وهي مدة طويلة بالنسبة إلى العامل بكل المقاييس إذا ماسلك سبل الشكوى القانونية، وفي نهاية المطاف: إما أن يمتثل الكفيل لقرار المحكمة بإرجاع الجواز، أو أن يدّعي أنه فقده، وهنا فقط يستطيع العامل اللجوء الى سفارته لاستصدار وثيقة سفر مؤقته يعود بها إلى بلاده، وفي كل الأحوال لا تطبق أية عقوبة على الكفيل لجلب العمالة السائبة أو احتجاز الجواز!
تؤكد معاناةَ العمال السائبين من مراوغة الكفلاء؛ أرقامُ استصدار وثائق السفر لمرة واحدة من سفارتي بنغلاديش والهند. فبحسب القنصل البنغالي لدى البحرين حسن مهدي؛ فإن سفارته تصدر ما بين 80 و90 وثيقة مرور لمرة واحدة شهريّاً، أي نحو 1000 وثيقة سنويّاً. ومثله المسئول العمالي في السفارة الهندية س. سانتوش الذي ذكر أن سفارته أصدرت 917 وثيقة مرور في 2011، وخلال العام الجاري، أصدرت 502 وثيقة، مشيراً إلى أنه عندما طرحت الحكومة مبادرة تسهيل خروج العمالة المخالفة في 2010 ارتفع هذا العدد الى 2400 وثيقة.
ضيق الرزق
يكتشف غالبية أفراد العمالة السائبة أنهم بعد استيفاء التزاماتهم المالية يعودون إلى نقطة الصفر من جديد بعد مرور سنتين، وهي مدة التأشيرة والعقد أيضاً، وربما أقل منها لو هم أبطأوا لهاثهم اليومي للكسب. فبحسب مسح لمعرفة جدوى تحمل أعباء هذا الوضع بالنسبة إلى العمالة السائبة، يتضح أنه باقتطاع تكاليف القدوم والمصروفات الحياتية لهذه العمالة من معدل إجمالي الدخل؛ لن يتجاوز معدل صافي ما يتبقى لإعانة أسر العمال في بلدانهم 53 ديناراً (140 دولاراً) ، وبعدها إما أن يقرر العامل البقاء ويشتري تأشيرة بقائه بقيمة 800 دينار (2116 دولاراً) ، أو يقوم بدفع 500 دينار(1323 دولاراً) لكفيله الأصلي من أجل استرجاع جوازه، وفي هذ الحالة ينخفض معدل صافي دخله الشهري الى حوالي 20 ديناراً (52 دولاراً) لو قرر البقاء وشراء تأشيرة عامين اضافيين، وإلى 32 ديناراً (85 دولاراً) لو قرر استرجاع جوازه والعودة إلى بلاده!د وبذلك يعود العامل في كل الحالات إلى الوضع الذي كان عليه قبل القدوم للعمل في البحرين، وفي حالات يعجز العامل عن تغطية كل أعبائه فيلجأ بعضهم إلى مواصلة الهروب، وأحياناً يقرر أن يكون الهروب نهائيّاً، فيضع حدّاً لحياته بالانتحار. فقد تفاقمت حالات الانتحار خلال السنتين الأخيرتين، مع تصاعد وتيرة الأحداث السياسية وتأثيرها السلبي على الاقتصاد. إذ أعلن انتحار 50 عاملاً أجنبيّاً على الأقل خلال العام الجاري (2012) عن طريق جمع أخبار حوادث الانتحار بين العمالة الأجنبية المنشورة في الصحف المحلية، في مقابل 22 عاملاً في 2011.
ويؤكد تأثير الوضع الاقتصادي على العمال، محمد رفيق، وهو بنغالي يعيش في البحرين منذ 20 عاماً ويدفع لكفيله البحريني 60 ديناراً شهريّاً في مقابل تأشيرة وسجل تجاري لمحل بقالة صغير في منطقة القفول القديمة: «أصبح الوضع صعباً منذ نحو العامين (تزامناً مع التوترات السياسية)، فلم تعد هناك تعاملات كما في السابق… أصبحت أخسر كثيراً، فزبائني، وغالبيتهم من العمال، لم يعد بإمكانهم الوفاء بقيمة مشترياتهم بالدَّين كما كانوا في السابق، فمعظمهم خسر عمله أو أصبح يكسب أقل من السابق».
أصل الخلل
وعلى رغم قِدم مشكلة العمالة السائبة التي بدأت منذ الثمانينات، وعلى رغم تبعات أبعادها الإنسانية والاقتصادية وحتى الاجتماعية السلبية على العمال أنفسهم وعلى المجتمع المحلي، إذ تكثر شكاوى الأهالي في الصحف من وجود بيوت للعمالة الآسيوية في أحيائهم وهم عزاب؛ فإن عوامل عدة تتضافر لتجعل حلّها أمراً صعباً، وأبرزها وأكثرها تأثيراً، الخلل الأساسي وهو في تطبيق قانون العقوبات. ففي حين يجرّم قانون العمل المُتاجرة بالعمالة الأجنبية كما يجرم من يقوم بتشغيلها فيما بعد من دون أن تكون تحت كفالته، وأيضاً يُجرّم العامل نفسه؛ إلا أن التفتيش لا يطبق إلا على من يشغّل العمال (السائبين) فيما بعد، ويترك أمر الكفيل الأصلي حتى يصل الأمر إلى ترحيل العامل الأجنبي فيكون عليه تحمل تكاليف إعادة العامل إلى بلاده.
وفي مقابل ذلك يطبق القانون على من يشغّل العامل الأجنبي منه دون أن يكون تحت كفالته، وتتم معاقبته بالغرامة والسجن بحسب ما تنص عليه الفقرة (ب) من المادة (23) من قانون هيئة تنظيم سوق العمل: «يحظر على صاحب العمل استخدام عامل أجنبي من دون صدور تصريح عمل بشأنه». وتتصاعد العقوبة بتكرار المخالفة. كما يجرّم القانون أيضاً العامل نفسه بالغرامة والسجن والترحيل بحسب الفقرة (ب) من المادة (36). مع أن العامل ضحية إما لجهله بوضعه المخالف الذي وجد نفسه فيه، أو لأنه أُجبر على هذا الوضع بسبب الأغلال المادية التي قيّد نفسه بسبب الجهل.
ونبّه إلى هذا البند الأخير التقرير الأميركي الخاص بـ «الاتجار بالبشر2012» الصادر عن الخارجية الأميركية، والذي أوصى بعدم مخالفة العمال نتيجة ارتكابهم أعمالاً غير قانونية اضطروا إليها بسبب تعرضهم للاتجار بالبشر، مثل الدعارة أو وقوعهم تحت فئة العمالة السائبة».
ولفت التقرير الى «أنه لا يوجد لدى الحكومة أي إجراء نظامي لتعريف هؤلاء عندما يتم القبض عليهم، مستنداً الى مؤشرات ضعف الوعي بجرائم الاتجار بالبشر».
وذكر التقرير أيضاً أنه «على رغم دعوة الحكومة للعمال للمشاركة بالإبلاغ عن حالات المتاجرة بالبشر، فإن هؤلاء يحجمون عن ذلك بسبب عدم الثقة بالنظام القانوني بالإضافة الى الخوف من تعرضهم للمزيد من سوء المعاملة من قبل كفلائهم».
تأتي بعد ذلك عوامل مساعدة أخرى على نمو هذه المشكلة وصعوبة محاصرتها. إذ يرى القنصلان البنغالي والهندي، صعوبة بالغة في نشر الوعي، وفي تحديد حجم العمالة السائبة من كلا البلدين.
وفي السياق نفسه؛ يشار إلى أن حجم جهاز التفتيش يكشف عن تراخ كبير في تتبّع العمالة السائبة إذ لا يزيد عدد المفتشين التابعين إلى هيئة تنظيم سوق العمل على 56 مفتشاً مع نية زيادتهم إلى 75 مفتشاً، بحسب العبسي، ولا يزال العدد متواضعاً عند العلم بأن عدد المؤسسات العاملة في السوق يصل الى 133 ألف مؤسسة، أي بنسبة مفتش واحد لكل 2375 مؤسسة.
كما أن آلية التفتيش المتبعة حاليّاً، بحسب العبسي، تمنع تتبع أفراد العمالة السائبة، على رغم معرفة أماكن تواجدها وسكنها. إذ لا يتم التفتيش إلا على المؤسسات وليس على الأفراد. كما يجب عند التفتيش تواجد ممثلين عن ثلاث جهات هي: هيئة تنظيم سوق العمل، البلدية، بالإضافة إلى أفراد من الأمن. ويلفت العبسي أيضاً إلى صعوبة إيواء عدد كبير ممن يتم تتبعهم والقبض عليهم من «العمالة السائبة» قبل أن يتم استكمال إجراءات ترحيلهم، إذ لا يتسع مركز الإيواء التابع إلى وزارة الداخلية لأكثر من 30 شخصاً.
وبحسب هذا الوضع الحالي؛ فإنه لو افترضنا فعالية التفتيش بالقبض على30 عاملاً مخالفاً يوميّاً وإيواءهم بعد التأكد من ضبط تدفق العمالة السائبة، فذلك يعني القبض على 7440 عاملاً من العمالة السائبة في السنة (248 يوم عمل)؛ فإن عملية إخلاء السوق من هذه العمالة سيستغرق حوالي10.7 سنوات! هذه الحسبة تستثني الأوضاع الإنسانية والأحاسيس المضطربة، والمصائر التي يلقاها العامل عند عودته إلى بلاده صفر اليدين، خاسراً ماله وسنيّ عمره، وقد تراكمت عليه الديون.
تواطؤ المجتمع
ومع الأخذ بالظروف الإنسانية التي تمر بها العمالة السائبة؛ إلا أنها تعتبر خياراً جيداً بالنسبة إلى المجتمع، إذ إن هذه العمالة تطرح نفسها في سوق العمل بأسعار رخيصة جدّاً لا تقارن بأسعار خدمات الشركات التي تطبق القوانين بحذافيرها، وتؤمّن العامل، وتوفر له مسكناً وبعض الخدمات الأساسية. فالمجتمع مستفيد من وجود العمالة السائبة لأعمال الإنشاءات والبستنة وغسل السيارات والنقل وغيرها من الأعمال المؤقتة في الغالب التي لا تحتاج إلى المهارات العالية وتتقاضى أجوراً بخسة.
مخارج بضيق الإبرة
لا توجد في الأفق حلول تبدو قادرة على محاصرة مشكلة العمالة السائبة، فالأمر بحاجة إلى الصرامة في التناول من الجهات الرسمية في كل من البحرين وبلدان تصدير العمالة.
وتنظر أطراف مشكلة العمالة السائبة الى الحل من بعدين مختلفين. الأول إنساني وحقوقي بهدف حماية العمالة السائبة من جهلها، ومحاولة الوصول إليها قبل وقوعها في سراب الحياة الرغيدة بالعمل في البحرين. والثاني، رغبة السلطات المحلية في التخلص من هذه المشكلة التي تسبب خللاً في بنية سوق العمل نظراً إلى انخفاض كلفتها بالنسبة إلى أرباب العمل واستعدادها للقيام بأية أعمال توكل إليها ولساعات عمل تتجاوز ما ينص عليه قانون العمل لعدم انضوائها تحته أصلاً، وبالتالي فهي تفاقم مشكلة البطالة بين البحرينيين، إذ تتفوق هذه العمالة في ميزة الكلفة المنخفضة بسبب حاجتها الماسة إلى المال، هذا عدا الآثار الاجتماعية التي يفرزها هذا الوضع غير الإنساني للعمالة السائبة في البلاد. وتبلغ نسبة البطالة رسميّاً في البحرين 4 في المئة بحسب هيئة تنظيم سوق العمل، إلا أن مصادر الاتحاد العام لعمال البحرين تشير إلى نسبة بطالة لا تقل عن 12 في المئة.
وتقع مسئولية البعد الأول على بلدان هذه العمالة التي عليها أن تبحث في سبل توعية رعاياها بالوضع الحقيقي الذي ستقبل عليه أو ضبط قانونية قدومها من أجل أعمال محددة ولكفيل محدد، كما فعلت سفارة بنغلاديش منذ ثلاثة أعوام في محاولة لضبط قدوم العمالة، وهو فرضها تسلّم خطاب من الكفيل المرتقب يثبت أن العامل الذي هو بصدد استصدار تأشيرة قدوم له سيعمل تحت كفالته. إلا أن هذا النظام فشل في محاصرة المشكلة بشكل تام. يقول القنصل مهدي: «لا يمكنني القول إن هذا النظام أثبت فعالية فارقة، فلاتزال هناك إمكانية استقدام العمال للعمل، كما لا يوجد ما يمنع من أن يقوم الكفيل بتسريح هؤلاء العمال بعد الحصول على موافقة السفارة واستصدار التأشيرة».
وقبلها فرضت السفارة الهندية شروطاً على استقدام العمالة من الهند من بينها فرض راتب شهري بقيمة 100 دينار على الأقل، وإيداع مبلغ 1000 دينار في السفارة عند التقدم بطلب العمال من الهند، إلا أن هذا النظام لم يمكّنها أيضاً من ضبط تدفق العمالة القادمة باتفاقات مباشرة مع الكفلاء أو وسطاء العمالة في البحرين.
وفي محاولة لتخفيف ضرر حجز الجواز يقترح القنصل البنغالي، إنشاء «بنك للجوازات»، يتم إيداع جوازات العمالة الأجنبية في البحرين فيه بحيث تكون متوافرة للعامل وللكفيل في وقت الحاجة إلى استخدامها. أما العبسي، الذي يأمل في الموازنة بين تسهيل استصدار التراخيص العمالية تماشياّ مع «البيئة الصديقة للاستثمار» التي تروج لها البحرين، وبين محاصرة المشكلة التي تسبب خللاً في بنية سوق العمل من جهة وتعرض هذه العمالة لأوضاع عمالية وحياتية سيئة؛ فإنه ينوي طرح اقتراح إلزام أرباب العمل بفتح حسابات مصرفية للعمالة الواقعة تحت كفالتهم لضبط عملية تحويل مخصصات هذه العمالة، وللتأكد من سلامة نوايا الكفلاء بتشغيل هذه العمالة فعلاً تحت كفالتها.
بين تجاهل المسبب الحقيقي لمشكلة العمالة السائبة وهو الكفيل الأصلي، وضعف الأجهزة الرقابية، وبطء النظام القضائي في التعامل مع مشاكل العمالة السائبة، وبين صعوبة ضبط الدول المصدرة للعمالة لتدفق عمالتها من دون ادراك لما هي مقبلة عليه؛ لا يزال تدفق العمالة الأجنبية مستمرّاً بالمعايير نفسها التي تُوجد عمالة سائبة في السوق، ويدفع أفرادها وحدهم كلفة جهلهم الباهظة ماديّاً وإنسانيّاً فيدخلون في دوامة من الشقاء والتنازل عن الكثير من الاعتبارات الحياتية والإنسانية التي قد توفر لبعضهم ولأسرهم حياة أفضل مما هي عليه في بلدهم الأصلي، لكنها بالتأكيد تضعهم تحت عبودية الحاجة لتسديد ثمن الجهل أولاً.
Leave a Reply