مهاب زيدان، مهند هادي-
الحياة- سيوف خشبية وبنادق بلاستيكية، عصائب سود تحمل شعار «أشبال الدولة الإسلامية»، تلك بعض معلقات بقالة «ابن تيمية» في قرية القشلات، الواقعة في ريف حلب الشرقي الخاضع لسيطرة تنظيم «داعش». تعرض هذه البقالة التي افتتحت بعد أن فرض التنظيم على القرية في نهاية كانون الثاني (يناير) 2014، هريسة ومشروبات غازية إلى جانب قمصان سود وسراويل قصيرة فضفاضة، يرتديها أفراد التنظيمات الإسلامية، تمثلاً بنهج السلف.
وفي الجهة المقابلة مدرسة ابتدائية تحمل جدرانها بقايا شعارات لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم وعلى تلك الشعارات رسمت كلمة «حرية» بطلاء بخاخ أخضر، ويبدو أنها رسمت بيد مرتجفة وتعود لزمن كان يكتب فيه المعارضون شعاراتهم سراً تحت جنح الظلام وبأنفاس مكتومة، ثم طليت فوقها عمداً عبارة «الدولة الإٍسلامية» ببخاخ أسود.
بموازاة هذه الشعارات المتضاربة، يتلقى طلاب القرية والقرى المجاورة مناهج تعليم متباينة تتماشى مع عقيدة الفصيل المهيمن فيها. غالبيتها تحمل أفكاراً إقصائية تحرض على «الجهاد والتضحية في سبيل الله»، على حساب العلوم والرياضيات.
وتتناقض هذه المساقات المرتجلة مع محتوى المنهاج الموحد الذي كان سائداً – بحسناته وسيئاته – أثناء سيطرة النظام السوري على كل أراضي الدولة، قبل اشتعال الثورة في ربيع 2011. أولى صفحات الكتب «المعدومة» كانت تحمل كلمات محددة وثابتة لا تقبل التغيير مهما طرأ على المناهج من تعديلات: «الجمهورية العربية السورية»، ثم «وزارة التربية والتعليم»، التي تعتمد في بناء مناهجها على لجان تستند إلى دراسات وأولويات تحدّد هويّة الطفل الوطنية والدينية وتقوّم سلوكه، وفق معايير السلطة الحاكمة.
في موازاة تعدّد المناهج وتضارب مضامينها، يتسرّب آلاف الطلاب من المدارس بفعل التهجير القسري، وتفكّك الأسرة، والعوَز وانهيار منظومة التعليم نتيجة تدمير مئات المدارس ونقص المعلمين. منظمة «أنقذوا الأطفال» (save the children) البريطانية تقدّر عدد الأطفال خارج نظام التعليم بثلاثة ملايين، أي أكثر من نصف أطفال سورية مقارنة بآخر إحصائية قدمتها وزارة التربية السورية عام 2012 والتي أحصت خمسة ملايين ونصف مليون طالب في مختلف المراحل، إلا أن إحصائية منظمة «أنقذوا الأطفال» المنشورة في 18-9-2014 وضعت سورية في المرتبة الثانية على سلم عدم التحاق الأطفال بالمدارس.
والأسوأ من التسرب، هو التحاق التلاميذ بمدارس عشوائية تدرّس مناهج مفصّلة على مقاس الفصائل المتناحرة، إذ يواجهون الجهل، والتطرف وتمييع الهوية الوطنية، فضلاً عن مستقبل مغلق. ذلك أن تعليمهم يتوقف عند مرحلة المدارس الفصائلية، غير المعترف بشهاداتها كشرط للقبول في الجامعات.
وبدا جميع التلاميذ الذين تمّت مقابلتهم مشتتين ولا يملكون رؤية واضحة تتيح لهم الإجابة فور طرح السؤال، وكانوا يستغرقون وقتاً من الزمن ليجيبوا عن الأسئلة.
فسورية تخضع حالياً لتقسيمات لا تفصلها حدود وإنما سلطات تتنوّع وفق فصائل عسكرية مختلفة حدّدت بنفسها شكل الكيان وهويته الدينية وفق رؤيتها. وعليه، تمّ اختيار أربع مناطق تخضع لسيطرة فصائل عسكرية مختلفة وطرح سؤال محدد على التلاميذ في مرحلة التعليم الأساسي هو «ما اسم وطنك»؟
الرحلة إلى قرية القشلات
وسيلة النقل لم تكن سيارة عمومية أو خاصة بل دراجة نارية. فهي لا تخضع للتفتيش على حواجز التنظيم ولا يشتبه بركابها.
وقد رتّب معدا التحقيق موعداً مسبقاً مع عائلة في قرية القشلات – ذات الثلاثة آلاف نسمة – أبدت تعاونها شرط إخفاء هويتها خوفاً من رد فعل التنظيم. وبدا الأمر أكثر سهولة بحكم المعرفة المسبقة.
وتقول أم محمد وهي والدة لطفلين، معاذ في الصف السادس وأيمن في الصف الأول، إن ابنها معاذ درس منهاج النظام قبل أن تشطب المعارضة السورية غير الإسلامية مادة القومية وكل ما يتعلق بالنظام السوري. ولم تلاحظ أن المنهاج أحدث تغييراً في طريقة تفكير ابنها أو سلوكه، لكن الأمر اختلف عقب سيطرة تنظيم «داعش»، إذ تحوّل هدفه من أن يغدو «طبيباً إلى مجاهد».
لم يعد معاذ يرسم علم سورية أو يلعب كرة قدم في الحي. ألعابه المفضلة بنادق بلاستيك وسيوف خشبية. «شاهدته ذات مرة يصرخ بوجه صديقه أثناء اللعب: سأقيم عليك الحد»، تقول أم محمد، في إشارة إلى قواعد التنظيمات الإسلامية الشرعية.
وتواصل السيدة حديثها بحسرة وهي تنظر إلى أيمن ابنها الأصغر: «أفضّل أن يترك أيمن مقاعد الدراسة حتى تستقرّ الأوضاع على أن يصبح سلوكه كسلوك شقيقه معاذ».
«دولة الخلافة الإسلامية» يقول معاذ ثم يكمل جملته بـ «أمرة الخليفة أبو بكر البغدادي»، رداً على سؤال: ما اسم وطنك. فمعاذ لا يعترف بسورية ويرى «الديموقراطية كفر بواح والحكم لله».
معدا التحقيق تمكنا من دخول إحدى المطابع الخاصة بتنظيم الدولة الإسلامية بطريقة غير رسمية، ووثقا بالصور البطاقة المدرسية التي تظهر أسماء المواد المعتمدة في مناهج التعليم الأساسي، المطبعة ليست بالحديثة وهي عبارة عن طابعات متنوعة الأحجام تعود ملكيتها لدوائر رسمية لمؤسسة الخدمات الفنية والبلدية كان استولى عليها التنظيم.
ويتلقى المعلمون في ظل حكم «داعش» دورة شرعية» (وثّقها المعدّان بالفيديو) لدى «ديوان التعليم». وحلّت شعارات يلقّنها التنظيم لتلاميذه في شكل يومي قبل بدء الحصص الدراسية، مكان شعارات حزب البعث ومنظمة طلائع البعث المعتمدة في المدارس الحكومية.
فينادي أحد عناصر التنظيم ليردّ خلفه التلاميذ بالعبارات التالية:
«شبابنا هيا إلى المعالي .. هيا اصعدوا شوامخ الجبال
فليسقط المستكبر العنيد .. فليسقط المستكبر العنيد
غداً غداً نحكم شرع ربنا ويسقط الطاغوت الكفور
تكبير .. الله أكبر»
أما تحت نظام البعث فكانت الشعارات الحزبية وطلائع البعث هي ما اعتاد التلاميذ ترديده، وتقول:
«أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافنا: وحدة حرية اشتراكية، رفيقي الطليعي كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي والدفاع عنه، عروبة … بعث».
«روج آفا» دولة غرب كردستان
على بعد أكثر من 90 كيلومتراً من قرية القشلة يقع «كانتون عفرين»، حيث تسيطر وحدات حماية الشعب الكردية على بقعة جغرافية شكلت عليها دويلة «روج آفا» وتعني بالعربية غرب كردستان، ويعرف تقسيمها الأصغر بـ «الكانتون». كان الأمر مشابهاً إلى حد كبير بما يدور في المدارس الحكومية من حيث الشكل؛ «صور عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني – المعتقل منذ شباط (فبراير) 1999 في جزيرة إمرالي التركية في بحر مرمرة – والعلم ذو النجمة الحمراء الذي يتخذه الحزب شعاراً له، وشعارات مكتوبة على الجدران باللغة الكردية». حلّت تلك الصور مكان صور الرئيس السوري بشار الأسد وشعارات حزب البعث، لأن قوات الحماية الكردية المسيطرة على كانتونات «روج آفا» تعدّ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
وكان الحصول على إذن رسمي من «الأسايش»، السلطة الأمنية المحلية في كانتون عفرين التابع لريف حلب أشبه بالمستحيل لاعتبارات أمنية. لذلك لم يكن ممكناً التحرك بسهولة، فكان الخيار الأنسب اختيار عيّنة عشوائية.
وقع الاختيار على تلميذ في الصف الرابع التقيناه أثناء خروجه من مدرسته بعد انتهاء الدوام الرسمي. سألناه عن عنوان وهمي لتبرير إيقافه، ثم عن اسم بلده، فأجاب بصوت مرتفع: «روج آفا».
تعلم تلك المدرسة باللغة الكردية غير المعتمدة في المدارس السورية الرسمية أو في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل الإسلامية أو المعارضة السورية. وألغت أيضاً من مناهجها كل العبارات التي تحمل اسم «الجمهورية العربية السورية» واستعاضت عنها بــ «روج آفا»، كذلك ألغت مادّتي التربية الوطنية والدينية المعتمدتين في المنهاج السوري الحكومي.
في منتصف حزيران (يونيو) 2015، أقرّ مؤتمر التربية للمجتمع الديموقراطي الأول في أكاديمية جلادت بدرخان في مدينة القامشلي شمال شرقي سورية سلسلة قرارات تخص نظام التربية والتعليم. تمحورت تلك القرارات حول أن قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان هو رمز يمثل جميع المكونات في «روج آفا» والشرق الأوسط، وأن التدريب والتدريس في مدارس «روج آفا» سيعتمدان على أسس فلسفة وفكر «قائد الشعب الكردي» عبد الله أوجلان.
وأقرّ مؤتمر التربية للمجتمع الديموقراطي الأول المواد التعليمية في مدارس «روج آفا» لمرحلة التعليم الأساسي.
وتتكوّن الحلقة الأولى من قواعد وأدب اللغة الأم، الجغرافية، الثقافة والأخلاق والبيئة، تاريخ كردستان والمنطقة والعالم، علم المرأة، الرياضيات، العلوم، الصحة، لغة شعب من مكونات المنطقة، لغة أجنبية، الفن، الموسيقى، الرسم، الفولكلور، المسرح والرياضة.
وتضمّ الحلقة الثانية اللغة الكرديّة، العلوم الاجتماعية مع الثقافة والتاريخ والأديان السماوية، الرياضيات، العلوم، الرياضة، الرسم، الموسيقى، دروساً مرئية مثل الأفلام والمسرحيات.
«الجمهورية العربية السورية»
من منظورين
في منطقة حاس، جنوب إدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، ألغيت مادة القومية وأزيل كل ما يتعلق بالنظام السوري من بقية المواد. واستبدلت بأبنية المدارس ملاجئ بسبب القصف المستمر، فالتوقف عن التعليم يعني «إطلاق عقارب الساعة إلى ما لا نهاية»، كما يقول المدرّس يوسف الذي رافقناه إلى إحدى المدارس.
«ثمانية صفوف لمختلف الأعمار وسقف يرتفع مترين عن الأرض. لا نوافذ لدخول الهواء أو أشعة الشمس، فالظروف الصحية ليست مهمة بقدر السلامة من شظايا البراميل والقنابل. الدخول إلى المدرسة يتطلّب المرور بمنحدر مقسّم على شكل درجات تتجاوز العشر وخطرة الانزلاق، ولكنها بالنسبة إلى معدّي التحقيق، أمام الطريق الوعر الذي سلكاه من أعزاز مروراً بالأتارب ورام حمدان والمعرة ووصولاً إلى حاس، فكانت «مشواراً خفيفاً أشبه بنزهة». وقع الاختيار على عبود؛ تلميذ في الصف الرابع يعدّ من التلاميذ المتوسّطي التقويم، كما يصفه المدرس يوسف.
«ما اسم وطنك»؟ يجيب عبود: «الجمهورية العربية السورية». ثم ماذا بعد؟ فيجيب: «لا أدري». يتبعهما سؤال: «هل تريد قول شيء آخر شيء تعلمته عن سورية واسم منظمة تنتمي إليها وما شابه ذلك»؟ فيومئ برأسه مبتسماً: «لا». الأسئلة نفسها وجهت إلى تلميذين آخرين، لكن النتيجة كانت مشابهة وجوهر الأقوال واحد لم يتغير.
يفسّر يوسف الحال بأن معظم دوائر التعليم اتفقت على تحييد العملية التعليمية عن الأوضاع السياسية. «فالقيمة العلمية هي الغاية والاعتراف بالشهادات هو الهدف وذلك لا يتحقق إلا ببعض التنازلات من الطرفين والجميع راضٍ عن ذلك».
السلسلة لم تنته بعد ولأجل ذلك الهدف كان لنا موعد آخر في ريف حلب مع الدكتور يونس، الذي أرسل زوجته وأولاده الى دمشق ليكمل أولاده الدراسة «وفق مناهج معترف بها رسمياً»، معللاً سبب التحاقهم بمدارس تعتمد منهاج وزارة التربية والتعليم الحكومية.
توقيت الزيارة ترافق مع عطلة نهاية الأسبوع وعودة أولاده للتو من العاصمة. ولدى تكرار السؤال على أحمد – التلميذ في الصف الرابع- جاءت اجابته مشابهة: «الجمهورية العربية السورية»، لكنه يضيف عليها تلقائياً شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». ولم يفصل بين اسم الوطن وتلك الشعارات وكأنها مدمجة في قالب واحد، ليتبعها بعبارة: «بقيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد»، الذي خلف والده الراحل على رأس الدولة عام 2000.
تنظيم الدولة الإسلامية الأكثر تأثيراً
أبو نزار مدرس قارب سن التقاعد. كان أبو نزار (ورفض الكشف عن هويته لأسباب أمنية) – أحد المعلمين الذين استعانت بهم وزارة التربية في تعديل المناهج في دمشق في الموسم الدراسي 2007 – 2008، ثم تم تجريبها في عدد من المدارس عام 2008 – 2009، واعتمدت وعمّمت على كل الصفوف والمدارس عام 2010 – 2011». وكان أبو نزار امتهن التعليم خلال ثلاث محطات مرّت على ريف حلب الشرقي؛ تحت سيطرة النظام السوري وبعدها المعارضة ومن ثم تنظيم الدولة الإسلامية. في مكتبته المنزلية كتيّبات توجيهية وزّعها التنظيم في «دورة شرعية» أجراها للمعلمين.
يغيب بضع دقائق ثم يعود حاملاً (كرتونة) صغيرة، ليخرج منها دفتراً مغبراً ومجلداً ببلاستيك أخضر اللون كتب على غلافه «دفتر التحضير»، الذي كان يسطر فيه المعلم بضع جمل عن الحصص اليومية التي يدرسها وتحمل توقيع مدير المدرسة. يتحدث أبو نزار بحسرة وتنهيدة طويلة: «كان روتيناً يومياً مملاً لكنني أشعر اليوم بمدى قيمته. العشوائية الحالية جعلتني أؤمن بأن كل التفاصيل المتعلقة بطرائق التدريس حتى المملة منها كانت ضرورية». ويستطرد: «في زمن النظام وتحديداً في السنوات الأخيرة فقد الطالب تركيزه وتعرض ذهنه للتشويش في شكل عام بسبب المناهج الجديدة المعقدة. فلجأت وزارة التربية إلى إقامة دورات تدريبية للمعلمين سهلت وصول المعلومة إلى التلاميذ».
أما الهوية الوطنية التي اعتمدها النظام فكانت «قومجية وترسخ أهداف حزب البعث الحاكم»، من خلال الأفكار التي تغذيها مادة التربية الوطنية. وأعطى المنهاج حيّزاً بسيطاً للهوية الدينية من خلال حصتين أسبوعياً على عكس «داعش» التي جعلتها صلب المنهاج، كما أنها لا تؤثر في مفاضلة الشهادة الثانوية للدخول إلى الجامعات فلم يولِ التلميذ اهتماماً بها».
ولا ننسى مادة التربية العسكرية ومعسكرات رمي الرصاص التي خصصها النظام في الصف السابع المرحلة الثانية من التعليم الأساسي قبل أن تلغى بقرار صدر في أيار (مايو) عام 2003. وكان يطلق على تلك الفترة التعليمية «عسكرة التعليم» لأن التلاميذ كانوا يرتدون بذة زيتية اللون (عسكرية) لكلا الجنسين، وكان معلم العسكرية يملك سلطة مطلقة ويفرض أي عقوبة كانت.
لكن بعد سيطرة المعارضة أزيلت مادة التربية الوطنية وكل ما يتعلق بحزب البعث والنظام الحاكم وتمّ التركيز على إعطاء قيمة علمية فقط، من دون أن تستبدل بها هوية وطنية أو دينية أخرى وذلك بسبب تشتت المعارضة وانقسامها وعدم اعتمادها مناهج تعليمية وهوية وطنية خاصة بها. فمثلاً اختلفت أركان وزارة التربية للحكومة الموقتة حول شعار «الجمهورية السورية» أم «الجمهورية العربية السورية»، بسبب اعتراض المكوّن الكردي واعتماده على منهج خاص به يعترف بإدارة ذاتية للأكراد و»يلغي مفهوم الجمهورية العربية السورية ذات الأرض الموحدة».
وفي عهد تنظيم الدولة الإسلامية منذ نهاية كانون الثاني (يناير) 2014 ألغى التنظيم الهوية الوطنية والدينية المعتمدة في المناهج الرسمية في شكل كلي واعتمد هويته الخاصة به كدولة إسلامية أصبحت خلافة في ما بعد. حدود هذه الهوية غير مقيّدة لأنها تتمدد باستمرار. وانفرد التنظيم بقدرته في التأثير في التلاميذ الصغار من خلال التلاعب بعواطفهم الدينية وجذبهم بالمال بتقديم معونات مادية وحوافز مادية للتلاميذ الذين يتلقون التعليم في مدارسه، كما يشرح أبو نزار. وبذلك «نجح وتفوّق على كل من النظام والمعارضة في غرس أفكاره وهويته الخاصة وتحديداً على الفئة العمرية الممتدة من 6 إلى 13 سنة».
فالتربية – أي سلوك الطفل – قُدّمَ في التعريف الوزاري على التعليم. هكذا كان يعرّف المعلم السوري لتلاميذه الكيان الذي يجلسون على مقاعده الخشبية، لينبههم إلى أهمية تهذيب السلوك وتقويمه مع السنوات الأولى لهم في مرحلة التعليم الأساسي.
الاعتراف للحكومي فقط
على رغم مساعي الفصائل المسيطرة على الأراضي السورية لفرض مناهجها، إلا أن الاعتراف الدولي بشهاداتها يقتصر على المدارس الحكومية السورية فقط. لذلك افتتح تنظيم الدولة الإسلامية كلية طب خاصة به في مدينة الرقة يعمل خريجوها في الأراضي الخاضعة لسيطرته. وفشلت جامعات خاصة عدة افتتحت ضمن مناطق سيطرة المعارضة كجامعة أميّة والجامعة السورية الحرّة في كسب الاعتراف بشهاداتها وبالتالي كسب ثقة الطلاب في الانتساب إليها، بينما لم يقدم الأكراد على افتتاح جامعات تعترف بالشهادات الصادرة عن مدارسهم حتى لحظة كتابة هذه السطور.
في محاولة لأخذ تعليق من وزير التربية والتعليم الدكتور عمار برق, توجهنا إلى مقر وزارة التربية والتعليم في الحكومة الموقتة في مدينة غازي عنتاب التركية. لكن برق رفض الإدلاء بأي تصريح. وبعد تكرار المحاولة، ومعاودة الاتصال به وبمديرة مكتبه كان التأجيل هو الإجابة الوحيدة الى أن أعلنت سكرتيرة الوزير تمسكه الرافض لإدلاء أي تصريح حول الموضوع.
المناهج المدرسية
وفي تعليق على إجابات الأطفال وتغيير المناهج التعليمية قالت المعالجة النفسية آية مهنا إنها تخضع في الحالة السورية «لنمط معلّب»، يتناقض مع المناهج في دول متقدمة تخضعها للتعديل كل أربع أو سبع أو اثنتي عشرة سنة، مع فترة تجريبية يُقَيّم فيها مختصون الأثر الذي تولّده تلك المناهج. «لكن السلطات السياسية والعسكرية المسيطرة (هنا) تقدّم أفكارها وأهدافها في شكل مقصود وقد لا يبدو واضحاً عبر التعديلات المسيّسة للمناهج التعليمية التي تكوّن سلوك التلاميذ المستقبلي».
وفي أجواء الحرب، يكتشف الأطفال أموراً سابقة لأوانها لا يستطيع العقل محاكمتها، ما يشكل خطراً كبيراً على تكوينهم الذهني، وفق مهنا، وبالتالي يصبح ذلك «نقطة ضعف للطفل وقوة للجهات السياسية والعسكرية الراغبة في غرس أفكارها وأهدافها السياسية والدينية والفلسفية».
* أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) www.arij.net.
Leave a Reply