تحقيق : أنصار اطميزه
الحياة الجديدة- لا تزال فاجعة موت الشاب مأمون عمرو “٢٦ عاما” من الخليل، تقض مضاجع أفراد عائلته التي اضطرت لبيع بيتها حتى تنسى مشهد انتحار مأمون الذي كان يعاني من مرض الفصام وفقا لتقارير طبية، وانتهى بالانتحار بعد محاولات عدة لتجاوز الانتكاسات المرضية التي كان عانى منها في الاشهر الستة الأخيرة من حياته بعد انقطاع ابرة “موديكيت” التي كان يأخذها لتخفف أوجاعه النفسية وليحافظ على استقرار حالته إلى جانب أدوية أخرى.
تروي والدة مأمون “فاتنة عمرو” قصة ابنها مع المرض الذي ظهر معه في سن الـ١٧ من عمره مشيرة إلى أن حالته كانت مستقرة وتبدو طبيعية ما دام مأمون يتلقى دواءه بانتظام وهذا ما واظبت عليه العائلة حتى أن كثيرا من الناس المحيطين لم يصدقوا مرض مأمون لعدم ظهور أي أعراض مرضية عليه، لكن انقطاع الأدوية والاستمرار في انقطاعها، أدخل مأمون في انتكاسات متكررة الزمته في نهاية المطاف بأخذ ابرة “موديكيت” مرتين بالشهر التي سرعان ما انقطعت هي أيضا من مستودعات الأدوية في وزارة الصحة وبقية الصيدليات.
مرابط طبية أنهت معاناته..
وعانى مأمون في آخر شهرين من حالة سرحان دائم والامتناع عن النوم والأكل والكلام وحتى التدخين الذي كان مدمنا عليه، إلى أن قرر مأمون إنهاء مأساته بمرابط طبية وستائر التفت حول رقبته حتى لقي حتفه شنقا.
خطر الموت يداهم عائلة المريض النفسي
“سارة” ـوهو اسم مستعارـ باتت ضحية عنف لزوجها المصاب بالفصام الذي ساءت حالته بعد نقص الأدوية التي كان يتناولها، حيث أصبح يشك بالآخرين ويشعر بمؤامرة تحاك ضده إضافة إلى التهيؤات والأفكار غير الواقعية التي عانى منها؛ ما دفع عائلته لارساله لمستشفى الأمراض النفسية في بيت لحم؛ ليتضح فيما بعد أنها أيضا تعاني من نقص الخدمة العلاجية، “سارة” وأبناء المريض يعيشون في حالة استنفار وخوف دائم على أنفسهم وعلى والدهم الذي تتراجع حالته باستمرار مع نقص الأدوية علما أن المريض كان يتعاطى نوعين من الدواء، هما Haloperidol & Resperidone.
يفيد تقرير وزارة الصحة لعام ٢٠١٤ أن عدد حالات المرضى الجديدة المسجلة في مختلف مراكز الصحة النفسية في مختلف محافظات الضفة الغربية بلغت ٢٢٥٧ حالة، حيث بلغ معدل الحدوث ٨٩.٠ لكل ١٠٠.٠٠٠ من السكان، وبلغت نسبة الذكور من هذه الحالات ٤٣.٤ ٪ مقابل ٥٦.٦ ٪ من الاناث بواقع ١٢٧٧ حالة.
ومع ازدياد أعداد المرضى النفسيين في الضفة الغربية وزيادة الحاجة لعلاجهم كأمراض مزمنة تقع على عاتق وزارة الصحة مسؤولية علاجهم وتوفير الأدوية لهم؛ حتى لا يشكلوا خطرا على أنفسهم وعلى المجتمع كافة.
٣٣٪ نقص في قائمة الأدوية الأساسية
يظهر تقرير أصدرته شبكات المنظمات الأهلية في شباط عام ٢٠١٥ أن مشكلة نقص الأدوية، وعدم توفرها باستمرار يعاني منها جميع أصحاب الأمراض المزمنة، مثل الضغط، والسكري، والسرطان والأمراض النفسية. ويعرض التقرير أمراض الدم “الهيموفيليا”، والاضطرابات، والأمراض النفسية، كأمثلة على الأمراض المزمنة التي يعاني المرضى بها من انقطاع الأدوية.
كما قامت مؤسسات شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية برصد وتوثيق الحالات التي تتقدم بشكاوى، وتطلب مساعدات للحصول على الدواء. وبعد عملية الرصد والتوثيق والتنسيق بين المؤسسات، تبين أن انقطاع الأدوية في مستودعات وصيدليات وزارة الصحة يتفاقم ويتزايد، حتى وصلت نسبة نقص الأصناف في القائمة الأساسية للأدوية في وزارة الصحة الفلسطينية إلى (33%). ويعرض الشكل البياني التالي مشكلة نقص الأدوية في القائمة الأساسية، خلال السنوات الخمس الماضية:
يوضح الشكل البياني انقطاع الأدوية من العام 2010 وحتى بداية العام 2015. ويبلغ عدد الأصناف الموجودة على قائمة الأدوية الرئيسية لوزارة الصحة الفلسطينية 530 صنفاً. ويظهر الشكل عدد الأصناف التي لا تتوفر في وزارة الصحة (في المستودعات المركزية)، حسب الأشهر والسنوات، وعدد أصناف الانقطاع، وبلغت نسبة انقطاع الأدوية في العام 2010 (8%) من القائمة الأساسية، وزادت نسبة انقطاع الأدوية، لتصل إلى (33%) خلال العامين 2013 و2014 .
تراجع الإنفاق على الخدمات الصحية
بحسب تقرير “ماس” معهد الدراسات السياسية والاقتصادية فإن حصة الإنفاق على الخدمات الصحية تراجعت من النفقات الجارية، خلال الفترة 1995–2002، من 14% في العام 1995 إلى أقل من 10% في العام 2002.
تراوحت موازنة وزارة الصحة من الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية، من العام 2010 إلى 2014، ما بين (10-11%) من الموازنة العامة، علماً أن النمو السكاني يبلغ سنوياً نحو 3%، ولا يتم الأخذ بعين الاعتبار النمو السكاني، والزيادة الطبيعية لنسب المرضى، وحاجتهم للدواء.
وأشار الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن نسبة الإصابة بمرض مزمن واحد، تبلغ 18.1% من الأفراد الذين تزيد أعمارهم على 18 سنة. وهذا يفسر جزءاً من النقص المتزايد في قائمة الأدوية الأساسية لوزارة الصحة والتي بلغت 33%.
يوضح الجدول أعلاه الأدوية التي لا تتوفر بشكل متواصل في وزارة الصحة الفلسطينية، وموجودة على قائمة الأدوية الأساسية المعتمدة من وزارة الصحة. (مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب).
مختصون: الأدوية جزء أساس في علاج المريض النفسي
من جانبها حذرت الدكتورة النفسية نجاح الخطيب من مخاطر انقطاع أو نقص الأدوية على المريض النفسي، حيث تعتبر جزءا أساسيا من علاجه النفسي، مشيرة إلى أن المرض النفسي مرض مزمن يحتاج لتناول الدواء باستمرار، لإعادة تنظيم الجهاز العصبي والسيطرة على المريض وتعديل مزاجه وتخفيف حدة العنف، كما أن الأدوية للمريض النفسي تحسّن شهيته وتساعد على تنظيم نومه وغير ذلك، وأضافت أن عدم تناول المريض لدوائه سيزيد من أعراض المرض.
وأضافت الخطيب كافة الأمراض النفسية بحاجة إلى أدوية سواء الفصام والعظمة والاكتئاب والوسواس القهري حتى مرضى الزهايمر يحتاجون لأدوية باستمرار لتفادي أعراض القلق والعنف والعصبية التي تنتج عن فقدان الذاكرة لديهم.
في ذات السياق، أكدت نسرين بوشية من دائرة الضغط والمناصرة بالمركز الفلسطيني للارشاد أن نقص الأدوية للمرضى النفسيين يكلف الحكومة أكثر من توفير الأدوية، حيث إن المريض سيتعرض لانتكاسات في حالته وسيحتاج للتحويل للمستشفى الوحيد بالضفة الغربية في بيت لحم وما يرافق ذلك من تكاليف علاجية إضافية أو ستجعله يظهر تصرفات خارجة عن ارادته، فقد تجعله يؤذي نفسه أو الآخرين من حوله.
“مباع لوزارة الصحة” يباع في الصيدليات
خلال حديث كاتبة التحقيق مع مجموعة من المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة ويحتاجون لأدويتها باستمرار اتضح أن عددا منهم لجأ لبعض الصيدليات لشراء أدوية كتب عليه “مباع لوزارة الصحة”.
قانون التأمين الصحي الفلسطيني
المادة (٢) يلتزم المؤمن عليه بقائمة الأدوية الأساسية المقررة من وزارة الصحة.
المادة (٣) حق المواطنين في الحصول على الخدمات الصحية وفقا لهذا النظام .
|
انتصار نوارة تعاني من مرض مزمن يدعى “الحمى الذؤابية” وهو نوع من أنواع أمراض الروماتيزم عانت من انقطاع نوعين من الأدوية، هما البروغراف “Prograf” ومايفورتك “Myfortic” استطاعت الحصول عليهما من خلال إحدى الصيدليات الموجودة برام الله بسعر ٩٠٠ للدواء الأول و١٣٠٠ شيقل للنوع الثاني، علما أنها تحتاج لأكثر من عبوة بالشهر كانت تتكبد تكلفة دوائها المجاني بـ ٤٠٠٠ شيقل شهريا إلى أن اتجهت في الأشهر الثلاثة الأخيرة نحو الأردن لشراء الأدوية بسعر أقل.
كذلك الأمر لمريض الكلى “م،ك” الذي يتلقى النوعين ذاتهما من الدواء واستطاع الحصول عليهما بنفس التكاليف، غير أنه تقدم بشكوى قبل حوالي سنة خاطب بها وزير الصحة جواد عواد مباشرة مرفقا شكواه بعلب الأدوية المباعة المختوم عليها ختم وزارة الصحة إلا أن الصيدلية التي اشتكى عليها لا تزال تبيعها.
كما أكدت أم أحد المرضى النفسيين أنها كانت تضطر لشراء الأدوية غير المتوفرة بوزارة الصحة من صيدليات عدة بمحافظة الخليل.
صرف الدواء حسب الواسطة!!
من جانب آخر، رصدت كاتبة التحقيق مجموعة من الحالات التي لديها معارف وأصدقاء في المراكز الطبية الحكومية تم صرف أدوية لهم، في ذات الوقت عدم صرفها لمرضى آخرين بحجة أنها غير موجودة حاليا بصيدليات وزارة الصحة.
الصحة تشكك
من جانبه، أسامة النجار الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية شكك بوجود تسريبات أو سرقة للأدوية من مستودعات وزارة الصحة، مشيرا إلى أنه في حالة وجود ختم وزارة الصحة على علب الأدوية أو عبارة “هذا الدواء مباع لوزارة الصحة” على المواطن أن يقدم شكوى ضد الصيدلية التي تبيعه وسيرى ما الذي ستقوم به وزارة الصحة من إجراءات صارمة.
وأرجع النجار موضوع وجود بعض الأدوية المقطوعة بالصيدليات إلى قيام بعض شركات توريد الأدوية بالادعاء أن الدواء غير متوافر لديها ولا تستطيع توريده للوزارة، وتقوم ببيعه للصيدليات، مشيرا إلى أن هذا حصل وبالفعل تم سحب الكفالة من الشركة الموردة ووقف التعامل معها في أي عطاء.
شركات توريد الأدوية مسؤولة عن النقص
وحول النقص المستمر في أدوية الأمراض المزمنة، أكد النجار أن السبب يكمن في تأخر شركات توريد الأدوية في تزويد الوزارة بها بسبب المديونية على الوزارة إلا أن هذا الأمر استطاعت الأخيرة تجاوزه بشكل مبدئي حتى بداية العام ٢٠١٦.
وشدد النجار على أن على الحكومة الفلسطينية إعطاء الأولوية لوزارة الصحة بالموازنة علما أنه في العام ٢٠١٥، زادت حصتها عما كانت في السابق بحوالي نصف مليار شيقل ساعدت بتسديد ٤٠٪ من مديونيتها.
وحول قضايا الواسطة في صرف الأدوية وصرف كميات كبيرة منها لمرضى على حساب آخرين أكد النجار أن نظام HIS الذي يربط كافة مراكز ومستشفيات وزارة الصحة الكترونيا سيضبط أي تجاوزات أو فساد وسيحكم الرقابة على صرف الأدوية وكمياتها وكل ما يتعلق بالمرضى والموظفين.
يقف المصابون بالأمراض المزمنة على قارعة طريق ينتظرون فيه خطوات وزارة الصحة في ضبط عملية صرف الأدوية الأساسية وتسوية ديونهم مع شركات التوريد، لتخفيف أوجاعهم وإنقاذ حياة من يمكنهم العيش والتعايش مع المرض.
أنجز هذه التحقيق بدعم من “شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) وبإشراف الزميل منتصر حمدان
Leave a Reply