24/08/2023
يكشف هذا التحقيق غياب البنية التحتية اللازمة لاستدامة عمل القواقع السمعية، التي توفرها الدولة للأطفال في الأردن، وإهمال تنظيم السوق المتصلة بعمليات الصيانة، واستبدال قطع الغيار مع فرض ضرائب على تلك المستلزمات؛ ما يجعل أسر هؤلاء الأطفال "رهائن" ارتباط مالي أبدي، لا مهرب منه، مع الشركات صاحبة التكنولوجيا.
"كنا مفكرين قوقعة وسماعة وبنروّح" قالها رامي علقم، وهو يعود بذاكرته ثماني سنوات، حين خضعت طفلته لاريس لزراعة قوقعة سمعية، وفرها القطاع الصحي العام للطفلة.
كانت لاريس تعاني صعوبات في السمع؛ ما دفع والديها إلى التقدم بطلب تأمين قوقعة سمعية من الجهات المتبرعة التابعة للدولة.
يوضح والد الطفلة: "ما كان فيه توعية لا قبل العملية ولا بعدها، أنه هذه التكاليف ستكون عبئاً على الأهل".
"أنا عملت المستحيل لأجل أولادي، لكن الآن بتندم إني زرعت قوقعة"، يقول شاهر الهلول من دون تردد، متحدثاً عن معاناته مع أطفاله الأربعة.
لشاهر ثلاث بنات وولد، أُجريت لهم زراعة قواقع سمعية، بسبب إصابتهم بضعف شديد في السمع.
يشكو شاهر صعوبة تأمين ملحقات القوقعة السمعية: "البطاريات معاناة، والأسلاك معاناة وأيضاً التحديث والصيانة".
يملك الأطفال تأميناً صحياً في منشأة تتبع القطاع الصحي العام، حيث أُجريت لهم عمليات الزرع، وهي تزودهم ببطاريات بشكل غير دائم. يقول شاهر إنها ذات نوعية رديئة، وتتعطل بعد فترة قصيرة.
اضطر شاهر وزوجته قبل سنوات إلى الاقتراض؛ لتأمين تكلفة صيانة جهاز ابنته الكبرى آية.
أما الآن فباتت الصيانة لجهازها غير ممكنة، إذ يتطلب الأمر تحديثه أولاً، بكلفة تتراوح بين 5 إلى 7 آلاف دينار أردني، وهي مبالغ لا يستطيع شاهر تأمينها.
تبلغ آية من العمر 18 عاماً، وهي محرومة الاستفادة من القوقعة المزروعة، وفق ما أشار والدها.
لا تقتصر المعاناة على توفير القطع المتصلة بالجهاز الخارجي، إذ لا تتوفر خدمات تأهيل النطق لزارعي القوقعة في محافظة الطفيلة، حيث كان يسكن شاهر مع أسرته، قبل أن ينتقل إلى محافظة مأدبا أملاً في إيجاد خدمات تأهيل النطق والسمع لأطفاله.
لم يتغير الحال كثيراً بعد انتقال الأسرة إلى مأدبا؛ فخدمات تأهيل السمع والنطق الموجودة في المحافظة مدفوعة الأجر، توفرها مؤسسات في القطاع الصحي الخاص، وتكلف مبالغ ليست بالقليلة، بالنسبة لمتقاعد لا يتجاوز راتبه مائتي دينار أردني.
يقول شاهر إن تكلفة ساعة التأهيل الواحدة، لا تقل عن 25 ديناراً للطفل الواحد، ما يعني أن كامل راتبه التقاعدي لا يغطي تلك المصروفات الشهرية. اضطر شاهر إلى إلحاق أطفاله بمدرسة للصم والبكم في المدينة التي انتقل إليها، لتعلم لغة الإشارة.
تؤكد دائرة الجمارك الأردنية، أن قطع الغيار الخارجية للقوقعة السمعية تخضع لرسوم ضريبية، تصل إلى 16 في المئة، في الوقت الذي تبلغ فيه الرسوم الضريبية على جهاز القوقعة الداخلي، الذي تؤمنه في العادة الجهات المتبرعة التابعة للدولة، 4 في المئة.
لا تحظى القواقع السمعية برقابة الجهات المختصة على تحديد أسعارها، كما هو الحال بالنسبة لأجهزة أخرى تُزرع داخل الجسم. فعلى سبيل المثال؛ تُحدد المؤسسة العامة للغذاء والدواء أرباح المستورد وسقف السعر لشبكات القلب وملحقاتها، وفق أسس وُضعت لهذا الغرض، في حين لا توجد تعليمات خاصة بالقواقع السمعية وملحقاتها.
تعد المؤسسة الجهة المسؤولة عن منح تراخيص المستلزمات الطبية المتداولة في السوق، إضافة إلى الرقابة على الأجهزة والمستلزمات الطبية، بحسب قانون المؤسسة العامة للغذاء والدواء رقم (41) لسنة 2008.
تُقر المؤسسة بغياب نظام يحدد سعر القواقع السمعية حتى الآن. في ردها على استفسار أرسله فريق التحقيق بهذا الخصوص، قالت المؤسسة إنها تعمل على وضع نظام خاص بذلك.
يؤكد اختصاصي الأنف والأذن والحنجرة فراس الزعبي، أن الطفل تجمعه بالقوقعة السمعية علاقة أبدية؛ إذ لا بدّ من المحافظة على استمرار عملها لضمان الاستفادة منها. مشيراً إلى الحاجة المستمرة للصيانة والبرمجة، واستبدال قطع الغيار.
"ابنك ما بسمع الأصوات"، هذا ما قاله الطبيب عند فحص الطفل وليد، بعد مرور عام ونصف العام على خضوعه لزراعة قوقعة سمعية، في مستشفى الأمير حمزة الحكومي، قبل نحو تسع سنوات.
عانى الطفل ضعفاً شديداً في السمع منذ الولادة. كان وليد من بين الأطفال الذين حصلوا على قواقع سمعية، من وزارة الصحة الأردنية.
غيرت كلمات الطبيب حياة وليد، ذي السبعة أعوام، توجه الوالد إلى الجراح الذي أجرى زراعة القوقعة في المستشفى الحكومي. يستذكر الوالد ما قاله الجراح: "شو أعملك! منيح اللي طلع له يزرع قوقعة".
تقول الباحثة فريدنير إن الهيئات التي تتبنى زراعة القوقعة والجراحين، لا يفكرون في ما بعد إجراء الجراحة.
يبدو ذلك جلياً من تصريح مدير سابق لمستشفى الأمير حمزة، وهو المستشفى الحكومي الوحيد، الذي يجري عمليات زراعة القوقعة داخل القطاع العام، في رده على شكوى ذوي طفل حول تكرار تعطل الأسلاك (الكوابل) المتصلة بالجهاز الخارجي، فأشار إلى أن المستشفى مسؤول عن الناحية الطبية والزراعة، ولا علاقة له بالأسلاك.
يبلغ وليد الآن من العمر 16 عاماً، وهو لم يستكمل تعليمه المدرسي؛ بسبب عدم قدرته على الاستفادة من جلسات تأهيل، كلفت الأسرة مبالغ كبيرة، وهو غير قادر على السمع أو النطق.
قصة وليد
تشير الباحثة فريدنير إلى استمرار الترويج للقوقعة السمعية، بأنها الحل الأمثل للتعامل مع الإعاقة السمعية؛ في حين تجد أسر الأطفال زارعي القوقعة أنفسها عالقة بارتباط مالي دائم، مع الشركات صاحبة التكنولوجيا، لا يمكنها الهرب منه.
تركز فريدنير في بحثها على مناطق من آسيا، وبالتحديد الهند، حيث تتبنى الحكومة هناك برنامجاً لزرع القوقعات السمعية للأطفال من الفئات الفقيرة.
لاحظت فريدنير خلال بحثها، أنّ المسؤولين الحكوميين وشركات تكنولوجيا القواقع السمعية، والجراحين والمختصين الصحيين، يركزون فقط على ما يرونه "حق الطفل في السمع"، وليس على ما يتطلبه الأمر من إجراءات لاحقاً، كتلك المتصلة بالصيانة المستمرة والبنية التحتية، متجاهلين أن القوقعة ليست حلاً لمرة واحدة.
تعتقد الباحثة أن الأمر ينتهي بارتباط أسر الأطفال بعلاقة مع الشركات أشبه بالزواج؛ إذ تشعر الأسر أنها محتجزة كرهائن، "هي علاقة زواج لا طلاق منه"، بحسب ما تشير الباحثة مقتبسة ذلك عن أسرة أحد الأطفال، التي شملها البحث.
يكشف تحليل بيانات أجرته شبكة أريج، ضمن تقرير أُعد سابقاً حول الأطفال زارعي القواقع في الأردن، أن غالبية أسر الأطفال تقوم باستبدال قطع الغيار للجهاز الخارجي على نفقتها الخاصة، بحسب استطلاع شمل أكثر من مئتي طفل من زارعي القوقعة، في مستشفيات القطاع العام. كما بين التقرير أنّ نحو ثلثي الأطفال كانوا بحاجة إلى استبدال الجهاز الخارجي للقوقعة السمعية.
مقابلات -د. فراس الزعبي ود. ميشيل فريدنير
ارتفاع أسعار قطع الغيار، وزيادة تكاليف الصيانة، دفعا سلطان عمّاري إلى إجراء صيانة مجانية لعدد من حافظات البطاريات، التي يتراوح ثمنها في السوق المحلي بين 230 و250 ديناراً أردنياً للقطعة الواحدة، بحسب الشركة المصنعة.
عانى عمّاري ارتفاع أسعار قطع الغيار وصعوبة تأمين ثمنها، إذ بدأ مشواره مع مشكلات الصيانة منذ عشر سنوات، بعد أن أجرت ابنته زراعة قوقعة سمعية.
أسس عمّاري مبادرة تجمع تحت مظلتها عدداً كبيراً من أسر الأطفال زارعي القواقع.
يقول عمّاري حول محاولات صيانة القطع: "الدافع ليس شخصياً، أحاول مساعدة الناس بقدر استطاعتي؛ لتخفيف العبء عنهم"، مؤكداً أنه لا يتقاضى أجراً مقابل ذلك.
بأدوات يسيرة يستخدمها، نجح عمّاري في إصلاح حافظات بطاريات لثلاثين طفلاً، حُرموا من السمع بسبب تعطل تلك الأجزاء، في ظل صعوبة تأمينها؛ لارتفاع أسعارها. يقوم سلطان بنشر فيديوهات يوضح فيها سهولة إصلاح الحافظات، التي تتقاضى الشركات مبالغ كبيرة، مقابل استبدالها.
تبدو تلك المحاولات متواضعة، في مشهد مقطع الأوصال، يجد فيه أهالي الأطفال أنفسهم يحصلون على قوقعة سمعية من جهة متبرعة تابعة للدولة؛ ليضطر الكثيرون بعدها إلى شراء قطع الغيار بشكل متكرر، وإجراء عمليات التحديث والصيانة على نفقتهم، عبر الشركات صاحبة التكنولوجيا. فضلاً عن دفع تكاليف خدمات تأهيل السمع والنطق.
يقول فادي القرعان (والد طفلين خضعا لعملية زراعة القوقعة): "في ناس بتضع أجهزة أولادها على الرف، ليصير معهم مصاري يصلحوها".