نزيف في قلب "قرطبة"

صحفي كولومبي يكشف تدميراً بيئياً، ولكن قصصه لم ترَ النور

clock icon 18/04/2023

تحقيق عايدة ديلبواش

forbiddenstories logo

تولى 30 صحفياً -بتنسيق من اتحاد "فوربيدن ستوريز"- استكمال عمل الصحفي الكولومبي المغتال رافائيل مورينو، وكشفوا أدلة جديدة على مخالفات خطيرة ارتكبتها الشركات، التي كان يحقق مورينو في عملها.

شارك في إجراء المقابلات والبحث: فيليبي موراليس (El Espectador) وباسكال مارياني (France 24) وإيفون رودريغيز (El Clip) وأنجليكا بيريز (RFI) وعبلا جونيودي (RFI)

في مقطع فيديو التقط في منتصف أيلول/ سبتمبر 2020، يظهر الصحفي رافائيل مورينو وهو متشبث بحبل سميك، ينزل به إلى حفرة يبلغ قطرها متراً تقريباً وعمقها عدة أمتار. نظر مورينو إلى الكاميرا، والابتسامة تعلو وجهه، ثم قال، وموسيقى الريغنون تُسمع في الخلفية: "أشعر بالعودة إلى أيام عملي في المناجم".

لم يكن مورينو، الصحفي الاستقصائي القادم من منطقة قرطبة ذات الغابات الكثيفة في شمال كولومبيا، غريباً عن منجم الذهب هذا، المسمى "El Alacrán" (الألكرين). ويحمل المنجم نفس اسم القرية المجاورة التي نشأ فيها مورينو. ويصف مورينو هذه القرية "بالركن المفقود من العالم". ولطالما علّم مورينو أطفاله أن يفخروا بجذورهم.

ما زال الجميع في "الألكرين" يتذكر الطفل الصغير رافائيل مورينو، الذي غادر القرية في سن 18، ولكنه كان يزورها بانتظام. تتذكر ماريا مارتينيز، التي تعيش الآن في المنزل الذي نشأ فيه مورينو: "كان يمكث هنا، في هذا المنزل، لقد كان جزءاً من المجتمع"، مضيفة: "كنت أحذره مراراً وتكراراً: ابق هادئاً ولا تجازف، فقد تتعرض للقتل".

قالت وهي تمسح دموعها: "وهذا ما حدث بالفعل".

بعد أكثر من عامين من نشر الفيديو، وتحديداً في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قُتل مورينو بالرصاص في بلدة مونتليبانو المجاورة. اليوم، يمثل هذا الفيديو شهادة على واحدة من أعظم المعارك التي خاضها مورينو كصحفي وناشط مجتمعي، وهو كتوثيق لنقد مورينو لعمليات التعدين غير القانونية، التي تحدث في هذه المنطقة من كولومبيا.

المهمة التي أخذها مورينو على عاتقه اتضحت معالمها أكثر، وذلك في محادثته مع اتحاد "فوربيدن ستوريز" (قصص محظورة) قبل مقتله. تعرض مورينو، منذ 2019 على الأقل، لتهديدات بسبب تحقيقاته، ما دفعه للاتصال بالاتحاد لتأمين مستنداته على شبكة "سيف بوكس" (صندوق الأمان)، وهي منصة تتيح للصحفيين المهددين حماية المعلومات الحساسة التي في حوزتهم، من خلال مشاركتها مع "فوربيدن ستوريز".

وقال مورينو، في أولى محادثته الهاتفية مع "فوربيدن ستوريز" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل تسعة أيام من مقتله: "نحن نعمل على قضايا بيئية، و(نحقق في) الإدارات العامة و(الشركات) التي تعمل من دون أي تراخيص بيئية أو تعدين".

بعد أيام من وفاة مورينو، اجتمع 30 صحفياً من 13 وسيلة إعلامية، بتنسيق من اتحاد "فوربيدن ستوريز"؛ لاستكمال عمل الصحفي الكولومبي، وهي المرة الأولى التي يستكمل فيها اتحاد من الصحفيين عمل زميل، طلب صراحة نشر تحقيقاته، إذا ما حدث له أي مكروه. واليوم، تنشر 32 وسيلة إعلامية حول العالم "مشروع رافائيل"؛ الذي يستند إلى المستندات ورسائل البريد الإلكتروني وطلبات الحصول على المعلومات التي تركها رافائيل، بالإضافة إلى العمل الميداني والبحث الذي أجراه شركاء الاتحاد.

على مدار الأشهر الستة الماضية، استكملت "فوربيدن ستوريز" وشركاؤها التحقيق الذي بدأه مورينو في عمل ثلاثة مناجم. وكشفنا خلال التحقيق مخالفات جسيمة، وثبت -في معظم الحالات- ما توقعه مورينو في الأشهر والسنوات التي سبقت وفاته. تتضمن المخالفات عدم التشاور مع المجتمعات المحلية، ووجود مناجم تعمل من دون ترخيص، فضلاً عن الأضرار البيئية، التي تلحق بسكان المنطقة والبيئة المحيطة.

منجم الحرفيين بقرية الألكرن. (المصدر: عايدة ديلوبتش/ قصص محظورة )

"نعمة ونقمة"

تجلس بريندا بوهوركيز دياز على طاولة خشبية، وهي تشدو بأغنية من تأليفها: "هنا، الثروة هي المعادن/ تستخرج بطريقة تقليدية/ عائلتنا تملك الذهب".

تعيش دياز في قرية الألكرين الصغيرة، حيث نشأ مورينو، وتعد إحدى المتحدثات باسم المجتمع.

في الألكرين، "الأرض ثروتنا"، كما تقول دياز، حيث يحيا مجتمع -تعداده 1200 شخص- حياة متواضعة. هنا، يستخرج عمال المناجم المعدن الثمين يدوياً، باستخدام المجارف وآلات بدائية؛ لغربلة التربة الغنية بالموارد.

على مدار عقود، ظل هذا المنجم بمنأى عن عمليات التعدين التي انتشرت على نطاق واسع في المناطق الأخرى من بويرتو ليبرتادور، الواقعة جنوبي قرطبة. وتتمتع هذه المنطقة باحتياطات ضخمة من الكربون والنيكل والنحاس والذهب والفضة والكوبالت والحديد، وأصدر فيها 50 تصريح تعدين سارياً، أي نحو نصف التصاريح الصادرة في قرطبة. ولكن دياز تشعر بالقلق من أن الوضع قد يتغير في منجم الألكرين.



اليوم، يهدد مشروع عملاق مقترح التوازن البيئي في المدينة؛ إذ تقود شركة "Cordoba Minerals" -التي تتخذ من كندا مقراً لها، ويسهم فيها شركاء من أميركا والصين- المشروع المقترح. ويهدف هذا المشروع -المسمى "San Matías"- إلى تحويل كولومبيا إلى أكبر مصدر للنحاس في العالم. وفي إطار هذا المشروع -الذي يقام على مساحة 20 ألف هكتار- سيتم استخراج 22 ألف طن من النحاس يوميا، بالإضافة إلى كميات أصغر من الذهب والفضة. وفق تصريحات رئيس الشركة، يحظى المشروع بدعم السلطات، فضلاً عن المجتمعات المحلية

في الأشهر التي سبقت مقتله، بدأ مورينو في التحقيق في هذا المشروع الضخم -الذي وصفته "Cordoba Minerals" بأنه "مبادرة محدودة النطاق في سياق عالمي"- ، عبر دعوة أطلقها من خلال صفحة "Voces de Córdoba" (أصوات قرطبة)، في حزيران/ يونيو 2022؛ للإدلاء بشهادات عن هذا المشروع. وحمل منشوره عنوان: "هذه المجتمعات تستحق الاحترام"، ولكن لم يستطع مورينو استكمال عمله على التحقيق.

استكمالاً لعمله، زارت "فوربيدن ستوريز" موقع مشروع التعدين المقترح، وأجرت مقابلات مع سكان المنطقة. وخلال هذه المقابلات، أخبرنا بعض السكان أن السلطات المحلية لم تستشر سكان المنطقة قبل منح التراخيص لشركة "Cordoba Minerals"، ولم تدعم مجتمعات السكان الأصليين المشروع. قالت دياز: "هذا المشروع سيستنزف خيرات أرضنا، ووجودنا يتعارض مع سير المشروع، وبالتالي سيطردوننا، يوماً ما".

وفي بيان تمت مشاركته مع "فوربيدن ستوريز"، نفت شركة "Cordoba Minerals" وجود مجتمعات من السكان الأصليين في قرية "الألكرين"، وهو ما نفاه السكان؛ فكما قال إسرائيل أغيلار -الزعيم السابق لقبيلة "زينو" في "دي اليتو سان يورج"- فإن "عدة عائلات من سكان مجتمع سان بيدرو يسكنون في هذه المنطقة".

وأشارت دياز إلى منزل على الطريق الرئيس للقرية، حيث ينهمك عمال -يرتدون قمصاناً عليها شعار الشركة- في تفكيك هيكله المتواضع؛ لإفساح المجال للتنقيب في هذا الموقع. قالت دياز: "لقد فوجئوا بعددنا". (وفق السكان، قالت الشركة إنه ستتم إعادة بناء المنزل بعد الانتهاء من التنقيب.)

وفي بيانها، نفت شركة "Cordoba Minerals" أن يكون المنزل قد تأثر بتخصيص موقع لإجراء عمليات التنقيب، لكنها أكدت أنها عوضت بعض الأفراد المتضررين جراء تخصيص مواقع للتنقيب.

يخشى السكان من أن يتسبب مشروع "San Matías" في أضرار صحية وبيئية، وقد اعترفت الشركة بنفسها باحتمالية حدوث مثل هذه الأضرار؛ ضمن مخاطر المشروع المدرجة في تقرير عن المشروع، صادر عام 2019. وجاء في التقرير أنه "من المحتمل أن يؤدي المشروع إلى تدهور صحة المجتمع وتفشي الأمراض بين سكانه".

quote

قالت دياز: "لقد تحول ثراء الطبيعة بالموارد، من نعمة إلى نقمة".

صورة من طائرة من دون طيار لمنجم سيرو ماتوسو (المصدر: فرانس 24)

مشروع رافائيل الأخير

لم تنحصر تحقيقات مورينو عن التعدين في المشروعات القائمة في مسقط رأسه.

اعتاد مورينو، وزميله أورجانيس كوادرادو، انتقاد التلوث والأضرار البيئية؛ الناتجة عن بعض مشروعات التعدين واسعة النطاق في المنطقة. وكثيراً زارا مواقع التعدين البعيدة؛ حيث نشرا فيديوهات على فيسبوك، تظهر أعمدة الدخان المتصاعدة من المداخن.

قبل عدة أشهر من مقتله، خاض مورينو معركة حامية؛ ففي حزيران/ يونيو 2022، أعلن -على فيسبوك- عن تحقيق يجريه عن "مخالفات" في منجم كبير للكربون؛ تديره شركة "Carbomas S.A.S" في بلديتي ويرتو ليبرتادور ومونتيليبانو.

خمدت المعركة بين الصحفي الكولومبي والشركة، بعد حزيران/ يونيو. وكان مورينو قد قدم -قبل هذا التاريخ بثلاثة أشهر- طلب حصول على معلومات عن المشروع؛ من ضمنها التصريح البيئي للشركة، وترخيص بالمواد المستخرجة، بالإضافة إلى الضمانات المقدمة بأن للمشروع تأثيرات اجتماعية واقتصادية إيجابية على السكان.

تسلل الشك إلى مورينو في أن الشركة تعمل من دون ترخيص، ولم تستشر المجتمعات المحلية، وهو أمر إلزامي في كولومبيا في معظم الحالات، بموجب القانون.

بعد شهر من إرسال الطلب، رفضت الشركة طلب مورينو، واصفة إياه بـ "غير المناسب"، وهو رد الفعل الذي عدّه مورينو وكودرادو مؤشراً على أن الشركة "تخفي مخالفات واضحة". وقال مورينو في فيديو مدته 25 دقيقة؛ ردًا على انتقادات الشركة لتقاريره: "هذه الانتقادات موجهة إلى تحقيقاتي وعملي الميداني"، مضيفاً: "أنا لا أختلق أي شيء، كل المعلومات موثقة".

ولكن يبدو أن مورينو كان يواجه ضغوطاً متزايدة خلف الكواليس. فقد وجدت "فوربيدن ستوريز" -على البريد الإلكتروني لمورينو- مستنداً يكشف تراجعه عن طلب الحصول على معلومات عن المنجم، في أوائل تموز/ يوليو 2022.

جاء هذا التراجع بعد ثلاثة أيام فقط من خطاب تهديد وجده مورينو على دراجته النارية، وبداخله رصاصة. وجاء في الخطاب المكتوب بخط اليد من دون توقيع:

quote

"نعرف كل شيء عنك، ولن نغفر لك ما تفعله"

على الرغم من أنه لا يمكن الجزم بأن التراجع عن طلب المعلومات كان مرتبطاً بالتهديد بالقتل؛ إلا أنه من الواضح أن مورينو -بعد هذا التاريخ- توقف عن مواصلة تحقيقه في أنشطة شركة "Carbomas". ولم تجد "فوربيدن ستوريز" -بعد هذا التاريخ- في مستندات مورينو التي راجعتها، أو في منشوراته على فيسبوك، أي معلومات إضافية عن المنجم.

في إطار "مشروع رافائيل"، تابع اتحاد "فوربيدن ستوريز" تحقيق مورينو في مشروع "Carbomas". تؤكد الوثيقة -التي حصلنا عليها من خلال طلب حصول على معلومات مقدم إلى المؤسسة الإقليمية المستقلة في إقليمي سينو وسان جورجي، وهي وكالة مراقبة بيئية إقليمية- ما زعمه مورينو. فهذه الوثيقة المؤلفة من مئات الصفحات، تكشف أنه لا يبدو أن الشركة كانت تملك ترخيصاً بيئياً لمنجم الكربون الجديد "La Estrella"، حينما بدأ مورينو بإطلاق اتهامات ضد المنجم.

بالإضافة إلى ذلك، تشير صور الأقمار الاصطناعية الصادرة من موقع "Planet Labs" -والتي حصل عليها عضو الاتحاد، مشروع "الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد" (OCCRP)- إلى أنه في أيار/ مايو 2022 -الوقت الذي أطلق فيه مورينو الاتهامات- كانت الشركة تجري بالفعل أعمال التنقيب في المنجم، على الرغم من عدم حصولها على رخصة بيئية. قال غوادالوبي غارسيا برادو -مدير مرصد الصناعات الاستخراجية في غواتيمالا- لـ "فوربيدن ستوريز": "الصور تكشف أن المنجم كان يُستغل بالفعل؛ نظرا لوجود دلائل على إزالة الغابات واسعة النطاق، وعلى وجود عمليات حفر". (لم ترد شركة "Carbomas" على أسئلتنا عن تاريخ بدء عمليات التعدين.)

ووفق وثيقة المؤسسة الإقليمية المستقلة في إقليمي سينو وسان جورجي، تقدمت الشركة بطلب الحصول على ترخيص بيئي، بعد شهرين من طلب مورينو الحصول على معلومات، وتحديداً في 21 حزيران/ يونيو 2022. وتمت الموافقة على منح الترخيص في تشرين الثاني/ نوفمبر؛ أي بعد نحو شهرين من مقتل مورينو.

ويبدو أيضًا، أن ادعاء مورينو الثاني كان يقوم على أساس متين؛ إذ يُلزم القانون الكولومبي الشركات بالتشاور مع المجتمعات المحلية في أثناء المرحلة الاستكشافية من أي مشروع تعدين، أو "عند اتخاذ أي قرار يؤثر عليها مباشرة". لكن "Carbomas"، لم تتشاور مع المجتمعات المحلية؛ بموجب إعفاء من وزارة الداخلية، وجاء في الوثيقة: "ليست هناك حاجة للتشاور المسبق مع السكان في شأن المشروع".

ولم تكن هذه الشركة حالة فردية. في الواقع، تبيع "Carbomas" الكربون إلى واحد من أكبر مناجم النيكل في القارة "Cerro Matoso" (سيرو ماتوسو). ووجه سكان محليون وصحفيون ونشطاء انتقادات لهذا المنجم؛ لتسببه في أضرار صحية وبيئية.

وكان من الطبيعي أن يحقق مورينو في أعمال هذا المنجم أيضاً.

داخل منجم سيرو ماتوسو (المصدر: عايدة ديلوبتش/ قصص محظورة )

الملوث رقم واحد

في منطقة غير معروف عنها الفخامة، يتأنق مدخل مدينة مونتليبانو بلافتة ذات ألوان صاخبة؛ مكتوب عليها "عاصمة النيكل"، وأمامها مجسم جرار من نوع "كاتربيلر 773D".

إذا كانت مونتليبانو معروفة بشيء واحد فقط، فهو بالتأكيد منجم "سيرو ماتوسو"؛ وهو أكبر منجم نيكل في أميركا اللاتينية، ورابع أكبر منجم في العالم من حيث المساحة، وتتجاوز شهرة هذا المنجم حدود منطقة قرطبة. وعلى طول طريق المدينة الضيق، تتقاطر الشاحنات الناقلة لمادة الفيريونيكل من هذا المنجم، إلى مدينة قرطاجنة الساحلية. ومن ميناء هذه المدينة، يُشحن النيكل إلى الصين وأميركا وأوروبا؛ إذ يدخل في صناعة منتجات الفولاذ المقاوم للصدأ.

في مونتليبانو، تعلن الشركة المالكة للمنجم "South32" -على لوحة فضية وضعتها احتفالا بمرور 40 عاماً على عملها- عما تقدمه من إسهامات للمجتمع. وتبرعت الشركة للبلدية بمجسم جرار، "رمزاً لأنشطة التعدين في المنطقة".

قال بيدرو أوفييدو، رئيس عمليات التعدين، لـ "فوربيدن ستوريز": "ننشارك في التحول إلى الطاقة الشمسية؛ لأن منتجاتنا مطلوبة بكثافة لإنتاج الألواح الشمسية".

ولكن بعيداً عن هذه الفخامة، يمثل منجم "سيرو ماتوسو" كارثة بيئية وصحية.

يقع المنجم على مساحة 85 هكتاراً، وسط محمية مملوكة لسكان قبيلة "زينو دي اليتو سان يورج". وتحيط بالمنجم مجموعة من السكان المحليين؛ بعضهم يسكن في قرية بويرتو كولومبيا، التي تقع على بعد 750 متراً فقط من المنجم.

قالت إستيلا إيزابيل هويوس أركيا، وهي من سكان بويرتو كولومبيا، إنها تشكو حكة في العين وغيرها من المشكلات الصحية، وأضافت لـ "فوربيدن ستوريز": "هنا لن تجد شخصاً واحداً يتمتع بصحة جيدة".

يعتقد السكان أن مداخن المنجم، التي تنشط بشكل خاص في الليل، هي المسؤولة عن هذه الأضرار الصحية. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، نشر مورينو صوراً لسحابة من الدخان الوردي. وبدا وكأن هذا الدخان الذي يغطي مساحات واسعة، ينبعث من مداخن سيرو ماتوسو. كتب مورينو ساخراً على إحدى الصور: "كم هي جميلة منطقتنا وهي مزينة بزخارف نبات سيرو ماتسو".

علقت "سيرو ماتوسو" على الصور، مدعية أن صور مورينو، وغيرها من الصور التي نشرت في نفس الوقت تقريباً، قديمة. ردا على ذلك، نشر مورينو وكوادرادو مقطع فيديو، يظهر فيه المنجم على مسافة بعيدة. يقول مورينو في الفيديو: "اليوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وسحابة الدخان الوردية التي تراها الآن هي السبب في كل المشكلات الصحية التي يعانيها السكان". (في تصريح لـ "فوربيدن ستوريز"، قال رئيس عمليات التعدين: "يخرج بخار الماء فقط من المداخن. وبالتأكيد، نتيجة لخطأ استثنائي في النظام، انبعثت هذه السحب الدخانية الوردية").

على الرغم من تصريح رئيس عمليات التعدين، تظهر سحب الدخان الوردية نفسها في مقاطع فيديو أخرى، التقطت للمنجم في العام نفسه، وفي نيسان/ أبريل 2022. وأكدت وزارة البيئة الكولومبية أن المنجم صدرت عنه "انبعاثات خارجة عن السيطرة" في الأشهر الأولى من عام 2017، وهو ما أكدته وزارتا الصحة والحماية الاجتماعية، اللتان أشارتا إلى وجود "سحابة دخان برتقالية" صادرة من المنجم.

وفي 2020، اتهمت المؤسسة الإقليمية المستقلة في إقليمي سينو وسان جورجي، "سيرو ماتوسو" بالتسبب في حدوث انبعاثات لجسيمات بمعدلات تتجاوز المعايير البيئية.

"سان ماتوسو" ردت على ما ورد في تحقيق "فوربيدن ستوريز" وشركائها، نافية تسببها في تلوث الهواء، قائلة: "أثبتت قياسات تلوث الهواء في 2022، عدم تجاوز الحد الأقصى لمتوسط التلوث السنوي، المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية". واستندت الشركة إلى شفافيتها في هذا الشأن، قائلة إن كل نتائج القياسات التي تم إجراؤها لعينات من المحطات، متاحة على الإنترنت.

وقال فيكتور بينيدا، موظف سابق في المنجم، إن الظروف الصحية داخل المنجم أسوأ؛ حيث "توجد انبعاثات غازية كثيرة في أثناء عمليات التعدين. وغالبا ما تحتوي هذه الانبعاثات على مواد مسرطنة، مثل السيليكا البلورية المسببة للسرطان".

وأضاف بينيدا أنه منذ بدء العمل في المنجم، تتراكم ملايين الأطنان من مخلفات المنجم في الهواء الطلق، ويمكن أن "تنتقل جزيئات عالية السمية مع هبات الرياح أو تمتزج في الأمطار؛ لتلوث المناطق المحيطة".

على بعد أربعة كيلومترات من المنجم، تتأثر قرية "غوريسيرا دي أوديسا" بانبعاثات المنجم، حتى أن الأطفال الصغار يعانون آلاماً "غير اعتيادية". بكت يولاندا روزا هايوس -63 عاماً- وهي تصف ما تعانيه قائلة: "الآلام تنتابني في كل مكان، وتظهر بقع سوداء في جميع أنحاء جسدي".

زارت يولاندا طبيباً -يتلقى راتباً من منظمة غير ربحية ذات صلة بالمنجم- ليشخّص أمراضها، فأخبرها بأنه لا يوجد داعٍ للقلق على صحتها. هذه المفارقة لم تنطلِ على كاميلو كاستيلانوس، طبيب السموم في الجامعة البابوية الكزافيريانية، الذي قال: "سيرو ماتوسو هي نفسها من تبت في الأمور الصحية".

لا ينتاب السكان أي شك في أن منجم النيكل يتسبب في مشكلات صحية مدمرة. قال أحد السكان: "ستذهب مشكلات التنفس بنا إلى المقابر".

مشروع رصد المياه بتنفيذ منجم سيرو ماتوسو في قرية قبيلة أوديسيا-غواكاري (المصدر: عايدة ديلوبتش/ قصص محظورة )

قضية محلية

في عام 2013، رفع إسرائيل أغيلار، زعيم قبيلة "زينو دي اليتو سان يورج"، ولويس هيرنان جاكوبو، زعيم القبيلة الكولومبية الإفريقية في سان خوسيه دي أوري، دعوى في المحكمة الدستورية الكولومبية ضد "سيرو ماتوسو"، ووكالتين وطنيتين للتعدين؛ وزارة التعدين ووكالة التعدين الوطنية للأضرار البيئية والصحية. وافقت المحكمة على النظر في القضية، وبذلت جهوداً مضنية في تحديد ما إذا كان المنجم مسؤولاً أم لا عن الأضرار التي لحقت بالمجتمعات المجاورة.

في إطار تحقيقات المحكمة، أجرى معهد الطب الشرعي والعلوم -إحدى وكالات الأبحاث البارزة في البلاد- دراسة غير مسبوقة؛ تهدف إلى قياس مدى وجود النيكل في الدم والبول لما يقرب من 1150 شخصاً يعيشون بالقرب من المنجم. النتائج التي اعتمدتها وزارة الصحة كشفت بوضوح عن وجود نيكل في الدم؛ بمعدلات أعلى بكثير من المسموح بها في الدراسات الدولية.

حملت إستيلا إيزابيل هويوس أرسيا، وهي من سكان قرية بويرتو كولومبيا، نتائج التحليل المفزعة؛ إذ يحتوي دمها على ستة ميكروغرامات نيكل، ويحتوي البول على 19 ميكروغراماً. هذه النتائج تشير إلى أن تركيزات النيكل في جسدها أعلى بنسبة تتراوح ما بين 10 و11 مرة من المعدلات الطبيعية، التي حددها المعهد الوطني للصحة العامة في كيبيك، الذي يتبنى أحد أكثر المعايير صرامة على مستوى العالم.

في آذار/ مارس 2018، أصدرت المحكمة الدستورية حكمها ضد شركة "سيرو ماتوسو" بإلزامها بدفع تعويض مادي وتقديم خدمات الرعاية الصحية للمجتمعات المتضررة، فضلاً عن تجديد ترخيصها البيئي الذي يعود تاريخه إلى عام 1981. وإذا أخفقت الشركة في الامتثال لحكم المحكمة؛ تحتفظ المحكمة بالحق في "وقف أنشطتها الاستخراجية". وكلت شركة "South32"، شبكة من محامين نافذين؛ من ضمنهم إيدرو سيفوينتس مونوز، الرئيس السابق للمحكمة الدستورية الكولومبية؛ لاستئناف القضية. وقال المحامون إن المحكمة "أساءت تفسير التقرير الطبي الذي نشره معهد الطب الشرعي والعلوم"، مضيفين أنه " لم يتمّ إثبات العلاقة السببية بين أنشطة تعدين سيرو ماتوسو وما لوحظ على السكان".

وأضاف محامو الشركة، أنه من المستحيل عزو المستويات العالية من النيكل في العينات إلى المنجم، قائلين إن العوامل الخارجية الأخرى؛ ربما أثرت على النتائج.

ومع ذلك، كانت جميع المؤسسات العامة والأطراف ذات الصلة، بما في ذلك سيرو ماتوسو نفسها، قد تحققت من منهجية معهد الطب الشرعي.

قال كاستيلانوس، عالم السموم في جامعة جافريانا وعضو فريق منهجية المعهد: "بالطبع هناك عامل خارجي، وهو المنجم نفسه. كانت مستويات النيكل التي لوحظت في العينات أعلى بنسبة تتراوح ما بين 10 و100 مرة من معايير كيبيك المعمول بها قانونياً. وبالإضافة إلى ما جاء في التقرير، فإن مستويات النيكل مرتفعة بما يكفي لدرجة أنني مقتنع أشد الاقتناع أن المنجم يتسبب في تسمم مزمن للسكان".

قال خافيير دي لاهوز، المحامي الموكل في ذلك الوقت عن المجتمعات المحلية، لـ "فوربيدن ستوريز": "هذا هو أقوى دليل ممكن على أن المنجم يتحمل مسؤولية هذه الأضرار".

في ردها على "فوربيدن ستوريز"، استشهدت "سيرو ماتوسو" بتقرير أصدره في 2016 عالم سموم أميركي "مشهور دوليا"؛ يطعن في منهجية معهد الطب الشرعي.

ومع ذلك، بعد عدة أشهر، وتحديداً في أيلول/ سبتمبر 2018، تراجعت المحكمة الدستورية عن حكمها، وصوتت في محكمة الدرجة الثانية بإلغاء معظم الإجراءات ضد سيرو ماتوسو. أرجع دي لاهوز هذا الأمر إلى الفساد، قائلاً إلى "فوربيدن ستوريز": "أكدت لي هذا الأمر ثلاثة مصادر رفيعة المستوى، شهدت الجلسات الداخلية".

لم تُثر هذه القضية وحدها الجدل حول أنشطة سيرو ماتوسو؛ فقد كشفت "فوربيدن ستوريز"، أنه في عام 2015، وبينما كانت المحكمة الدستورية تنظر في الاتهامات البيئية الموجهة ضد المنجم، وقع حدث كبير آخر. حينها، باعت مجموعة التعدين "BHP Billiton" المالكة للمنجم منذ عام 1980- أصولها غير الأساسية إلى الشركة الأسترالية "South32" المنبثقة من شركة "BHP Billiton". وحاولت الأخيرة سابقاً أن تبيع "سيرو ماتوسو"، ولكن من دون جدوى. وبالتالي، ورثت "South32" الأصول غير الاستراتيجية لعملاق التعدين "BHP Billiton".

قال دي لا هوز: "أنشأت BHP Billiton شركة South32، للتخلص من جميع مشاريعها القذرة".

في السنوات التي تلت تسوية الدعوى المرفوعة ضد سيرو ماتوسو، تم التوصل لبروتوكول تشاور مع المجتمعات المحلية. وفي ردها علينا، أبرزت "سيرو ماتوسو" إنفاقها نحو 12 مليون يورو على مشاريع اجتماعية؛ استفاد منها السكان المحليون.

جميع المنازل المشيدة في القرية (بويرتو كولومبيا) والأقرب إلى المنجم، جديدة تماماً، ولا تزال منازل أخرى قيد الإنشاء. لكنّ السكان يجادلون بأن هذا لا يكفي. قال هويس أريكا: "لا تقدر صحتنا بثمن، وهذا المنزل الجديد لن يعيدها".

وتأثر صحياً سكان آخرون في سان خوسية دي أوري، وهي قرية أفرو-كولومبية؛ تقع على بعد 10 كيلومترات من منجم سيرو ماتوسو. هناك ظهرت بوادر كارثة صحية؛ فعلى مدار العامين الماضيين، أجرت نحو 20 امرأة في القرية عملية استئصال رحم. ووفق تحقيق ميداني أجرته إذاعة فرنسا الدولية -وهي عضوة في اتحاد "فوربيدن ستوريز"- كانت النساء تعاني الأعراض نفسها؛ التي تتمثل في نزيف حاد وألم لا يطاق. وتساءلن: "لماذا يعاني الكثير منا هذا؟".

وفق تقرير صادر عن معهد الطب الشرعي، فإن الأورام الليفية الرحمية؛ واحدة من 17 مرضاً ينتشر بين السكان المحيطين بالمنجم. وعلى الرغم من أن المحكمة أمرت سيرو ماتوسو بتوفير رعاية صحية شاملة لضحايا هذه الأمراض، لم تتلقَ أي من هؤلاء النساء أي رعاية. وجادلت "سيرو ماتوسو" في ردها على "فوربيدن ستوريز" أن شخصاً واحداً فقط قد طلب الرعاية.

استقال أغيلار، زعيم القبيلة، من عمله. وقال: "لم نصل إلى أي اتفاقية نهائية حول الأمور الصحية"، مضيفاً: "أن التأثير على الأرض أسوأ من ذي قبل".

عائلة من قرية بويرتو كولومبيا، الأقرب إلى منجم سيرو ماتوسو (المصدر: عايدة ديلوبتش/ قصص محظورة )

انتقاد أنشطة التعدين في قرطبة محفوف بالمخاطر

مثلهم مثل مورينو، استمر القادة المحليون والسكان في انتقادهم للأضرار الصحية والبيئية؛ الناتجة عن أنشطة التعدين في المنطقة، وعرضهم هذا -في معظم الحالات- لمخاطر جسيمة.

منذ توقيع اتفاقيات السلام بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية لكولومبيا، قُتل 56 من القادة المحليين؛ العديد منهم قاوموا مشروعات التعدين في قرطبة، جنوبي البلاد. وفق مرصد حقوق الإنسان والصراع -مشروع نفذه معهد دراسات السلام (إنديباز) في كولومبيا- كانت أنشطة التعدين هي المصدر الأكثر شيوعاً للنزاعات الاجتماعية والبيئية في البلاد.

كان على أغيلار، الذي يمثل المجتمعات المحلية في المنطقة وعامل المناجم السابق، أن يتخذ احتياطات عديدة في حياته اليومية. قال لـ "فوربيدن ستوريز": "لا يمكنني التنقل في الأماكن العامة. وفي المنزل، لا يمكنني حتى قضاء أكثر من 20 دقيقة في الشرفة، لأن الأمر ينطوي على مخاطر كبيرة". وأغيلار واحد من نحو 200 مدافع عن حقوق الإنسان مشمول بحماية وحدة الحماية الوطنية في قرطبة.

رافق حراس أمن مسلحون أغيلار، أثناء خطبه في المناسبات العامة، ودائما ما كان يتلقى تهديدات.

قال أحد المصادر الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته خشية المخاطر الأمنية: "هنا، يوجد مثلث قوى؛ الجماعات المسلحة (قبيلة ديل جولف، أكبر عصابة تهريب مخدرات في البلاد)، السياسيون وأصحاب المصالح في أنشطة التعدين. يشكل كل طرف منهم جزءاً في نظام الجريمة والفساد".

وقال مصدر آخر: "بالتأكيد جميع شركات التعدين هنا تدفع أموالاً لهذه العصابة"، مضيفاً: "حيثما توجد مناجم، توجد مجموعات شبه عسكرية".

عمل فيكتور بينيدا، موظفاً سابقاً بمنجم سيرو ماتوسو. وترك الشركة في عام 2003 بعد 22 عاماً من العمل بسبب مشكلات صحية؛ تتمثل في خلل في جهازه العصبي وسلسلة من المشكلات الصحية في الجهاز الهضمي والقلب. سعى بينيدا طوال 20 عاماً للحصول على اعتراف بأن مرضه يرجع إلى عمله في المنجم، وبالتالي يحصل على تعويض. واتهم بينيدا الشركة بعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحمايته من الحرارة الشديدة.

بعد عدة أيام من اغتيال مورينو، شارك بينيدا عدة منشورات لمورنيو على فيسبوك عن سيرو ماتوسو. بعد أسبوع، وجد خطاب تهديد في شرفته، جاء فيه: "توقف عن محاولة التصرف كقائد بيئي، رأيت ما حدث للصحفي رافائيل مورينو في مونتليبانو. نحن نحذرك".

قال: "لا أعرف لماذا تعرضت للتهديد. الكثيرون ينتقدون عمليات التعدين، ولست قائداً ولا متحدثاً رسمياً".

أورجانيس كوادرادو، زميل مورينو الذي انتقد بشدة صناعة التعدين، قرر بدوره، البقاء بعيداً عن الأنظار منذ وفاة زميله. منذ تشرين الأول/ أكتوبر، يدير كوادرادو برنامجاً محلياً عن الموسيقى والأخبار في محطة "la Piragua" الإذاعية. قال كوادرادو: "لدي عائلة وأريد أن أرى أطفالي وهم يكبرون. أعلم أن الدور سيصيبني إذا ما واصلت التنديد بأنشطة التعدين، كما كنت أفعل برفقة رافائيل".

منذ وفاة مورينو، لا يسير كوادرادو إلا برفقة اثنين من الحراس الشخصيين، ولا يسافر إلا في سيارات مصفحة. كان مقتل صديقه وزميله، نقطة تحول في المنطقة. حتى وإن ظل البعض ينتقد، فقد صمت الكثير. قال كوادرادو: "هنا يسود الصمت".