اغتيال رافائيل مورينو:
الكشف عن الملايين المختلَسة في كولومبيا
18/04/2023
تحقيق
بالوما دوبون دي دينتشين
شارك في التحقيق أندريا رينكون (كويستيون بوبليكا) وإدير بويتراغو (كويستيون بوبليكا) وإيفون رودريغيز (كليب) وكلوديا دوكي (صحفي حر) وخوان دييغو كوسيدا (الإباييس) وفيليبي موراليس (الإسبكتادور) وغيرهم.
بعد ستة أشهر من اغتيال الصحفي الكولومبي رافائيل مورينو، يستكمل 30 صحفيا -بتنسيق من منظمة "فوربيدن ستوريز" (قصص محظورة)- تحقيقاته في مزاعم وقوع فساد على نطاق واسع في مقاطعة قرطبة. وتكشف التحقيقات عن تفشي المحاباة في إسناد عقود الأشغال العامة التي ربما تبلغ قيمتها ملايين الدولارات.
"إذا أردت أن تقتلني، اقتلني، ولكنني أقولها لك مباشرة: لن تسكتني".
بهذه الكلمات، تحدى الصحفي الكولومبي، رافائيل مورينو -في بث مباشر مدته 37 دقيقة على فيسبوك بتاريخ 21 تموز/ يوليو 2022- أعداءه وتوقع مصيره.
يظهر مورينو في الفيديو وهو يرتدي قبعة وقميص "بولو" أبيض؛ يحمل اسم وسيلته الإعلامية "Voces de Córdob" (أصوات قرطبة). ولمدة تتجاوز نصف الساعة، يدين بشدة الصحفي الاستقصائي -الذي كان قد افتتح حانة ومطعم مشويات؛ لتغطية نفقات صفحتين يديرهما على فيسبوك- الفساد في مقاطعة قرطبة، التي تقع في شمالي مقاطعة ميديلين بكولومبيا. وهي واحدة من أفقر مناطق البلاد وأكثرها عنفاً وفساداً، وتعتبر ممراً استراتيجياً لتهريب المخدرات.
ينظر مورينو إلى الشاشة، ويقدم الدليل على ما يقوله، بذكره العقود الوهمية المبالغ في قيمتها، ومشاريع الأشغال العامة غير المكتملة، والشركات التي تستفيد من الفساد والاختلاس المستشرييْن في المنطقة. ثم يعقب قائلاً: "إنهم يسرقون أموال البلدية"، قبل أن يناشد بالقول: "يجب أن يتم فضح الفساد في هذه المنطقة".
منذ التوصل إلى اتفاقيات سلام بين الحكومة الكولومبية والجماعة المتمردة، التي أطلقت على نفسها اسم "القوات المسلحة الثورية لكولومبيا" (أو "فارك" بالأحرف الأولى من اسمها باللغة الإسبانية)، تخصّص مورينو في كشف الفساد وعمليات تهريب المخدرات، لدرجة وصلت إلى أن التحقيق في هذه القضايا أصبح شغله الشاغل. ولم يفلت أحد من التغطية الصحفية الاستقصائية لـ "Voces de Córdoba" التي تم إطلاقها عام 2018، فتناول مورينو فساد السياسيين المحليين، وشركات التعدين والجماعات شبه العسكرية. ووصل في بعض الأحيان الأمر إلى الحد الذي لا يمكن معه أن تمر القصص التي تنشر على صفحة مورينو -التي تتابعها أعداد متزايدة، وصلت إلى 56 ألف متابع- مرور الكرام.
قبل ثلاثة أسابيع من نشر الفيديو، وجد مورينو خطاباً على دراجته النارية، وبداخله رصاصة، فما كان منه إلا أن حملها أمام الكاميرا، وأخذ يقرأ الخطاب: "الآن أنت تعلم أننا نعرف كل تحركاتك؛ أين تذهب، ومتى تستيقظ ومتى تنام، نحن نعلم الحانة التي ترتادها في مونتيليبانو (موطن مورينو)، نحن نعرف كل شيء عنك ولن نسامحك على ما تفعله. الآن أنت على علم يا صديقي أن باقي رصاصات المسدس عيار 9 ملم، جاهزة لك".
بعد أشهر، وتحديدا في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وبينما كان مورينو يغلق الحانة ومطعم المشويات بعد السابعة مساء، دلف إلى المطعم رجل يرتدي قبعة بيسبول، وبحسب تحقيقات الشرطة، أخرج الرجل مسدساً وأطلق النار ثلاث مرات على مورينو؛ ليلفظ بعدها بلحظات أنفاسه الأخيرة. وحتى الآن، ما زال القاتل حراً.
قُتل الصحفي الاستقصائي الكولومبي، ولكنه ترك خلفه مستندات، لا يمكن إبقاء ما تكشفه طي الظلام.
على مدار الأشهر الستة الماضية، توحدت جهود 30 صحفياً؛ لاستكمال عمل مورينو، بناء على رغبة أبداها قبل بضعة أيام من اغتياله، حينها تواصل مورينو مع "فوربيدن ستوريز" (قصص محظورة)، لطلب الانضمام إلى شبكة "سيف بوكس" (صندوق الأمان)، التي تتيح للصحفيين الذين يتعرضون للتهديدات الاحتفاظ بمعلوماتهم الحساسة وحمايتها. وفي حال وقوع أي مكروه لهم؛ تستكمل "فوربيدن ستوريز" وشركاؤها عملهم، لضمان وصول قصصهم إلى الجمهور حول العالم.
ساعدتنا مئات المستندات ورسائل البريد الإلكتروني -التي استطاع اتحاد "فوربيدن ستوريز" الاطلاع عليها- في استكمال تحقيقات الصحفي المقتول، في شأن الفساد والاختلاس. اليوم ننشر هذه التحقيقات جانباً إلى جنب مع 32 شريكاً إعلامياً حول العالم. ومن خلال تحليلنا للوثائق التي جمعها الصحفي الكولومبي، بالإضافة إلى العقود العامة الأخرى التي تم الحصول عليها بموجب طلبات الحصول على المعلومات من البلديات المشمولة في استقصاء مورينو، بجانب العمل الميداني وإجراء مقابلات مع عشرات المصادر، يكشف الاتحاد عن تفشي المحسوبية في مقاطعة قرطبة، ويزيح الستار عن اختلاسات محتملة؛ تقدر بملايين الدولارات وقعت في خمس بلديات. وتجرى هذه الممارسات في ثنايا نظام متضخم، قضى مورينو حياته المهنية محاولاً تفكيكه، وربما دفع حياته ثمناً في سبيل ذلك.
دقيقة حداد في ذكرى رافائيل مورينو في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
"صوت قرطبة"
بعد أربعة أيام من اغتيال زوجها، عادت كيارا مورينو بصحبة أفراد من العائلة وصحفييِن من اتحاد "فوربيدن ستوريز" إلى الشقة التي اتخذها الصحفي مكتباً له.
أول ما ظهر على طاولة مكتبه، كانت مجموعة من المستندات الإدارية، التي حصل عليها مورينو بموجب حق الحصول على المعلومات فيما يخص العقود العامة، ففي كولومبيا، يعد هذا الحق أداة قوية للحصول على معلومات تتعلق بالشؤون العامة.
ولكن على الرغم من السهولة النسبية لتعبئة استمارات طلب الحصول على المعلومات، إلا أنها وسيلة محفوفة بالمخاطر؛ خاصة في المناطق الخطرة مثل قرطبة. ومع ذلك، كان مورينو أحد الصحفيين القلائل، الذين لديهم قدر كافٍ من الشجاعة، يُمكّنهم من تقديم مثل هذه الطلبات. وقد فعل ذلك بحماسة قبل اغتياله؛ فقدم أربعة طلبات للحصول على المعلومات، في الأيام العشرة التي سبقت اغتياله.
لم تغطِ الصحافة وحدها نفقات مورينو المعيشية؛ ففي عام 2022، فتح مغسلة سيارات، وحانة ومطعم مشويات "رافو باريلا"، حيث لاقى مصرعه هناك. وفي كل أسبوع، كان يستعير سيارة أحد أصدقائه ويقودها لمدة خمس ساعات؛ لشراء السمك وبيعه لجيرانه.
على الرغم من هذه الأنشطة، وجد مورينو وقتاً لتسجيل مقاطع فيديو، ومشاركة المحتوى على صفحتيْن يديرهما على فيسبوك؛ وهما "الصحفي الاستقصائي رافائيل مورينو" و"أصوات قرطبة". على هاتين الصفحتين، طال النقد الجميع، من مستشارين ورؤساء بلديات ومحافظين؛ وحتى الصحفيون لم يسلموا، جميعهم كانوا في مرمى نيران مورينو. تسترجع مايرا شقيقة مورينو ما قالته له: "أنت تتجاوز الخطوط كلها، لدرجة أنه يمكنك انتقاد أختك". وتتذكر رده: "نعم، إذا فعلت أشياء سيئة".
لم تقيده أي حدود فيما يتعلق بإدانة الفساد، هكذا قال أصدقاء مورينو وعائلته. ففي مقابلة مع صديق مورينو القديم -سكرتير مجلس وزراء بلدة بويرتو ليبرتادور (المنطقة التي نشأ فيها مورينو)- رافائيل مارتينيز، يقول: "كان يكشف باستمرار أخطاء محرجة"، مضيفاً: "كان يمكن أن يقتله أي شخص".
دقيقة حداد في ذكرى رافائيل مورينو في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
عائلة نافذة
في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بدأ مورينو، الذي كان يعلم أنه معرض لتهديدات خطيرة، بمشاركة مواد من التحقيق النهائي الذي كان يعمل عليه، مع مديري شبكة "سيفبوكس" التابعة لـ"فوربيدن ستوريز". وفي اتصال هاتفي قبل تسعة أيام من اغتياله، صرح بالقول: "نعمل حالياً على تحقيق حساس للغاية، وتواجهنا عدة مشكلات"، مضيفا: "يتعلق الأمر بنمط يتيح للمسؤولين العموميين، ورجال الأعمال والاتحادات (المكونة من شركات محلية) استخدام مواد من نهر "أوري" لمشاريع الأشغال العامة، من دون أي نوع من التصاريح أو الترخيص أو الملكية".
من خلال عمله الميداني، اكتشف مورينو أن عشرات الشاحنات تساق إلى نهر متاخم لمتنزه عام، حيث تُنهب الرمال -وفق مورينو- لتستخدم في مشروعات البناء العامة، وهو ما عدّه أمراً غير قانوني. وأجرى مورينو مقابلات مع عمال، ليخلص إلى أن الرمال تُنقل من على ضفاف نهر أوري؛ لتستخدم في مشاريع عامة من دون ترخيص بيئي، على الرغم من أن المنطقة محمية بيئيا. علاوة على ذلك، قاد التتبع مورينو إلى إحدى أكثر العائلات نفوذاً؛ وهي عائلة كالي، التي تملك الأرض.
في أواخر أيلول/ سبتمبر 2022، صور مورينو -بينما كان يرتدي نظارات شمسية وقبعة سوداء من طراز "نايك"- ما كان يعتقد أنه مسرح الجريمة؛ وهي قطعة أرض مملوكة لكارمن أغوا، زوجة غابرييل كالي، عميد عائلة كالي؛ وهي واحدة من ست عائلات في المنطقة، تتنازع على النفوذ السياسي.
نشر مورينو الفيديو على صفحته على "تويتر"، مشاركاً إياه مع نجل غابريل كالي، أندريس كالي، ووزير الداخلية، ومكتب المدعي العام، ووكالة حماية البيئة، ورئيس كولومبيا، غوستافو بيترو. وشجب في الفيديو مخطط سرقة الموارد، وهو يشير إلى لودر حفار (آلة تستخدم في الحفر) يقف على بعد. شاهد الفيديو نحو 1600 مستخدم، وهو ليس رقماً كبيراً، ولكنه يكفي لتلطيخ صورة العائلة النافذة.
كالي -عميد العائلة، نائب محلي سابق والرئيس السابق لبلدية مونتيليبانو، بين عامي 2012 و2015- يخضع للتحقيق في العديد من تهم الفساد؛ من ضمنها تضارب المصالح والإثراء غير المشروع. كانت عائلته أيضاً متورطة في الماضي في تجارة المخدرات؛ إذ أدين ابن عم كالي، سيزار كورا ديمويا، بتهريب المخدرات وغسيل الأموال في أميركا.
يتسع نطاق النفوذ السياسي لعائلة كالي في مدينة قرطبة؛ حيث شغل أحد أبناء العائلة، غابرييل كالي أغواس، منصب مدير الحملة المحلية للرئيس الكولومبي الحالي غوستافو بيترو، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الداخلية. والآن هو مرشح لمنصب رئيس بلدية قرطبة في الانتخابات المحلية، المقرر إجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
يرى يامير بيكو، ابن عم مورينو، وهو صحفي أيضا، أن تحقيق مورينو الأخير "حساس للغاية"، لا سيما أنه يأتي بالتزامن مع الحملة الانتخابية الجارية. قال بيكو في مقابلة مع "فوربيدن ستوريز": "تناول رافائيل أملاك عائلة كالي، وهي عائلة يتعامل معظم الناس معها بحرص، لمعرفتنا بما يمكن أن يصدر عنها من ردة فعل". زعم ثلاثة صحفيين مقربين من مورينو -بما في ذلك بيكو، الذي شارك مورينو في العمل على تقاريره عن هذه العائلة- أنهم تلقوا تهديدات بعد مقتل مورينو.
في رده على ما جاء في تحقيق اتحاد "فوربيدن ستوريز"، نفى غابرييل كالي ديمويا أي مسؤولية عن استخراج الرمال. وقال: "المشكلة ليست متعلقة بغابرييل كالي، المالكة المحتملة لموقع الاستخراج غير القانوني، بل المسؤولية تقع على عاتق الشركات التي تنفذ أعمالها برمال مستخرجة بشكل غير قانوني". وأضاف رئيس بلدية مونتليبانو السابق أنه تم تصوير الشاحنات موضع التحقيق في طريق عام، وليس في نطاق الأرض التي ترجع ملكيتها لزوجته، على الرغم من أن السجل العقاري لا يسجل أي طريق عام داخل حيز هذا الموقع.
بدأنا التحقيق بفحص الفيديو، الذي صوره مورينو للشاحنات التي اتهمها بسرقة الموارد، ومن خلال لوحاتها المعدنية؛ تمكنت "فوربيدن ستوريز" من تتبع ملكيتها، لنجد أنها مملوكة لشركة البناء "JV Ingenieria"، التي يمثلها "جوان كارلوس آمادور كارسكال". ويرتبط رجل الأعمال نفسه بفضيحة تجديد مدرسة باستخدام مواد بناء رديئة؛ أدت إلى تسرب المياه القذرة إلى الفصول الدراسية. ولم يرد كارسكال على طلبات التعليق المرسلة إليه.
في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، قبل أربعة أيام من اغتياله، قدم مورينو طلب الحصول على معلومات عن نهر أوري وممتلكات كالي إلى مجلس المدينة.
ووصل الرد، ولكن بعد يومين من مقتل مورينو.
تواصلت "فوربيدن ستوريز" مع كوستدو ليبرو أكوستا يورزولا، رئيس بلدية سان خوسيه دي أوري، حيث تقع ممتلكات كالي. وقال يورزولا إن البلدية "لم تكن على علم باستخراج الرمال من نهر أوري" وأنها كانت تراقب "النقاط المحتملة لاستخراج المواد، من دون نتائج".
عامر خان بيكو، ابن عم رافائيل مورينو وهو يعمل صحفيا، وتوقف عن مواصلة التحقيقات بعد اغتيال مورينو
(المصدر:
دييجو كويفاس من El País
)
من معلم إلى عدو
إذا كانت عائلة كالي تشكل أساس تحقيق مورينو النهائي، فإن شغله الشاغل كان "عشيرة" أخرى، وعشيرة وصف يطلقه مورينو وصحفيون محليون آخرون على العائلات ذات النفوذ السياسي في المنطقة. دارت عدة تحقيقات لمورينو حول هذه "العشيرة"، ولطالما ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً، ومن المفارقات أن مورينو دخل إلى عالم الصحافة من بوابة هذه العائلة.
ولد مورينو ونشأ في قرية صغيرة منعزلة في المنطقة الجنوبية من قرطبة، تسمى بويرتو ليبرتادور، ولم يكن في الحسبان أن يصبح صحفياً، وفي صباه، بدأ مورينو العمل في منجم محلي في قرية مجاورة. ثُمّ غادر منطقته؛ ليعمل في قطف أوراق الكوكا وإكمال خدمته العسكرية، وعندما عاد إلى المنطقة في سن العشرين، التقى الرجل الذي غير مسار حياته، إسبديتو دوكي.
كان دوكي سياسياً ساحراً، بارعاً في مخاطبة الحشود وبث الثقة في نفوس الآخرين، وقد كان هدفه واضحاً، متمثلاً في تخليص بويرتو ليبرتادور من عائلة كاراسكال الحاكمة، التي كانت تسيطر بمفردها على المنطقة لنحو عقد من الزمان.
عندما صادف مورينو دوكي لأول مرة، كان السياسي الساحر يسوّق نفسه للناس مستنداً إلى قصة الارتقاء من الفقر إلى الثراء؛ من بائع ليمون إلى مرشح سياسي. كان يصدر نفسه باعتباره مرشح الشعب، يتحدث عن العدالة الاجتماعية والمعاملة الكريمة للفقراء والمحتاجين. سحر دوكي لب مورينو، وبمرور الوقت، كاد أن يصبح بمثابة الابن الثاني لدوكي، وأشرك عائلته في حملة دوكي أيضا. في مقابلته مع "فوربيدن ستوريز"، كرر دوكي القول بأن: "مورينو كان مثل ابنه".
تتذكر مايرا، أخت مورينو الصغرى، هذه الفترة بالقول: "لقد فعلنا كل شيء من أجله. كان رافائيل يده اليمنى، وكان عملياً مدير اتصالاته".
بعد حملتيْن فاشلتيْن، و12 عاماً من السعي بدأب، اُنتخب دوكي عام 2015، وعمل مورينو لصالح رئيس البلدية الجديد، وأسندت إليه أول مهمة؛ تمثلت في تركيب مولدات كهرباء في المناطق الخالية من خدمة الكهرباء. يقول الأشخاص الذين يعرفونه إنه أنجز هذه المهمة بعزم، وكمكافأة له، ساعدته إدارة البلدية في دفع رسوم دراسته للقانون لمدة فصل دراسي واحد، ولكنّ المقربين من مورينو يقولون إنه في هذا الوقت كان قد أصيب بخيبة أمل من دوكي. واكتنف علاقتهما التوتر.
شعر مورينو ببطء في تنفيذ التغييرات التي وعد بها دوكي -هذا إنْ نفذت أصلاً- وما زاد الطين بلة أن رئيس البلدية الجديد، عيّن الموظفين الفاسدين أنفسهم، الذين خدموا في الإدارات السابقة. وبحلول عام 2017، قرر مورينو ترك مكتب رئيس البلدية إلى الأبد.
بعد عدة سنوات من هذه الواقعة، دوّن مورينو هذه التجربة على فيسبوك، قائلا: "أتذكر عند لحظة الانتصار، قبّلتُ يد والدة إسبيديتو دوكي، وشكرتها على أنها أنجبت مصدر آمالنا، ولكم كنت مخطئاً، لدرجة أن هذه الذكرى ما زالت تؤلمني. لقد جعلنا نعتقد أنه سيغير الأمور، لكنه أحاط نفسه بالأشخاص أنفسهم، الذين طالما انتقدناهم، وبهؤلاء الذين عرقلوا آمالنا في انتخابنا".
في كانون الأول/ ديسمبر 2018، واصل مورينو سلسلة تغيير مساراته المهنية، فمن عامل في منجم، إلى ناشط سياسي، قبل أن يصبح موظفاً، وفي الأخير تحول إلى صحفي، وقتها أطلق صفحة "Voces de Córdoba" للتحقيق في تجاوزات الإدارة التي كان يعمل بها ذات يوم؛ وبدأ بتحليل العقود التي وقّعها معلمه السابق.
أرجع دوكي، الذي وافق على الرد على أسئلة اتحاد "فوربيدن ستوريز"، أفعال مورينو إلى دوافع شخصية للانتقام، قائلا: "بعد أن توقفت عن دعمه، أعلن أنه سيفعل كل ما في وسعه لتدمير المشروع السياسي"، مضيفًا: "لقد كان مليئًا بالكراهية والغضب والاستياء".
وفي وقت لاحق، بحث مورينو في العقود التي أبرمها خليفة دوكي، إيدير جون سوتو، ويوصف الأخير على نطاق واسع بأنه "رجل قش" (واجهة) يمثل مصالح "عشيرة" دوكي. استفاد سوتو -المنتخب في عام 2019- من استثمارات كبيرة، ضختها عائلة دوكي؛ بما في ذلك إسهام أخت دوكي في الحملة الانتخابية بنحو 15 ألف دولار. كان دوكي قد أطاح بعائلة حاكمة، لتحل محلها عائلته. علق دوكي على هذا الأمر بأن "السيد إيدير جون هو وحده من يعرف مصادر تمويل حملته".
يقول الموظفون المحليون إن العمدة السابق يتحكم في مجريات الأمور من خلف الكواليس. ووفق مسؤول محلي، طلب عدم الكشف عن هويته مخافة العواقب: "دوكي هو صاحب القرار في كل ما هو مهم في البلدية"، مضيفا: "يستقبل الزوار في منزله ابتداء من الساعة 11 مساء وحتى الساعة 3 صباحاً في معظم الأوقات، يذهب الجميع إلى هناك لطلب خدمات: عقود أو ترشيحات أو توصيات".
وحتى بعد مقتل مورينو، ما زال الوضع على ما هو عليه.
دقيقة حداد في ذكرى رافائيل مورينو في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
الرجل الذي جعل الأسواق العامة ترتجف
منذ اليوم الأول الذي ترك فيه إدارة دوكي، وضع مورينو هدفاً واحداً نصب عينيه، وهو الكشف عن أدلة على وجود فساد ممنهج واسع النطاق، يديره معلمه السابق و"عشيرته".
كان أسلوب الصحفي سهلاً؛ يزور الموقع الإلكتروني الرسمي الذي تُنشر عليه العقود العامة، ثم يحتفظ بنسخة من العقود والميزانيات المخصصة لها ومقترحات التنفيذ، وبعدها ينتقل إلى الميدان؛ ليعرف إذا ما كان المشروع يسير على ما يرام.
وسهل من عمل مورينو المناخ التنظيمي المتراخي، الذي أعقب إبرام اتفاقيات السلام بين الحكومة الكولومبية ومتمردي القوات المسلحة الثورية الكولومبية في 2016. وسهلت هذه الاتفاقيات الوصول إلى الأموال العامة في مناطق مثل بويرتو ليبرتادور التي تأثرت بشكل خاص بالنزاع المسلح المستمر منذ أكثر من 50 عاماً.
وبلغ إجمالي الاستثمارات في بلديات الإقليم الخمس 100 مليون دولار. في الأساس، تم تخصيص هذه الأموال لمجريات العمل في أكثر من 130 مشروعاً عاماً؛ يتضمن إصلاح الطرق والتعليم والرعاية الصحية، فضلاً عن مشاريع البنية التحتية للإسكان والطاقة. بدأ مورينو عمله انطلاقاً من هذه البلديات الخمس، واستفاد من قوانين الشفافية؛ للحصول على هذه العقود وأفادته دراسته للقانون في نقدها.
على الرغم من ذلك، أكد نشطاء أن الكثير من المشروعات لم يكتمل قط. وقال إنير نيفيس بينتو، رئيس شبكة فيدوريس بجنوب قرطبة، وهي مجموعة مراقبة مدنية: "لقد أدركنا أن العديد من هذه الأعمال لم يكتمل أو حتى لم يبدأ، لذا بدأنا في إعداد قائمة بهذه المشروعات، وذهبنا لمعاينة مواقعها".
نشر مورينو هذه التحقيقات على صفحته على فيسبوك، التي سرعان ما أصبحت مرجعاً في المنطقة. في أحد أشهر تحقيقاته، استقصى مورينو مشروع تجديد الملعب المحلي في بويرتو ليبرتادور. على الرغم من توقيع عقد بأكثر من مليون دولار، والموافقة على العديد من التمديدات، تم وقف المشروع في النهاية. أطلق مورينو -ساخراً- على هذا الملعب اسم "استاد الخلود".
في هذه المنطقة الفقيرة ذات التاريخ الطويل من العنف المتمثل في حروب العصابات، أثارت المبالغ التي أهدرت في مشروع الاستاد، اشمئزاز الكثيرين. أتى تحقيق مورينو بالدليل على ما يعرفه بالفعل أبناء المجتمع من أن الموارد تم تبديدها. ولمعت صورة الصحفي في أعين البعض ممن عدّوه مناضلاً في سبيل الشفافية.
لكن هذه التحقيقات جرّت عليه تهديدات من الجماعات المسلحة المحلية، فجزء من الأموال المستثمرة في الأشغال العامة يُستقطع بانتظام لصالح هذه الجماعات، وهو نوع من الضريبة المخصصة للحفاظ على السلام، وسبق أن أطلق عليها مورينو اسم "اللقاح". وفي محادثاته مع "فوربيدن ستوريز"، انتقد مورينو هذا "اللقاح"؛ لما ينطوي عليه من فساد، وهو ما أدى، بدوره، إلى تنامي التهديدات الموجهة إليه، منذ عام 2019 تقريباً.
في ذلك العام، اتخذت عصابة تسمى "كاباروس"، مورينو هدفاً لها. بعد ذلك بعامين، اختطفته عصابة "جولف"، التي تتقاسم أراضي المنطقة مع "كاباروس"، واستجوبته لبعض الوقت.
اعتاد مورينو أن يبلغ وحدة الحماية الوطنية عن هذه التهديدات، وتتولى هذه الوكالة مسؤولية اتخاذ تدابير حماية الصحفيين في كولومبيا، لكنّ تدابير الحماية التي تلقاها لم تكن منتظمة، ولم تطبق يوم اغتياله.
ما هي وحدة الحماية الوطنية الكولومبية؟ هنا
على الرغم من هذه المخاطر، استمر مورينو في الضغط على إدارة دوكي، ليس فقط من خلال الضغط العام، ولكن أيضاً عبر تقديم طلبات الحصول على المعلومات ورفع شكاوى قانونية. في النظام القانوني الكولومبي، يمكن أن يفضي هذا النوع من الطلبات والشكاوى إلى فتح تحقيقات قانونية، ويمكن أن يصل الأمر في حده الأقصى إلى اتخاذ إجراءات قانونية، إذا أثبتت السلطات حدوث وقائع احتيال. وهذا هو ما عرّض مورينو للخطر أكثر من غيره، وفق الصحفي المقرب من مورينو، والتر ألفريز: "فتأثير التحقيق الصحفي يمكن أن يتلاشى مع مرور الوقت"، مضيفا: "ولكن عندما يمكن أن يصل الأمر إلى السجن، فهذا أمر آخر تماماً. لم أكن لأجرؤ على أن أخوض في مثل هذا الأمر. لسنا جميعاً على استعداد لتحمل هذا النوع من المخاطر".
دقيقة حداد في ذكرى رافائيل مورينو في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
في جيب "العشيرة"
تمكنت "فوربيدن ستوريز" وشركاؤها من الدخول على البريد الوارد لمورينو، ومن بين آلاف الرسائل والمرفقات، اكتشفنا مستندًا رئيساً لم يتمّ الكشف عن وجوده من قبل؛ وهو عبارة عن شكوى رسمية قدمها مورينو ضد إسبيديتو دوكي ورفاقه، بتهم تتعلق "بممارسات فساد واختلاس، والنفوذ الممتد إلى عمليات الاتجار غير المشروع والمحسوبية". وترجع الوثيقة إلى تاريخ 5 كانون الثاني/ يناير 2021، أي قبل نحو عام ونصف من مقتل الصحفي.
ويبيح الدستور الكولومبي لأي مواطن تقديم هذا النوع من الشكاوى، لكنّ مورينو تعمق في ذكر المخالفات على نحو خاص؛ فالوثيقة المؤلفة من 21 صفحة، تصف على نحو مفصل أساليب رئيس البلدية في ارتكاب "أنواع مختلفة من الجرائم المتعلقة بالإدارة العامة". يكشف مورينو منهجية دوكي المتمثلة في "إنشاء عدد معين من الكيانات" لأصدقائه المقربين وعائلته، ثم التعاقد معهم من أجل "تسهيل الاستيلاء على الموارد العامة".
وجاء في المستندات: "لم يحدث من قبل أن تم تشكيل هذا العدد الكبير من المنظمات غير الربحية في بويرتو ليبرتادور، لهدف وحيد؛ هو الفوز بعقود البلدية".
من بين عشرات المنظمات غير الحكومية التي ورد ذكرها في الشكوى، ارتبطت منظمتان بشكل وثيق بدوكي، إحداهما منظمة "Serviexpress ATP SAS" التي أسسها شخص مقرب لزوجة دوكي. وحصلت منظمة ثانية تدعى "Renacer IPS SAS" التي يمثلها ابن موظف حكومي، كان يعمل في شركة دوكي، على عقدين بقيمة تزيد على 75 ألف دولار.
وتتبع مورينو ممتلكات دوكي الشخصية، مدعياً أن "راتبه كرئيس بلدية لن يتيح له إمكانية شراء كل هذه الممتلكات"، والتي تدخل ضمن نطاقها عدة مواقع تجارية، ومنزل تبلغ قيمته نحو 70 ألف دولار، ومزرعة. وبعدها سرد مورينو وقائع مشروعات عامة، زاعماً أنه لم يتمّ قط البدء في تنفيذها.
في نهاية الوثيقة، وقع مورينو باسمه، وقد تحققت "فوربيدن ستوريز" من صحة التوقيع بمطابقته بطلبات الحصول على المعلومات التي شاركها الصحفي علناً، وحتى يومنا هذا، لم يأتِ أي رد فيما يخص هذا المستند.
في إطار "مشروع رافائيل" الذي تنسقه "فوربيدن ستوريز"، بدأت المؤسسة الاستقصائية الكولومبية "كويتشن بوبليكا" -المتخصصة في الفساد وإساءة استخدام السلطة- و"كليب" -وهو اتحاد يجمع مؤسسات صحفية من أمريكا اللاتينية- في استكمال مسار التحقيق، من حيث توقف مورينو. واليوم، يتم الكشف عما توصلا إليه من نتائج تكشف أنه في الفترة ما بين 2016 و2022، وقعت إدارتا دوكي وسوتو 99 عقداً، مع 13 رجل أعمال، مقربين من "عشيرة" دوكي، بقيمة تبلغ 3 ملايين دولار.
أسفر البحث عن أن خمس شركات -ليست لديها خبرة في الأشغال العامة- فازت بـ 96 بالمئة من إجمالي القيمة، أغلب هذه الشركات مملوكة لمارتين مونتيل ميندوزا، المقرب لدوكي. بين عامي 2006 و2022، وقع مكتب العمدة 56 عقداً، أكثر من نصفها بالاتفاق المتبادل، أي من دون الإعلان عن أي عطاءات عامة، مع ثلاث شركات مملوكة لميندوزا، بقيمة إجمالية تبلغ زهاء مليون دولار.
تم تأسيس أولى هذه الشركات، وهي "Corporación Visión Juvenil" باعتبارها غير هادفة للربح في عام 2014، أي قبل عام ونصف فقط من انتخاب دوكي رئيساً للبلدية.
لم يستجب مونتيل ميندوزا لطلبات التعليق التي وجهها إليه اتحاد "فوربيدن ستوريز".
تقصت "كويتشن بوبليكا" و"كليب" أيضا شركة "Agualcas" التي تعالج مياه الصرف الصحي في بويرتو ليبرتادور. وفي جلسة عامة للبلدية، أشار مورينو إلى التضارب بين أعداد الشوارع التي بها أنابيب صرف صحي في بويرتو ليبرتادور، والعدد المبين في الخرائط الرسمية الصادرة عن مكتب رئيس البلدية. وكانت "Agualcas" التي كانت من المفترض أن تقوم بأعمال البنية التحتية، قد وقعت على عقود عامة؛ لتركيب هذه الأنابيب.
كشف تحقيق الاتحاد أن هذه الشركة أيضاً كانت خاضعة لنفوذ "عشيرة" دوكي. وفي السنوات التي تلت انتخابه رئيسا للبلدية، امتلك هذه الشركة ثلاثة أشخاص، مقربون من دوكي، وكانوا أعضاء في حملته الانتخابية. خلال هذه الفترة، استفادت "Agualcas" من حصولها على 13 عقداً عاماً، بقيمة إجمالية بلغت نحو 800 ألف دولار.
لم ترد شركة "Agualcas" على طلبات التعليق التي وجهها إليها اتحاد "فوربيدن ستوريز".
وبالبحث في عقود البلدية، تمكنت كل من "كويتشن بوبليكا" و"كليب"، من التوصل إلى عضو محتمل في عصابة "جولف" سيئة السمعة، وهي إحدى العصابات التي يعتقد أنها متورطة في خطف مورينو، ضمن المقربين من دوكي. هذا الشخص المدعو جوليو سيزار راموس رويز، طبيب في مستشفى بويرتو ليبرتادور، ويزعم أنه معروف باسم "الطبيب"، وكانت الشرطة قد أوقفته في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ووجهت إليه تهم التآمر. وفق تقارير صحفية، اعتنى راموس بأعضاء عصابة "الجولف" المصابين، وسجلهم في سجلات المستشفى بأسماء وهمية؛ حتى لا تتمكن السلطات من التعرف عليهم.
قال خوليو سيزار سانشيز مورينو، محامي راموس: "هذه الوقائع سردها من وجه الاتهامات. ولكن من وجهة نظر الدفاع؛ فالقضية ملفقة". في 15 أيلول/ سبتمبر 2020، تم الإفراج عن راموس بكفالة، في قرار مثير للجدل، ومن المقرر أن تجري محاكمته في 27 نيسان/ أبريل 2023.
عندما كان يعمل راموس في مستشفى بويرتو ليبرتادور، لم يكن مدير مركز الرعاية الصحية سوى إيدير جون سوتو، خليفة إسبيديتو دوكي في منصب رئيس بلدية بويرتو ليبرتادور. ويظهر الرجلان معاً في عدة صور التقطت بين عامي 2016 و2018، ما يشير إلى أنهما كانا يعرفان بعضهما البعض، ويتقابلان بانتظام. وتجمع راموس ودوكي وسوتو صداقة على فيسبوك، ما يؤكد هذه العلاقة. وكان "الطبيب" أيضاً على اتصال بخوان ديفيد دوكي، نجل دوكي، بعد حبسه.
وحصلت "فوربيدن ستوز" على وثيقة تظهر أن سوتو يخطط للإدلاء بشهادته لصالح راموس، موظفه السابق، خلال المحاكمة المقبلة، وفق محاميه.
لم يرد إيدر جون سوتو على عدة رسائل إلكترونية تطلب تعليقه على ما ورد في التحقيق. ونفي دوكي "إنشاء كيانات للاستفادة من عقود البلدية"، مضيفا: "كل هذه المعلومات خاطئة"، على العكس فقد "حققت إنجازات عظيمة" اكسبتني "التقدير كأفضل رئيس بلدية في الدائرة".
دقيقة حداد في ذكرى رافائيل مورينو في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
الخطر يقترب من المنزل
كان مورينو معروفا بعدم الصبر، فكلما اكتشف معلومات عن وقائع مشبوهة، سارع في نشرها على صفحته على فيسبوك. وعند اغتياله، شكلت هذه المنشورات معاً صورة لوقائع فساد ومحسوبية واسعة النطاق في قرطبة. وبدورها، ازدادت حدة التهديدات.
في 26 أيلول/ سبتمبر 2022، هاجم ميغيل ديفيد أريتا ريفيرا -وهو عضو في الوفد المرافق لدوكي، وتطلق البلدية عليه لقب "منسق عمال السلام"- مورينو وزميله أورجانيس كوادرادو على "فيسبوك"، بعد يوم من نشر مورينو عقد نقل مدرسي، مجادلاً بأن قيمة العقد مبالغ فيها. تضمن منشور ريفيرا -الذي تم حذفه لاحقا- صورة للصحفيين، إلى جانب تعليق: "هذان الرجلان فنانان في ممارسة الابتزاز على وسائل التواصل الاجتماعي، وهما ليسا بصحفييْن ولا محامييْن، إنهما يقتاتان على وسائل التواصل الاجتماعي، وصدق جدي عندما وصف مثل هؤلاء بالمشردين المسلحين، إنهما مسؤولان عن واقع عدم توفر وسائل نقل مدرسية لـ 1200 طالب".
بعد ثلاثة أيام، رفع مورينو دعوى سب وقذف وتشهير ضد أريتا ريفيرا، الذي يتمتع بعلاقات شخصية سببت مخاوف لمورينو. وجاء في الشكوى التي تنشرها "فوربيدن ستوريز" لأول مرة: "والدته وزوج والدته (ريفيرا) كانا في السجن بتهمة التآمر لارتكاب جريمة قتل وتهريب مخدرات، الأمر الذي يعرض أمني وأمن عائلتي للخطر". وكانت هذه آخر دعوى رفعها مورينو.
تواصل اتحاد "فوربيدن ستوريز" مع ريفيرا لطلب تعليقه، لكنه امتنع عن الرد على الأسئلة، لسبب أرجعه إلى مرضه الشديد.
دقيقة حداد في ذكرى رافائيل مورينو في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
قضية اغتصاب وخوف من تواطؤ المدعي العام
لم تُسكت التهديدات المتزايدة صوت مورينو، بل على العكس زادت حدة هجومه إلى الدرجة التي كشف فيها عن "قنبلة كادت أن تنفجر في وجه دوكي"، كما يصفها ابن أخو مورينو، خوسيه فرناندو بولا مورينو.
في 27 أيلول/ سبتمبر 2022، نشر مورينو رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي، من المؤكد أنها أثارت مخاوف "عشيرة" دوكي. كان الأمر يتعلق بقضية اغتصاب قاصر، تورط فيها أحد أبناء إسبديتو دوكي، الذي حفظت قضيته في نيسان/ أبريل 2017. بدأ مورينو التحقيق في وقائع التستر.
لابد أن مورينو كان يعلم أن القضية حساسة للغاية، ولكنه لم ينأ بنفسه عن الكتابة عنها. على وجه التحديد، بدأ مورينو في التحقيق في عقد إيجار لشقة بين دوكي وزوجة المدعي العام كارلوس إسكوبار زابا، الذي كان واحدا مِمَّن ينظرون في القضية. بدأ المحامون الكولومبيون بالفعل في فحص هذا العقد، لكنّ مورينو أراد أن يُثبت بأي ثمن أن العقد الذي تم توقيعه قبل شهرين فقط من حفظ القضية، هو السبب في توقف التحقيق.
وبحسب ابن شقيق الصحفي، فإن دوكي "كاد أن يُسجن على ذمة التحقيق في القضية"، وتابع: "كان مورينو يبذل قصارى جهده لضمان عدم حفظ القضية". وأوضح أنه قبل أسبوع من مقتل مورينو، حذر القضاة الذين ينظرون في القضية من أنه "سيدينهم، إذا تلقوا أموال".
شعر مورينو أنه اقترب من تحقيق هدفه المستعصي، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل خمسة أيام من الاغتيال، كان مورينو قد أسرّ إلى صديق مقرب أثناء وجوده في السيارة بما في نفسه: "إذا سارت الأمور على ما يرام، سيصدر قرار القبض على إسبديتو دوكي". ليرد صديقه عليه بتحذيره بأن الاستمرار في الحديث عن القضية أمر محفوف بالمخاطر.
حصلت "فوربيدن ستوريز" على مستند يرجع تاريخه إلى اليوم نفسه الذي دارت فيه المحادثة بين مورينو وصديقه. يؤكد المستند أنه في الأيام التي سبقت اغتياله، كان مورينو يجمع معلومات إضافية تتعلق بهذه القضية؛ من خلال استئناف طلب الحصول على المعلومات الذي تم إرساله قبل 20 يوماً، ولم يأتِ أي رد في شأنه. كان الطلب السابق يصبو إلى الحصول على مستندات حساسة مختلفة، تتضمن إثبات مدفوعات إيجار لمكتب رئيس البلدية.
دوكي علق لاتحاد "فوربيدن ستوريز" أنه لم يكن على علم بهوية مالك العقار في الوقت الذي تم توقيع العقد فيه.
فيما رد كارلوس إسكوبار زابا على أسئلة "فوربيدن ستوريز" أنه انفصل عن زوجته منذ 2015، ولم "يكن قط على علم" بهذا العقد الموقع بين زوجته ورئيس البلدية، قائلا: "لقد استأجرت العقار من دون علمي. لا أعرف كيف فعلت ذلك".
وأضاف زابا أن "تحقيقا تأديبيا قد فتح في هذا الشأن، ولكن تم تبرئتي"، قائلا: "لا علاقة لي بهذا الأمر". وما زالت التحقيقات القضائية جارية في هذا الشأن.
وفيما يخص مزاعم الاعتداءات الجنسية، نفى زابا أن يكون قد اتفق مع دوكي على تسوية هذا الأمر.
في اليوم التالي، 13 تشرين الأول/ أكتوبر، حكم لمورينو بحق الحصول على المعلومات من البلدية، وفق وثيقة حصلت عليها "فوربيدن ستوريز"، منح مكتب رئيس البلدية ثلاثة أيام لإرسال إثبات مدفوعات الإيجار إلى مورينو. وقتل الصحفي يوم 16 تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل يوم واحد من انتهاء المهلة. ولم يتمكن مورينو من الاطلاع على الرد.
بالنظر في القضية، تمكنت "فوربيدن ستوريز" من الحصول على شهادات إضافية. فوفق مصدر حكومي ذي مكانة رفيعة، وجهت 10 فتيات على الأقل لنجل دوكي اتهامات بالاغتصاب أو الاعتداء الجنسي، لكن اثنتين فقط رفعتا دعوى ضده. وقال المصدر: "الغلق المثير للشبهات للقضايا جعلني لا أعتقد أن هناك مدينة أكثر فساداً في العالم من تلك التي نعيش فيها"، مضيفاً "وقتها، تلقينا تهديدات من أفراد مقربين من دوكي والمدعي زابا".
ونفى زابا هذه المزاعم، بقوله إنه ليس لديه علم بأي تهديدات: "لا تربطني أو تربط أي شخص من عائلتي صلة بعصابات خارجة عن القانون".
في عام 2022 وحده، بدأت لجنة الانضباط القضائي في قرطبة باتخاذ ثلاثة إجراءات تأديبية في حق المدعي العام السابق. في الأشهر التي تلت اغتيال مورينو، لم ينشر أي صحفي أي معلومات تربط زابا بعائلة دوكي.
يظهر على يسار الصورة خوسيه فرناندو بولا مورينو، ابن شقيق الصحفي رافائيل مورينو وهو يحضر ذكرى خاله في بويرتو ليبرتادور، بقرطبة (كولومبيا)، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
(المصدر:
دييغو كويفاس من El País
)
الأمر يرجع إلى تنامي المخاوف بين الصحفيين، يقول صحفيون محليون إنه منذ مقتل مورينو، أصبحت الصحافة أقل حدة في تناول القضية. في تشرين الثاني/ نوفمبر، أعلن بيكو، ابن عم مورينو وزميله، أنه سيغلق منصته الإعلامية بسبب التهديدات التي كان يتلقاها. (أعادها للعمل مرة أخرى فيما بعد ولكن "من دون متابعة العمل على أي تحقيقات أخرى").
وقرر والتر ألفاريز، وهو صحفي آخر، التركيز على التغطية الرياضية والثقافية، فهو يعول أربعة أبناء، ولا يريد أن يلقى "مصيراً مشابهاً لمصير رافائيل".
ورغم الضغوط، قرر صحفي واحد ألا يصمت. كتب أندريس تشيكا، الصحفي المقرب من مورينو، على واتساب وفيسبوك أن مكتب العمدة في بويرتو ليبرتادور دفع من أجل ألا تشملهم التحقيقات الجنائية في مقتل مورينو. في اليوم التالي، استيقظ تشيكا على رسائل نصية من دوكي تشكك في مزاعمه، فرد تشيكا: "لقد دققت في كل كلمة قبل نشرها"، فجاءه الرد من العمدة السابق: "أنت تعرف عاقبة ما تفعل، وتعرف كيف تسير الأمور هنا في بويرتو".
لم يتردد تشيكا، غادر المنطقة، واختفى عن الأنظار.
بعد أكثر من ستة أشهر من مقتل مورينو، لم يتمّ توقيف أي شخص. أحيلت القضية إلى محققين في ميديلين؛ لتجنب الفساد المحلي.
على الجانب الآخر، يشاع أن دوكي يخطط لخوض الانتخابات في بويرتو ليبرتادور، المقرر إجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل (لم يرد دوكي على ما يشاع عن خوضه الانتخابات). فيما لا يزال غابرييل كالي أغواس، نجل "عشيرة" كالي، التي استقصى مورينو أعمالها، مرشحاً لمنصب الرئيس المحلي، في الانتخابات نفسها. هذه المرة، يتنافس الاثنان في الانتخابات، بعيداً عن أعين المراقبة، بعد أن أُغمضت عيون مورينو إلى الأبد.
خلقت تحقيقات الصحفي الاستقصائي الدؤوب رافائيل مورينو -عن الفساد والأنشطة غير المشروعة- لصاحبها الكثير من العداوات. وظل مورينو لسنوات يعمل تحت وطأة التهديدات؛ التي دفعته لطلب الحماية من وحدة الحماية الوطنية الكولومبية في عام 2017. في ذلك الوقت، كان مورينو يرأس منظمة "Junta de Acción Comunal"، وهي منظمة تضامن محلية في بويرتو ليبرتادور، مسقط رأسه.
تخضع وحدة الحماية الوطنية الكولومبية لإشراف وزارة الداخلية؛ وهي منظمة أمنية تتولى حماية الشخصيات والمجموعات المهددة؛ بسبب أنشطتها السياسية أو القضائية، أو الصحفية أو النقابية، أو المجتمعية أو الاقتصادية، أو غيرها من الأنشطة.
وتشمل إجراءات حماية الوحدة أكثر من 10 آلاف شخص بشكل فردي؛ من ضمنهم 187 صحفياً. وفيما يخص المجتمعات، تتولى الوحدة حماية 50 ألف شخص، وفق الأرقام التي قدمها أغستو رودريغيز، مدير هذه المنظمة في مقاطعة قرطبة، حيث ولد رافائيل مورينو؛ وبها يوجد 202 شخص مشمول بإجراءات حماية الوحدة.
خصصت الوحدة حماية لمورينو لأول مرة في حزيران/ يونيو 2017؛ تتمثل في حارس شخصي، وسترة واقية من الرصاص، وجرس إنذار. ولكن بعد مضي أكثر من عام، وتحديداً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، وُصفت المخاطر التي واجهها بأنها "غير عادية"؛ وبالتالي تمت إضافة سيارة مدرعة وحارس شخصي إلى مخطط الحماية الخاص به.
ثم توترت العلاقة ما بين وحدة الحماية والصحفي؛ ما أدى إلى توقف إجراءات الحماية لمدة ثلاثة أشهر في 2021؛ إذ ادّعت الوحدة أن مورينو "أساء استخدام وسائل الحماية الخاصة به". وطلب مورينو عدة مرات إعادة النظر في هذا القرار، في ظل التهديدات العديدة التي كان يتلقاها.
في عام 2022، تصاعدت حدة التهديدات للدرجة التي تلقى فيها مورينو -قبل شهرين من مقتله- رسالة تهديد مرفقة برصاصة في صندوق دراجته النارية. وجاء في الرسالة مجهولة المصدر: "أنت تعتقد أنه لا يمكن المساس بك؛ لأنك تتحدث علناً، ولكن لا يوجد أحد هنا لا يمكن المساس به. ونحن نعرف كل شيء عنك ولن نغفر لك ما تفعله". بعد ذلك، أعيد تعيين حارس شخصي له.
في يوم مقتله، كان مورينو وحده في المطعم الذي يديره في مونتيليبانو. وأصدرت وحدة الحماية بياناً صحفياً عن مقتل الصحفي الكولومبي، ذكرت فيه أن مورينو طرد حارسه الشخصي في صباح اليوم الذي سبق مقتله. ووفق معلومات حصلنا عليها، اختفى الحارس لمدة عدة أيام، قبل أن يظهر مرة أخرى، بعد يومين من الحادث؛ ليخطر قيادته بما لديه من معلومات. حاولت "فوربيدن ستوريز" أن تتوصل للحارس؛ لكن من دون جدوى.
قال المتحدث باسم وحدة الحماية، رودريغيز، في رده على الأسئلة التي وجهها له اتحاد "فوربيدن ستوريز": "الشخص المسؤول عن إدارة تدابير الوقاية، هو الشخص الخاضع لها؛ فإذا طلب من الحارس الشخصي مغادرة المبنى، يخرج الأمر عن سيطرة شركة الأمن المتعاقدة معنا، ووحدة الحماية". واستطرد معترفاً بوجود "عيوب واضحة" في إجراءات الحماية المخصصة لمورينو، بقوله: "الأمور ليست مثالية، لكن علينا المضي قدماً، وتحديث النظام بأكمله".