"طبق السَّلَطَة المثالي" للأغنياء فقط

تراجع قدرة المصريّين على الوصول إلى الغذاء بسبب برنامج "الإصلاح الاقتصادي"

user icon

سامية مصطفى

clock icon

06 إبريل 2024

قلّصت الأزمة الاقتصادية قدرة الأسرة المصرية على الوصول إلى مجموعات ذات قيمة غذائية مثل "الخضروات"، على الرغم من أن أسعارها تُعدّ أقل نسبياً، مقارنة بمجموعات مثل الدواجن واللحوم والفواكه؛ وهو ما يحاول هذا التقرير تأطيره عبر تحليل قدرات المصريين على الوصول إلى الخضراوات؛ نتيجة الإجراءات التقشفية المتتالية، التي أقرتها الحكومة المصرية منذ نهاية عام 2016، تحت مظلة "برنامج الإصلاح الاقتصادي".

داخل بناية واحدة بإحدى القرى الريفية التابعة لمحافظة الدقهلية، شمال العاصمة المصرية القاهرة، يسكن عبده الصاوي مع عائلته الصغيرة؛ ووالدته ووالده، وأخ وأخت غير متزوجين، وأخ ثالث متزوج. وعلى الرغم من أن العائلات التي تسكن في الريف، تفيض مائدتها "غالباً" ممّا تزرع؛ فإن الصاوي يحكي متأثراً كيف تغيّرت مائدته من الأفضل إلى الأسوأ، خلال ثماني سنوات.

عام 2015، كان الصاوي يعيش مع زوجته وطفليهما، ويعمل مع أخيه ووالده في أرض يستأجرونها تبلغ مساحتها فداناً ونصف الفدان، كما امتلك الصاوي نحو 20 رأساً من الماشية.

إلى اليوم، يؤجِّر الصاوي وعائلته المساحة نفسها من الأرض لزراعتها، لكنّ رؤوس الماشية انخفض عددها إلى ثلاثة رؤوس، وصار الصاوي يعمل "نادلاً" في المآتم والأفراح إلى جانب الزراعة؛ ليستطيع تأمين ضروريات أسرته، التي انضم إليها وافد جديد (طفل رضيع).

ومع زيادة الأعباء الاقتصادية، وانخفاض معدل دخله؛ تدهور وضع "مائدته"، حتى وصل إلى طبق السلطة الذي يحب، فتراجعت مكوناته، مقتصرة على الخيار والطماطم فقط. يعزو الصاوي تراجع قدرته الشرائية إلى الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار؛ ما يتفق مع مؤشرات أداء الاقتصاد المصري خلال عامي 2022 و2023، التي تُظهر وجود أزمة اقتصادية حادة عاشتها البلاد خلال هذين العامين.

تفاقمت "الأزمة الاقتصادية" بعد الحرب الروسية الأوكرانية؛ ما أدى إلى فقدان العملة المحلية (حينها) نحو نصف قيمتها، ووصل معدل التضخم العام خلال شهر حزيران/يونيو 2023، إلى 35.7 في المئة، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في حين بلغ معدل التضخم الأساسي 41 في المئة للشهر نفسه، وفقاً للبنك المركزي.

قلّصت الأزمة الاقتصادية قدرة الأسرة المصرية على الوصول إلى مجموعات ذات قيمة غذائية مثل "الخضروات"، على الرغم من أن أسعارها تُعدّ أقل نسبياً، مقارنة بمجموعات مثل الدواجن واللحوم والفواكه؛ وهو ما يحاول هذا التقرير تأطيره عبر تحليل قدرات المصريين على الوصول إلى الخضراوات؛ نتيجة الإجراءات التقشفية المتتالية، التي أقرتها الحكومة المصرية منذ نهاية عام 2016، تحت مظلة "برنامج الإصلاح الاقتصادي".

basket symbols

بداية الأزمة

عام 2016، ارتفع التضخم إلى أعلى معدل له منذ عام 2008؛ بسبب "أزمة اقتصادية" أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية، مع تناقص المعروض منها في الأسواق، نتيجة أزمة استيراد ارتبطت بشح المتوفر من الدولار الأميركي.

لجأت الحكومة المصرية وقتها إلى صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض بلغت قيمته 12 مليار دولار، مقابل برنامج "إصلاح اقتصادي"، يتضمن تطبيقه عدة إجراءات، منها: تحول مصر من نظام سعر الصرف الثابت إلى النظام المرن، وهو ما أُطلق عليه اختصاراً "تعويم" الجنيه، وخفض النفقات الحكومية، وتقليل عجز الموازنة خلال ثلاث سنوات؛ عبر إجراءات تتصل بخفض الإنفاق وزيادة الموارد الحكومية، عن طريق الضرائب، ورفع سعر الفائدة، وخفض الدعم خاصة في مجال الطاقة (الوقود)، وخلق شبكات حماية اجتماعية لدعم الفئات الأكثر تضرراً من آثار الإجراءات الاقتصادية.

وتشير بيانات الجهاز المركزي للتعبة العامة والإحصاء، التي قمنا بتحليلها خلال فترة عشر سنوات (2010-2020)، إلى أن "شبكات الأمان" التي وضعتها الحكومة المصرية، ربما لم تكن كافية لحماية الأقل دخلاً من تبعات تلك الإجراءات "القاسية"، وتأمين قدرتهم على الوصول إلى المواد الغذائية.

أبرز الإجراءات التي أقرتها الحكومة المصرية ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي:

  • التحول من نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف المرن "تعويم الجنيه".
  • ضبط أوضاع المالية العامة لخفض النفقات الحكومية، وتقليل عجز الموازنة خلال ثلاث سنوات، من خلال:
    • زيادة الموارد الحكومية عبر الضرائب
    • رفع سعر الفائدة
    • خفض الدعم خاصة في مجال الطاقة (الوقود)
  • خلق شبكات حماية اجتماعية لدعم الأكثر تضرراً من آثار الإجراءات الاقتصادية

المصدر: نص بيان إعلان الاتفاقية الإطارية لصندوق النقد الدولي مع مصر 2016

layer


basket symbols

سوء التغذية عرض جانبي

تُعرِّف منظمة الصحة العالمية سوء التغذية بـ "النقص أو الزيادة أو عدم التوازن في مدخول الطاقة و/ أو المغذيات لدى الشخص". وتكون سوء التغذية بنقص التغذية أو الإفراط فيها، أو عدم توازن المُغذِّيات الكبيرة (البروتينات والكربوهيدرات والدهون) أو المُغذِّيات الدقيقة (الفيتامينات والمعادن)، بحسب كليفلاند كلينك.

وضع "الصاوي" المعيشي يُعدّ أفضل حالاً من وضع حسن محمد، ابن محافظة أسوان، الذي يعمل ويسكن مع أسرته بمحافظة الجيزة.

يعمل محمد عاملاً في "كافيتريا" إحدى الشركات الإعلامية بالقاهرة، إلا أن دخله المنتظم لم يعد يكفي لسد احتياجات أسرته؛ ما اضطره إلى عمل إضافي، خاصة مع حالة ابنته "بسملة"، التي تعاني نقصاً في المعادن والفيتامينات، على رأسها فيتامين "د"، بسبب سوء التغذية. يقول محمد: "أنا قبل الشغل التاني (الإضافي)، كنت عايش على السلف (الاقتراض)".

"الصاوي" و"محمد"، نموذجان لآلاف الأسر المصرية، التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية المتتالية، وباعدت بينها وبين أكثر احتياجاتها الضرورية المُتمثلة في وجبة غذائية "متكاملة".

هناك بأحد مراكز محافظة سوهاج، ينخرط نائب رئيس مجلس إدارة جمعية "فاعل خير"، عبد الله عبد الحفيظ، الشهير باسم "الشيخ حمادة"، في مساعدة الأسر الأكثر احتياجاً، في المحافظة المُصنفة من بين أعلى محافظات مصر الجنوبية في معدلات الفقر (ضعف معدل الفقر الوطني في 2017/2018). خلال عمله بالجمعية، اعتاد "الشيخ حمادة" رؤية مشاهد قاسية، تُجسد فقر بعض الأسر وعجزها عن سد جوعها. يقول الشيخ حمادة متحدثاً عن إحدى الأسر التي قابلها: "الست بتقول بخلِّي العيال يقعدوا يشوفوا التلفزيون، وبعمل نفسي بطبخ، لحد ما يناموا من غير عشاء".

خلال الفترة من تشرين الثاني/نوفمبر، عام 2016، وحتى عام 2023، استمرت الحكومة المصرية في تنفيذ عدة إجراءات تتماشى مع برنامج الإصلاح الاقتصادي؛ كالإبقاء على مرونة سعر الصرف، ورفع الدعم تدريجياً عن الوقود، بالتزامن مع توقيع اتفاق القرض الأول مع صندوق النقد الدولي.

قمنا -خلال هذا التقرير- بتحليل البيانات الخاصة بأسعار الغذاء ومتوسطات الإنفاق، ومقارنة قدرات المواطنين على الحصول على الغذاء، خاصة الخضراوات، خلال فترة برنامج الإصلاح الاقتصادي 2016-2020، بالفترة التي تسبقها 2010-2015، والتي شهدت أيضاً عدة تقلبات سياسية واقتصادية؛ بداية بالثورة المصرية، وحتى خروج الرئيس السابق محمد مرسي من الحكم في الثالث من تموز/يوليو عام 2013.

basket symbols

السر في التقشف

في ظل صدمات اقتصادية متتالية في أعقاب عام 2020، واصلت الحكومة المصرية تطبيق سياساتها التقشفية؛ مُرجعة ذلك لظروف خارجية مثل الأزمة الاقتصادية، التي خلفها تفشي وباء كورونا، ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية. كل هذه العوامل أثرت في أسعار السلع الغذائية، على الرغم من أن أغلبها يتمّ إنتاجه محلياً؛ بسبب ما يرتبط بتكاليف عمليات الزراعة والإنتاج والنقل إلى الأسواق، التي تتأثر بسعر الدولار أمام الجنيه المصري ونسب التضخم، كما يشرح الباحث في "علم الاجتماع الريفي" الدكتور صقر النور.

ويربط الدكتور صقر النور بين ارتفاع أسعار الخضراوات وأسعار مدخلات إنتاجها، قائلاً: "مدخلات الإنتاج مش كلها محلية، يعني فيه حاجات أسعارها بتزيد، زي الأسمدة مثلاً وماكينات الري، والتقاوي؛ برنامج الإصلاح الاقتصادي أثر أيضاً في أسعار النقل والطاقة، وفي الحالتين ده بيأثر في أسعار المنتجات الزراعية، فبنقيم السلسلة كلها". الأمر الذي يؤكده رئيس قسم علوم الأغذية والتغذية بجامعة سوهاج، الدكتور أبو الحمد مهنى، فيقول: "للأسف أغلب البذور المستخدمة في زراعة الخضر هتلاقيها مستوردة، فمرتبطة بالسعر العالمي".

ويشير الدكتور مهنى إلى أن ارتفاع الأسعار العالمية للمخصبات الزراعية؛ يدفع الشركات المحلية أيضاً للتصدير عوضاً عن البيع في السوق المحلية، بغرض تحقيق ربح أعلى وبالعملة الصعبة، ما ينعكس بالتالي على كم المتوفر في السوق المحلي وأسعاره، حتى لو كانت عناصر الإنتاج نفسها محلية بالكامل، في حال استخدام الأسمدة المصرية الخالصة.

وبحسب مهنى، فقد طالت هذه الدائرة أسعار الخضراوات بشكل غير مباشر، الأمر الذي أثر بالتبعية في الأسر التي تعاني قلة الأمن الغذائي، أو يعاني أحد أفرادها أيّاً من أمراض سوء التغذية.

backfround


basket symbols

السلطة

في القاهرة، يحكي حسن عبر الهاتف إلى معدة التحقيق عن صعوبات تأمينه الغذاء لأسرته بشكل دائم. يقول إنه مريض سكري، وابنته تعاني أمراضاً مرتبطة بالغذاء، لكنّه لا يستطيع تحمل تكلفة "طبق سلطة"؛ لذا تضطر زوجته إلى شراء خضراوات "معيبة": "تروح تجيب الفضلات اللي هي الصغيرة، والحاجات المفعصة (المعيبة)".

هذا الخيار لم يلجأ إليه الصاوي؛ فكونه مزارعاً جعله يفكر في حل بديل لتوفير الخضروات، التي لم يعد قادراً على شرائها، فبدأ بزراعة بعض الخُضر التي تحتاج إليها أسرته، لكنّه ليس متأكداً من قدرته على الاستمرار في استخدام هذا الخيار؛ في ظل غلاء مدخلات الإنتاج على مستوى الزراعة من بذور وأسمدة.

على مستوى متوسطات أسعار أهم السلع الغذائية المتداولة في السوق المصرية، التي توفرها النشرة السنوية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، خلال فترة التحليل، شهدت بعض مجموعات الغذاء زيادة في متوسطات أسعارها، خلال فترة برنامج الإصلاح الاقتصادي 2016-2020، أكبر من الزيادة التي شهدتها الفترة التي سبقتها 2010-2015، عدا مجموعتي الطيور الحية والمجمدة والبيض، واللحوم المحلية الطازجة والمجمدة والخضراوات.

basket symbols

السلات الغذائية

السلة الغذائية تمثل مجموعة من المواد الغذائية الأساسية، اللازمة لتلبية الاحتياجات الغذائية اليومية للفرد أو الأسرة، وتشمل اللحوم والحبوب والخضروات والفواكه ومنتجات الألبان، وغيرها.

وخلال العمل على هذا التقرير، قمنا بتحيل قدرات المواطنين على شراء الخضروات بالاستعانة بسلتين غذائيتين؛ الأولى وضعها برنامج الغذاء العالمي، بالتعاون مع مجلس المعلومات ودعم اتخاذ القرار، التابع لمجلس الوزراء المصري، واستُخدمت في إصدار سلسلة تقارير مرصد الغذاء المصري، عام 2013، لقياس قدرات الأسر الأكثر احتياجاً إلى الوفاء باحتياجاتهم الغذائية؛ وقمنا باستخدام هذه السلة لتحليل التغير في قدرات المواطنين، على تحمل عبء الوصول إلى الغذاء والخضروات بشكل خاص.

أما السلة الثانية، تعتمد بشكل أساسي على احتياجات فرد واحد من مجموعات الغذاء المختلفة، بالاستعانة بنشرات أسعار السلع، التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وصمّم هذه السلة الغذائية الأكاديمي دكتور أبو الحمد مهنى، رئيس قسم علوم التغذية بجامعة سوهاج.

استخدمنا هذه السلة، لقياس قدرات المواطنين على تحمل عبء سلة غذائية -تكفي حاجات فرد واحد، وحتى خمسة أفراد- مكونة من الخضراوات الأقل سعراً من بين كل مجموعة، وتتوفر في الريف والحضر، وشملت الكرنب والباذنجان.

توضح نتائج التحليل -الذي قمنا به لقواعد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لقياس تغير قدرات المواطنين على تحمل عبء سلة الخضراوات في السلتين- أن أسر الريف تأثرت بشكل أكبر من نظرائها في الحضر، فظهرت في الريف أغلب النتائج بالسلب، في حين ظهرت في الحضر بالإيجاب، في عدد من المتغيرات، وذلك خلال فترة قرض صندوق النقد الدولي بشكل خاص (2016-2020).

بتحليل السلة الأولى (خلال فترة قرض صندوق النقد الدولي)، وعلى مستوى الحالة الوظيفية لرب الأسرة في الريف، وجدنا أن رب الأسرة المتعطل، الذي لم يسبق له العمل مطلقاً، هو الأكثر تراجعاً في القدرة الشرائية للخضر، يليه رب الأسرة خارج "القوى البشرية" (الأفراد الذين يبلغون من العمر أقل أو أعلى من العمر الملائم للعمل، ولا يبحثون عنه أو غير قادرين عليه)، ويختلف الترتيب قليلاً في الحضر؛ لكنّ الفئتين هما الأكثر تضرراً بشكل عام.

وعلى مستوى السلة الثانية، وجدنا أن الأسر التي يُصنّف أربابها "خارج قوة العمل"، هم الأكثر تأثراً خلال فترة القرض مقارنة بما قبله، ومع تكرار المفارقة بين الريف والحضر كما باقي المتغيرات، وجدنا أن الأكثر تأثراً في الحضر هي الأسر التي يُصنّف عائلها "خارج القوى البشرية"، أما على مستوى الريف، فإن الأكثر تأثراً هي الأسر التي يصنف عائلها مُتعطلاً لم يسبق له العمل مطلقاً.

backfround


basket symbols

الأطفال يتحملون التكلفة

وتبدو الفروقات في التأثر بتبعات برنامج الإصلاح الاقتصادي واضحة، في مشاهدات نائب رئيس مجلس إدارة جمعية فاعل خير بأحد مراكز سوهاج، "الشيخ حمادة"، ومُؤسِّسة جمعية "إنت الخير" في القاهرة، هبة علام. فبينما يحكي الشيخ حمادة عن فقر يصل إلى الجوع الشديد، ومحدودية القدرة على الوصول إلى الخبز (عماد طعام المصريين)، تحكي هبة أن الوضع صار أسوأ، في المحيط الذي تقدم فيها الجمعية خدماتها، بداية من عام 2022، عمّا كانت عليه في 2015، مع بداية عملها الخيري.

تقول هبة إن الأسر التي تعرفها -عن طريق جمعيتها- كانت تستطيع توفير أساسيات الغذاء حتى وقت تفشي وباء كورونا، وتضيف قائلة: "بقالنا سنة الوضع مختلف تماماً، حتى لما بنيجي نوزع إطعامات عندنا في المطبخ؛ كأنك في رمضان، الناس كلها مستنية وجبة الإفطار".

ويؤكد الاثنان، أن حالات مختلفة من أمراض سوء التغذية، نتجت عن الوضع الاقتصادي المتأزم منذ سنوات. وعلى الرغم من اختلافهما في وصف شدة تلك الأمراض، فإنهما ذكرا "الأنيميا" كواحدة من الأمراض الأكثر تفشياً بين الأسر التي يتعاملان معها.

لا توجد بيانات قاطعة تربط بين أمراض سوء التغذية في مصر، ومحدودية وصول عدة شرائح في الدول كثيفة السكان إلى السلع الأعلى في القيمة الغذائية، وعلى رأسها الخضراوات. إلا أننا استطعنا مقارنة بيانات المسح الصحي السكاني الصادر عن برنامج The Demographic and Health Surveys المعروف اختصاراً بـ DHS، التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، ببيانات المسح الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، علما بأن الجهاز المركزي وضح في مسحه، أنه اتبع منهجية برنامج DHS.

تبيّن من هذه المقارنة زيادة نسبة الأطفال ما دون الخامسة، المصابين بأحد أنواع الأنيميا في الريف والحضر، مع وجود فروق طفيفة بين تلك المناطق. وبحسب التحليل، فإن مناطق الحضر أظهرت زيادة أعلى في نسبة الأطفال المصابين بالأنيميا، بمختلف أنواعها خلال الفترة من 2014 إلى 2021.

في المقابل، يرى رئيس قسم علوم التغذية بجامعة سوهاج، دكتور أبو الحمد مهنى، أن العامل الرئيسي في انتشار أمراض سوء التغذية في مصر، مثل الأنيميا، خاصة في محافظات تعيش أغلب أسرها في الريف، هو "انعدام أو قلة الثقافة الغذائية"، يأتي بعدها في المرتبة الثانية الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد، أو بمعنى آخر، تأثر القدرات الشرائية لتلك الأسر. يقول مهنى: "أول شيء الثقافة، ثم يأتي الوضع الاقتصادي، بعدها تأتي العادات والتقاليد؛ هذه هي ثلاثة مؤشرات رئيسية تُسبّب أمراض سوء التغذية بشكل عام في مصر".

إلا أن باحث علم الاجتماع الريفي، صقر النور، يُقدّم تفسيراً آخر للتفاوت في القدرات الشرائية للخضروات بين الأسر في الريف والحضر لصالح الحضر؛ يتمثل في وجود أسواق الجملة "الكبيرة"، والمنافذ الكبيرة لبيع الخضراوات والفاكهة، التي تتيح لسكان الحضر في النهاية الحصول على السلع بأسعار أقل، مقارنة بالسلع نفسها التي يحصل عليها سكان الريف، إضافة إلى أن معدلات انتشار الفقر في الريف أعلى من الحضر.

نسبة الفقر في بحث الدخل والإنفاق 2017

نسبة الفقر في بحث الدخل والإنفاق 2017
layer

في الحالتين، يصعب الفصل في أيّ التفسيرين أقرب إلى الصحة، في ظل اكتفاء أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (مركز الإحصاء الرسمي في البلاد)، بتقديم أعداد الأسواق وأنواعها في نطاق مجالس المدن والأحياء فقط (مناطق حضرية)، وعدم نشر بيانات توضح توزيع هذه الأعداد بحسب طريقة بيعها للسلع (جملة أو تجزئة)، في النشرات السنوية لإحصاءات خدمات المرافق العامة، على مستوى مجال المدن والأحياء.

إلا أن الصاوي، الفلاح المقيم مع عائلته بميت غمر بالدقهلية، يقول إن تفسير "صقر النور" هو الأقرب للواقع الذي يعيشه؛ لأن أغلب الخضراوات المتوفرة في قراهم تأتي من سوق ميت غمر المركزي، وهو أحد الأسواق الكبيرة بمحافظة الدقهلية، بعد مرور هذه السلع للبيع أكثر من مرة؛ من تاجر أكبر إلى تاجر أصغر، حتى تصل إلى سكان الريف بسعر أعلى ممّا باع به الفلاح، بسبب زيادة تكاليف التشغيل والنقل.

basket symbols

فاعلية برامج "التكافل"

على الرغم من اختلاف الخبيرين في تفسير نتائج تحليل البيانات، إلا أنهما اتفقا على أن برامج دعم الغذاء المعتمدة على الدعم "النقدي" لا العيني، غير فعالة بشكل كافٍ في حماية الأمن الغذائي للأقل دخلاً، في إشارة إلى برنامج تكافل، المُقدّم من وزارة التضامن الاجتماعي بالتعاون مع البنك الدولي، وهو جزء من برنامج "تكافل وكرامة" الذي بدأ تنفيذه عام 2015. ويهدف "تكافل" إلى دعم الأسر لزيادة استهلاكها من الغذاء، بتكلفة نحو 400 مليون دولار، وحظي المشروع بتمويل إضافي بقيمة 500 مليون دولار عام 2019.

وينشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعداد المستفيدين من البرنامج، وحجم الإنفاق عليه بالجنيه المصري بحسب المحافظات، منذ عام 2016. وبتحليل هذه البيانات، يتبين وجود مشكلات تتعلق بهيكلة توجه البرنامج في المحافظات المختلفة.

وفق نتائج تحليل نسب المستفيدين من البرنامج، فإن غالبية الأسر المستفيدة تنتمي لمحافظات يعيش غالبية أسرها في الريف (83.75 في المئة). لم يطرأ تغير واضح في حصص المناطق المستفيدة من البرنامج، للفترة من 2017 إلى 2020؛ إذ ظل سكان الريف يشكلون الغالبية العظمى من المستفيدين، ومع ذلك كان من اللافت تزايد نسبة مَن يحصلون على هذا الدعم في المناطق الحضرية بنحو 38 في المائة، في ظل تراجع مُخصّصات البرنامج خلال تلك الفترة.

هذه النتائج متوافقة مع رواية الشيخ حمادة، كونه عاملاً في مؤسسة خيرية، ينصبّ نشاطها في محافظة سوهاج، التي تعاني مشكلة الفقر بشكل واضح. يُعلّق "الشيخ حمادة" على برنامج "تكافل" تحديداً، بالقول: "مشروع تكافل وكرامة خدم فئة كبيرة جداً، شريحة حلوة من المجتمع، وعمل توازن شوية، أصبح هناك دخل ثابت للناس، للأسف الشديد تمّ تحجيمه، وناس كتير اتشالت (أي تمّ حذفهم)".

أشارت دراسة للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، ومعهد تابع للبنك الدولي (الأخير هو مصدر التمويل لبرنامج تكافل وكرامة)، إلى أن نسبة كبيرة من الفقراء لا تستفيد من "برنامج تكافل"؛ فـ 20 في المئة من "الأسر الأفقر" (محل الدراسة) تصل إلى البرنامج فقط، في نتيجة أرجتعها الدراسة إلى عدة عوامل؛ أولها "قيود ميزانية البرنامج".

وذكرت الدراسة في توصياتها، أهمية إعادة نظر البرنامج في معايير "الاستبعاد" المباشرة، والتي بدأ البرنامج بتطبيقها عام 2018؛ ومنها الحصول على تأمين أو امتلاك رؤوس من الماشية أو أراضٍ زراعية أو "معاش"، وهي الشروط التي رُفض لأجلها كل من الصاوي من الدقهلية، وحسن من القاهرة، عند محاولاتهما الحصول على دعم البرنامج، وفق روايتهما.

إضافة إلى معايير الاستبعاد، أوصت الدراسة البرنامج بإعادة اختبار المعايير، التي تحدد المُستفيدين منه، والموضوعة تحت اسم "اختبار التقييم غير المباشر للموارد المتعددة لدى الأسر"؛ لتتماشى مع التحديثات الدورية لدرجات الفقر، المبنية على بيانات بحوث متابعة الدخل والإنفاق.

ويؤكد "الشيخ حمادة"، من خلال مشاهداته اليومية للفقراء ومحدودي الدخل، في نطاق عمله، أن العوز وعدم القدرة على تحقيق الاكتفاء الغذائي، صار مسألة يتساوى فيها الحاصلون على دعم البرنامج، وغير الحاصلين عليه، يقول حمادة: "دخلهم لا يكفي سواء تكافل وكرامة أو معاش أو مساعدات من جمعيات أهلية زينا كده، لا يكفيهم عيش حاف، فمش هيفكر يجيب سلطة".