مريم حداد، الثانية بين خمسة أشقاء، يعيشون جميعاً مع ذويهم في شقة بمنطقة جسر السويس، شرقي مدينة القاهرة؛ لكل منهم عالمه الخاص الذي يخرج منه عندما تجتمع الأسرة في أوقات متباعدة، إما في إحدى حدائق منطقة مصر الجديدة (شرقي القاهرة)، أو على كورنيش النيل.
هذه "الخروجات" لأسرة مريم، ونحو 10 ملايين نسمة يسكنون القاهرة، واجهت تغيّرات خلال الفترة من 2018 وحتى 2021، مع التطوير الذي تقوم به محافظة القاهرة وإداراتها في المساحات العامة، حيث تعرضت 16 حديقة متاحة بتذكرة، لاستقطاع أجزاء منها، لصالح أعمال تجارية. كما خسرت القاهرة خلال الفترة المذكورة 11 مساحة خضراء قابلة للاستخدام، في ظل تجريف حديقة (حديقة الوايلي)، وتحويل أخرى لملعب كرة قدم (حديقة أطفال جسر السويس)، في حين ضُمت حديقة أخرى لمبنى مجاور (حديقة عرب المحمدي)، بجانب إزالة أو تقليص سبع مساحات خضراء، قابلة للاستخدام بصورة تعوق استخدامها "مساحة خضراء مفتوحة".
إلى جانب ذلك، أُغلقت حديقة جزئياً في إطار أعمال تطوير بالمنطقة (حديقة جامع عمرو بن العاص).
تم رصد هذه المواقع بالاعتماد على القوائم الرسمية للحدائق التابعة لمحافظة القاهرة ومساحاتها الخضراء، وهي في 3 قوائم منشورة على الموقع الرسمي للمحافظة، تضم أسماء الحدائق والحي الذي تقع فيه ومساحاتها؛ مع الأخذ في الحسبان أن تلك المساحات تختلف عن المساحات التي قمنا بقياسها بعد تحديد مواقعها على تطبيق Google Earth. ولم يتسنَ لنا الحصول على رد من الجهات المختصة، حول سبب الاختلاف في المساحات بين القوائم وتطبيق Google Earth.
يُعرّف "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" المساحات المفتوحة والمتاحة للاستمتاع بها من قبل كل الناس من دون ربح؛ بأن تكون متعددة الوظائف، وتضمن التواصل المجتمعي والتبادل الاقتصادي، وخلق تجارب ثقافية بين أطياف متنوعة وواسعة من البشر، ومن أنواعها على سبيل المثال لا الحصر: الحدائق، ومساحات اللعب، والشواطئ العامة، وضفاف الأنهار، والواجهات المائية.
وهو التعريف الذي كان ينطبق على المواقع المفضلة لمريم وعائلتها في "فسحهم"، لكنّ الأمر بالنسبة لمريم، لم يعد كذلك كما تقول: "هي فسحة عائلية جداً، وهي أيضاً لطيفة عندما أتنزه مع أصدقائي. هذا ما يضايقني، كانت فسحة لكل الناس".
يرصد هذا التقرير التغيرات في المساحات العامة (فى العاصمة المصرية القاهرة)؛ جراء تغيرات عمرانية كبيرة، أشار مسح مصور بالأقمار الاصطناعية إلى أن وتيرتها زادت خلال السنوات من 2018 إلى 2021؛ هذه التغيرات أثرت في فرص الفقراء ومحدودي الدخل في الحصول على متنفس عام.
وهذا ما ينعكس على مجتمع المدينة بشكل أو بآخر، بحسب دراستين لباحثيْن مصرييْن، تشيران إلى أهمية الفضاءات العامة في تخفيف الضغوطات المترافقة مع العيش في مدينة ذات كثافة عالية.
قانونياً
لا يذكر الدستور المصري لفظة "الفضاء العام" بشكل صريح كدساتير دول في أميركا الجنوبية، مثل: كولومبيا والإكوادور؛ إلا أن المادة 45 ذكرت مناطق يمكن حملها على ذاك المعنى، بحسب التعريف الأممي، ووفرت لها الحماية.
نص المادة 45 من الدستور المصري
"تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدى عليها، أو تلويثها، أو استخدامها بما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المُعرّض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون".
إلى ذلك، تنظم عدة قوانين الحق في الوصول للفضاء العام بشكل غير مباشر، مثل المادة 162 من قانون العقوبات المصري والتي تُعاقب بالحبس والغرامة قاطعي الأشجار في الفضاء العام؛ كالحدائق أو المنتزهات أو الأسواق أو الشوارع، والمادة 367 من نفس القانون، والتي تعاقب بالحبس مع الشغل كل من أتلف عمداً شجراً نابتاً.
والمادة 10 من اللائحة التنفيذية لقانون البيئة، المعدلة بقرار من مجلس الوزراء عام 2011، والتي تُلزم كل المؤسسات والهيئات والأشخاص بتقديم دراسة " تقويم الأثر البيئي" لأي مشروع قبل البدء في تنفيذه. تلك المواد وغيرها، كانت أساساً استند إليه المحامي البيئي أحمد الصعيدي، في بلاغ قدمه للنائب العام ضد محافظ القاهرة، ورئيس حي مصر الجديدة، ورئيس هيئة نظافة وتجميل القاهرة، على خلفية قطع أشجار عدة شوارع في حي مصر الجديدة.
البلاغ تحول إلى القضية رقم 33167 لسنة 73، والمنظورة أمام الدائرة الأولى حقوق وحريات للبت فيها بمحكمة مصرية، يتهم فيها الصعيدي الدولة المصرية بتطوير الطرق في المنطقة من دون دراسة حقيقية للأثر البيئي لهذه المشاريع: "تقييم الأثر البيئي، من المفترض أن يراعى فيه حق الناس في المساحات العامة".
موقع مريم المفضل للتنزه -بحسب ما ذكرت لـ"معدتيْ التقرير"- كان مساحة خضراء واسعة، وسط حارتي شارع الشهيد سيد زكريا، بمنطقة شيراتون المطار، القريبة من محل سكنها وتقع بحي النزهة؛ وهي واحدة من حلول الأسر محدودة الدخل لإشكالية ندرة الحدائق في القاهرة بشكل عام، وعدم قدرة نسبة منها على تحمل تكلفة تذاكر الحدائق الموجودة بالفعل؛ لذا يستخدم بعضها المساحات الخضراء الواسعة بين الطرقات (جُزر خضراء بين حارات الطرق المرورية) كفضاء عام، وعادة ما يعدّونها -كمريم وأسرتها- حديقة عامة.
ومع اتساع شارع الشهيد سيد زكريا من حارتين إلى أربع حارات، خلال عمليات تطوير للمنطقة في 2021، تقلصت المساحة الخضراء في وسط الشارع، وأصبحت غير قابلة للاستخدام كفضاء عام؛ لعدم وجود ممر آمن لعبور المشاة، ما يعني خسارة مريم حديقتها المفضلة.
كلها "حدائق"
محافظة القاهرة، تصنف الحدائق العامة إلى جانب المساحات الخضراء التجميلية على الطرق والميادين، أو تلك التي توجد بين المباني، في قائمة واحدة تتضمن 409 مواقع معنونة بـ "بيان بالحدائق العامة بمحافظة القاهرة عام 2018".
بعد استبعاد المواقع التي لم يتمّ تحديدها في القائمة المذكورة، وكذلك المساحات الخضراء غير القابلة للاستخدام كفضاء عام (مثل المساحات الخضراء التجميلية في الشوارع والمساحات الخضراء في وسط الحركة المرورية)، تبقى من هذه القائمة 53 موقعاً متاحاً مجاناً، يمكن الوصول إليها واستخدامها كفضاء عام في القائمة. وكشفت عملية تحليل هذه المواقع أن 75.4% منها لا تحتوي على أي مرافق؛ ما يؤثر في جودة ونوعية الاستخدام الاجتماعي والترفيهي لتلك المساحات.
تعريف الحديقة/المساحة الخضراء بمرافق: يتوفر بها مرفق واحد على الأقل من المرافق الأساسية، المذكورة في دليل التنسيق الحضاري، ضمن الاشتراطات الفنية لأصغر نوع من المساحات الخضراء، القابلة للاستخدام كفضاء عام وهي: ملعب للأطفال وأماكن للجلوس ومناطق مظللة.
على موقع محافظة القاهرة، توجد قائمتان لحدائق أخرى تحت إدارة المحافظة؛ الأولى تسمى بالحدائق المتخصصة، والثانية تسمى بالحدائق المتميزة، وجميعها بلا استثناء تنتمي إلى نوعية المناطق شبه العامة؛ لاشتراط دخولها بتذاكر. وتتنوع أسعار التذكرة الواحدة من 5 جنيهات (0.16 دولار) وحتى 25 جنيهاً مصرياً (0.8 دولار أميركي).
تقول مريم: "بالنسبة لوالدي ووالدتي الموضوع اقتصادي، بمعنى كيف سنوفر لهم (للأطفال) بديلاً عن هذه النزهة؟ البديل أغلى، وإذا ذهبنا إلى أماكن أبعد؛ التكلفة أكبر. إذن، ما هي الخيارات الأخرى المتاحة؟ لا يوجد، ولا سيّما بالنسبة لإخوتي الأصغر سناً".
مشروع حديقة استثماري
منصور، باحث في العمران والبيئة، متخصص في استدامة المدن، قضى طفولته في حي مصر الجديدة، شرقي القاهرة، ثم انتقل إلى حي شرق مدينة نصر بعد زواجه. بالنسبة لمنصور، ما حدث من تغيرات في حي طفولته، والحي الذي يقيم فيه حالياً على مستوى الحدائق والشوارع والمساحات العامة، هو تهديد لأسلوب حياته.
يقول منصور: "تربيت فيها، في الصيف كنا نذهب إليها لنلعب. وعندما كبرت قليلاً كنا نمشي حولها، وعندما أجرى والدي عملية قلب مفتوح، كنا نمشي حول الحديقة، حالياً قاموا بتوسعة الشارع، فلم نعد نستطيع عبوره للوصول إليها".
يضيف منصور: "وتمّ إنشاء مقاهٍ ومطاعم في أركان الحديقة الأربعة، والمقاهي لا علاقة لها بحاجات الأطفال؛ كلها أشياء تجارية جداً". وهو ما تطابق مع صور الأقمار الاصطناعية.
وترافق ذلك مع ارتفاع في أسعار تذاكر دخول الحدائق، التي تصنفها محافظة القاهرة كحدائق "متميزة"، من ثلاثة إلى خمسة جنيهات للفرد، كما شهد عدد آخر من الحدائق فرض رسوم لدخولها، بعد أن كانت مجانية، مثل حدائق ميدان الجمهورية بحي عابدين، والبازيليك بحي مصر الجديدة.
دراسة منصور، والواقع الذي يعيشه، دفعاه إلى رفع دعوى قضائية ضد محافظة القاهرة، آملاً أن يكون تحركه سبباً في الحفاظ على ما تبقى من مساحات عامة وخضراء في حي مصر الجديدة؛ وهي القضية التي ترافع عنه فيها المحامي والخبير القانوني في الشؤون البيئية، أحمد الصعيدي.