إفراج مع وقف التنفيذ

13 سبتمبر 2023

استمرار احتجاز عراقيين انقضت مدة محكوميتهم

“أريد الفلوس اليوم”، رسالة يتكرر ظهورها على هاتف فهد سعد راضي، تذكره بماضيه القريب في سجن “أبو غريب”، حين كان ينتظر إطلاق سراحه من دون جدوى، رغم انقضاء “مدة محكوميته”.

حُكم على “راضي” عام 2021 بالسجن لمدة عامين بتهمة السطو، ثمّ أحيل إلى سجن بغداد المركزيّ، المعروف بسجن “أبو غريب”، وكان من المفترض أن يُطلق سراحه وفق القرار القطعي الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2022؛ ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث.

بعد عشرة أيام، تقدم المسجون بشكوى إلى الدائرة القانونية في السجن، لم تسفر عن شيء، بل تمّ نقله من “أبو غريب” إلى سجن “التسفيرات” -المعروف باسم سجن “العامة”- حيث اصطدم بالإجراءات الروتينية نفسها التي حالت دون حريته.

خلال شهر ونصف قضّاها في “التسفيرات”، تعرض راضي للابتزاز؛ لدفع 500 دولار مقدماً مقابل خروجه من السجن، على أن يدفع مبلغاً آخر يُحدد لاحقاً بعد خروجه. وما إن خرج راضي من السجن بعد دفع المبلغ، حتى انهالت عليه المكالمات والرسائل، تطالبه بدفعة ثانية من المبلغ.

في هذا التحقيق، وثقنا ست حالات لمسجونيِن سابقين وحاليين، ظلوا في السجون رغم انقضاء مدة محكوميتهم، بزعم أن إجراءات الإفراج عنهم تستغرق وقتاً.

وفي الأثناء، تعرضوا جميعاً لمساومات مادية، لم يجدوا مفراً سوى الخضوع لها؛ على أمل تسريع وتيرة الإجراءات الروتينية التي تسبق الإفراج عنهم. تتمثل هذه الإجراءات الروتينية في مخاطبة دائرة الإصلاح التابعة لوزارة العدل، والجهات القضائية ووزارة الداخلية عن السجين المنقضية مدة محكوميته؛ للتأكد من أنه ليس مطلوباً أو محكوماً عليه في قضايا أخرى، قبل إطلاق سراحه.

وعلى الرغم من صدور قانون “إصلاح النزلاء” عام 2018، الذي يُلزم دائرة الإصلاح بإرسال استفسار عن السجل الجنائي للسجين خلال الشهر الأول من استقباله؛ لضمان سرعة إطلاق سراح مَن استوفى مدة محكوميته، إلا أن هذا التحقيق يكشف استمرار عدم تطبيق هذا القانون داخل السجون.

ولغياب التقديرات الرسمية، يصعب تحديد أعداد العالقين داخل السجون، ولكنّ حقوقيين وبرلمانيين يقرون بوجود أعداد كبيرة داخل السجون العراقية، من دون سند قانوني.

كاظم البيضاني، نائب رئيس منظمة المنقذ التابعة لشبكة العدالة للسجناء -التي تضم مجموعة من المنظمات والناشطين- يؤكد أن أكثر من 60 في المئة من نزلاء السجون، لا يتمّ الإفراج عنهم رغم انقضاء مدة محكوميتهم، مضيفاً أن الوزارة اتخذت إجراءات مؤخراً لتقليل هذه النسبة، إلا أن القضاء على هذه الظاهرة يحتاج إلى الكثير من الجهود. في حين يقدر عمر الفرحان، رئيس المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، عدد المسجونين الذين يتعرضون للمساومات المالية، مقابل تسهيل الإجراءات الروتينية التي تسبق إطلاق سراحهم، بـ 80 في المئة من إجمالي عدد السجناء.

براءة مؤجلة

في تركيا، يعيش حيدر منتصر (اسم مستعار) هارباً من ذكرياته الأليمة داخل السجون العراقية؛ حيث قضّى بها ثماني سنوات، ثلاث منها بعد قرار الإفراج عنه.

دخل منتصر السجن عام 2007، بتهمة خطف أحد الأشخاص، لكنّه لم يقف أمام القاضي إلا بعد مرور ثلاث سنوات؛ تعرض خلالها لشتى أنواع التعذيب.

حُكم على منتصر بالسجن مدى الحياة، ولكنّ محكمة الاستئناف قضت بالإفراج عنه عام 2015. بعد حكم المحكمة، كان يتوقع منتصر أن يُخلى سبيله، بيد أنه فُوجئ بسلسلة من الإجراءات، جعلته ينتقل من سجن إلى آخر لمدة خمسة أشهر.

يقول منتصر إنه خلال هذه الأشهر، كان محاميه قد دخل في مفاوضات مع مسؤول بالسجن عبر وسيط؛ لدفع ألف و600 دولار مقابل الإفراج عنه. وبمجرد إتمام الصفقة بين الطرفين واستلام الوسيط المبلغ، انقضت الإجراءات سريعاً، وأُخلي سبيل منتصر، ليقرر بعدها الهجرة إلى تركيا.

على الرغم من أن حالة منتصر وقعت قبل سَن قانون “إصلاح النزلاء”، إلا أن هناك مسؤولية جنائية تقع على كل مَن حال دون خروجه من السجن بعد انقضاء محكوميته. فوفق المحامي والخبير القانوني علي التميمي، أتى هذا القانون متمماً لسلسلة من قوانين غرضها الحد من المخالفات داخل السجون.

ويرى التميمي أن تعمد تأخير إطلاق سراح السجين بعد انتهاء محكوميته لا يعد مخالفة قانونية ودستورية فحسب، بل هو جريمة تستدعي العقاب للموظف الذي يقوم بها، وفق قوانين عراقية نافذة.

حالة من الداخل

لنتأكد من استمرار حبس المسجونين رغم انقضاء فترة عقوبتهم؛ تابعنا حالة محمد كرار (اسم مستعار)، أحد نزلاء سجن “أبو غريب”. فوفق أوراق قضيته، فإن مدة عقوبته انقضت منذ ثلاثة أشهر، لكنّه ما زال خلف القضبان.

في بادئ الأمر، توقعت عائلته أن قرار الإفراج عالق لبعض الوقت لحين الانتهاء من الإجراءات الروتينية، غير أن طول مدة الانتظار دفع العائلة للسؤال عن الموعد المتوقع لإطلاق سراح نجلها، لكن لم يتلقوا أي رد.

بعدها تواصل أحد السجناء مع “كرار”؛ لينقل إليه اشتراط “مسؤولين مجهولين” الحصول على مبلغ مالي مقابل إطلاق سراحه.

ولضيق ذات اليد، لم تتمكن أسرة كرار من دفع المبلغ المطلوب؛ ليستمر الابن محبوساً خلف الأسوار، في انتظار الآجال غير المحددة لموعد الإفراج عنه.

براءة مع وقف التنفيذ

تتشابه وقائع حالة كرار مع حالة حسن عبد الحميد (اسم مستعار)،المحتجز في سجن “الديوانية” 193 جنوب بغداد.

حصلنا على تسجيلات صوتية تحمل استغاثات “عبد الحميد” لإطلاق سراحه، بعد أن برأته المحكمة منذ أربعة أشهر من جريمة السطو، التي دخل على إثرها السجن عام 2022.

يرفض عبدالحميد في تسجيلاته الإفصاح عن مَن يساومه مقابل إطلاق سراحه؛ خوفاً من التنكيل به، لكنّه لا يُخفي أن سبب استمرار احتجازه هو عدم قدرته على دفع المبلغ المطلوب.

لمعرفة كيفية حدوث عمليات المساومة، خضنا تجربة التواصل مع أحد الوسطاء، على أن “معد التحقيق” يرغب في دفع الأموال مقابل الإفراج عن أحد من ذويه.

ورغم الحذر الشديد، كشف الوسيط وجود مجموعة من موظفي السجن، يطلبون الأموال عن طريقه؛ مقابل تسريع إجراءات إطلاق السراح.

ما توصلنا إليه يتقاطع مع إحدى الشهادات التي أدلى بها ياسر أحمد حسن، حارس سابق في سجن أبو غريب، عن سير إجراءات إطلاق سراح مَن انقضت فترة عقوبتهم من السجناء. وفق وصف “حسن”، تتشكل داخل السجون دوائر من الوسطاء، تبحث كل دائرة عن نصيبها مما يدفعه المُحتجَز؛ مقابل تسريع وتيرة إجراءات إطلاق سراحه.

وبحسب حسن، فإنه شهد بنفسه تعمد تأخير إطلاق السراح؛ للحصول على أموال من ذوي المسجونين.

ويؤكد الحارس السابق أن العملية تتمّ بالاتصال من داخل السجون -بطريقة أو بأخرى- بذوي السجين لمساومتهم، فإن دفعوا تمّت العملية بيسر، وإن لم يستطيعوا الدفع تتأخر عملية إطلاق السراح حتى إشعار آخر.

عالقات وراء القضبان

ثلاثة أشهر، هي المدة التي قضّتها شيماء (اسم مستعار) داخل سجن النساء “سايت فور”، رغم انتهاء مدة محكوميتها عام 2019.التقينا النزيلة السابقة، فأخبرتنا أن عائلتها تعرضت خلال فترة مكوثها داخل السجن لشتى أنواع الابتزاز.

تقول شيماء: “أحد الحراس طلب من عائلتي رقماً هاتفياً للتواصل؛ لإخبارها بمستجدات الإفراج عني، لكنّ عائلتي تلقت مكالمة من رقم غير مسجل، طلب خلالها المتصل بدفع مبلغ ألفي دولار؛ حتى يتمّ تحريك أوراق إطلاق سراحي”.

وسبق أن أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها صادر عام 2014، إلى عدم تنفيذ قرارات الإفراج عن عراقيات، وإبقائهن داخل السجون لفترات طويلة. كما صدر تقرير عن المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق -وهي مؤسسة شبه حكومية حلت محل وزارة حقوق الإنسان- يشجب “التأخير غير المبرر” في إطلاق سراح مَن أنهوا مدة محكوميتهم؛ بذريعة عدم ورود قرار تميزي (قرار من المحكمة لتمييز القرار السابق له بنقضه أو الإبقاء عليه)، أو عدم وصول كتاب عدم المطلوبية، أو عدم اكتمال الإجراءات المتعلقة بالأدلة الجنائية؛ مثل: طبعات الأصابع وغيرها، وهو ما يخالف قانون “إصلاح النزلاء”.

ويواصل التقرير ذكر ما رصده من مخالفات، فيُرجع تأخير قرارات الإفراج الشرطي للمحكومين، إلى عدم إرسال دائرة الإصلاح مخاطبات الاستعلام عن السجل الجنائي للنزيل، إلا قبيل موعد إطلاق السراح أو بعد الموعد. بعدها تحيل دائرة الإصلاح التابعة لوزارة العدل، المسجونين إلى مراكز الشرطة التي ألقت القبض عليهم؛ لتنفيذ قرار إطلاق سراحهم، ولكن ما يحدث على أرض الواقع هو فتح باب “لمساومات لا تنتهي”، مقابل الإفراج عن النزلاء.

حصلنا على شهادة أحد العاملين في الإدارة العامة لدائرة الإصلاح -رفض ذكر اسمه- يؤكد فيها أن إرسال البريد من الدائرة للجهات الشرطية للاستعلام عن حالة السجين الجنائية، يتأخر لأسابيع أو لأشهر من دون سبب، مضيفاً أنه يلتقي يومياً أهالي مسجونين يشكون بقاء أبنائهم محتجزين داخل السجون بلا دواعٍ قانونية، ويخشون وقوع مكروه لهم، في ظل الأوضاع السيئة داخل السجون العراقية.

اكتظاظ السجون

أعلنت وزارة العدل العراقية أن نسبة اكتظاظ السجون بلغت نحو 300 في المئة من طاقتها الاستيعابية؛ إذ إن السجون لا تستوعب أكثر من 25 ألف سجين، في حين يقبع بها أكثر من 60 ألف نزيل. وكشف وزير العدل أن عدد سجناء العراق 60 ألف سجين، موزعون على 28 سجناً، بينهم 20 ألف فقط مدانون.

يأتي هذا الاكتظاظ ليضيف أزمة جديدة إلى أزمات السجون العراقية، المتمثلة في رداءة الطعام وتردي إجراءات النظافة، وفق ما ورد في تقرير أرشد الصالحي، رئيس لجنة حقوق الإنسان النيابية، عقب زيارته لعدد من السجون في بغداد.

هذا الاكتظاظ رصدته أيضاً النائبة البرلمانية نيسان الزاير، خلال زيارتها لسجن “التاجي المركزي” في أيار/مايو 2023، وأرجعته إلى تأخير إطلاق سراح مَن قضّوا مدة محكوميتهم.

وفي حديثها لنا، تقول “الزاير” إن لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، حاولت مراراً معرفة الأسباب التي تقف وراء هذا التأخير من إدارة السجون أو الحكومة، لكن من دون رد.

لكنّ اللافت في الأمر، أنه في بعض الحالات يلقى السجناء حتفهم داخل السجون، من دون الإعلان عن سبب الوفاة. هذا ما حدث لمؤيد الفهداوي، الذي انقضت مدة محكوميته في قضية احتيال مالي عام 2020؛ وبعد ثلاثة أشهر من استمرار احتجازه داخل السجن، فُوجئ أهله بوفاته.

يقول شقيقه، مهند الفهداوي، إنهم كانوا في الطريق إلى السجن، في محاولة جديدة لتنفيذ قرار الإفراج عنه؛ لكنّهم صعقوا بخبر وفاة شقيقه. سأل مهند مسؤولي السجن عن سبب الوفاة، لكنّه لم يتلقَ رداً، وفق روايته.

أعداد محدودة… والواقع يُكذّب

تواصلنا مع وزارة العدل المسؤولة عن تنفيذ قرارات الإفراج، لنضع بين يديها ما جمعناه من مخالفات في تنفيذ قانون “إصلاح النزلاء”. أرجع كامل أمين، المتحدث باسم الوزارة، التأخير في تنفيذ قرارات الإفراج إلى تأخر استلام مراكز الشرطة، أو جهاز الأمن الوطني، السجناء المحولين من دوائر الإصلاح، إضافة إلى تأخير الإفراج الشرطي، الذي يستلزم إنهائه إصدار موافقة من القاضي المسؤول عن إطلاق السراح.

وعند مواجهته بحالات الابتزاز التي قمنا بتوثيقها، لم ينفِ أمين وجود هذه الحالات، مستدركاً بأنها لا تعدو عن كونها حالات فردية محدودة، ولا يمكن أن تعدّ ظاهرة.

و بخصوص تأخير إرسال المطلوبية إلى ما قبل إطلاق السراح -بالمخالفة لقانون إصلاح النزلاء- أرجع أمين السبب إلى ثغرة في القانون نفسه، لأن بعض السجناء يبقى لسنوات في السجن، يمكن خلالها أن ترفع عليهم قضايا، مشيراً إلى أن وزارة العدل والقضاء العراقي اتفقا على تأخير إرسال المطلوبية إلى ما قبل ستة أشهر من انتهاء مدة المحكومية، للتيقن من أن الشخص ليس مطلوباً على ذمة قضايا أخرى.

وأكد المتحدث باسم وزارة العدل بأن الوزارة بصدد الانتهاء من تنفيذ برنامج إلكتروني، يوثق استلام الجهات المعنية للسجناء المنقضية مدة محكوميتهم؛ لحل مشكلة تأخر إطلاق سراحهم.

يعارض المحامي الحقوقي علي التميمي ما أوردته الوزارة من “حجج” بشأن تأخير إطلاق المسجونين، مشيراً إلى أن القانون يُجرّم حجز أي مواطن من دون مسوغ قانوني، ولو ليوم واحد.

وبينما تصرح وزارة العدل أن حالات استمرار المحتجزين من دون مسوغ قانوني محدودة، تتعالى استغاثات كرار وحسن وغيرهما كثيرين؛ طلباً لنيل حقهم في الحرية، التي اضطر راضي ومنتصر إلى دفع الأموال في سبيل الحصول عليها.