أين تُصرف أموال التنمية الدولية في لبنان وتونس والأردن؟

1 فبراير 2023

“مساعدات ما عم ناخد، لكن أول مرة، سلمونا 3 دفاتر وقلمين، وثاني مرة، 4 دفاتر وقلم”، تقول أمل (13 عاماً)، وهي تلميذة سورية لاجئة في لبنان. أمل واحدة من بين321 ألف و512 طالباً سورياً مسجلين لدى مفوضية اللاجئين للعام الدراسي 2020/2021، وكانت قد سُجلت قبل أربع سنوات عبر وزارة التربية والتعليم العالي بمدرسة “المنية المقالع الرسمية” (شمالي لبنان)، بعدما ارتادت مدرسة “النبي يوشع” بطرابلس وتركتها بسبب بُعدها عن البيت وعدم قدرة أسرتها دفع نفقات المواصلات.

رحمة، الطالبة السورية في مدرسة حلبا التكميلية بعكار لديها تجربة مشابهة في التنقل بين المدارس وتقول: “لا مساعدات غير الكتب”، بينما عمر، التلميذ في المدرسة الجديدة للصبيان بطرابلس، فيكشف انه تلقى مساعدة من اليونيسف تقدر بـ 20 دولاراً شهرياً لمدة 5 أشهر.

هذه عينة صغيرة تعكس التفاوت الكبير في تلقي المساعدات التعليمية المخصصة للاجئين السوريين في لبنان، والتي بلغت في الفترة بين 2017 و2021، أكثر من 1.12 مليار دولار لبرامج التعليم المدرجة في “خطة لبنان للاستجابة للأزمة”. وتم توجيه أكثر من نصف هذه الأموال مباشرة إلى وزارة التربية والتعليم اللبنانية، في حين صرفت اليونيسف مساعدة نقدية مقابل التعليم لحوالي 90 ألف طفل خلال العام الدراسي 2021-2022. شملت المساعدات الأطفال المسجّلين في الصفوف ذات معدل الالتحاق المنخفض نسبياً، في المدارس الحكومية في الدوام المسائي.

وتشير الأرقام، التي حصل عليها مركز الدراسات اللبنانية من وزارة المالية، إلى أنّ وزارة التربية استفادت من 1.2 مليار على شكل منح قروض سنوية.

لكن الحكومة اللبنانية التي ترفض منح اللاجئين السوريين صفة “اللجوء”، وتكتفي بوصفهم بـ”النازحين”، تقود حملات مستمرة تشكو فيها التكلفة الاقتصادية الباهظة لوجودهم من دون تقديم بيانات واضحة حول عددهم أو الخدمات التي تقدمها لهم. آخر تلك المطالبات المالية كانت في شهر أيار/ مايو الفائت قبيل انعقاد مؤتمر بروكسل السادس للدول المانحة، حيث طالب وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار بمبلغ يتراوح بين 3 و3.5 مليار دولار للاستجابة لـ”أزمة السوريين”، بينما قارب مجمل ميزانية العامة للحكومة اللبنانية لعام 2022 عند 41 تريليون ليرة (1.2 مليار دولار) في الإنفاق العام.

وأكمل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة التربية، ما بدأه الوزير الأسبق الياس بو صعب من مطالبات مستمرة بالحصول على الأموال الدولية من دون أن تصل كاملة إلى مستحقيها. فقد طالب الوزير الأسبق مروان حمادة (2016- 2019) خلال مؤتمر بروكسل الأول في نيسان/ أبريل 2017 المجتمع الدولي “تمويل خطة RACE بالكامل بـ 350 مليون دولار سنوياً لضمان دعم متوازن للبنانيين والسوريين”. ثم الوزير أكرم شهيب (شباط/ فبراير 2019 كانون الثاني/ يناير 2020) طالب برفع كلفة التلميذ في الفترة المسائية من 600 دولار إلى 1100 دولار، علماً أن الأساتذة المتعاقدين لتعليم اللاجئين ومديري المدارس لم يحصلوا على حقوقهم كاملة من تلك الميزانيات. فقد نفذ مديرو المدارس في عهد الوزير طارق المجذوب (كانون الثاني/ يناير 2020- أيلول/ سبتمبر 2021) اعتصاماً أمام وزارة التربية طلبوا فيه دفع مستحقاتهم بالدولار، وهددوا بعدم تسجيل اللاجئين.

لكن مطلبهم لم يستجاب، وبقيت الوزارة تتلقى المساعدات بالدولار وتصرفها بالليرة اللبنانية التي كانت فقدت قيمتها جراء الأزمة الاقتصادية والتضخم الهائل. فعلى سبيل المثال، بلغ معدل التضخم بين شهري حزيران/ يونيو 2019 وحزيران/ يونيو 2021 نحو 281%. وارتفعت أسعار الغذاء وحدها 550 في المئة بين آب/ أغسطس 2020 وآب/ أغسطس 2021. فيما فقدت العملة الوطنيّة 90 في المئة من قيمتها واستمرّت البنوك في فرض قيود تعسفيّة على السحب نقداً. وتقول سناء (معلمة لغة عربية بدأت تعليم اللاجئين السوريين منذ عام 2017-2018)، إن الراتب الذي تتقاضاه، يتم الحصول عليه كل فصل، أي مرتين في السنة، بالعملة اللبنانية بينما الأموال تصل بشكل مباشر شهرياً بالدولار وعبر البنك.

إلا أنّ المفارقة، كانت بوقوف وزير التربية عباس حلبي (منذ أيلول/ سبتمبر 2021) إلى جانب الأساتذة في مواجهة المانحين. وهدد في اجتماع ضم مديرة المكتب الإقليمي لليونسكو، وممثلاً عن اليونيسف وممثلاً عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بتعليق الدراسة في دوام بعد الظهر الخاص باللاجئين إذا لم يتم الدفع المبالغ مسبقاً، على حدّ قوله.

وتتحدث الدكتورة مها شعيب، مديرة مركز الدراسات اللبنانية بالجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، عن أنّ الفساد في هذا الملف انطلق عندما سمح بتلقي تحويلات ضخمة على حسابات خاصة، وكان يفترض أن تذهب مباشرة لتعليم اللاجئين.

لكن مسؤول في منظمة اليونيسف في مكتب بيروت، يقول إنه منذ صيف 2021 يتم “معالجة ما يقرب من 50 ألف دفعة من مستحقات المعلمين بموجب العقود الخاصة، إلى جانب توفير معلمين من أجل المشاركة في برامج المدارس الصيفية”. كما ذكر أنه بعد أن يتم التحقق من صحة البيانات التي تتلقاها وزارة التربية والتعليم العالي، تقوم اليونيسف بصرف المستحقات مباشرة إلى المعلمين والمدارس وصناديق الآباء والمدارس بشكل مباشر من اليونيسف، استناداً إلى صندوق تعليم التحول والقدرة على الصمود (TREF).

ووفق بيانات مفوضية اللاجئين فإن عدد الطلاب في العام الدارسي 2020/2021 بلغ 187 ألفاً في المدارس الرسمية، مقابل 190 ألفاً ذكرهم تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” و195 ألفاً و165 طالباً، بحسب أرقام اليونيسف (43,386 صباحي و151,774 مسائي). بالتالي مع احتساب هامش خطأ بسيط يبقى هناك فارق 5 آلاف في عدد الطلاب اللاجئين الذين تتلقى الحكومة اللبنانية مساعدات مقابل كل واحد منهم.

وتواصلت معدتا التحقيق مع مديرة أمانة سر تطوير القطاع التربوي ندى منيمنة (في عهد الوزير بوصعب)، التي رفضت الحديث وقالت إنّها “لا تملك معطيات جديدة حول هذا الملف”، وأنها ذكرت ما لديها في تحقيق قبيسي.

الأدلة تختفي دون تفسير
وخلال رحلة البحث عن المعلومات والبيانات الرسمية للدولة اللبنانية، لاحظنا أن موقع وزارة التربية والتعليم لم يذكر أي بيانات أو أرقام خاصة بتعليم اللاجئين السوريين، كما أن مشاركة الوزارة في اجتماعات دولية مع المانحين لا تكشف اي معلومات او تفاصيل غير الخبر المجرد.

وتشرح شعيب المسار الذي اتبعته الدولة لإخفاء البيانات والمعلومات، قائلة: “اختفت صفحة وحدة إدارة تعليم اللاجئين (Pmu unit) التي تظهر بيانات تعليم الطلاب السوريين والتي لم يتم تحديثها منذ عام 2019”. وأضافت: “عندما سألنا الوزارة كان المعنيون سعداء بذلك، لأن الكيان الذي أنشأه إلياس بو صعب في الوزارة قد دُمّر كله”، متسائلة: لماذا لم يتم مشاركة موضوع البيانات معنا؟ أو لماذا لا يضعها في قسم من الموقع الرسمي لوزارة التربية والتعليم؟”.

أما بالنسبة للأدلة الأخرى، فذكرت أنّ أرقام وزارة التربية والتعليم، تظهر أن أكثر من 50 في المئة من الأطفال السوريين تلقوا تعليماً رسمياً وغير رسمي. وعندما فحصت شعيب هذه البيانات، التي تم حذفها من الموقع، ظهر ما يلي: “عندما وصل هؤلاء الطلاب إلى الصف التاسع، كان عددهم أقل من 1 في المئة، وتحديداً 0.5 في المئة أو نحو 200 طالب، مقارنة بالبنين المتعلمين وهذه نتائج مخزية وتدلل عن سوء إدارة الملف”.

وتشير شعيب، بناء على مقابلات أجراها مركز الدراسات اللبنانية مع جهات مانحة، إلى أنّ الغالبية لا تشترط “الكشف عن كيفية استخدام الأموال”، وذلك من منطلق أنها لا تخضع لقانون المحاسبة العمومي، لأنها لا تدخل ضمن مالية الدولة اللبنانية. وأجريت هذه المقابلات مع كل من اليونيسيف ومفوضية اللاجئين والبنك الدولي في سياق دراسة حول “شفافية التعليم في لبنان” تنشر قريباً، فيما امتنعت اليونيسكو عن التجاوب بحجة أنها غير معنية بالملف.

وعلى رغم أن هذه الدول تتحدث عن الشفافية في إدارة أموالها، لكنها لا تفرضها على الدولة التي تتلقاها ما يساهم في ظهور الفساد وعدم محاسبة الفاعلين. وتقول شعيب إنه بعد ضغوط كثيرة “طالبت الدول المانحة وزارة التربية والتعليم ميزانيات مفصلة لهذه المبالغ، لكنه لن يتم إتاحتها للجمهور”. وقمنا بالتواصل مراراً مع اليونيسف والجهات المانحة الأخرى المذكورة أعلاه من دون تلقي أي إجابات منها.

إجراءات ترفع التسرب المدرسي
وطورت اليونيسف والمفوضية العليا للاجئين واليونسكو مبادئ توجيهية على موقعها تنص على عدم وجود وثائق تمنع هؤلاء الطلاب من التسجيل وإكمال تعليمهم، وهي “كذبة” بحسب شعيب، إذ لا يمكن أن يقدم أي طالب سوري الامتحانات الرسمية من دون جواز سفر. وهو ما قمنا بالتأكد منه على موقع وزارة التربية والتعليم العالي ، وذكرت ضرورة وجود “جواز سفر الطالب أو الطالبة مرفقاً بإثبات الإقامة خلال كامل فترة الدراسة مع صورة عن كل منهما”، إضافة إلى “جواز سفر ولي أمر الطالب أو الطالبة مع إثبات الإقامة خلال كامل فترة الدراسة مع صورة عنهما”.

لكن، بعد التواصل مع اليونيسف، زودتنا بملف حول المعلومات كافة المتعلقة بالطلاب السوريين، وهو ملف يعدّ بشكل سنوي، وشاركت فيه وزارة التربية ومفوضية اللاجئين أيضاً، وهو لا ينص على وجود جواز سفر للطلاب، بل أوراقاً ثبوتية، أو ما يعرف بشهادة تعريف عنه من قبل المفوضية، تكون كافية لخضوعه للامتحان.

ولا يمكن لغالبية اللاجئين السوريين الحصول على جوازات سفر، إما لغلاء أسعارها، إذ يصل سعر “الباسبور” العادي إلى 325 دولاراً، والمستعجل نحو 825 دولاراً، وفق السفارة السورية في لبنان. وإما لأنهم لا يملكون أصلا الوثائق الضرورية لاستصدار جوازات سفر أو حقوق إقامة، وتبلغ تكلفة هذه الأخيرة وحدها 500 دولار للفرد.

وبطبيعة الحال، تنتج عن هذه المشكلة، آثار عدّة، منها: التسرب المدرسي. فوفقا للمفوضية بلغ عدد التلاميذ اللاجئين في عمر الدراسة (3-18 عاماً) خارج أي نوع من أنواع التعليم 300 ألف في عام 2020 وحده. وتعطلت فرص نحو 30 ألف طفل ممن كانوا يحصلون على تعليم غير رسمي بسبب جائحة كورونا، فيما تمكن عدد قليل جداً من متابعة التعليم عن بعد. وتشير المتحدثة باسم مفوضية اللاجئين دلال حرب إلى أن” 30 في المئة من الأطفال السوريين لم يذهبوا إلى المدرسة أبداً”.

قوانين الاستثمار تبعد اللاجئ السوري عن حصته من الدعم الدولي
ليندا ماهر/ شاركت في الإعداد ياسمين لعبي
في عام 2013 خرج عباس الفاعوري من بلدة الشيخ مسكين في محافظة درعا السورية وكان عمره 16 عاماً. في الأردن، أقام وعائلته لشهرين في مخيم الزعتري ليغادر بعدها إلى العاصمة عمان، حيث اضطر لترك دراسته والعمل لإعالة عائلته كونه أكبر إخوانه.

مع الانتقال إلى عمان أبقى عباس على حبه للفيزياء والرياضيات حتى نجح في العام 2019 بنيل دبلومة بريطانية بالهندسة المدنية، وهي شهادة معتمدة دولياً تعادل الثانوية العامة.

كانت تلك خطوة أولى نحو تحقيق حلمه في تطوير ميكروسكوب ليزري “مجهر فلوري”، لدراسة خصائص البكتيريا والجراثيم والخلايا وأثر الأدوية وآليات تفاعل الخلايا العصبية.

علم الشاب أن في الأردن عدة جهات تعنى بدعم المشاريع العلمية الناشئة، وأن الحكومة الأردنية ملتزمة للجهات الدولية المانحة بخلق فرص عمل وتشغيل اللاجئين السوريين، فتفاءل بأن يجد فرصته في تحقيق مشروعه. لكن طلباته كلها قوبلت بالرفض.

عباس واحد من آلاف اللاجئين السوريين الذين يعانون حتى اليوم من قلة فرص العمل على الرغم من وجود تمويل والتزامات للحكومة الأردنية لخلق فرص عمل لتشغيل اللاجئين السوريين الذين فروا من الحرب. وكان قد تقرر في مؤتمر لندن الذي عقد عام 2016، تقديم الدعم الاقتصادي للمملكة عن طريق حزمة من المنح والقروض الإنمائية الميسرة مقابل توليد 200 ألف فرصة عمل للاجئين على مدى الأعوام العشرة التالية. ووقعت الحكومة الأردنية مع المجتمع الدولي وثيقة “ميثاق الأردن”، هدفها الأساسي هو توفير فرص عمل تكون مربحة للأطراف كافة: اللاجئ وابن البلد وخزينة الدولة، عبر الضرائب. ومن بين الداعمين البنك الدولي الذي صَمم بالتعاون مع حكومة الأردن برنامج توفير الفرص الاقتصادية للأردنيين واللاجئين السوريين بالتعاون مع منظمة العمل الدولية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وأيضًا مع مجموعة من شركاء التنمية المعنيين في الأردن.

وتحددت معايير الاستجابة الدولية في الإطار الشمولي الذي تم إقراره على مستوى رؤساء الدول خلال مؤتمر دعم سوريا والمنطقة المنعقد في 4 شباط/ فبراير 2016 بلندن وذلك لدعم الفرص الاقتصادية.

وبعد أربع سنوات وتحديداً في حزيران/ يونيو 2020، استفاد هذا البرنامج الذي تبلغ قيمته 300 مليون دولار، من تمديد لمدة عامين وتمويل إضافي بقيمة 100 مليون دولار. فحسب بيانات الشؤون المالية لمجموعة البنك الدولي، والنشاط المالي التفصيلي للقرض حتى 30 حزيران/ يونيو 2022، تبين أنه في عام 2016 تم صرف مبالغ على ثلاث دفعات من البنك الدولي للأردن، ومرتين في عام 2017، و أربع مرات خلال السنوات من 2018 حتى 2020، كما أنه في تشرين الأول/ نوفمبر 2016 تم صرف أعلى مبلغ من البنك الدولي بما يقارب 72 مليون دولار.

لم يتوقف عباس عند الرفض، بل حاول بشتى الطرق تطوير نفسه، وأجرت قنوات تلفزيونية عدة مقابلات معه، وعرض قصته حتى نُشرت مرة على مواقع التواصل الاجتماعي وشاهدها أحد مديري المدارس الدولية في الأردن، فتواصل معه ليعمل في مختبرات المدرسة كتقني مختبرات، ويقوم بالتجارب العلمية للطلاب، وليس كمدرس لأنه لا يحمل أي شهادة تؤهله لذلك.

وعلى رغم سعادته بذلك، ومواظبته على عمله، إلا أن عباس ما زال يسعى لأن يرى مشروعه العلمي النور في يوم من الأيام. وقال: “نحن الذين لم نستطع دخول الجامعات نحتاج الى أن ينظر إلى إنجازاتنا بعين الإنصاف”. وأضاف: “أحلم باستكمال دراستي في جامعة كامبريدج لأن هذا سيحقق نجاحي بإدخال جهاز جديد إلى عالم الفيزياء والأحياء والطب”.

بحسب بوابة البيانات التشغيلية (Operational Data Portal) فإن عدد اللاجئين السوريين في الأردن حتى 30 حزيران/ يونيو 2022 (حتى تاريخ النشر) موزع كالآتي:

إجمالي اللاجئين السوريين 675.433

داخل المخيم

خارج المخيم

توزيع اللاجئين السوريين في الأردن
خارج المخيم

داخل المخيم

خارج المخيم وداخله

عدد اللاجئين السوريين في الفترة من 2012 حتى 2022 في الأردن، يبين أن سنة 2013 هي الأعلى من بين السنوات في تدفق اللاجئين السوريين إلى الأردن، إذ بلغ عدد اللاجئين حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2013 نحو 576 ألف لاجئ مسجل لدى مفوضية شؤون اللاجئين.

بداية حياة من الصفر
وفيما يسعى عباس لتحسين وضعه والحصول على دعم لمشروعه، لم يكن حسان عمر (46 عاماً)، يتخيل أن تنقلب حياته رأسا على عقب وأن يبدأ من الصفر، عندما أتى إلى الأردن عام 2012. فبعد أن كان يعمل في تخصصه بالمختبرات الطبية وعلم الكيمياء في سوريا، وجد نفسه اليوم يسعى لتمويل قهوة صغيرة يعتاش منها هو وعائلته.

وخلال السنوات العشرة الماضية، حاول حسان البحث على عمل يناسب مؤهلاته العلمية في الأردن، لكن ذلك لم يكن متاحاً ضمن شروط المهن التي يعمل بها السوريون في الأردن. لم يجد حسان عملاً بمؤهلاته، ففكر في مشروع زراعة الفطر، لكنه يحتاج لتمويل لا يملكه، بالإضافة إلى الشروط الأخرى المفروضة على عمل السوريين في الأردن.

شروط الاستثمار للسوريين في الاردن:

أن تكون الجنسية سورية.

أن يكون السوري شريكاً مع أي مستثمر آخر سواء أردني أو سوري.

أن يكون هناك عدد معين من العاملين الأردنيين في وظائف ذات قيمة.

أن يكون حجم رأس المال في السجل التجاري للشركة 50 ألف دينار أردني. أما إذا وظف المستثمر السوري ما لا يقل عن عشرة أردنيين في شركته، حتى لو كان من مؤسسي هذه الشركة أم لا.

المؤسسة بالشراكة بين أردنيين وسوريين، فلن يكون مطلوباً دفع مبلغ 50 ألف دولار.

أن يكون تم البدء بالاستثمار بشكل فعلي.

وفي عام 2018 لم يعد لدى حسان القدرة على التحمل، وتخلى عن فكرة مشروعه الزراعي واشترى خمسة “سخانات” قهوة ليعمل على تقديمها في الأسواق والأفراح والمناسبات. في بعض الأحيان شعر حسان وكأن الدنيا ستقف، كان معدوم الأمل، لكنه سعى بشتى الطرق ليعتاش.

حذرت مفوضية شؤون اللاجئين في بيان صادر في 30 آذار/ مارس 2022، على أثر مسح ميداني لأكثر من عشرة آلاف عائلة لاجئة، من أن تلك العائلات “على وشك الوقوع في براثن الفقر” وأن 64 في المئة من اللاجئين يعيشون حالياً على أقل من 3 دينارات أردنية(خمسة دولارات) في اليوم. وفي حين تظهر النتائج أن سكان المخيم يتحسنون في مجالات مثل الصحة والتعليم، لكنّ نقص فرص العمل، يجعلهم يعتمدون بشكل أكبر على المساعدات الإنسانية. وأفاد البيان أن 52 في المئة من العائلات خارج المخيم لديهم إمكانية الحصول على دخل من العمل مقارنة بنسبة 25 في المئة في المخيمات، علماً أن توظيف فرد واحد من الأسرة لا يكفي لتلبية الاحتياجات المنزلية الشهرية.

يقول المحامي والباحث في شؤون العمل والعمال في منظمة بيت العمال للدراسات غير الحكومية وغير الربحية، حمادة أبو نجمة إن “الاتجاه السائد في عمل السوريين يتركز على الأعمال غير الرسمية وغير المستقرة وقليلة الدخل التي لا تتوفر فيها الحمايات القانونية والتأمينات الاجتماعية”.

وفي أحدث دراسة أعدتها مؤسسة الأبحاث المستقلة في العلوم الاجتماعية “فافو” بالاعتماد على بيانات المسح الأصلية عن اللاجئين السوريين في الأردن، والذي أجرته دائرة الإحصاءات العامة الأردنية (بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 وكانون الثاني/ يناير 2018)، نجد أن أكثر من نصف اللاجئين (52 في المئة) ممن تتجاوز أعمارهم 15 عاما، قادرون على العمل، إلا أن قرابة الثلث فقط منخرطون في سوق العمل المحلية. هذا ما يشير إلى وضع الدولة الأردنية والمجتمع الدولي أمام معضلة تأمين وسائل البقاء لقرابة 675 ألفا من اللاجئين السوريين ليس لديهم أي مصدر دخل، ويعتمدون في البقاء على المساعدات المقدمة لهم من المجتمع الدولي.

بينما وزعت المهن الرئيسية للعاملين من اللاجئين السوريين كالآتي:

حرف ومهن يدوية (بناء, تشييد, حدادة, تصليح…الخ.)

خدمات ومبيعات (تصفيف شعر, تدبير منزلي, مطاعم…الخ.)

مهن أولية (تصنيع, جمع قمامة…الخ.)

طبابة, هندسة, إدارة, تعليم…الخ.

وأرسلت معدة التحقيق طلب “حق الوصول للمعلومة” للحصول على بيانات مسح اللاجئين السوريين وإحصائيات عن العمالة والبطالة السورية في الأردن في السنوات الأخيرة من دائرة الإحصاءات العامة الأردنية، لكنهم ردوا بعدم توفر هذه البيانات.

يشير أبو نجمة إلى أن السوريين في الأردن يعملون في قطاعات الزراعة والإنشاءات والخدمات، وهي قطاعات لا يقبل الأردنيون العمل بها، إلا بنسب محدودة، فلا يمكن إنكار وجود تأثير للعمالة السورية على فرص عمل الأردنيين في بعض المهن، ولكن التأثير محدود بالمقارنة مع الارتفاع غير المسبوق في معدلات البطالة بين الأردنيين، إذ يغلب على المتعطلين الأردنيين أن نسبة كبيرة منهم هم من فئة الجامعيين، وهم في الغالب يتجهون للعمل في قطاعات ومهن تختلف عما يتوجه إليه العمال السوريون.

عقبات التسجيل والترخيص
من أهم الأسباب التي تعيق الاستثمار السوري في الأردن، هي قوانين الاستثمار نفسها التي تفرض وجود شريك أردني لترخيص أي مشروع، علماً إن أحد أهم البنود التي تم الاتفاق عليها في “ميثاق الأردن” في 2016، هو السماح للاجئين السوريين بإضفاء الطابع الرسمي على أعمالهم القائمة وإنشاء أعمال تجارية جديدة مولدة للضرائب، وبالتالي مفيدة لخزينة الدولة، بما في ذلك استصدار إقامات مستثمرين. لكن عملياً ذلك لم يتم.

رزق أبازيد (23 عاماً) على سبيل المثال، واحد من السوريين الذين أتموا تعليمهم الثانوي والمهني في الأردن بعدما خرج من درعا السورية وهو ابن 13 عاماً. أنشأ رزق “منصة أثر”، التي تخدم الشباب مثله وتقدم لهم فرص عمل ودورات تدريبية. حاول رزق أن يحصل على تمويل ليطور مشروعه، لكن عائق السجل التجاري حال دون ذلك، ويقول: “حاولت كثيراً الحصول على تمويل، لكن شرط أن تكون الشركة مرخصة ومسجلة في وزارة الداخلية الأردنية وامتلاك الجنسية الأردنية منعاني من ذلك”.

يشير الخبير الاقتصادي حسام عايش، إلى أن مشكلة دعم وتمويل ومساعدة اللاجئين السوريين، تكمن في عدم التعامل معهم على أنهم مستقرون لفترة طويلة، بل كان يتم التعامل مع وجودهم بالأردن بشكل مؤقت، وبالتالي كل الحلول لمواجهة الأزمة السورية مؤقتة.

وبحسب بيانات الشؤون المالية لمجموعة البنك الدولي وتحليل نتائج مؤشرات الأهداف التنموية لبرنامج توفير الفرص الاقتصادية للأردنيين واللاجئين السوريين تبين أنه في حين يفترض ألا تنخفض عدد الأعمال التجارية المسجلة للسوريين عن 100 الا أنه من أصل 3229 منشأة مسجلة رسمياً 40 فقط تعود لسوريين.

يبين عايش أن القروض والمنح التي تصل إلى الأردن لدعم اللاجئين السوريين مقارنة بالدول الأخرى هي الأعلى. ومع ذلك من الواضح أن تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية أقل من المطلوب، وهذا يعود لضعف كفاءة الاستفادة منها، لأن هذه الجهات هي التي تتولى الإنفاق والتعامل بهذا الشأن. مشيراً إلى أن كفاءة هذه القروض من المفترض أن تكون أكبر، والنتائج أفضل والعائد على المجتمعين السوري والأردني أعلى.

وعلى ضوء مؤتمر لندن وميثاق الأردن بدأت الحكومة الأردنية منذ عام 2016 بوضع بند “المنح الإضافية الموجهة لدعم الأردن ضمن خطة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية” إذ تبين تراجع هذه المنح في السنوات الأخيرة، بحسب تحليل بيانات وتقارير المساعدات الخارجية من عام 2016 وحتى تموز/ يوليو 2020.

يؤكد عايش أن خطة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية التي وضعتها الحكومة الأردنية والتي قدرت بحوالي 6 إلى 10 مليارات دولار، لم تصل إلى نصفها حسب التقديرات المالية السنوية، لأنها كانت مبنية على التزام المجتمع الدولي بالوفاء بخطط الاستجابة.

لم يكن رزق وحده من يواجه مشكلة عدم حصوله على التمويل لمشروعه بسبب صعوبة الترخيص التجاري للسوريين في الأردن، فأحمد اليوسف (29 عاماً) واجه نفس الصعوبة، عندما قرر التوسع في مشروعه البيئي القائم على إعادة تدوير نشر الحجارة وصناعة لوحات تراثية من الفسيفساء.

يمتلك أحمد ترخيصاً منزلياً للعمل، لكن ذلك غير مناسب لطبيعة العمل، لأنه يحتاج لوجود عدد كبير من الأشخاص في بيته. يقول: “أن يكون عندي مكان مرخص معروف فهذا يعتبر مشغلاً ويساعد على توسيع وتطوير العمل”.

ويحاول أحمد حالياً الحصول على ترخيص لموقع إلكتروني في حال لم يتمكن من الحصول على ترخيص للمشغل ليسوق عليه الأعمال التي ينفذونها خارج الأردن.

هذا المشروع لا يخدم أحمد فقط، بل يساعد كل من يعمل فيه كطلاب الجامعات، الذين يعملون بدوام جزئي ليغطوا مصاريفهم الجامعية، وممولي المواد الخام الذين يستفيدون منه كمصدر دخل إضافي لهم.

ويختم أبو نجمة أنه بدعم المشاريع الصغيرة المنتجة وبعض الاستثمارات يمكن للأردن تنميتها والاستفادة منها، وذلك من خلال وصول هذه الاستثمارات إلى أسواق لم يكن الاقتصاد الأردني قادراً على الوصول لها من خلال التعاون مع الجهات المانحة.

علي بوشناق، شاب تونسي في الخامسة والثلاثين من عمره، قضى منها عشرة أعوام كعامل بأجر يومي في مهن مختلفة بولاية تطاوين جنوبي تونس، بعد تخرجه في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بالعاصمة تونس، قسم دراسات لغة عربية. وكان قبل أن يستقر في عمل ثابت بالمواد الغذائية، قد حاول الحصول على قرض أو منحة لبدء مشروعه الخاص، لكنه أخفق في ذلك.

في العام 2017 جمع بوشناق من خلال عمل المياومة المتقلب، ما يكفي للتقدم إلى “البنك التونسي للتضامن”، للحصول على قرض لإنشاء مشروع خاص، لكن البنك رفض طلبه. قام بمحاولة ثانية فتقدم إلى منظمة “نحن الشباب” التونسية، في إطار برنامج تشجيع الشباب على الاستثمار في المشاريع البيئية، بمشروع معمل لاستخراج مادة الجبس، طالباً مبلغ 50 ألف دينار تونسي (نحو 16 ألف دولار)، إلا أن المشروع تم رفضه لسببين، أولاً: أن المسؤولين عن المبادرة لم يقتنعوا بدراسة الجدوى، وثانياً: لقلة الضمانات.

وذكر آخر مسح سنوي لمناخ الأعمال وتنافسية المؤسسات للعام 2019 (صدر عام 2020)، الصادر عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، ازدياد نسبة المؤسسات التي تعتبر الوصول إلى التمويل المصرفي عائقاً في ازدهارها. وقال نحو 48 في المئة من هؤلاء، إن العائق الأساسي هو الضمانات. وجاء في المسح أيضاً أن “الفساد” عائق رئيس يمنع تطور مناخ الأعمال. وذكر نصف المشمولين بالمسح، أن الظاهرة تفاقمت بين العامين 2018 و2019.

ويتهم خبراء اقتصاديون تونسيون الحكومة بالضغط على البنوك لتمويل النفقات العامة، وهو إقراض أكثر أمناً كون الحكومة تعطي ضمانات، في ظل معاناة البنوك من نسبة كبيرة من القروض المتعثرة، وهي مشكلة مستمرة منذ عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، بسبب الإقراض المتسرع لبعض الصناعات كالسياحة، وتسهيل الوصول إلى الائتمان للمقربين من النظام. ويزيد من وطأة المشكلة مرور تونس بأسوأ ركود في تاريخها منذ الاستقلال، نتيجة الآثار الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا.

تقل قدرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الوصول إلى التمويل، حتى في حالة التمويل الدولي من مؤسسات كالبنك الدولي، والبنك الأوروبي للاستثمار (BEI)، فبحسب الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان، فإن الدولة التونسية تركز على الاقتراض بهدف دعم النفقات العامة، وتبقى نسبة ضئيلة من القروض موجهة لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بدليل الدين العام الذي ناهز مائتي مليار دينار تونسي عام 2020 (نحو 60 مليار دولار)، 44 في المئة منه يعود إلى الدولة.

ويؤدي تزايد نسبة القروض غير العاملة (المتعثرة) إلى إضعاف قدرة البنوك على المخاطرة وتوفير إقراضات جديدة، خاصة للفئات المحرومة والأقل حظاً، ما يخلق اختلالاً في قدرة الأكثر حاجة لهذا التمويل من الوصول إليه. وفي حالة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فهي تحرم بشكل رئيسي أبناء الولايات الأقل تأهيلاً على مستوى البنية التحتية، وأغلبها ولايات داخلية، وهو ما تكشفه بيانات البنك الدولي.

وتعد الشركات الناشئة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة مصدراً أساسياً للتشغيل، وحلاً لنسب البطالة والفقر المرتفعة التي تعانيها الولايات الفقيرة في تونس. إلا أن صعوبة الوصول إلى التمويل في هذه المناطق، بحسب تصريحات الخبراء وتحليل بيانات البنك الدولي، يجعلها تدور في حلقة مفرغة من فقر التنمية.

ويقول سعيدان إن “إمكانية تقديم ضمانات بالنسبة للمناطق الداخلية أصعب من المناطق الساحلية، لا سيما مع شرط توثيق ملكية الأفراد لأصول تمكنهم من تقديمها كضمان. فنسبة امتلاك شهادات ملكية في الولايات الداخلية أقل بكثير منها في الولايات الساحلية”، وهي عملياً المشكلة التي واجهت بوشناق في الحصول على تمويل.

ويرى بوشناق أن إقامته في ولاية مثل تطاوين، وعدم امتلاكه معارف ذا نفوذ يجعل المسافة بينه وبين حلمه بالحصول على قرض أبعد. وسجلت تطاوين حتى عام 2019 أحد أعلى معدلات البطالة في تونس بواقع 28.7 في المئة، فيما بلغ معدل الفقر فيها العام نفسه 17.8 في المئة.

ويؤكد الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان على أقوال بوشناق، فيقول “قبل الثورة كان الفساد موجوداً، ولكن محصور نوعاً ما، في أشخاص معينين وفي أوساط معينة. أما الآن فأصبح تقريبا في كل المجالات ووصل حتى إلى مستوى البنوك وأثر في الوصول إلى التمويل”.

ويكشف المسح الوطني حول نظرة السكان في تونس إلى الأمن والحريات والحوكمة المحلية، الصادر في شهر حزيران/ يونيو 2022 عن المعهد الوطني للإحصاء، وهو مركز تونس الرئيس للإحصاء، أن نحو 19 في المئة من مجمل التونسيين المشاركين في الإحصاء، يقرّون بوجود الفساد والرشوة في عمليات إسناد القروض، وتزيد هذه النسبة لتصل إلى 20 في المئة بين الشرائح العمرية التي تمثل قوة العمل في أي بلد (18-59).

وفي كل مرة يحاول بوشناق بأن يظهر أمام عائلته كموضع ثقة، ويحقق حلمه بمورد اقتصادي أفضل من أعمال المياومة، ينتظر الموافقات على التمويل شهوراً طويلة، يستدين خلالها من عائلته، ويعتمد على مدخراته القليلة لدفع المصاريف المصاحبة لتقديم طلب القرض كدراسات الجدوى وخطط المشاريع.

وفي كل مرة يشاهد ثقة أهله تذوي مع انتظار الموافقة ثم الرفض. ويقول بوشناق: ” تأثرت علاقتي بأفراد أسرتي لأن الخسائر المادية والمصاريف كانت تطالهم أيضاً”.

سوسن الجعدي، رئيسة فرع ولاية القيروان للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تعمل في ولاية القيروان، الولاية الأفقر في تونس بحسب أحدث الإحصاءات الرسمية، وتقول إن عملها من خلال المنظمة يجعلها قادرة على استشعار غضب الشباب من ضعف قدرتهم على الوصول إلى التمويل “لا يستطيعون تمويل مشاريعهم الصغيرة، في المقابل هناك أشخاص يحصلون على الموارد بشكل سهل أحياناً وإن كانوا غير قادرين على سدادها أو لا يقدمون الضمانات اللازمة”.

تضيف سوسن أنه حتى مع محاولات الدولة تشجيع الاستثمار الأجنبي، إلا أن هذا الاستثمار لا يتم توجيهه إلى المناطق الأكثر احتياجاً للتنمية. وتوضح: “أن يكون للمستثمر الحرية المطلقة في اختيار المكان والمجال الذي يريده ساهم في خلق لامساواة بين الجهات”. وحتى مع توفير برامج وجهات تمويل داخلية كبنك التضامن التونسي، تقول سوسن إن الحصول على تمويل يواجه عقبة الوثائق والإجراءات الإدارية “لا يكفي أن توفر مبلغاً مالياً للشباب، بل هم بحاجة للتوجيه والإحاطة والمتابعة. أحيانا هم غير قادرين على تحرير دراسة الجدوى، وبالتالي الاستفادة محدودة”.

بحسب البنك الدولي، فقد حصلت تونس على 16 قرضاً لمساندة المشاريع الصغيرة والمتوسطة والصغرى بين عام 1993 وعام 2022، تم الموافقة على 6 منها بعد عام 2011، أحدها كان بقيمة 75 مليون دولار، عبر صندوق الودائع والأمانات التونسي وتركز في 3 ولايات: سوسة، وصفاقس، وقبلي. والأخيرة هي الوحيدة التي يزيد فيها معدل الفقر على تطاوين (19.20 في المئة)، مقارنة بسوسة (14.3 في المئة)، وصفاقس (6.30 في المئة).

كذلك تلقت تونس قرضاً آخر بقيمة 50 مليون دولار بدأ عام 2012، ومع إقفاله في 2018 وصلت تكلفته إلى 125 مليون دولار، وشمل عدداً من الولايات التونسية، ليس من بينها تطاوين.

وذكر التقرير الختامي للمشروع الأخير، أن استمرار الوضع الهش للاقتصاد التونسي (التقرير يشير إلى عام 2018، عام إغلاق المشروع)، ونسبة القروض المتعثرة في القطاع المصرفي، وندرة السيولة المستمرة في القطاع المالي، سيقوّض قدرة الشركات المتوسطة والصغيرة في الوصول إلى تمويل من النظام المصرفي التونسي، حتى مع نجاحه في تحقيق الهدف المرجو منه، في تسهيل تمويل المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة.

بتحليل البيانات الصادرة عن البنك الدولي بخصوص المشاريع الستة، والمواقع المرتبطة بها، ومقارنتها مع بيانات، مثل معدل الفقر وأعداد الباحثين عن عمل في كل ولاية، توصلنا إلى عدم وجود ارتباط إحصائي بين تكرار استفادة ولايات من قروض البنك الموجهة لدعم المشروعات المتوسطة والصغيرة والصغرى، ومعدل الفقر في نفس الولاية، أو حتى عدد الباحثين عن عمل فيها.

فعلى سبيل المثال، ظهرت كل من تونس العاصمة، وولاية القصرين كولايات مستفيدة من ثلاثة مشروعات قروض مقدمة من البنك الدولي، وبينما تعد تونس العاصمة أقل الولايات في معدل الفقر (4.6 في المئة) تعد القصرين صاحبة معدل الفقر الأعلى بين الولايات كلها (33.6 في المئة).

أيضاً، بتحليل البيانات المتاحة عبر مواقع تلك المشروعات ومطابقتها مع بيانات عامة صادرة عن معهد الإحصاء في تونس حول البنية التحتية، مثل عدد كيلومترات الطرق السريعة في كل ولاية، وأعداد السكان، وأعداد ماكينات سحب الأموال المرتبطة بالبنوك، نجد أن الولاية الأكثر استفادة من مشروعات البنك الدولي هي الولاية ذات البنية التحتية الأفضل، وليس الولاية الأكثر حاجة لخلق وظائف، أي الأعلى في معدلات الفقراء وأعداد الباحثين عن عمل.

في ورقة بحثية نشرت في موقع صدى الصادر عن مركز كارنيغي بعنوان: “تونس: لا مساواة متزايدة بين المناطق”، رصدت الباحثة الاقتصادية التونسية منال دريدي الاستثمارات العامة التي أدرجتها الحكومة التونسية في خطتها الخمسية (2016-2020)، في مقابل ما تم ضخه بالفعل حتى عام 2020. وتبين أن صفاقس وتونس العاصمة حصلتا على النصيب الأعلى من المشروعات المنفذة، بينما القيروان وسليانة على نصيب أقل، وهو ما اعتبرته الباحثة “تعطيلاً لتحقيق المساواة في التنمية بين المناطق المختلفة”. وهو ما أكده أيضاً الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان متحدثاً عن “مفاضلة لدى جهات تمويل المشروعات المتوسطة والصغيرة والصغرى لصالح المناطق ذات الحظوظ الأعلى في التنمية”.

لكن الخبير الاقتصادي معز الجودي يرفض هذه الفرضية، خصوصاً عند الحديث عن التمويل الأجنبي، مشيراً إلى عوامل أخرى مثل الإجراءات الإدارية المعقّدة المرتبطة بالاستثمار، إضافة إلى عدم قدرة هذه المؤسسات على تحقيق ربحية بسبب الاقتصاد غير الرسمي، إضافة إلى الضرائب التي تصل أحياناً في مجموعها إلى 35 في المئة.

ولم يخف الجودي أن هناك بنوكاً تونسية تفضل إقراض الحكومة التونسية وما سمّاها “المؤسسات الصلبة” الراسخة في السوق والقادرة على تقديم ضمانات “تمنح (البنوك) للدولة قروضاً لتمويل العجز في ميزانية الدولة، ما ينفّر بعض البنوك من الاستثمار في مشاريع جديدة ومؤسسات صغرى ومتوسطة”.

واتفق الجودي وسعيدان على أن صعوبة وصول المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى التمويل قد يؤدي إلى هروب المستثمرين الصغار إلى بلدان ذات مناخ اقتصادي أفضل كالمغرب ودول أفريقية أخرى، إضافة إلى تعرض البنوك نفسها لخطر خسارة مصداقيتها وعملائها، وبالتالي قدرتها على الحصول على تمويلات أجنبية نتيجة ارتكانها على إقراض الدولة مقابل فوائد عالية. وكون المؤسسات الصغيرة والمتوسطة جزء أساسي من النسيج الاقتصادي التونسي، فإن تعطيل قدرتها على الوصول إلى التمويل، بحسب الجودي هو تعطيل لخلق فرص عمل. تماماً كما قال بوشناق نفسه في ختام حديثه معنا: “لا بنوك بعد اليوم. لم أعد أريد الذهاب إليها”.