بدأت فكرة التحقيق ربيع العام 2015، ففي تلك الفترة التي كنت اتابع قضية المختطفات الايزيديات، أطلعت بالصدفة على قصة طفل ايزيدي كان هاربا للتو من معسكر الفاروق لتجنيد لاطفال في مدينة الرقة السورية، بعد رحلة أسر امتدت نحو 8 اشهر.
كانت تفاصيل القصص التي حملها الطفل المجند مقلقة تماما، فخلف الحدود التي تفصل العراق عن سوريا، كان مئات الاطفال الايزيديين يتعرضون لعملية غسيل دماغ ويتلقون تدريبات عنيفة على التوحش، في اكثر من 4 معسكرات مر بها الطفل المجند، قبل ان يتمكن اخيرا من الهرب مع والدته من سوريا الى تركيا ومنها الى العراق، بمساعدة مجموعة من المهربين الذين تقاضوا اكثر من 20 الف دولار لتأمين عملية الهروب.
من تلك النقطة بالذات، انطلقت مع الزميل الصحفي الايزيدي خلف حجي حمد لتعقب قصص الاطفال الايزيديين المجندين الهاربين من قبضة داعش، خصوصا ان الزميل خلف نفسه كان بذل جهدا كبيرا في رحلة بحث مطولة عن مصير ابن عمه قاسم الذي اختطفه تنظيم داعش مع نحو 5 الاف مواطن ايزيدي عراقي، إبان احتلاله لمدينة سنجار، موطن الايزيديين، في 3 اب اغسطس 2014.
خلال رحلة البحث عن الاطفال المجندين العائدين من أسر تنظيم داعش، عرض التنظيم فيديو دعائي عن معسكرات تدريب الاطفال في معسكر الفاروق بمدينة الرقة السورية، وفي هذا الفلم، ظهر العشرات من الاطفال الايزيديين وهم يتلقون تدريبا عنيفا في المعسكر، تتضمن حمل السلاح وعبور الاسلاك والاشتباك المباشر. وكان هذا الفيديو هو المفتاح الذي ساعدنا كثيرا في انجاز التحقيق، فالبحث عن هوية الاطفال المجندين الذين ظهروا في الفيديو، قادنا الى التعرف الى عوائلهم، وفيما بعد، اللقاء بعدد من الذين هربوا من هذا المعسكر ووصلوا الى مخيمات النازحين في كردستان.
لم يكن انجاز هذا التحقيق سهلا، فمعظم العوائل رفضت السماح لابنائها بالحديث معنا، خوفا على حياتهم وحياة اقاربهم الذين كانوا ما يزالون في قبضة داعش. كما أنه لم يكن مسموحا في الكثير من الحالات الدخول الى مناطق تواجد الاطفال العائدين، حيث كانت الجهات الامنية تتحفظ على نوع الشهادات التي يدلون بها حول مواقع المعسكرات، ومعظمها كانت معلومات تتسم بنوع من السرية لاهمية هذه المعلومات وحساسيتها في ظل الحرب على داعش.
كان البحث عن طريقة لزرع الثقة بيننا وبين المجندين الاطفال وعوائلهم، هو المفتاح للدخول في عالم هؤلاء المجندين الصغار، وساعدنا في ذلك أن الزميل خلف كان بالفعل يبحث عن مصير ابن عمه قاسم، وهذا لوحده كان يخلق تعاطفا كبيرا من قبل المجندين وعوائلهم معنا، كما أننا تعهدنا بعدم نشر الاسم الصريح لأي من الاطفال المجندين، الا بموافقة عوائلهم.
لكن الحوار مع الاطفال بحد ذاته كان مهمة عسيرة، فاغلب الاطفال كانو برفقة امهاتهم أو أخواتهم وقريباتهم، وقد شهدوا باعينهم عمليات بيعهن وشرائهن من قبل عناصر التنظيم، والحديث معهم عن تفاصيل الاسر يعني استعادة ذكريات مؤلمة كانوا يحاولون نسيانها بأي طريقة. كانت اثار الحزن والانكسار في عيون الامهات وهن يروين كيف ان اجبرهن عناصر داعش على الخضوع، عن طريق اخذ الاطفال الى المعسكرات والسماح لهم برؤيتهم مرة واحدة في الاسبوع، فبهذه الطريقة كان يتم السيطرة على الايزيديات المفجوعات بمقتل اهلهن، او جهلهن بمكان تواجدهم بعد تشتيتهم بين الموصل وسوريا.
اثر العنف باق على سلوكياتهم رغم كل محاولات عوائلهم، فاظهار العداء مع الاطفال الاخرين ومع الالعاب والمجتمع، وحتى الفاظهم حين يتشاجرون مع اطفال المخيم الاخرين، والقسوة المفرطة نتيجة اشهر من التعذيب تحت عنوان “التدريب”.
كانت داعش تستهدف الاطفال الاصغر فالاصغر، فكلما كان عمر الطفل أقل، كلما كان غسل دماغه وتلقينه عقائد التكفير وقتل الاخرين ، اكثر سهولة.
اصعب ما مر بكاتبي التحقيق هو الظرف الصعب الذي كانت تعيشه تلك العوائل خلال انجاز التحقيق، فالرعاية الحكومية والاممية كانت محدودة جدا، والعيش في خيم بسيطة لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف، لم يكن الا استمرارا مريرا للفاجعة.
ساهم هذا التحقيق بعد نشره، بالقاء الضوء على مخاطر ترك الاطفال المجندين دون رعاية نفسية واجتماعية، وكشف خطورة أهمال حكومتي بغداد واربيل عمليات تأهيل الاطفال بعد عودتهم، لهذا اعلنت حكومة كردستان ومنظمات مدنية متعددة، عن برامج لاعادة تأهيل العشرات من الاطفال العائدين، وانطلقت دعوات محلية ودولية لانقاذ الاطفال الذين ما زالوا اسرى بيد تنظيم داعش.