لم يدرك منصور الأكحلي (16 عاماً) أن العلامة المطبوعة على قميصه الرياضي ستجلب له كل تلك المتاعب. لكنه لمس خطورة ذلك على حياته في 16 فبراير/ شباط 2019، عندما تعرّض للاعتداء على يد زملائه في الصف الأول الثانوي في مدرسة خاصة جنوبي صنعاء، حيث وضعوه أرضاً، ضربوه وشتموه بألفاظ جارحة ثم مزقّوا قميصه. يقول منصور: "لم يكن القميص هو السبب بل العلم الأميركي المرسوم عليه".
أحد وكلاء المدرسة يعّلق على تلك الحادثة: "قبل لحظات من الاعتداء
على منصور، تعرّض الطلاب لشحنة عاطفية وحماسية ضد أمريكا وإسرائيل
وحكومة اليمن المعترف بها دوليا، أحرقوا خلالها أعلام الدولتين وصور
بعض قيادات حكومة اليمن، وداسوها بأقدامهم". يضيف وكيل المدرسة الذي
فضّل حجب هويته: "عندما شاهدوا العلم على قميص زميلهم اعتبروه نوعا
من الخيانة".
قبل تلك الواقعة بثلاثة أيام، كانت المدرسة تلقّت تعميماً من إدارة
الإعلام التربوي في أمانة العاصمة صنعاء - التي تسيطر عليها جماعة
"أنصار الله"، المعروفة باسم الحوثيين- بفرض إقامة وقفات احتجاجية في
طابور الصباح. كما أمرت بتخصيص جميع فقرات الإذاعة المدرسية لمدة
أسبوع للحديث عن رفض "التطبيع" والدوس على علمي أمريكا وإسرائيل.
تقول مشرفة في مدرسة حكومية إن إدارة المدرسة تتلقّى "يوميا" توجيهات
من مكتب التربية في العاصمة صنعاء ووزارة التربية والتعليم، التي
يديرها يحيى الحوثي شقيق زعيم الحوثيين. وتوضح المشرفة - التي طلبت
حجب اسمها لأسباب أمنية- أن معظم المذكرات الداخلية تركّز على "تنفيذ
أنشطة تخدم جماعة الحوثي ولا علاقة لها بالأنشطة المدرسية التي يفترض
أن تنمي مهارات الطلاب".
وفي استبيان غير علمي وزعه على مشرفين ومدراء في 20 مدرسة بصنعاء ومحافظة إب (193 جنوب صنعاء) - الخاضعة أيضا لسيطرة الحوثي منذ سبتمبر/ أيلول 2014- توصل معد التحقيق إلى أن الحوثيين لم يفرضوا على جميع الطلاب ترديد شعار الجماعة، لكنهم فرضوا على مدى أربعة أعوام أنشطة تخدم فكرهم. ويقول معلمون - فضّلوا حجب أسمائهم- أن الحوثيين استقطبوا لذلك عددا كبيراً من المدرسين وعينوا مديري مدارس موالين للجماعة، ما أسهم في نشر ما يطلقون عليه الـ"الثقافة القرآنية" المستقاة من محاضرات مؤسس الحركة حسين الحوثي. وهكذا نجحوا في إقناع عدد كبير من الطلاب بترديد "الشعار" الداعي بالموت لأميركا، إسرائيل واليهود، والذي يستخدم كغلاف للنشاط المذهبي الحوثي، وفق أحد المعلمين.
تقول مشرفة في مدرسة حكومية إن وزارة التربية تكرر إرسال أحد
القيادات التعبوية عبدالفتاح الجبري لإلقاء محاضرات على الطلاب في
طابور الصباح وتوزيع ملصقات ومطويات تحمل شعارات الحوثيين. وتتابع
"كان في البداية يردّد "الصرخة" بعد كل محاضرة بمفرده، لكن مع مرور
الوقت درج عدد من الطالبات والمدرسين على ترديدها خلفه.
معلم في مدرسة جمال الحكومية بمديرية التحرير في صنعاء يؤكد ما سبق،
ويضيف لمعد التحقيق: "هناك أسر تنتمي إلى السلالة الهاشمية التي
تناصر جماعة الحوثي وتعلم أبناءها ترديد هذا (الشعار) وهناك طلاب
أصبحوا مقتنعين بفكر الجماعة". لكنه يستدرك أنهم لا يتجاوزون 25 % من
عدد الطلاب، وفق ملاحظته الشخصية.
في تعميم عبر مجموعة "واتس آب" مخصّصة لمديري ووكلاء ومشرفي المدارس بمديرية "الثورة " بالعاصمة صنعاء، فرض مدير المنطقة التعليمية حينها عصام الخالد في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 على كل مدرسة إرسال مدرس أو إداري لحضور دورة ثقافية. وشدّد مرسل التعميم على أن "كل موظف في المدرسة سيأتي عليه الدور لحضور تلك الدورة"، كما طالب "بإيفاد المدرسين والإداريين لحضور الدورات الثقافية واعتبارهم في إجازة رسمية". كما هدّد مرسل التعميم الإلكتروني "من يتساهل بالأمر بتعريض نفسه للمحاسبة".
لدى تحليل محتوى استمارة الاستبيان، وجد معد التحقيق أن 14 من 20 مستجيبا أكّدوا أن "معظم المدرسين يجبرون على المشاركة في الدورات الثقافية"، فيما يعتقد "أربعة من العينة أن المدرسين يذهبون إلى الدورات وفق رغبتهم". وأجاب اثنان من الـ 20 بأنهما يشاركان تجنبا للمشاكل.
ولا تنحصر الدورات الحوثية بالمدرسين والإداريين بل تأمر إدارات المناطق التعليمية المدارس باستمرار إرسال التلاميذ خلال إجازات نصف العام والإجازة الصيفية للمشاركة في "دورات ثقافية"، تتمحور حول مواضيع دينية. ويسعى المحاضرون لإقناع المشاركين بهذا الفكر وصواب الحرب الحوثية التي "تستهدف أميركا وإسرائيل وعملائهما، وبالتالي مناصرة هذا الحق بالقول والفعل وحمل السلاح".
وفي تعميم عقب امتحانات الفصل الأول من العام الدراسي الحالي، طلب مدير المنطقة التعليمية بمديرية الثورة بصنعاء من كل مدرسة في المنطقة "تجهيز خمسة طلاب في الثانوية لإدخالهم دورة ثقافية مدتها ٢٠ يوما".
تتراوح "الاحتفالات" المفروضة على المدارس بين "أسبوع الشهيد وأسبوع الصمود والمولد النبوي وميلاد فاطمة الزهراء، وذكرى مقتل مؤسس الجماعة" حسين بدر الدين الحوثي في سبتمبر/ أيلول 2004. إذ تأمر وزارة التربية التابعة للحوثيين جميع المدارس الخاصة والحكومية بإقامة فعاليات فنية وثقافية وخطابية ورياضية، وتنفيذ زيارات إلى مقابر قتلى الحرب التي تخوضها الجماعة.
وتراقب الجماعة مدى التزام المدارس بتنفيذ التوجيهات من خلال مشرفين
اجتماعيين من عناصر الحوثيين وأنصارهم. ويمثّل هؤلاء المشرفون قناة
التواصل الوحيدة التي تتلقى من خلالها المدارس توجيهات وأوامر وزارة
التربية والمنطقة التعليمية.
تحليل الاستبيان أفضى إلى أن 80 % من العينة المستهدفة يؤكدون أن
الحوثيين يستخدمون تلك الفعاليات والمناسبات لنشر فكرهم الطائفي، فيما
تذكر 20 % من العينة أن الحوثيين لا يفعلون ذلك.
في الفترة بين 19 و 29 يناير/ كانون الثاني 2019، أجبرت وزارة التربية
الخاضعة للحوثي المدارس الحكومية والأهلية على إحياء ما تسميه "أسبوع
الشهيد"، من خلال عدّة أنشطة؛ أهمها تخصيص الإذاعات المدرسية للاحتفال
بذكرى القتلى وأبنائهم وبناتهم وتنظيم وقفات في هذه الذكرى. كما أمرت
بإقامة محاضرات وأنشطة رياضية، وإعداد مطويات ومجلات حائطية، فضلا عن
تنظيم زيارات لأسر القتلى وتقديم العون لهم وعرض نماذج من بطولاتهم
وزيارات مقابرهم.
وكانت الوزارة الحوثية أصدرت تعميما رقم (429) بتاريخ 25 ديسمبر/ كانون
الأول 2018، الخاص بإقامة فعاليات بمناسبة مرور أربعة أعوام على ما
وصفته بـ" الصمود في وجه العدوان السعودي-الأمريكي".
ومن تلك الفعاليات تنظيم معارض لصور قتلى الجماعة، بالإضافة إلى ندوات
وفعاليات ثقافية ورياضية في جميع المدارس مع تخصيص حصص التعبير للحديث
عما تصفه الجماعة بـ"الصمود الأسطوري". وكذا تنظيم زيارات تربوية
(مدرسين وإداريين) وطلابية لجرحى الحرب في المستشفيات.
يؤكدون أن الحوثيين يستخدمون تلك الفعاليات والمناسبات لنشر فكرهم الطائفي
تذكر 20 % من العينة أن الحوثيين لا يفعلون ذلك
أجبرت وزارة التربية الخاضعة للحوثي المدارس الحكومية والأهلية على إحياء ما تسميه "أسبوع الشهيد"،
مبروك الجماعي (37 عاماً) يقول إنه تفاجأ عندما رأى ابنه عمر (6 سنوات) يؤدي "الصرخة" في احتفال أقامه مجمع الثورة التربوي في مدينة حجة لتكريم الطلاب المتفوقين في النصف الأول من العام الدراسي الحالي. وعندما سأله أين تعلّم "الصرخة"، رد عمر "يعلموننا إياها في المدرسة".
ويؤكد الجماعي في حديثه لمعد التحقيق "أن عمر وأقرانه لا يدركون معنى
"الصرخة (هي ذاتها الصرخة التي فرضت في إيران عقب الثورة الخمينية مطلع
1979)، لكن حرص الحوثيين على تأصيلها في التركيبة النفسية للصغار سيخلق
جيلا طائفيا بامتياز". ويؤكد هذا الأب أنه وأقرانه لم يسمعوا "بالصرخة
إلا بعد أن سيطر الحوثيون على المحافظة"، لافتا إلى "أنها ثقافة دخيلة
على مجتمعنا".
وأكد تسعة من عشرة معلمين (18 من 20 مستجيبا للاستبيان) أن الحوثيين
يمارسون ضغوطا على إدارات المدارس لتنفيذ مثل هذه الأنشطة. كما أجاب تسعة
من العشرة أنهم تلقوا دعوة لحضور دورات ثقافية حوثية عرضها عليهم مديرون
ومشرفون في المدارس، فيما استجاب سبعة من العشرة لهذه الدعوات.
وحول ما إذا كانت الجماعة أجبرتهم على المشاركة، أجاب أربعة من عشرة منهم
أنهم لم يكونوا يرغبون في حضور الدورة، فيما شارك فيها ثلاثة من عشرة
"تجنبا للوقوع في مشاكل" مع الحوثيين.
ولم يتعرض المدرسون الذين رفضوا المشاركة لأي إجراءات عقابية، لكنهم
يؤكدون أنهم لمسوا تغيرا في أسلوب التعامل معهم من المديرين والمشرفين،
من قبيل استبعادهم من المشاركة في الأنشطة المدرسية وأي نقاشات تخص
المدارس. كما يتعرضون للمحاسبة عن أي تقصير مهما كان بسيطا رغم أنهم
يعملون دون مرتبات، حسبما يقول أحدهم، مضيفا: هذه الممارسات "تشعرنا
دائماً بالقلق"
في المقابل ينفي وكيل وزارة التربية والتعليم الحوثية بصنعاء سيطرة جماعة
الحوثي على العملية التعليمية في المناطق الخاضعة لها. وفي رد عبر الهاتف
على أسئلة شبكة أريج باتصال هاتفي، يقول النعيمي إن الأنشطة التي تنفذّها
المدارس تأتي "من باب التفاعل مع المناسبات الدينية وإحياء للموروث
الثقافي الشعبي". كما ينفي توظيف المدارس لخدمة صراع جماعته السياسي
والديني، أو أن تكون الوزارة قد أجبرت المدرسين على حضور "الدورات
الثقافية" التي تقيمها الجماعة.
بمراجعة قائمة المناسبات التي كانت تحييها المدارس الحكومية والخاصة في
عموم اليمن حتى عام 2015، تبيّن أن أيا من المناسبات التي فرضتها جماعة
الحوثي لم تكن موجودة في إطار المادة 23 من اللائحة المدرسية الصادرة عام
1997. كما أن الأنشطة التي تفرضها الجماعة ليست ضمن ما كانت تحدّده
اللائحة في باب الأنشطة المدرسية، ولا تنسجم مع المادة 129 منها، والتي
نصّت على أن الأنشطة المدرسية جزء من المنهج الدراسي بما يخدم تطوير
معارف التلاميذ وخبراتهم. وتشدّد المادة 181 من الباب الخامس الخاص
بالأحكام الختامية على خلو المدرسة من جميع ممارسات التعصب القبلي
والطائفي والحزبي.
تقول سبأ القباطي المشرفة في إحدى المدارس الخاصة بمنطقة بيت بوس إن 12 من طلابها في المرحلتين الأساسية والثانوية التحقوا بجبهة للقتال في صفوف أنصار الله. وتستبعد سبأ ذهاب معظمهم لولا الأنشطة المدرسية التي تفرضها الوزارة على المدرسة.
وفي هذا السياق، اتهم وزير حقوق الإنسان اليمني محمد عسكر في ندوة عقدت بجنيف على هامش أعمال الدورة 38 لمجلس حقوق الإنسان، جماعة الحوثي بتجنيد أكثر من 15 ألف طفل منذ سبتمبر/ أيلول 2014 وإشراكهم في القتال الدائر بين الجماعة وقوات الجيش التابع للحكومة الشرعية المدعومة من دول التحالف.
وكانت منظمة مواطنة الحقوقية في صنعاء اتهمت أيضا جماعة الحوثي وحلفاءها بتجنيد مئات الأطفال. وذكرت في تقرير أصدرته عام 2018 أنها تحققت من تجنيد 510 طفل خلال 2017 في صفوف جماعة الحوثي وحلفائها، "للعمل عند نقاط التفتيش، في اللوجستيات القتالية ولأغراض عسكرية أو أمنية أخرى" .
كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات الحوثي والحكومة والقوات الموالية لها وجماعات مسلحة أخرى باستخدام الأطفال كجنود، إذ ذكرت في تقريرها عن الأوضاع الإنسانية في اليمن للعام 2017، أن الأطفال يمثلون نحو ثلث المقاتلين في اليمن حتى أغسطس/ آب 2017، وأن حالتين من كل ثلاث حالات وثّقتها تنخرطان ضمن قوات الحوثي.
* معد التحقيق اضطر لحجب أسماء المدارس ومعظم المصادر لكي لا تتعرض للمساءلة في مناطق الحرب.
** شارك في إعداد التحقيق مع زملاء آخرين .
تصميم وتطوير: فريق عمل أريج إشراف: خالد الهروجي