ينقلون آلام البشر ولا يجدون من يداوي جراحهم!
صحفيون ونشطاء يروون واقعهم النفسي بسبب عملهم
في الوقت الذي يعتاد فيه الصحفيون/ات والعاملون/ات في المجتمع المدني بتغطية ما يجري في العالم من أحداث، ويحرصون على توثيق حالات التعذيب والعنف؛ لا يجدون غالبًا من يسلط الضوء على معاناتهم، بسبب ضغط العمل وطبيعته الخطرة، لا من قبل المؤسسات التي يعمل بها الصحفي أو الحقوقي، أو حتى من مؤسسات الدولة المسؤولة مثل الإعلام والثقافة وغيرها. وفي محاولة لرفع الوعي بأهمية الصحة النفسية للصحفيين والصحفيات، قررنا أن نشارك قصص معاناتهم النفسية.
"ما يحدث لي أصعب مما يتحمله بشر". بهذه الكلمات يبدأ مهدي، حديثه عن الآثار النفسية التي يعانيها نتيجة عمله. يعمل مهدي صحفيًّا في سيناء، تلك المنطقة التي شهدت ولا زالت، اشتباكات دامية نتيجة حوادث الإرهاب وتصدي الجيش المصري لها.
يقول مهدي: "أعمل في الصحافة منذ 13 عامًا، تعرضت خلالها للاعتقال مرات عدة بسبب طبيعة عملي في منطقة شائكة مثل سيناء. وأشعر طوال الوقت بعدم الأمان والقلق، ويغيب عن حياتي مفهوم الاستقرار، خاصة مع خشيتي أن أمي، ذات الـ 83 عامًا، قد لا تجد من يوفر لها ثمن أدويتها إذا اعتُقلتُ، أو أن أبنائي الثلاثة وزوجتي سيواجهون مصيرا مجهولا في حال وقع لي خطب ما".
ويضيف مهدي: "أعاني دائمًا من الخوف والقلق الشديد إلى جانب إصابتي بالذعر واضطرابات في النوم".
لم يقف الأمر عند مهدي الذي عمل لسنوات في الصحافة، بل طال الأمر ذوي الخبرة أيضا. بنبرة تُنبئ بالانكسار والإحباط تقول "شروق"، 26 عامًا، وهي صحفية: "تصورت يومًا ما أن الحياة عادلة، لكن أول صدمتي كانت عند دخولي كلية الإعلام، وبدء عملي بالصحافة، حيث عرفت أن العالم الصحفي ضاغط، ويتطلب التواجد ومتابعة ما يجري من أخبار، غالبًا ما تكون سلبية، وهذا يعرضني للضغط النفسي المستمر، كما أنه ليست لدي رفاهية الانعزال أو الاستراحة والاكتفاء بعملي دون متابعة ما يجري في العالم، فعملي الصحفي هو مصدر دخلي الوحيد، لذا دائمًا ما ألهث وراء الأخبار والعمل الذي يؤثر على صحتي النفسية".
تضيف "شروق" أنها شخصية حساسة؛ ما يسبب لها أزمات وصدمات نفسية متتالية، وبالأخص مع عملها، دون وجود أي آليات تدريبية من مؤسستها لتأهيلها للتعامل مع هذه الأحداث دون أن تتأثر نفسيًا، واستشهدت بأحداث
حريق كنيسة أبو سيفين
الأخير، فقالت: "جعلتني الصور ألزم غرفتي طوال اليوم، ولا أقدر على التعامل مع أي شخص. كان لدي قلق من البداية، والآن زادت حدته، وتحول لوسواس قهري مع كوابيس، إلى جانب ظهور أفكار مخيفة تسيطر عليّ كأن أموت وحيدة، أو أن مكروهًا سيحدث لأحبائي"، مؤكدة أنها أصيبت على إثر هذه المخاوف بضغط الدم والقولون العصبي، كان من الممكن أن تقل حدة هذه الآثار إذا تلقت تدريبًا نفسيًا يؤهلها لهذا العمل.
وتشير إحدى
الدراسات
إلى أن العمل الصحفي يحفز الاضطرابات النفسية لدى العاملين فيه، إضافة إلى انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بين الصحفيين أكثر من أي فئة أخرى. وتشير
دراسة صينية
أنه من بين الصحفيين المشاركين في تغطية أحداث طارئة، يظهر الصحفيون ذوي المؤهلات العليا قلقًا واضحًا وأسلوبًا سلبيًا في التأقلم، مقارنة بالأقل منهم تعليميًا، ويشير أحد
التقارير الكندية
إلى أن حوالي 69% من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام يعانون من القلق و46% يعانون من الاكتئاب.
ووفقًا
لتقرير مركز دارت
التابع لمدرسة كولومبيا للصحافة، فإن ما لا يقل عن 80٪ من الصحفيين تعرضوا لصدمات مرتبطة بالعمل. كما أن تغطية الأحداث الصادمة لفترة طويلة يمكن أن يكون له آثار سلبية على الصحفيين أنفسهم
مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب.
ولم تحسم الدراسات توقيتًا محددًا لظهور أثر الصدمة النفسية التي يتعرض لها الفرد نتيجة معايشته لحدث صادم، فأحيانًا ينكره الفرد باستخدام حيل دفاعية لاشعورية لتخفيف أثره الآني، ولكن يخزنه في الذاكرة ويظهر في توقيت آخر غير معلوم.
كيف أثر العمل في المجتمع المدني والصحافة على العاملين فيه؟
تشير إحدى الدراسات إلى أن الصحفيين عادة ما يكونون من أوائل المتأثرين نفسيًا بالأخبار العنيفة، وتغطيتهم للأخبار يمكن أن تؤثر على صحتهم النفسية. استخدمت الدراسة متعددة الأساليب مسحًا وطنيًّا لـ 254 صحفيًّا أظهر أنه مع زيادة تواتر تغطية الصدمات وشدتها، تزداد شدة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. ولهذا كان من أهم التوصيات للحفاظ على الصحة النفسية للصحفيين تقديم الدعم النفسي والمتابعة المنظمة لهم، حتى إن لم يطلبوها.
وهذا ما حدث لـ "سمية"، 30 عامًا، الصحفية التي عملت في عدد من الصحف المصرية، وأثرت الصحافة سلبًا على صحتها النفسية: "بدأت العمل كصحفية منذ أن كنت في عامي الجامعي الأول، وقامت الثورة وأنا في العام الثاني، حينها نزلت إلى المستشفيات الميدانية لتغطية الأحداث ومساعدة المصابين".
تضيف "سمية" أن صدمتها الأولى كانت عند مشاهدة دماء المصابين، وهي التي لم تعتَد رؤية هذا النوع من العنف مباشرة أمامها: "كانت الصحافة دائمًا مفاجئة لي وكاشفة لواقع لا أعيشه أو ربما اعتقدت أنه غير موجود. وخلال تغطيتي لحريق اندلع في القاهرة، فوجئت خلال حديثي مع بعض الأشخاص أنه ليس لديهم 10 جنيهات حتى، وأنا أعيش في مستوى مختلف تمامًا من الرفاهية فصدمني الواقع".
توالت صدمات "سمية" عندما اتجهت إلى العمل في ملف الإسلام السياسي، ووجدت أن الأمر يزيد من أزمتها بسبب التفجيرات المستمرة وأخبار الاستشهاد والقتل والدماء، أيا كان المصابون أو القتلى، وتفاقم الأمر بعد جائحة كورونا بسبب تركيزها على الأخبار المريعة. تقول "سمية": "أصبت بالفزع لدرجة بتُّ أعتقد أن كل من يصاب بكورونا سيموت، هذا إلى جانب الضغط النفسي المرتبط بالمواعيد وبيئة العمل غير المناسبة نفسيًّا".
بعد ذهاب "سمية" للطبيب النفسي، تم تشخيصها باضطراب ما بعد الصدمة المصاحب لفوبيا الفقد، بسبب الوفيات الدائمة التي تتابعها.
العمل في المجتمع المدني لا يختلف كثيرا، إذ تقول الصحفية "إنتصار"، 40 عامًا: "شعرت في وقت ما بضغط العمل الصحفي، وقررت الانتقال للعمل في المجتمع المدني لاعتقادي بأن مجال العمل فيه أقل حدة نفسيًّا من الصحافة، ولكن حدث العكس، فقد عملت على ملف التعذيب والاختفاء القسري، وذلك جعلني أستمع يوميًّا إلى شهادات من الأهالي عن أبنائهم المعتقلين ورعبهم من فقدهم للأبد.
كان الوضع مؤلمًا؛ فالشهادات كانت إما شهادات اختفاءات قسرية، وإما انتهاكات وتعذيب قد تصل إلى درجة القتل، وخلال كل ذلك كان مطلوبًا مني الاستماع بتوازن إلى الشهادات".
بات الأمر مرعبًا مع "إنتصار" لدرجة أن الاستيقاظ أصبح فكرة سخيفة بالنسبة لها؛ فهي ستذهب لتستمع إلى شهادات مؤلمة أصبحت تسبب لها الكوابيس والاكتئاب، خاصةً مع تأزم المشهد السياسي في مصر، فما فائدة كل ما تفعله؟ فبعيدًا عن الواقع القاسي كان من المهم أن تقدم المؤسسة لها تدريبًا نفسيًا للتعامل مع الحالات، فهذا النوع من العمل يتطلب وجود وقاية نفسية قوية. تقول "إنتصار": "وصلت إلى حالة من الاحتراق الذاتي، وأصبح لدي ما يشبه الصم حين أستمع لشهادة ما، فلم أعد قادرة على استيعاب كل ذلك، علاوة على إصابتي بالسكري، أضف إلى ذلك كوني أما عزباء، وما أعايشه من أخبار يجعلني طوال الوقت أفكر أن هذا اليوم قد يكون آخر وقت لي خارج السجن، عوضًا عن أنني قد أنهار من البكاء دون أي مقدمات بسبب كل هذا الضغط". كل ذلك جعل "إنتصار" تشعر أنها غير قادرة على التغيير، لذا تركت العمل!
"م. م"، 30 عامًا، ناشط في المجتمع المدني ويعمل منسق حملات يتحدث عن معاناته قائلًا: "أكثر ما كان يضغط عليّ هو تعاملي مع أهالي الضحايا وشعورهم بقدرتي على مساعدتهم سواء في جبر الضرر أو معرفة مصائر أبنائهم، رغم عدم تمكني من القيام بأي شيء يساعدهم، لذلك كنت أحبط كثيرًا، خاصةً مع توثيق حالات العنف التي أسمعها سواء من الشخص نفسه أو أهله أو حتى محاميه؛ طرق تعذيب مخيفة وانتهاكات فجة لحقوق الإنسان، وذلك يجعلني أعيد تدوير الأحداث في ذاكرتي وأتخيل حدوثها لي يوميًّا، مما يصيبني بنوبات هلع متكررة ويدخلني في دوامات اكتئاب طويلة".
يضيف "مروان" أن التهديد الأمني جزء آخر من المشكلة: "في أوقات كثيرة يتم اعتقال زملائي في المؤسسة وأشعر بالعجز التام من عدم قدرتي على دعمهم، ومن خوفي على مصيري لأصبح مثلهم، والأخطر كان في استدعائي أمنيًّا وطلب الأمن الوطني تجنيدي للعمل معهم، وعندما رفضت تم تهديدي بإلحاق الضرر بأسرتي وابني فانتهى المطاف بي خارج مصر، لأبدأ من جديد في عمل آخر".
يشارك
د. جمال فرويز،
استشاري الطب النفسي، رأيه مع حملة سلامتك تهمنا، ويرى أنه لا يتأثر أي صحفي بالقضايا التي يغطيها، إلا إذا كان ذا استعداد نفسي أو جيني للإصابة بالأمراض، يقول فرويز: "خلال فترة عملي في الطب النفسي وهي 30 عامًا، تعاملت مع صحفيين متنوعين من مناطق مختلفة بها أزمات مثل العراق جنوب السودان وأفغانستان والكونغو، لم أر منهم شخصًا تأثر بسبب ما يغطيه، ولكن الأمر يختلف عمن بدأ حياته المهنية للتو؛ فكثرة الضغط عليه يمكن أن تتسبب في اضطرابات النوم والتوتر والاكتئاب الخفيفة، ولكن بمجرد الاستمرار في العمل والاعتياد على هذه الأمور تصبح معتادة. ولا ينفي ذلك ضرورة وجود أهمية الرعاية النفسية المستمرة للصحفيين والعاملين بالمجتمع المدني".
صراعات من نوع آخر
لا تقف مشاكل الصحفيين عند تغطية الأخبار السلبية ومتابعة الشأن العام، فهم يعانون من ضغوط التنافس المحموم بين العاملين في المجال، ومع قلة الفرص تظهر الأعباء المادية. يقول "مهدي": "المؤسسات الصحفية المصرية لا تهتم بالموظفين العاملين لديها من الأساس، حتى إن وصل الأمر للانتحار"، ويضيف: "كنت مثلًا أعمل في جريدة مصرية شهيرة أثناء اعتقالي ،بسبب عملي الصحفي، فخصمت الجريدة راتبي لمدة شهر كاملًا".
لكل هذه الأسباب والمعاناة، يحتاج العاملون في المجتمع المدني والصحفيون إلى الأخذ بعين الاعتبار حقوقهم في العمل الحفاظ على صحتهم النفسية، قبل أن تنتهي حالتهم بالاحتراق الوظيفي أو ترك العمل أو ربما الانتحار!
*جميع الأسماء مستعارة بناء على طلب أصحابها