المغرب

التحرش الجنسي..
كابوس يطارد الإعلاميات المغربيات

منية الأنوار ، توفمبر 15 , 2022
سنة 2019، تغيرت حياتي.. كان أول عام لي في مجال الصحافة، هذا المجال الذي أعشقه واخترته عن حب، لكن للأسف، فرحتي لم تكتمل، لأنني في أول تجربة لي في هذا المجال، تعرضت للتحرش من مديري الذي لم أتوقع نهائيّاً من شخص مهني مثله أن يقوم بهذا التصرف.. عندما أتذكر تلك اللحظة، أحس أنني انهرت، وأشعر أن الحادث أثر علي بشكل كبير

الصحفية "شيماء- اسم مستعار" تبلغ 24 عاماً، لم تستطع إظهار هويتها للعلن، تحكي تجربتها المريرة.

"في يوم من الأيام، توجب علي البقاء في المكتب لساعات إضافية كالعادة، وانغمست لساعات في الكتابة بحكم أنني صحفية ومهمتي تفرض علي الكثير من التركيز والانتهاء في وقت محدد. مضت ساعات ولم أشعر بوجود أحد، إلى أن امتدت أصابع غريبة إلى كتفي، دقات قلبي تسارعت بعد أن سمعت صوت مديري وهو يقول: يبدو أنك متعبة، هل تريدين "مساج"؟، ابتعدت فوراً وصرخت في وجهه، ردة فعلي جعلته ينصرف وعلامات الغضب تظهر على وجهه. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت منبوذة في مكان العمل، ودائماً ما ينظر إلي بطريقة مريبة وكأنني المذنبة في القصة. لم أعد أشعر بالارتياح، وقررت الاستقالة من العمل، لأن نفسيتي تدمرت، وأحسست بحزن واكتئاب كبيرين، لدرجة أنني لم أستطع استئناف عمل آخر إلا بعد مدة طويلة".

شيماء لم تبُح بسرها لأسرتها أو أصدقائها خوفاً من الفضيحة، لكن صمتها لم يحررها من تعبها النفسي، فقد عاشت حالة من الذعر لفترة طويلة رغم ابتعادها عن تلك المؤسسة، خاصة بعدما وصلتها رسائل غريبة فجأة على صفحتها في فيسبوك.

أصبحت أتلقى رسائل غريبة من أشخاص مجهولي الهوية على فيسبوك، أُنعت فيها بأقبح الصفات، فكرت في الاتجاه نحو الشرطة الإلكترونية، لكن عندما أتذكر سلطة وقوة الشخص الذي تحرش بي، أتراجع عن قراري

قصة شيماء ومعاناتها النفسية تخوضها نساء مغربيات كثيرات في مجال الصحافة. معارك يومية داخل مقرات العمل ضد التمييز والتحرش الجنسيين تخوضها العاملات في ميدان غرضه الأسمى إيصال صوت الحق. لكن للأسف، يضيع صوت بعضهن في ضجة الفساد الذي دفع بعض الأشخاص للتخلي عن مبادئهم وأخلاقهم.

التحرش الجنسي في أماكن العمل

شيماء كغيرها من النساء اللاتي أردن حقهن في العمل بسلام، هذا الحق الذي يعد من الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها عامة الناس باختلاف أجناسهم وألوانهم، دون التعرض لأي شكل من أشكال التهميش أو التمييز أو التحرش.

التحرش الجنسي الذي تعرضت له شيماء ونسبة كبيرة من النساء داخل مقرات عملهن يعتبر شكلاً من أشكال العنف والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، ويتضمن أي فعل صريح أو ضمني ذي طابع جنسي، بأي شكل من الأشكال، غير مرحب به أو غير مرغوب فيه، على نحو يجعل الشخص الآخر يشعر بالإهانة أو التحقير أو الترهيب أو الإذلال أو التهديد أو الخوف.

في حديثنا مع شيماء، لم تتوقف عن ذكر رغبتها الشديدة في المساواة مع الرجل، هذه الرغبة التي ظلت مطلباً ملحّاً لدى جُلّ المرأة المغربية، على غرار نظيرتها العربية، لتتمتع بحقوقها الكاملة على جميع المستويات. ويمكن الجزم بأن الحضور النسائي الذي عرفه المشهد الإعلامي المغربي خلال السنوات الأخيرة جاء نتيجة لسنوات من المثابرة، خاصة في المجال الإعلامي، إذ إن عدد الصحفيات الحاصلات على بطاقة الصحافة المهنية التي تمنحها وزارة الاتصال في المغرب سنويّاً في سنة 2021 بلغ 953 صحفية من أصل 3394، وهو عدد مرتفع لم يسجل خلال سنوات طويلة، حسب المجلس الوطني للصحافة. لعقود طويلة، كان المجال الإعلامي حكراً على الرجال فقط، لكن لم يمنع ذلك النساء من حجز مساحة كبيرة منه لمواهبهن ومثابرتهن في هذا المجال الذي طالما صنف من المجالات الخطيرة التي تتطلب الكثير من التنقل من مكان إلى آخر والاشتغال الدائم في قضايا يمكن أن تشكل تهديداً على حياة العاملين في هذا المجال.

لكن يلاحظ أن عدد النساء اللاتي تقلدن مناصب قيادية في المؤسسات الإعلامية يبقى منخفضاً، وذلك بسبب التمييز الجنسي الذي تتعرض له النساء. هذا ما أوضحه الأستاذ إبراهيم الشعبي رئيس المركز الوطني للإعلام وحقوق الإنسان بالمغرب، فقد أكد إبراهيم الشعبي، رئيس المركز الوطني للإعلام وحقوق الإنسان بالمغرب، على خطورة ظاهرة التحرش الجنسي التي أصبحت تتزايد بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، ما دفع العديد من المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية لإنجاز تقارير تؤكد التزايد المفرط لهذه الظاهرة وكيفية التعامل معها.

وأضاف أن هذه الممارسة المشينة أصبحت تطارد العاملات في المجال الإعلامي في مقرات عملهن، وأكد أن هذه القضايا ليست وليدة اللحظة، بل إن النساء عانين لعقود كثيرة بسبب التحرش الجنسي، لكن التزمن الصمت خوفاً من نظرة المجتمع لهن، وللمحافظة على خصوصيتهن. وأضاف الشعبي أن التحرش الجنسي الذي تتعرض له الصحفيات ليس فقط داخل مقرات العمل، بل خارجها أيضاً، وحتى في منازلهن، لأن نسبة هذه الظاهرة في العالم الافتراضي كبيرة جدّاً، حيث إن بعض النساء يتعرضن لرعب نفسي بسبب العنف اللفظي والتحرش بشكل يومي وبطرق مختلفة، ما يجعل الحد من هذه الظاهرة صعباً جدّاً.

من جهة أخرى، ترى الباحثة في علم الاجتماع، ملكة عياد، أن الإعلاميات المغربيات تمكّنّ من البروز في هذا المجال، رغم تواجدهن في مجتمع ذكوري ترتفع فيه نسبة الرجال الذين يؤمنون بأن المرأة التي تشتغل معهم يمكنهم مغازلتها والتعامل معها بطريقة يتخللها الكثير من الممارسات التي تدخل في إطار التحرش الجنسي دون معرفتهم مدى خطورة الأمر.

لكن السيدة ملكة، باحثة في علم الاجتماع، تؤكد أن هذه الممارسات يمكن أن تتجلى أيضاً في طريقة اختيار بعض الإعلاميات، حيث يحكم هذه الاختيارات المظهر الخارجي بدلاً من الكفاءات، وكل هذه النقاط السلبية ينبغي العمل على تجاوزها من أجل تحسين وضعية الإعلامية المغربية ومنحها مناخاً صحيّاً وملائماً للعمل والإبداع.

وحسب خبراء وأخصائيين نفسيين، فإن "التروما" أو الصدمة النفسية الشديدة التي تحدث بسبب التعرض لحادث مفاجئ وأليم يسيطر على الشخص، لها تأثيرات خطيرة على الجسم، وخاصة الاعتداءات المسكوت عنها، التي تتسبب في خلل وظيفي. وفي ظل عدم معالجة الأحداث الصادمة، فإن الذكريات المرتبطة بها تبقى بنفس الحدّة، وتظل عالقة في الدماغ وتخرج إلى العلن في لحظات الضعف. أما بالنسبة لأسباب صمت الضحايا، فهي عديدة، لعلّ أكثرها شيوعاً: الشعور بالعار والخجل. ويأتي الخوف من العار في المرتبة الأولى خاصة في المجتمعات المحافظة، فهو يجعل بعض النساء يلقين اللوم على أنفسهن ويشعرن بأنهن المسؤولات عما حصل لهن. كما أن عدم تقدير الذات الذي تعاني منه ضحايا التحرش الجنسي يجعل من الصعب عليهن تقدير أجسادهنّ أو سلامتهنّ، لدرجة أنهنّ لا يعتبرن أن ما حدث لهنّ خطير وبالغ الأهمية، في حين أن الانتهاكات الجنسية غالباً ما تؤدي إلى تشويه الصورة الشخصية وإلى اهتزاز ثقة الضحية بنفسها وشعورها بالعجز والإحباط.

المشرع المغربي

شيماء والعديد من ضحايا التحرش الجنسي، عادة ما يجدن صعوبة في إثبات الجريمة التي تعرضن لها على أرض الواقع، ففي غالبية الوقت، يختار المتحرش مسرح جريمته بطريقة دقيقة، إذ يحاول التقرب من ضحيته في مكان مغلق خالٍ من الشهود وكاميرات المراقبة، ما يصعّب على الضحية مهمة إثبات جرم التحرش.

من الجهة القانونية، لا يمكن التحقق من حدوث هذا الفعل المشين، إلا بتوافر الأدلة على لجوء الجاني إلى استعمال وسائل معينة، مثل إصدار الأوامر، أو التهديد، أو الإكراه وممارسة الضغوط، بقصد إجبار الضحية على الاستجابة لرغباته. كما أنه لا بد من طرح الأدلة شفهيّاً وبحضور الأطراف كلها أثناء المحاكمة، ما يدفع بعض الضحايا للعزوف عن رفع القضية لتأخذ مجراها العدلي. فالحكم الجنائي يبنى على الجزم واليقين وعلى اقتناع القاضي بشكل كامل، وذلك بوسيلة إثبات مشروعة وصحيحة، وذلك حسب دراسة مقارنة بعنوان: "جريمة التحرش الجنسي من منظور القانون الجنائي المغربي"، للدكتور إكرام مختاري- دكتوراة في القانون الجنائي والعلوم الجنائية.

جرم التحرش الجنسي لم يدخل ضمن نصوص القانون الجنائي المجرمة للانتهاكات التي تطال الشرف والعرض بصفة عامة، إلا بعد تعديل القانون الجنائي بموجب القانون رقم 24.03 المتعلق بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي، حيث بادر المشرع المغربي، كغيره من المشرعين في العالم، إلى تضمين القانون الجنائي لأول مرة نصّاً مكملاً يعاقب على التحرش الجنسي في "يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف درهم، من أجل جريمة التحرش الجنسي، كل من استعمل ضد الغير أوامر أو تهديدات أو وسائل للإكراه أو أية وسيلة أخرى، مستغلاًّ السلطة التي تخولها له مهامه، لأغراض ذات طبيعة جنسية".

بالنسبة لقضية شيماء التي تدخل في إطار التحرش الجنسي داخل مقر العمل، يجدر الذكر أن المشرع المغربي تطرق إليه من خلال المادة 40 من قانون الشغل، الذي اعتبر فعل التحرش الجنسي من بين الأخطاء الجسيمة المرتكبة من طرف صاحب العمل أو المدير المباشر ضد الأجير والمؤدية إلى الحق في التعويض عن الفصل.

قضايا أخرى..

شيماء ونساء كثيرات اتخذن من الصمت رفيقاً لدرب محزن لا ضوء فيه، لكن أخريات رفعن أصواتهن وقررن وضع حد لبؤسهن الذي لا ذنب لهن فيه.

نرجس، مصورة وتقنية مونتاج في إحدى شركات الإنتاج، تبلغ من العمر 28 سنة، تحكي لنا قصتها مع التحرش:

"كنت مسؤولة عن الكاميرا في مقابلة صحفية مع مدير إحدى الشركات، تعرضت للتحرش اللفظي من طرفه وكان زميلي الصحفي شاهداً على الواقعة. ليس هذا فقط، فبعد خروجي من الشركة، لحق بي وطلب الحصول على رقمي، صرخت في وجهه وقلت له إنني سأبلغ الشرطة بما حدث، لم يكترث لكلامي وانتقد لباسي ونعتني بكلمات نابية.. لم يقف عند هذا الحد، بل سبقني واشتكى لمديري وأخبره أنني أنا من تحرش به. مدير الشركة التي أشتغل بها لم يكترث لكلامه وقابلني ليسمع مني ما حدث وقام بإرسال إيميل لتلك الشركة لتبليغهم بالواقعة، كما أنه ألغى أي تعامل مع تلك الشركة".

على عكس قضية شيماء، قضية نرجس لقيت دعماً كبيراً من مديرها الذي لم يتغاضَ عن التحرش والإساءة اللذين تعرضت لهما، لتصبح من ضمن عدة قضايا انتهاكات جنسية تحولت إلى قضايا رأي عام وخلقت جدلاً كبيراً في المجتمع المغربي.

كيف تتعامل المؤسسات الإعلامية مع قضايا التحرش؟

يؤكد لنا الشعبي أن المؤسسات الإعلامية المغربية بشكل عام تشجب هذه الأفعال اللاأخلاقية، لكن كيفية التعامل مع الحوادث تختلف من مؤسسة لأخرى، إذ تتوفر في بعض المؤسسات لجان لمتابعة هذا النوع من المشاكل بالإضافة إلى قوانين وإجراءات والتزامات تفرض على الموظفين لتجنب حدوث أي نوع من أنواع التحرش أو التمييز. لكن لا يمكن دائماً الاعتماد على هذه اللجان لأنها غالباً ما تكون تحت إمرة مدير النشر أو رئيس التحرير، وبالتالي، لا تخرج مثل هذه الحالات، خاصة إذا كان مسؤولون إعلاميون خلف هذا النوع من الأفعال المشينة.

التحرش الجنسي ليس فقط ظاهرة بل قضية إنسانية عالمية تعاني منها النساء بشكل كبير، خاصة في مقرات عملهن باختلافها. الخطر يكمن في استفحال هذا الفعل المشين في الوسط الإعلامي، حيث تتعرض النساء لظلم في كثير من الأحيان يحمله قلم مكسور وصورة تخفي وراء ابتسامتها ألماً عميقاً. وبين صعوبة إثبات الجرم وخوف من مجتمعات تستسهل لوم النساء، تبقى كثيرات من ضحايا التحرش سجينات صمتهن لفترة طويلة.

شيماء لبست قناعها وتحدثت عن ألمها، لتتحرر ولو قليلاً من تأنيب الضمير الذي رافقها لسنوات. قضيتها ما هي إلا جزء من قصة طويلة لا نهاية لها من الأصوات المكبوتة التي ثارت بعض بطلاتها والبعض الآخر سجن في جحور الظلم العاتمة، وأخريات دفن ودفنت فصول القصة معهن، فيما تكافح أخريات على أمل خنق هذه الآفة المجتمعية أو تطوير سبل الحماية لتفاديها.


منية الأنوار