تونس

كادِحَات من جنوب الصحراء في تونس:
بين غياب تطبيق القانون وتهديد السلامة الجسديّة

تـشرين الثاني 30 , 2022

المسافرون المنتظرون قطار المترو رقم 2 في ساحة الجمهوريّة بالعاصمة تونس يخيّم عليهم صمت ثقيل ينعكس على الوجوهِ غضباً يتطاير من الأعين بسبب التأخير المعتاد. يخرق الصّمت صراخُ سيّدَةٍ خمسينيّة توبّخ بفرنسيّة ركيكة شابّة عشرينيّة من أفريقيا جنوب الصحراء. يبدو أنّ ما أثار حفيظة هذه السيّدَة سهو من الشابّة أدّى إلى إسقاط أحد الأكياس البلاستيكيّة التي تحملها. لم تكتفِ السيّدة بالصراخ، بل تمادت بدفع الشّابة وتعنيفها. تدخّل مجموعة من الشباب، واكتفى البقيّة بنظرات متواطئة ألِفت هذا المشهد الذي يتكرَّرُ يوميّاً في تونس.

تُعْتَبَرُ تونس منذ سنوات عديدة بلدَ عبورٍ للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء. في أحدث عمليّة مسحٍ وطنيّ للهجرة الدوليّة بتونس قام به المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2021، بلغ عدد الأجانب المقيمين في تونس ما يقارب 59 ألفاً، 36% منهم وافدون من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

الأزمات السياسيّة، الوضع الاقتصادي المتردّي، كلّها عوامل ساهمت في ارتفاع هذه الأرقام. ووفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء، ارتفع عدد الأفارقة من جنوب الصحراء من 7200 سنة 2014 ليبلغ 21466 سنة 2021.

ما تعرّضت له الشابة في محطّة المترو، هو مصير المئات ممّن قدموا إلى تونس بحثاً عن وضعيّة أفضل. تارا وميرا وجاهيا (أسماء مستعارة)، هنّ ثلاث مهاجرات من أفريقيا جنوب الصحراء. يتعرّضن، كالمئات من المهاجرات الأخريات، إلى انتهاك لحرمتهنّ الجسديّة ويتحمّلن مختلف الإهانات التي قد تصِلُ في، بعضِ الأحْيَان، إلى الاستعباد. لكن الظروف الصّعبة تجبرهنّ على الخنوع والصمت خوفاً من الترحيل أو السجن. هذا المشهد التونسي والمعاملة التي يلقاها المهاجرون عموماً ليس حكراً على تونس، إذ إن مثل هذا المشهد يتكرر في دول عربية مختلفة، حيث يتجذر التمييز على خلفية العرق أو الجنس أو الدين.

حلمُ الإقامة لضمان السلامة الجسديّة؟

السّاعة العاشرة صباحاً. تَقبِلُ تارا. لا تبدو متوتّرة أو قلقة من اللقاء على عكس ما توقّعت.

أفهم منها أنّها تُحاول منذ مدّة أن تتحصّل على الإقامة لكي تضمن حقوقها ولكيلا تضطرّ إلى العمل بطريقة غير قانونيّة. تعتبر الشابة الإيفواريّة أنّ أفضل السيناريوهات يتمثّل في حصولها على اللّجُوء في تونس. لكن إجراءات تقديم الطلب معقّدة ويطغى عليها الطّابع البيروقراطيّ للإدارة التونسيّة، بالإضافة إلى أنّ "العيش بدون أوراق تثبت الهوية سرعان ما يتحوّل إلى تهديدٍ للسلامة".

تُسلّط المحامية والناشطة السياسية بشرى بلحاج حميدة الضوء منذ سنوات على هذه الوضعيّات التي تجبر المهاجرات في كثير من الأحيان على "عدم التجرؤ على التوجّه للقضاء في حالة التعرُّض للانتهاكات" على حد تعبيرها.

سجّلت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين بتونس حوالي 641 لجوءاً في سنة 2015 بالمقارنة مع 9703 لاجئين وطالب لجوء حتى نهاية مايو (أيار) 2022. كان أكثر من 5 آلاف منهم من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

يتطلّب الحصول على الإقامة مالًا وطولَ نفسٍ ومعرفة بالإجراءات. طرَقت تارا أبواب منظمّات المجتمع المدنيّ لكنّها لم توفّق، لأنّ القانون التونسي تدرّج منذ ستينيات القرن الماضي في تشديدِ العقوبة على المهاجرين غير النظاميين.

"أنا في درجة أقلّ من المواطن التونسي". تلخّص الشابة الوضع. ثمّ تواصلُ: "المعاناة تبدَأُ مِنَ المَنْزِلِ. الظُّرُوفُ الماديّة الصعبة والخوف من الشرطة، أسبابٌ تُجبرني على السّكن في مناطق بعيدة عن وسط المدينة وهو مَا يجْعَل سلامتي مهدّدةً في أيّ لحظة".

في مختلفِ الدِّراسات التي تناولت واقع الهجرة النظاميّة وغير النظامية في تونس، نفهم أنّ معاناة المهاجرين تبدأ من صعوبة الحصول على الإقامة أو عدم توفّر شروطِ تجْدِيدِها، وهو ما يجعل مهمّة العيش شبيهةً بمغامرةٍ يوميّة للكثيرات مثل تارا ، صراع من أجل البقاء حتّى نجاتهن كل يوم في الطريق إلى كسب لقمة العيش.

من المنزلِ إلى العَمل: رحلة الشّتاء والصّيف

حرصت دولة الاستقلال في تونس على أن توفّر مجانيّة النقل لفئات واسعة من الشعب. لكنّ هذه الخدمة تدهورت مع مرور الزّمن لتصبح وسائل النقل العمومي مهدّدة للسلامة الجسديّة.

أُقَابل ميرا. وعلى عكس تارا، لم يكن اللّقاء في مكان مغلقٍ، بل في المترو وهي في طريقها إلى عملها. أمٌّ لطفل لم يتجاوز الرابعة. تؤكِّد لي أنّها تعرّضت للعنصريّة والعنف المادّي أكثر من مرّة في وسائل النقل العمومي وكذلك في مختلف الأماكن التي اشتغلت بها كعاملة نظافة.

"أنظّف مجموعة من المحلات يوميّاً مقابل 15 دينارا (5 دولارات)، وأغيّر مكان عملي باستمرار".

تغيير طريق الذهاب إلى العمل ومكان العمل في حدّ ذاته هو "محاولةٌ لتجنّب المتاعب"، كما تقول. أستفسرُ عن السبب، فتوضح: "تعرّضت إلى المضايقات والتحرّش أكثر من مرّة عندما سلكتُ الطريق ذاتَهُ مِراراً".

"الأمر مرتبط بالشّكل الذي تستوعِبُ بِهِ المَدينَة النِّساء عموماً"، هكذا تلخّص ليليا بن رمضان الوضعيّة، بصفتها مهندسة معماريّة تشتغل على سياسات الفضاء العامّ. وتجزِم أنّ ما تفعله ميرا هو إحدى إستراتيجيّات النّجاة في فضاء لا يضمَنُ السلامة الجسديّة للنساء. وتضيف أنّها كمعماريّة، تعتقد أنّ العاصمة التونسيّة تكثر فيها الأماكن التي احتلّها الرجال، وتحوّلت -مع مرور الزّمن- إلى فضاءاتٍ غير آمنةٍ بالنّسْبَة لهنّ بسبب التحرّش الذي قد يتطوّر إلى اعتداءات جسديّة في ظل غياب الأمن. وقد تفاقم هذا الوضع مع حالة الاستثناء التي تعيشها البلاد.

تتمدّدُ دائرة الخطر لتشمل ظروف العملِ أيضاً. فالأماكن التي تعمل فيها ميرا كمنظِّفة، تُعامَلُ فيها باحْتِرَامٍ. ولكنّها، في كثير من الأحيان أيضاً تَتعرَّضُ للمُضَايَقات. مع مُرورِ الوقتِ، يتخلَّف أصحاب المحلاّت عن إعطائها أجرها أو تتحصّل على نصف المبلغ المُتَّفَقِ عليهِ. "الشّهر الماضي، بعد ساعة كاملة من التّنظيف، حصلتُ من صاحِبِ المَحَلِّ على 5 دنانير (دولارين)". تتذكّر ميرا الحادثة وتؤكِّد أنها ستتكرّر لأنّ القانون لا يحمِيها.

يعيش المئات مثل ميرا، في هامشٍ لا تصله الدّولة ولا يطاله القانُون، بلا سندٍ ولا أوراق تُثْبِتُ هُوِيَّاتِهِمْ، يكونون عُرْضَةً للعنصريَّة، والاسْتِغْلال. وهي وضعيَّة هشَّة يفرضها صاحب العمل على العمال من المهاجرين بساعات عملٍ تصل إلى 12 ساعة يوميّاً.

وسط هذا الوضع الذي يغيبُ فيه القانون، تزدهرُ مجموعةٌ مِنَ الشّبكات التي تلعب دور الوساطَة لتشْغِيلِ مُهَاجِري أفريقيا جنوب الصحراء خارج الأطُرِ القانونيّة. ولا ينعكس حجم العمل المرتفع في أجور ومعاملةٍ تحترمان قوانين الشّغل.

تتعقّد وضعيّة المهاجرين غير النظامييّن بسبب غياب التشريع وضعف الرقابة على أصحاب العمل. لذلك، تختار العديد من المهاجرات الذهاب في طريق الخطر حتّى نهايته، حتّى لو كان ذلك على حساب سلامتهنّ الجسديّة.

جسدي مرْكَبَتي.. حلول "صعبة" للصُّمود

جاهيا شابّة في بداية الثلاثينيات، تخبرني أنّها تشتغِل عاملة جنسٍ. ها هنا، تتوسَّعُ رقعَةُ الخطرِ ليصبح تهديدُ السّلامة بشكلٍ يوميٍّ. الخوفُ الذي تعيشُه يعُود أساساً إلى انعدام الحماية الصحيّة والتهديد بالسجن والترحيل في أيّ لحظة.

منذ عقود طويلة، كانت تجارة الجنس تحت إشراف وزارة الداخليّة في تونس. لكن منذ 2016، بدأت هذه الأماكن تغلق أبوابها، وأصبحت تجارة الجنس قطاعاً مربحاً لمجموعة من البارونات. تقول الشّابة إنَّ "جلّ المهاجرات العامِلات في هذا المجال يعانين من وضعيّة هشّة". وتؤكّد أنّها تتقاضى 150 ديناراً (48 دولاراً) مقابل كلّ زبون، 20% نصيبها فقط من المبلغ.

تناضِلُ العديد من منظَّمات المُجْتَمَعِ المدنيّ لمحاولة وقف الاستغلال الذي تتعرّض له المهاجرات من أفريقيا جنوب الصحراء، فالانتهاكات تتنافى مع الفصل الثَّاني من القانون رقم 61 المتعلّق بمنع الاتّجار بالأشخاص ومكافحته. لكنّ الموضوع لم يكن من بين الأولويّات في تونس، رغم أنّ الوضعيّة تفاقمَت مع الأزمة الصحيّة.

ذاكرةُ الوباء: الصحّة ليست للجميع

لقد كانت السلامة الجسديّة للمهاجرات غير النظاميّات هاجس العديد من الجمعيّات، نظراً للظروف الصعبة التي تمرّ بها هذه الفئة التي تُركت لحال سبيلها في أوج الأزمة الصحيّة. هذا ما يؤكّدهُ الناشط بالمجتمع المدني أسامة بوعجيلة، فهو يرأس جمعّية "باي الحوِم" التي عملت على توزيع المواد الغذائيّة الأساسيّة ووسائل الحماية، كمطهّر اليدين والكمامات الواقية.

ولعلّ من بين النقاط التي تجمع بين ميرا و تارا وجاهيا معاناتهنّ أثناء فرض الحجر الصحيّ. إذ حُرِمن من قوتِ يومهنّ، وهو ما يمثّل تهديداً مباشراً لحياتهنّ، كما حرمن من التداوي في المستشفيات العموميّة، نظراً لأنهنّ لا يمتلكن أوراقاً تُثْبِت هويّاتهنّ، ولا يحق لهن الاستفادة من قطاع الصحة العمومية.

كشفت الوضعيّة الوبائيّة عيوب المنظومة الصحيّة التونسيّة، ولكنّها أيضاً كانت فرصةً لتسليطِ الضّوء على وضعيّة المهاجرين غير النظاميّين والصعوبات التي يواجهونها للدخول إلى الصحة العموميّة.

بين الحق في التنقّل، ومحاولة التأقلم مع الظروف اليوميّة الصعبة، إضافة إلى العنصريّة والعنف الماديّ، تبدو تونس بالنسبة لعدد مهمّ من المهاجرين غير النظاميّين مجرّد بوّابة لأوروبا، وهو حلم يراودهم ويتحمّلون من أجله كلّ العقبات والمخاطر.

حلم العبور: أعينٌ على الضفَّةِ الأُخْرى؟

عن محاولات السفر إلى أوروبا، تؤكّد جاهيا أنّ طبيعة عملها تحتّم عليها التفكير في بدائل، لكن مع "الحذر من التسرّع والسّقوط في أفخاخ ينصبها صيّادو الفرص من الحرّاقَة". فحسب منظّمة "تونس أرض اللجوء"، بلغ عدد المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء نحو 10 آلاف سنة 2016، 75% منهم في وضعيّة غير نظاميّة.

تتذكّر جاهيا العديد من أسماء معارفها الذين تمّ الاعتداء عليهم والاستيلاء على أموالهم، حتّى قبل أن يصعدوا على متن القارب. لكنها تختِم: "الوضعيّة في تونس صعبة، لذلك، يفضّل الكثيرون المكوث هنا لوقت قصير لجمع المال والمغامرة بكلّ شيء لمحاولة الوصول إلى أوروبا".

تبدو شهادات كلّ من ميرا وجاهيا وتارا عاكسة لواقع المهاجرين غير النظاميّين، ليس في تونس وحدها، بل في دول كثيرة تعتبر محطة مُرة لهؤلاء على طريق الوصول إلى أوروبا، حيث الاعتقاد بأن حماية حقوق الإنسان حق مكفول. رقعة الخطر الذي يواجهه المهاجرون من جنوب الصحراء في بلد العبور تتسع دوماً، وبشكل يهدّد سلامتهنّ الجسديَّة والنفسية، حتى إن بعضهن يلجأن إلى اتّخاذ أجسادهنّ وسيلة للكسب أو مطيّة لعبور البحر الأبيض المتوسّط طمعاً في مستقبل أفضل، ولوضع حد لظروف تجعلهنّ حبيسات منظومات تستنزفهنّ وتسلبهنّ حقوقهنّ، فقط لاختلاف اللون أو العرق أو الدين أو الجنس.