مصر

الدّواء يتحوّل إلى داء..
المضادات الحيوية وفوضى استخدامها في مصر

أحمد صبري - القاهرة | تـشرين الأول 23 , 2022

لم يتخيل أحمد فرج (25 عاماً)، أن استخدام المضادات الحيوية التي حلّت كضيفٍ دائمٍ عليه خلال فترة طفولته بسبب ارتجاع المريء المزمن، سوف يجعله يعاني لاحقاً بعد إصابته بجرثومة المعدة قبل نحو سبع سنوات، حيث اكتسبت البكتيريا المسببة لها مقاومة ضد العديد من المضادات الحيوية بسبب الإفراط في استخدامها.

عقب اكتشاف إصابته بجرثومة المعدة، جرّب أحمد طوال سنوات وتحت إشرافٍ طبي، العديد من المضادات الحيوية كعلاجٍ لها، إلا أنها لم تحقق النتيجة المطلوبة، حتى أجرى تحليلاً بسحب عيّنة لمعرفة أيٍ من المضادات الحيوية ستستجيب له البكتيريا.

صورة مُعبّرة عن ألم البطن بسبب جرثومة المعدة

مؤخراً، وصف الطبيب المعالج له مضاداً حيوياً مستورداً يتراوح سعره بين 3500 - 4000 جنيه (183 - 209 دولار): "قال لي الطبيب إنه آخر حلٍ طبيٍ يعرفه بعد استهلاك معظم المضادات الحيوية المتوفرة بالسوق، بعدها سوف أتعايش مع جرثومة المعدة مع تجنّب أطعمةٍ محددة".

أحمد فرج، واحد من 560 حالةٍ جرى حصر تجاربها ومشاكلها مع المضادات الحيوية في مصر من خلال استبيانٍ أجريناه خلال إعداد هذا التقرير، وحذّر فريق التنسيق المشترك بين الوكالات التابع للأمم المتحدة المعني بمقاومة مضادات الميكروبات عام 2019، من أن الأمراض المقاومة للأدوية يمكن أن تتسبب في وفاة 10 ملايين شخص كل عامٍ بحلول 2050 إذا لم يُتخّذ أي إجراء، مقابل ما لا يقل عن 700 ألف وفاة سنوياً حالياً، بحسب التقرير الذي نشرته منظمة الصحة العالمية.

وتقول منظمة الصحة العالمية، إنه إذا لم نعجّل باتخاذ إجراءاتٍ للحد من شراء المضادات الحيوية بدون وصفة طبية لأغراض الاستعمال البشري أو الحيواني، فإننا مقدمون على عصر ما بعد المضادات الحيوية الذي يمكن أن تصبح فيه عدوى الالتهابات الشائعة والإصابات الطفيفة قاتلةً مرةً أخرى.

الدكتورة آلاء أبو الفتوح، أستاذة الميكروبيولوجي والمناعة بكلية الصيدلة في جامعة الإسكندرية، تقول إن مشكلة مقاومة المضادات الحيوية لدى البكتيريا تزداد خطورة بزيادة استهلاك المضادات الحيوية، وتؤدي لاكتسابها عوامل مقاومة لهذه المضادات، وعند انتقال هذه البكتيريا من شخص لآخر، تكون مقاومة أيضاً لنفس المضادات الحيوية لدى المُصاب الجديد.

المشكلة التي تعتقد أبو الفتوح أنها الأبرز، أن اكتشاف المضادات الحيوية لم يعد بنفس السرعة كما كان قبل 50 عاماً، وبالتالي لا يوجد تعويض سريع للمضادات الحيوية التي تحدث لها مقاومة من البكتيريا.

صورة تعبيرية لباحث يجرى تجربة ما في المعمل

غياب اختبارات الحساسية للمرضى

حقنة مضاعفة من المضاد الحيوي حصل عليها مجدي فهمي، قلبت حياة أسرته رأساً على عقب لمدة تقارب الشهر، بعد أن كان قد حصل عليها دون اختبار حساسية في عيادة طبيب باطنية شهير.

يحكي محمد، ابن الرجل الستيني، التجربة: "خلال 4 أيام من حصول والدي على تلك الحقنة، لم يعد قادراً على بلع الطعام والمياه حرفياً، وفقد من وزنه ما يزيد على 20 كيلو غراماً، وأصيب بطفحٍ جلديّ على الجسم.. خطر في بالنا أنه أصيب بفيروس كورونا".

ذهب محمد بوالده إلى أحد المستشفيات القريبة من منزله بمنطقة المرج بالقاهرة، حيث عُلّقت له محاليل تبعتها بعض التحاليل في اليوم التالي، ليكتشف الطبيب أنه أصيب بحساسية نتيجة حقنة المضاد الحيوي، إذ قال الطبيب إنه لولا البنيان الجسدي القوي لوالدي بحكم طبيعة عمله في مجال البناء، كان من الممكن أن يتطور الأمر إلى أكثر من ذلك.

خلال أسابيع، بدأ الرجل ذو الخمسة والستين عاماً، في استعادة عافيته تدريجياً، ليكتسب بعدها خبرة في التعامل مع الأدوية، بعد أن كان يعتمد على وصفات طبية قديمة في تكرار العلاج حال شعوره بنفس الأعراض.

أجرى مُعدّ التقرير استبياناً شارك فيه 560 شخصاً، قال 78.9 في المئة منهم إن الطبيب أو صيدلاني لم يطلب منهم إجراء زراعة بكتيريا أو اختبار حساسية قبل الحصول على المضاد الحيوي.

هل سبق أن طلب منكم الطبيب أو الصيدلاني زراعة بكتيريا أو اختبار حساسية قبل الحصول على المضاد الحيوي؟


الدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، يقول إن المضاد الحيوي يجب أن يؤخذ في مكانٍ مجهّز بـ "ترابيزة طوارئ" في حال كان عبارة عن حقنة، وذلك لعلاج ما قد ينتج عنها مثل الصدمة العصبية بسبب الحساسية لبعض أنواع المضادات الحيوية، لأن تأخر الإسعافات يؤدي لمضاعفات قد تتسبب في الوفاة.

قبل أكثر من عامٍ، كان المضاد الحيوي مي مجدي (22 عاماً)، عند الإصابة بنزلة برد، حيث كانت والدتها تشتري ما يعرف محليًا في مصر بــ "مجموعة برد" أو إحدى عبوات المضاد الحيوي من الصيدلية، لتحصل ابنتها على عدد محدود من الكبسولات، وسرعان ما تشعر بتحسّنٍ جزئي ليوم أو اثنين، قبل أن تعاودها الأعراض من جديد.

صورة تعبيرية لفتاة تحصل على حبّاية (دواء

اللحظة الفارقة في استخدام ميّ للمضادات الحيوية كانت نصيحة من إحدى قريباتها التي تعمل صيدلانية، بتفادي استخدام المضادات الحيوية إلا بعد الكشف وكتابته من قبل طبيب لأنه يجب أن يؤخذ بجرعة كاملة.

تصف ميّ التي تسكن بإحدى قرى محافظة القليوبية تجربتها لنا عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعيّ: "زيّ أي حد لما بكون تعبانة من دور البرد والموضوع مش مستاهل دكتور، بروح الصيدلية واللي موجود فيها بيدّيني أي مضاد حيوي أو "مجموعة برد"، ممكن اللي بيقف في الصيدلية يكون مش دكتور أصلا فمش عارف إنه غلط".

عقب النصيحة التي بدت ذهبية لميّ، أوقفت استخدام المضاد الحيوي: "حتى في البيت لو حد تعب بقولهم محدش ياخد حاجة بمزاجه.. الناس بتستهين بالموضوع إما كسل منهم على اعتبار إنها حاجة بسيطة مش محتاجة دكتور، أو فيه ناس مش معاهم حق الكشف فبتمشّي أمورها بأي حاجة".

ويقول حسن الشاذلي، وهو صيدلاني، إن المضادات الحيوية تعالج العدوى البكتيرية فقط، في حين أن نزلات البرد والإنفلونزا عدوى فيروسية.

ورداً على سؤالنا في الاستبيان حول كيفية الحصول على المضاد الحيوي، قال 60 في المئة من المشاركين إنهم حصلوا عليه من صيدلية دون الرجوع لطبيب، مع الوضع في الاعتبار أنهم كان لهم حق الاختيار بين أكثر من إجابة أخرى، فيما رأى 30.7 في المئة أن المضاد الحيوي يستخدم كعلاج لنزلات البرد والإنفلونزا.

كيف حصلتم على المضاد الحيوي بشكل شخصي أو لأطفالكم؟
(يمكن اختيار أكثر من إجابة)


في رأيكم، هل يستخدم المضاد الحيوي لعلاج نزلات البرد والإنفلونزا؟


المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، الدكتور محمد عز العرب، يقول إن معظم حالات مقاومة الميكروبات بسبب صرف الأدوية دون وصفة طبية من الصيدليات.

كما أظهرت نتائج الاستبيان أن 62.9 في المئة من المشاركين لم يسبق أن ناقشهم طبيب أو صيدلاني بأضرار استخدام المضادات الحيوية بإفراط ودون داعٍ أو عند مخالفة تعليمات الجرعات، فيما لم يسمع 21.6 في المئة منهم سابقاً عن مصطلح "مقاومة المضادات الحيوية".

هل سبق وناقشكم طبيب أو صيدلاني بأضرار استخدام المضادات الحيوية بإفراط ودون داعٍ أو عند مخالفة تعليمات الجرعات؟


هل سمعتم سابقًا عن مصطلح "مقاومة المضادات الحيوية"؟


وفي دراسة أعدّها الباحثان مريم قطب ومروان الباجوري عام 2017، حول بيع المضادات الحيوية دون وصفةٍ طبية على 25 صيدلية بمحافظة الإسكندرية، والمنشورة في أبريل عام 2018 على موقع journal of pure and applied microbiology، قال جميع المشاركين إن المضادات الحيوية يتم صرفها عادة دون وصفةٍ طبية.

وعزَت الدراسة أسباب استمرار العملاء في هذا التوجّه إلى الوعي المحدود بمخاطر استخدام المضادات الحيوية دون وصفةٍ طبية، وسعيهم ربما إلى تجنّب التكلفة المرتفعة لزيارة الأطباء للتشخيص، خاصةً إذا كانوا على دراية بالأعراض ولديهم تجارب سابقة في التحسن عند تناول المضادات الحيوية التي يطلبونها.

ويقول 80 في المئة من الصيدليات المشاركة في تلك الدراسة إنهم عندما يحاولون نصح العملاء بزيارة مؤسسات الرعاية الصحية يرفضون النصيحة، كما يرون أنهم إذا توقفوا عن صرف المضادات الحيوية دون وصفاتٍ طبية، سوف يحصل عليها العملاء بسهولة من الصيدليات الأخرى.

الدكتور أحمد أبو دومة، عضو مجلس النقابة العامة للصيادلة، يقول إن قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955، لا يمنع بيع المضادات الحيوية للمواطنين دون وصفة طبية، ويجب تعديل القانون ليتناسب مع التغيّرات الحالية، حيث صدر منذ نحو سبعةِ عقود وكان يخاطب مجتمعاً آخر عدد سكانه مختلف وصيدلياته قليلة.

يقول محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، إن الوصفة الطبية الإلكترونية هي الحلّ الأبرز للقضاء على مشكلة بيع المضادات الحيوية في الصيدليات دون وصفة طبية، ما سيجعل الصيدلاني لا يصرف إلا الأدوية المكتوبة في الوصفات الصادرة عن طبيب مثبت بها ختم العيادة.

عضو لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، الدكتورة إيناس عبد الحليم، تقول إنها تقدمت بطلب إحاطة لمجلس النواب قبل أشهرٍ، تطالب فيه بعدم صرف الأدوية، ومن بينها المضادات الحيوية، من الصيدليات إلا بوصفة طبيب: "ردّت هيئة الدواء المصرية على توصيات اللجنة بأنهم يسعوْن لإصدار قرار بمنع صرف أي أدوية دون وصفة، كما سيتم تدشين اللجنة القومية لترشيد استهلاك المضادات الحيوية".

ويقول الدكتور أشرف حاتم، رئيس لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، إن هيئة الدواء شكّلت لجنة منذ 6 أشهر لبحث آليات تطبيق صرف المضادات الحيوية من الصيدليات بالوصفة الطبية.

الدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، يقول إن بعض المواطنين يضطرون لشراء شريط مضاد حيوي واحد وليس عبوة كاملة بسبب الغلاء، وبالتالي عدم استكمال الجرعة، ما يؤدي إلى مقاومة البكتيريا للمضاد الحيوي، حتى لو كان وصفة من طبيب متخصص ويتناسب مع البكتيريا المسببة للمرض.

وبالعودة إلى الاستبيان، يقول 37 في المئة من المشاركين إنهم توقفوا عن استكمال جرعات المضاد الحيوي حال الشعور بتحسن الحالة الصحية.

هل توقفون استخدام المضاد الحيوي عقب تحسّن الحالة الصحية أم تستكملون الجرعة حتى النهاية؟


وتصف الدكتورة آلاء أبو الفتوح، أستاذ الميكروبيولوجي والمناعة بكلية الصيدلة في جامعة الإسكندرية، أضرار عدم استكمال جرعات المضاد الحيوي: "الموقف أشبه بمباراة ملاكمة، المضاد الحيوي يوجه ضربات للبكتيريا توقعها أرضاً، وظناً منه أنه كسب المباراة يدير ظهره، ولكن البكتيريا لم تمت وانتهزت الفرصة للتعافي ورد الهجوم لتفوز بالمباراة، حيث إن الضربة لم تقتلها بل زادتها قوة".

صورة تعببيرية لمباراة ملاكمة بين البكتيريا والمضاد الحيوي

ظلّ الصيدلاني محمد رفاعي، يحاول إقناع صاحب الصيدلية التي كان يتدرب بها وقت أن كان طالباً عام 2014 بعدم بيع المضاد الحيوي بـ "الحبّاية" وضمن "مجموعات البرد"، حتى نجح في إقناعه بتلك الخطوة بعد محاولات دامت نحو عامين.

ويضيف أنه يحارب في السوق منذ أن بدأ العمل في المجال للتوعية بمخاطر الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية، مع المرضى والصيادلة والأطباء أنفسهم.

ويقول صيدلاني آخر حديث التخرج شارك في الاستبيان: "الناس بتيجي تطلب أول حاجة مضاد حيوي، أوقات كتير بقولّهم إنه غلط، وبحس إني بستهلك نفسي على الفاضي، بيسمعوا وبعدين يقولك طيب هات دلوقتي وبعدين نشوف الحوار ده".

يبدو أن أمنيات الرفاعي والصيدلاني حديث التخرج صعبة المنال، على الأقل في القريب العاجل، إذ يقول أحد المشاركين في الاستبيان: "الفكرة في صيدلاني شاطر بس نقوله ويدينا نوع مناسب، مفيش فلوس نكشف، كفاية علينا أوي ثمن الدوا اللي بنضطر نجيبه أصلا لما نقع ونفرفر خالص".


أحمد صبري
صحافي مصري، متخصص في القضايا والشئون الاقتصادية، وعمل سابقًا في تحرير النشرات الإذاعية وتغطية ملفّ الإسلام السياسي، بجانب التغطية الميدانية.