داخل حلبة الملاكمة، كان عبد الرحمن حمدي يراوغ لاعباً آخر ضمن منافسات بطولة الجمهورية لعام 2015، يتصدى لضربة منه ويسدد له أخرى، تلك المباراة كانت خطوته الأولى نحو تحقيق أحلامه. يريد أن يحفر اسمه في هذه اللعبة بحروف من ذهب. إلّا أنّ ضربة قوية مفاجئة من منافسه، هوت على رأسه،
وبعثرت تلك الأحلام قبل أن يسقط مغشياً عليه.
مشهدٌ كان الأخير في مسيرة عبد الرحمن الرياضية القصيرة، بعدما تبيّن أنّه أصيب بارتجاج في المخ ونزيف داخلي.
عبد الرحمن حمدي ليس وحده. فعلى مدار عقد كامل، فقدت مصر نحو 350 ألف رياضي (ما يزيد عن ثلث طاقتها من الرياضيين)، لأسباب مختلفة، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، الأمر الذي يكشفه هذا التحقيق، ويكشف أسبابه.
تنصّ المادة (84) من الدستور المصري على أنّ "ممارسة الرياضة حقّ للجميع، وعلى مؤسسات الدولة والمجتمع اكتشاف الموهوبين رياضياً ورعايتهم، واتخاذ ما يلزم من تدابير لتشجيع ممارسة الرياضة.."، إلّا أنّ الأرقام الصادرة عن جهات رسمية مصرية لا تشير إلى تطبيق هذه المادة على أرض الواقع.
نسبة التغيّر 37%
نسبة التغيّر 46.12%
ينتمي الرياضيون في مصر إلى 5 قطاعات رئيسية، بحسب النشرة السنوية لإحصاء النشاط الرياضي في المنشآت، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهي: "أندية تابعة للقطاع الحكومي، وأندية تابعة للقطاع العام/والأعمال العام، ومراكز شباب المدن، ومراكز شباب القرى، والأندية الخاصة".
مراكز شباب القرى كانت القطاع الأكثر فقداً للرياضيين في مصر خلال الأعوام العشرة الماضية، بينما كانت أندية القطاع العام/والأعمال العام هي الوحيدة التي زادت فيها أعداد الرياضيين خلال نفس الفترة، ولكن بنسبة قليلة بلغت 8% فقط.
أظهر استطلاع رأي أجريناه، شمل 200 رياضي معتزل في مختلف الألعاب الجماعية والفردية، أنّ أبرز الأسباب التي دفعت عيّنة الاستطلاع للعزوف عن ممارسة الرياضة في مصر، هي ضعف منظومة الطب الرياضي، بالإضافة إلى ضعف المردود المادي.
الإصابات وضعف منظومة الطب الرياضي في مصر، كانت على قمة الأسباب الرئيسية التي دفعت 19.1% من إجمالي عيّنة الاستطلاع للعزوف بالفعل عن ممارسة الرياضة كـ "سبب أول".
كما أنّها جاءت في المركز الثاني ضمن الأسباب الثانوية (سبب ثانٍ)، بنسبة بلغت 42.6% من إجمالي عيّنة الاستطلاع.
المباراة التي أُصيب فيها عبد الرحمن حمدي، وكانت سبباً في ابتعاده عن الرياضة، كانت أيضاً سبباً في عزوف صديقه محمود مصطفى، الذي كان يشارك في البطولة ذاتها، وبينما كان "حمدي" يلعب مباراته، كان "مصطفى" ينتظر في المدرّجات، إلّا أنّ مشهد إصابة الأول بثّ الرعب في قلب الثاني، ليقرر "مصطفى"، بمجرد انتهاء اليوم، العزوف نهائياً عن ممارسة الرياضة.
عام 2010، أنجز الباحث إبراهيم جمعة رجب، مشرف نشاط رياضي، رسالةَ ماجستير تحمل عنوان: "تقييم الإسعافات الأولية للاعبي كرة القدم في الأندية الرياضية بالقاهرة الكبرى"، نشرتها كلية التربية الرياضية بجامعة حلوان. جاء فيها، استناداً إلى أبحاث مصرية وأجنبية، أنّ معدل نسبة الإصابات بين الرياضيين يتراوح بين 43% إلى 47% من بين كلّ 10 آلاف ممارس للرياضة، وذلك بصرف النظر عن نوع الإصابة ومدى تأثيرها في إبعاد الرياضي عن ممارسة نشاطه فترة قد تطول أو تقصر.
وفي رسالة دكتوراة أخرى نُشرت واعتُمدت من قبل كلية التربية الرياضية بجامعة حلوان، للدكتور مدحت قاسم عبد الرازق، تحمل عنوان "فعالية عنصريْ القوة والمرونة في الوقوف على الإصابات الشائعة وتأثير الإصابات على مستوى كفاءة الجهاز المناعي للاعبي كرة القدم واليد"، أوضح فيها نوعية الإصابات الرياضية الأكثر انتشاراً، ونسبة الإصابة بين الرياضات المختلفة.
رضا إبراهيم، الأستاذ في كلية التربية الرياضية، ومسؤول تأهيل الإصابات في أحد الأندية، يقول إنّ المشكلة الأكبر في ملفّ الطب الرياضي بمصر تكمن في عدم وجود وحدات للطب الرياضي داخل الأندية، موضحاً أنّ فريق الطب الرياضي داخل أيّ منشأة رياضية يجب أن يتكون من طبيب عظام، وطبيب علاج طبيعي، وأخصائي تأهيل رياضي (خريج كلية التربية الرياضية).
توافر هذه الاختصاصات الثلاثة لا يكون سوى في أندية الدوري الممتاز، وهو أمر في غاية الخطورة، بحسب "رضا"، فهو يرى أنّ مراكز الشباب والأندية الأخرى هي القاعدة الأكبر التي يخرج منها الرياضيون، وعدم توافر الرعاية الطبية فيها يشكل خطورة كبيرة على مستقبل الرياضيين.
ما قاله الدكتور رضا إبراهيم، أكّده عبد الرحمن عبد العزيز، أخصائي الإصابات الرياضية والتأهيل البدني في أحد أندية الدرجة الثانية سابقاً والثالثة حالياً، حيث قال إنّه كان يعمل العام قبل الماضي في أحد أندية الدرجة الرابعة، وكان هو المسؤول وحده عن كامل الفريق الأول وكامل قطاع الناشئين، وبعد انتقاله لنادٍ آخر كان يعمل رفقة أخصائي آخر، ويقدمان وحدهما خدماتهما للقطاع بالكامل في النادي، من دون وجود أيّ أطباء.
تردّي الخدمات الطبية المقدّمة للرياضيين في مختلف القطاعات الرياضية التابعة للدولة أثبتتها العديد من الدراسات البحثية، والتي كان من بينها رسالة ماجستير، نُشرت في كلية التربية الرياضية بجامعة حلوان، أُنجزت عام 2016 على يد الباحث مصطفى محمد أبو السعود، أخصائي خدمات إسعافية بهيئة الإسعاف المصرية، وتحمل عنوان "تقييم الخدمات الإسعافية بمديرية الشباب والرياضة بمحافظة الفيوم".
بلغ عدد عيّنة الرسالة 172 رياضياً، وتوصلت إلى العديد من النتائج، كان من أهمها:
وفي دراسة الباحث إبراهيم جمعة رجب، التي أجراها عام 2010، وتحمل عنوان "تقييم الإسعافات الأولية للاعبي كرة القدم في الأندية الرياضية بالقاهرة الكبرى"، أثبت أيضاً تردّي الخدمات الطبية المقدمة في معظم الأندية الرياضية محلّ الدراسة.
في مقابلة مع الدكتور كريم حنّا، المدير الفني والطبي لمركز الطب الرياضي التخصصي بالقاهرة (التابع لوزارة الشباب والرياضة)، قال إنّ هذا المركز الذي يعمل فيه هو المركز الرياضي الرئيسي في مصر، ودوره الرئيسي يتمثل في إجراء الفحوصات الدورية للرياضيين والحكّام وأفراد المنظومة الرياضية في مصر.
لم يجرِ مركز الطب الرياضي التخصصي بالقاهرة أيّ عملية جراحية لرياضيين منذ إنشائه قبل 15 عاماً، لعدم جاهزيته لذلك. وإنّما اقتصر دوره على العلاج الطبيعي والتأهيل وعلاجات الأسنان، بحسب د. حنّا، الذي أشار إلى أنّ الرياضيين (باستثناء لاعبي كرة القدم في الدوري الممتاز) ليس لهم ملاذ غير هذا المركز أو وحدات الطب الرياضي التابعة له في المحافظات.
قبل نحو 15 عاماً، كان محمد البحيري طفلاً لا يتجاوز العاشرة من العمر، يعيش في إحدى قرى الريف في محافظة الغربية، وقت أن قرر السعي ليكون حارس مرمى في أحد الأندية الكبرى. البداية كانت تتطلب التدرج في أندية "دوري المظاليم". تنقّل محمد بين عدد من أندية دوريات الدرجة الثانية والثالثة، إلى أن انتهى به الأمر وهو في نهاية عقده الثاني، في نادي غزل شبين الكوم (دوري الدرجة الثانية)، حيث بدأت تتلاشى الأحلام، إذ لم تعد لديه القدرة على إنفاق مزيد من المال من دون عائد، فالمردود المادي على مدار 10 أعوام من اللعب لم يكن يساوي حتى ما ينفقه للتنقّل بين التدريبات والمباريات.
هبط نادي غزل شبين الكوم إلى دوري الدرجة الثالثة، كان ذلك في عام 2013، وهنا كانت المحطّة الأخيرة، ليتّخذ محمد القرار الأصعب في حياته، وهو العزوف عن ممارسة كرة القدم، والابتعاد نهائياً عنها، والبحث عن "لقمة عيش" في مجال آخر.
في نتائج استطلاع الرأي الذي أجريناه، حلّ ضعف المقابل المادي في المرتبة الثالثة من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت عيّنة الاستطلاع للعزوف عن ممارسة الرياضة (سبب أول)، وذلك بنسبة 13.7% من إجمالي عيّنة الاستطلاع.
بينما كان ضَعف المقابل المادي على رأس الأسباب الثانوية الأخرى (سبب ثانٍ) التي عززت من اتخاذ قرار الابتعاد عن ممارسة الرياضة، وذلك بنسبة بلغت 43% من إجمالي عيّنة الاستطلاع.
في محاولة للكشف عن أسباب هذه الأزمة المادية التي يعيشها الرياضيون في مصر، بحثنا في الميزانيات المخصصة للقطاع الرياضي على مدار 10 أعوام، في الفترة الواقعة ما بين 2010 وحتى 2019، (الإطار الزمني للتحقيق).
من خلال النظر بشكل عام في الميزانية المخصصة للقطاع الرياضي في الموازنة العامة للدولة على مدار الفترة المذكورة، نجدها في زيادة متدرجة، إلّا أنّ بنداً واحداً مثل بند "أجور العاملين" قد استحوذ على ما يقارب نصف الميزانية المخصصة للقطاع بالكامل.
بالتعمّق أكثر في ميزانية القطاع الرياضي، والنسبة المخصصة لها من إجمالي الموازنة العامة، سنجد أنّها في تراجع كـ (نسبة من الإجمالي). على سبيل المثال، في عام 2010، كانت نسبة الميزانية المخصصة للقطاع الرياضي من الإجمالي العام للموازنة 0.6%. هذه النسبة، ورغم مرور 10 أعوام، تراجعت بشكل تدريجي، إلى أن أصبحت 0.3% في عام 2018، ثمّ ارتفعت مرة أخرى في عام 2019 لتصبح 0.4%.
تغيُّر سعر الصرف للعملة المحلية أمام الدولار الأمريكي يُعدُّ أيضاً واحداً من المتغيّرات المهمة في مثل هذه الأمور، والذي يؤكد على أنّ هذه الزيادة في الميزانية إنّما هي زيادة وهمية، بحسب ما قالته الباحثة الاقتصادية سلمى حسين، مشيرةً إلى أنّ زيادة نسبة التضخم أيضاً على مدار هذه الأعوام العشرة سيجعل القيمة الحقيقية للجنيه في عام 2019 مثلاً أقلّ بكثير من قيمته في عام 2010، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر بشكل مباشر على شراء السلع والخدمات والأجهزة اللازمة للتدريبات، ومن ثمّ التأثير على القطاع الرياضي بالكامل.
ضعف منظومة الطب الرياضي وقلّة العائد المادي، رغم كونهما أبرز سببيْن للعزوف عن الرياضة بين عيّنة الاستطلاع الذي أجريناه. إلّا أنّ هناك أسباباً أخرى أسهمت في هجران الرياضة، مثل غياب التقدير والدعم الكافي، واحتكار بعض الأندية للرياضة في مصر، وعدم وجود فرص متكافئة للجميع لإثبات الذات.
كلّ هذه الأسباب وغيرها، أدّت إلى خسارة مصر ما يقارب 350 ألف رياضي خلال الأعوام العشرة الماضية، أي أكثر من ثلث عدد الرياضيين الإجمالي، وفقاً لما ورد في وثائق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، ذهبوا جميعهم بلا عودة ليتركوا خلفهم سؤالاً واحداً: إلى متى يستمر نزيف الرياضيين في مصر؟
وإعمالاً بمبدأ حقّ الرد، حاولنا التواصل مع وزارة الشباب والرياضة المصرية من خلال البريد الرسمي لها، نسألها الردّ على ما جاء في هذا التحقيق، إلّا أنّ أحداً لم يجبنا.