فلسطين:

عدوان التقاعد القسري

تحقيق: ليندا ماهر
23/06/2020

أزيز الطائرات والقصف، ومشاهد الأشلاء والدماء في جامعة الإيمان وسط صنعاء، لا تفارقها إلى اليوم، كلما نظرت إلى عكاز تتكئ عليه.

سعاد البرهم (55 عاماً)، واحدة من جرحى حرب اليمن، عادت إلى وطنها فلسطين في آذار/ مارس 2016، بعد إصابة نتجت عنها صعوبة حركية في القدم اليمنى، خلال تحضيرها لرسالة الدكتوراة في مناهج أساليب تدريس العلوم، بمنحة دراسية من السلطة الفلسطينية.

عادت سعاد إلى الضفة الغربية، وبدأت ترتب وضعها المهني في وزارة التربية والتعليم، حيث عملت مدرّسة قبل سفرها إلى اليمن. بعد عام وجدت نفسها حبيسة منزلها بعد إحالتها إلى التقاعد، لتنتهي مسيرتها اليمنية بإعاقة، والعمل في فلسطين بتقاعد.

بالإضافة إلى "سعاد"، أحالت السلطة الفلسطينية 168 موظفاً مدنياً و204 عسكريين إلى التقاعد المبكر، من الضفة الغربية، تحدثنا إلى 15 منهم، بينهم جرحى حروب، وضحايا مواجهات مع الاحتلال، وأسرى سابقون، وأصحاب إعاقات.

أُحيل هؤلاء إلى التقاعد المبكر رغماً عنهم، لعدم لياقتهم الصحية أو المهنية، ومن دون وجود تقارير طبية أو فنية تثبت ذلك، في مخالفة للقانون الأساسي الفلسطيني (الدستور)، والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها السلطة الفلسطينية، فضلاً عن صدور بعض قرارات الإحالة إلى التقاعد بعد انتهاء المدة القانونية لسريان عمل القانون المؤقت.

أصدرت السلطة الفلسطينية، في 22 حزيران/ يونيو 2017، خلال عهد حكومة رامي الحمد الله، قراراً بقانون مؤقتاً يحمل رقم (17) للتقاعد المبكر للموظفين المدنيين، ويستمر فقط لمدة 6 أشهر. وفي المقابل أصدرت القرار بقانون المؤقت رقم (9) للتقاعد المبكر للعسكريين، ويستمر لمدة سنة، وصدر في 20 نيسان/ أبريل 2017.

عدد المتقاعدين قسراً في الضفة الغربية وقطاع غزة، حسب تصريح وكيل وزارة المالية فريد غنام عام 2019
27,238
موظفاً/ة
28
عسكري

18000
مدني

9238
عدد المتقاعدين قسراً في الضفة الغربية بحسب مراكز حقوقية
28
372
موظفاً/ة
عسكري

204
مدني

168
إجمالي عدد موظفي فلسطين في عام 2017
153,000
إجمالي المتقاعدين 2018
27,238

مجدي مرعي، أمين سر الاتحاد العام للمعاقين، يقول إنّ فلسطين من أكثر الدول التي تعاني ارتفاع عدد الإعاقات، في ظل الاعتداءات الإسرائيلية على الضفة الغربية والقصف الجوي على غزة.

92,710
إجمالي عدد ذوي الإعاقة في فلسطين
44,570
الضفة الغربية
48,140
قطاع غزة
إجمالي عدد سكان فلسطين
4٬733٬357
wheelchair icon
%2.1
نسبة الإعاقة من إجمالي سكان فلسطين

عدد ذوي الإعاقة في فلسطين- حسب نتائج جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني لتعداد السكان والمساكن والمنشآت عام 2017

progress bar
%28
الضفة الغربية
progress bar
%42
قطاع غزة
progress bar
%35
إجمالي القوى العاملة في فلسطين

معدل البطالة بين ذوي الإعاقة في فلسطين عام 2018

الضفة الغربية
قطاع غزة
فلسطين
القطاع العام
9.7
500
29.7
1,200
18.3
1,700
القطاع الخاص
77.6
4,200
70.3
12,900
75.5
17,100
إسرائيل والمستعمرات
12.7
700
0
0
7.2
700
المجموع
5,400
14,100
19,500

التوزيع النسبي وعدد العاملين للأشخاص ذوي الإعاقة في فلسطين حسب القطاع والمنطقة لعام 2018، حسب جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني

wheelchair icon
%1.1
الإعاقة الحركية
blind icon
%0.7
الإعاقة البصرية
deaf icon
%0.5
الإعاقة السمعية
brsin icon
%0.4
إعاقة التواصل
wheelchair icon
%0.4
إعاقة التركيز والتذكر

أكثر الإعاقات المنتشرة في فلسطين حسب جهاز الإحصاء

يتعارض قانون التقاعد المبكر الصادر بقرار إداري مع المواد القانونية، والاتفاقيات الدولية، التي وقعت عليها السلطة الفلسطينية، وهي: المواد (2 و6 و7 و8 و9)، من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمواد (2 و25 و26)، من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمادة (27) من الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والمواد (9 و25 و26) من القانون الأساسي الفلسطيني.

في الحرب ينتهي العِلم بإعاقة والعمل بتقاعد

لم تكن حادثة انفجار جامعة الإيمان هي الأولى التي تشهدها "سعاد"، فقد شَهِدت اغتيال القاضي "يحيى ربيد"، مع زوجته وأطفاله الخمسة في حي النهضة شمالي صنعاء. وبصوت مبحوح، تقول إنّها بعد هذه الحادثة شعرت أنّ وضعها النفسي "غير مستقر". أصرت "سعاد" على البقاء لحين الانتهاء من الدكتوراة. تمكنت من اجتياز الاختبار الشامل بعد ست سنوات بأعلى علامة من بين كل المتقدمين "جيد جداً". وعادت إلى فلسطين بمساعدة من السفارة الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية أصدرت في آذار/ مارس 2019 موازنة طوارئ، بعد مطالبة صندوق النقد الدولي بضبط فاتورة النفقات عبر خفض الأجور، ولكنّها تنفي في رسالة عبر البريد الإلكتروني تلك الضغوط، وأوردت أنّ أهم أسباب إصدار قانون التقاعد المبكر، تتمثل بمنح الموظفين رواتب أعلى من قانون التقاعد العام، وهو ما لم يتحقق، إذ حصل المتقاعدون مبكراً على رواتب أقل من خط الفقر، الذي يقدر في فلسطين بـ 2470 شيكلاً شهرياً، بحسب جهاز الإحصاء المركزي.

588.6

مليون شيكل

2017
495.6

مليون شيكل

2018
2.4

مليار شيكل

2019

نفقات الأجور والرواتب حسب تقارير سلطة النقد الفلسطينية

153

ألف موظف

2017
128

ألف موظف

2019
50

ألف موظف عسكري

78

ألف موظف مدني

توزيع الموظفين في عام 2019

مقارنة بين عدد الموظفين في عاميْ 2017 و2019 حسب تقرير موازنة طوارئ 2019 الصادر عن الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)

عادت "سعاد" إلى فلسطين، وأخبرت قسم الشؤون الإدارية في مديرية التربية والتعليم في أريحا، بوضعها الصحي. وبعكس توقعاتها، ألزمتها "التربية" بالدوام خلال أسبوعين. أذعنت للقرار، وداومت شهراً كاملاً، متنقلة بين مدرستيْن من أريحا إلى رام الله. طلبت سعاد نقلها إلى وظيفة إدارية، نظراً إلى قدمها المصابة. تقول: "عرضوني على لجنة طبية عليا، وبعد الكشف أقرت اللجنة بأنّني أصلح كمعلمة لا كإدارية". حاولت سعاد الحصول على نسخة من تقرير اللجنة الطبية مراراً، لكنّ مديرية التعليم رفضت ذلك. في 5 آذار/ مارس 2018 كان في انتظارها قرار الإحالة إلى التقاعد المبكر.

لم يجنِ قرار التقاعد على مستقبل سعاد المهني فقط، بل تسبب في توقف استكمال علاج إصابتها، إذ خسرت نصف راتبها المقدر بـ 4000 شيكل (نحو 1170 دولاراً)، بعدما تم تحديد راتبها التقاعدي بـ 2000 شيكل فقط (نحو 585 دولاراً).

حدد قانون التقاعد العام رقم (7) لسنة 2005 سن الإحالة إلى التقاعد بـ 60 عاماً، مع وجود خدمة لا تقل عن 15 عاماً، ولكنّ القانون عينه يعطي الحق لمن هم دون ذلك في التقدم بطلب الإحالة إلى التقاعد المبكر، شريطة استكمال 15 عاماً في الخدمة، وبلوغ سن 55 عاماً للموظفين المدنيين، و50 عاماً للعسكريين.

شعور "سعاد" بالغبن دفعها إلى المشاركة في اجتماعات لجنة للدفاع عن حقوق المتقاعدين. مسؤول اللجنة، سلطان الريماوي، يقول إنّ إحالة سعاد إلى التقاعد المبكر، قسرية، لأنّها جاءت الموظف على حين غرة ومن دون تنسيق مسبق. ويفسر الريماوي أنّ "التقاعد المبكر وفق قانون التقاعد العام له حالتان فقط، الأولى: أن يطلب الموظف التقاعد المبكر. والثانية: أن يصدر حكم قضائي بحق الموظف في جنحة مخلة بالشرف والأمانة".

سامي الجبارين، المستشار القانوني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم)، يوضح أنّ التقاعد في حالة الإعاقة أو العجز نتيجة الوظيفة يعرَض على لجنة طبية لوائية، ولجنة طبية عليا برئاسة مدير اللجان في رام الله، ويقرر التقاعد بناءً على هذا الأساس، مشيراً إلى أنّ الموظف إذا أصيب بعجز غير دائم يأخذ إجازة ويعود إلى عمله.

"سعاد" لم تخضع لأيّ لجان طبية أثبتت عدم لياقتها كمعلمة، قبل إحالتها للتقاعد المبكر، وشعرت بأنّ دراستها ذهبت هباء، وبأنّ الإصابة التي لحقت بها، ليست لها أيّ قيمة لدى السلطات الفلسطينية.

5 في المئة من ذوي الإعاقة

بعد تسعة أشهر من إحالة سعاد إلى التقاعد القسري، كانت المعلمة سناء ناصر (51 عاماً) تنتظر حكم القاضي في طعنها بقرار مماثل، بعدما قررت التوجه إلى محكمة العدل العليا في محاولة للحصول على حق العودة إلى عملها، واستغرقت القضية ثلاث جلسات قبل النطق بالحكم في كانون الأول/ ديسمبر 2018.

أفاد ديوان الموظفين بتوجّه 64 محالاً إلى التقاعد المبكر إلى محكمة العدل العليا، وقررت المحكمة إلغاء إحالة 20 موظفاً للتقاعد المبكر، لعدم توفر سنوات الحد الأدنى للإحالة وهي 15 سنة، في حين صدر قرار عن المحكمة برد الدعوى لـ 42 قضية، وما زالت قضيتان قيد المتابعة.

"وضع صحي حرج، وعجز بصري بمستوى عالٍ، ما يخالف قوانين ونصوص الخدمة المدنية"، هذه كانت مبررات النيابة التي دفعت بها إلى القاضي لرفض طعن "سناء". المفارقة أنّها عُيِّنَت في وظيفة معلمة عام 1995 كحالة خاصة، نظراً إلى عجزها البصري منذ كانت في الثامنة عشرة.

حينها تقدمت إلى الوظيفة كأيّ خريج، وعُرِضَت على لجنة طبية عليا، وأثبتت اللجنة ضعف بصرها، ووفقاً للقانون رقم (4) لسنة 1999م بشأن حقوق المعوقين، استمرت سناء في تجديد عقدها لمدة 7 سنوات حتى تثبيتها كحالة خاصة، بناءً على بند توظيف 5 في المئة من ذوي الإعاقة بحسب القانون المذكور.

المادة (10) من القانون رقم (4) لسنة 1999م بشأن حقوق المعوقين، تلزم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية باستيعاب عدد من ذوي الإعاقة، بنسبة لا تقل عن 5 في المئة من عدد العاملين في المؤسسة، وبما يتناسب مع طبيعة العمل في هذه المؤسسات، مع تأهيل أماكن العمل لتكون مناسبة لاستخدامهم.

يقول الناشط الحقوقي، ماجد العاروري، إنّ سياسة التقاعد المبكر لذوي الإعاقة ليست فقط مخالفة للأنظمة والقوانين، بل هي انتهاك وتمييز ضد المعاقين، منوهاً إلى المفارقة في حالة سناء وحالات أخرى كان التقاعد المبكر فيها بسبب الإعاقة، التي هي في الأصل سبب التعيين.

نفى مجلس الوزراء الفلسطيني، في ردّه على أسئلة مُعِدَّة التحقيق، إحالة أيّ موظف من ذوي الإعاقة المعيّنين ضمن بند الـ 5 في المئة إلى التقاعد المبكر، باستثناء حالتيْن، تمّت إعادتهما إلى العمل مرة أخرى بناءً على قرار مجلس الوزراء، وقرار قضائي من محكمة العدل العليا.

6
85 موظفاً
2015
6
68 موظفاً
2016
7
73 موظفاً
2017
6
62 موظفاً
2018
دائم من إجمالي الإحداثات السنوية
6
100 موظف
2018
من إجمالي الإحداثات على بند العقود

عدد ونسبة تعيينات ذوي الإعاقة في الدوائر الحكومية وفقاً لتقرير لديوان الموظفين العام

male icon
220
ذكور
female icon
168
إناث
male icon
388
إجمالي عدد الموظفين من ذوي الإعاقة
team icon
153,000
عدد الموظفين الكلي حتى نهاية عام 2017

توزيع تعيينات ذوي الإعاقة في تلك الفترات حسب الجنس وفقاً لتقرير ديوان الموظفين

خلال سنوات خدمتها كمعلمة، رفضت سناء الحصول على أيّ استثناء لحالتها الصحية. التزمت بنصيبها من الحصص الدراسية، بل وداومت في مدرستيْن منذ عام 2012، في واحدة كمعلمة، وفي الثانية كأمينة مكتبة.

عام 2008، كُرِّمت سناء من وزيرة التربية والتعليم، وحصلت على شهادة تقدير، نظراً إلى تميّزها، ودوماً ما كان تقييم أدائها جيد جدّاً أو ممتازاً. في الخامس من مارس/ آذار 2018 كانت سناء تحتفل مع الطالبات الحاصلات على المركز الأول في مسابقة القرآن الكريم التي نظمتها، عندما فاجأها قرار التقاعد.

مساعد الأمين العام لمجلس الوزراء للشؤون القانونية، رامي الحسيني، رد في رسالة عبر البريد الإلكتروني، بأنّ قانون التقاعد المبكر يمنح رئيس الدائرة الحكومية سلطة تقديرية في إحالة الموظف إلى التقاعد، وأضاف أنّ المعيار الأساسي للتقاعد المبكر هو رغبة الموظف، ولكن في حالات محدودة، تمت الإحالة بناءً على ترشيح من رؤساء الهيئات، ولم يتدخل مجلس الوزراء في ذلك.

ويعقّب عثمان حمد الله، محامي مركز القدس للاستشارات القانونية، على ذلك بأنّ القانون لم يراعِ المصلحة الفضلى وحقوق الموظف. ويقول "للأسف الشديد، استغل بعض المسؤولين ورؤساء الدوائر الحكومية في بعض الحالات هذه المادة للإطاحة بمن لا يرغبون فيه بالدائرة، كعقوبة مقنّعة ومبطنة لهم".

ويوضح حمد الله أنّ "تقييمات هؤلاء الموظفين ممتازة وجيدة جداً، ولا يوجد أيّ غبار على ملفهم الوظيفي". ونوّه إلى أنّ هناك أربع حالات استلم مكتبه الدفاع عنها، أحيلت للتقاعد بسبب الإعاقة، منها حالة سناء.

والدة سناء متقدمة في السن، وتعاني تبعات التقاعد. إذ جاء قرار التقاعد باحتساب 17 عاماً فقط من أصل 23 عاماً هي فترة سناء بالتعليم، والمبرر أنّ السنوات السبع الأولى كانت بعقود مؤقتة، ليتم انتقاص 50% من راتبها، ما أضر بتلبية متطلباتها هي ووالدتها المريضة، بعدما تمّ تقدير راتبها التقاعدي بـ 2000 شيكل (585 دولاراً تقريباً).

يُحتسب الراتب التقاعدي لمن أمضى أكثر من 15 سنة خدمة فعلية، بحسب قانون التقاعد المبكر رقم (17) بنسبة 50 في المئة كحد أدنى، و70 في المئة كحد أقصى، ولا يجوز أن يزيد على هذه النسبة، وذلك بحسب المادة (4) من القانون.

الانتفاضة الثانية.. النمر في الأسر

قبل ستة عشر عاماً، سقط مخضباً بدمه، أحمد النمر، عضو كتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، بعدما أطلق عليه جنود القوات الخاصة الإسرائيلية الرصاص. كان حينها يدافع عن مدينة قلقيلية، خلال الانتفاضة الثانية، في آذار/ مارس 2003. وتقع مدينة قلقيلية في المنطقة (أ) بحسب اتفاقية أوسلو، أي أنّها تخضع للإدارة المدنية والأمن الداخلي للسلطة الفلسطينية بالكامل.

رصاصات الجيش الإسرائيلي نخرت جسده الهزيل، ليرقد في فراشه خمسين يوماً في غيبوبة، وعندما فتح عينيه وجد نفسه محاطاً بجنود الاحتلال. نقلوه إلى سجن الرملة، وتأزمت حالته الصحية، ليصاب بجلطة قلبية، وأُفرج عنه في 5 أيار/ مايو 2003.

خرج النمر من المعتقل، وتوقفت الانتفاضة، ولكنّ العدوان ترك أثراً في جسده، إعاقة حركية بقدمه، ورصاصات ما زالت تستقر بجوار عموده الفقري، تؤثر في الأوتار والأعصاب، ولا يستطيع إزالتها نهائياً، خوف الإصابة بشلل نصفي.

عام 2006 وبناءً على ملف خدمة النمر في كتائب شهداء الأقصى وكونه من المصابين والجرحى، عيّنته السلطة الفلسطينية في جهاز الأمن الوقائي، للعمل في أمن المنشآت ومراقبة الكاميرات.

الرقيب "النمر" صاحب الـ 35 عاماً خدم عسكرياً لمدة 11 عاماً فقط، قبل أن يأتيه قرار التقاعد المبكر في 25 نيسان/ أبريل 2018 من دون مبرر. رفض التوقيع على القرار، الذي يصفه بـ "الظالم"، ولم يجد مفرّاً من البحث عن عمل جديد يقتات منه. سنوات خدمته التي لم تتجاوز 12 عاماً، لم تؤمّن له راتباً تقاعديّاً يكفي حياة كريمة لأسرته، مع اقتطاع أكثر من نصفه لتسديد ديونه المصرفية. اليوم يعمل النمر سائقاً على حافلة.

ما بُنيَ على باطل

صدر قرار تقاعد "النمر" في 25 نيسان/ أبريل 2018، أي بعد انتهاء مدة تطبيق القانون المؤقت للتقاعد المبكر للعسكريين الذي يمتد لعام واحد فقط بحسب نصه، ما يجعل القرار "باطلاً"، بناءً على وصف المحامي عثمان حمد الله، الذي يؤكد أنّ النمر ليس وحده الذي صدر قرار بتقاعده بعد انتهاء مدة القرار بقانون المؤقت، فهناك حالات أخرى بين العسكريين.

وينوه حمد الله إلى أنّ رؤساء الأجهزة الذين أصدروا تلك القرارات تجاوزوا مدة عملهم القانونية المسموح بها بحسب قانون الخدمة للقوى الأمنية الفلسطينية، الذي ينص على "تعيين رؤساء الأجهزة الأمنية الرئيسية لمدة 3 سنوات ويجوز التمديد له سنة واحدة فقط"، أي 4 سنوات في المجمل، علماً بأنّ أغلبهم تجاوز هذه المدة القانونية، وبالتالي تكون هذه القرارات باطلة، بحسب قوله.

أرسلت مُعِدَّة التحقيق رسالة "فاكس" إلى هيئة التنظيم والإدارة العسكرية، للرد على ذلك، لكنّ أحداً لم يرد.

مدير وحدة الحشد والمناصرة في مركز القدس للاستشارات القانونية، عبد الله حمّاد، يوضح أنّ "الموظف العمومي يُفترض أن يحكمه قانونان لا ثالث لهما، هما قانون الخدمة المدنية، وقانون التقاعد العام". هذان القانونان ينظمان شروط الوظيفة العمومية منذ بدايتها وحتى التقاعد، ولا يوجد فراغ تشريعي يبرر إصدار مثل هذه القوانين المؤقتة. ويقول إنّ غياب المجلس التشريعي أتاح الفرصة للسلطة التنفيذية لإصدار مجموعة من التشريعات والقوانين بمبرر الضرورة.

المحامي غاندي الربعي، ينوه إلى أنّ السلطة التنفيذية أصدرت 140 قراراً لها قوة القانون، خلال فترة غياب المجلس التشريعي، بمعنى أنّ الرئيس أصدر خلال فترة حكمه قوانين أكثر مما أصدره المجلس التشريعي في فترة حكمه، من منتصف التسعينيات وحتى (2007)، عام الانقسام بين السلطة وحركة حماس في غزة.

تنص المادة (47) من القانون الأساسي الفلسطيني على أنّ "المجلس التشريعي الفلسطيني هو السلطة التشريعية المنتخبة، ومدة المجلس التشريعي أربع سنوات من تاريخه، وتجرى الانتخابات مرة كل أربع سنوات بصورة دورية".
المجلس التشريعي في حالة تعطل وعدم انعقاد منذ انتهاء دورته الأولى بتاريخ 5 تموز/ يوليو 2007 بسبب الانقسام الذي حصل بتاريخ 14 حزيران/ يونيو 2007، حتى انتهاء مدته قانونياً ودستورياً بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير 2010.

العام 1987.. الانتفاضة الأولى

في ستينيات القرن الماضي، نشأ الطفل باسم عابد في مخيم "عقبة جبر" بأريحا، بعد طرد قوات الاحتلال الإسرائيلي أسرته من منزلها في قرية "خربة اللوز" التابعة لبلدية الاحتلال في القدس، وفي المخيم أصيب مع عدد من أقرانه بشلل الأطفال، ما ترك في جسده إعاقة حركية بقيت معه.

اليوم، بعدما خَط الشيب رأسه، يخرج "باسم" البدلة العسكرية من خزانته، ويتذكر البدايات في مخيم "عقبة جبر" حيث شبّ مع إعاقة في القدم. ولكنّ ذلك لم يكن عائقاً، ويقول بكل زهو: "أنا الوحيد اللي كان يحوش راتبه ويخزنه ليعمل قنابل". وسرعان ما دفع ثمن نضاله: "رحت درست سنة في جامعة الخليل وما صار نصيب، سجنوني قبل يوم من امتحان القبول. رحت داومت فترة بسيطة في جامعة بيرزيت، انسجنت ليلة الامتحان".

غادر فلسطين إلى سوريا عام 1979. وفي معسكر (حمورية) تحرك "باسم" بين فصائل التنظيمات الفلسطينية، لا يدخر جهداً في المشاركة بالعمليات مع المقاومة على الرغم من إعاقته.

عاد "باسم" إلى فلسطين متنقلاً من سجن إلى آخر. عام 1980 حكم عليه بالسجن 21 عاماً، وتدخل محامون لخفض المدة إلى ست سنوات، بسبب شلل قدمه، وأُفرج عنه في صفقة تبادل أسرى عام 1985. شارك في الانتفاضة الأولى، واعتقل مرة تلو المرة حتى وصل عدد مرات اعتقاله إلى أربع مرات، امتدت آخرها إلى عام 1994 مع بلوغه 32 عاماً، وجميعها نتيجة عمليات عسكرية وتفجيرات، وتوزيع منشورات وتنظيم مسيرات تضامنية.

عُيِّنَ باسم في جهاز التوجيه السياسي عام 1996 في قسم الشؤون الإدارية والمالية والعسكرية، واستمر في المنصب 24 عاماً، ليفاجأ بخفض راتبه في حزيران/ يونيو 2018. توجه إلى هيئة التقاعد ليتلقى الصدمة بإحالته إلى التقاعد المبكر. لم يُبلَّغ باسم بأمر تقاعده كتابيّاً أو هاتفيّاً. لم يكن ذلك طلبه، ولم يُعرَض على أي لجان طبية تقرر حالته الصحية.

أفاد مجلس الوزراء، برئاسة محمد اشتية، في رده المرسل عبر البريد الإلكتروني لمُعِدَّة التحقيق، أنّه شكل لجنة قانونية لدراسة كل حالة على حدة، مشيراً إلى أنّ ملف التقاعد والتقاعد المالي من أكثر الملفات التي ورثتها الحكومة الحالية عن سابقتها إشكالية وتعقيداً.

باسم محاصرٌ اليوم بالقروض المصرفية، التي اقترضها لبناء منزله. لم يتبقَّ له من راتبه التقاعدي إلا الفتات، ولم يجد عملاً آخر بسبب إعاقته. يقول باسم: "يعني بالمختصر، الوطن لا يشبع من رجاله، حتى لو كانوا شهداء، تعز علينا أنفسنا، عندما يأتي ابن الوطن يذله، ويقول له لا نريدك، من أنت؟ وماذا قدمت للوطن؟".